الظلم

 المطران جورج خضر

المطران جورج خضر

 

"من كثرة المظالم يصرخون. يستغيثون من ذراع الأعزَّاء." (أيوب 35: 9). الزمان كلُّه تاريخ ظلم من الأعزَّة على الأذلَّة، كأن المقهور لا يستطيع لفت القهَّار إليه لأن القوي ليس في حاجة إلى من يكلِّمه؛ فقد حاز الدنيا كلَّها، وما عساك تزيد على الدنيا التي له؛ فإن وعى كِبَره لا يكتمل بأحد. وحده الفقير يتَّكئ على الفقير لأنهما مسحوقان معاً. يتلاقيان في هذا الجزء اليسير الذي يغتصبانه ليستمرا في هذا النزر القليل من الوجود. وقد وضعهما أصحاب الوجود في الظلام.

في اللغة، "الظلم" وضع الشيء في غير موضعه، أي جعله غير مرئي؛ وكأنك ألقيت الظلام عليه. المظلومون يجمعهم هذا الظلام الذي يلغي وجوههم. لهذا بعدما قتل قايين أخاه هابيل قال الله لقايين: "أين هابيل أخوك؟" فقال: "لا أعلم. أحارسٌ أنا لأخي؟" (تكوين 4: 99) لنا أن نستبطن آخر الآية هكذا: إذا كان أخي موجوداً أنا حارسه. ولكنه غير موجود لأني شئت له عدم الوجود. نفسُ قايين لم تقبل هابيل ذاتاً. "فطوَّعت له نفسُه قتل أخيه فقتلته." (المائدة 30). علاقة الأول بالثاني علاقة إلغاء.

الرؤية اللاهوتية للظلم، في استنادها الأساسي إلى العهد القديم، تكشف أن الله لا ظلم فيه وأن الأرض، بالمقابل، امتلأت ظلماً. غير أن البارَّ الآتي من كلمة الرَّب لا ظلم في يديه، لكن أعداءه يبغضونه ظلماً. والمرجو عند الأنبياء الكبار ألا يبقى ظلم في الأرض. وتتوالى المترادفات: الظلم، المعصية، الاغتصاب. قبل النهاية يقول سفر الرؤيا: "من يظلم فليظلم بعد." (22: 10) غير أن هذا كلَّه سيكف بمجيء المسيح في الأخير لأنه "الألف والياء، البداية والنهاية، الأول والآخر." عندئذٍ يكون سكن الله مع الناس ويكون "كل شيء جديداً".

في كل حقول الوجود ترى الظالمين. ربة المنزل التي تجور على الخادمة؛ مدير العمل الذي يقسو أو يتعسف؛ الشرطي الذي يسجِّل مخالفة حيث لا مخالفة؛ الزوج الأمَّار لذكورة يعتبرها امتيازاً؛ الحاكم إذا استبدَّ؛ كل هؤلاء أمثلة عادية في التحكم المنثني في نفوس لا تزهو إلا بتطويع الناس. هناك أمزجة لا توجد إلا بالإذلال أو الإقصاء أو الإلغاء.

هناك أنظمة سياسية قائمة على الإسكات، على المحو وتختفي وراء هاجس الأمن أو السلام الأهلي تثبيتاً لدوامها. والديمومة، إذا أردتها مبدأ، تقودك إلى اهتزاز الآخر أو تواريه في صمت هو زي وجوده في المجتمع السياسي.

***

وما قيل في الأفراد يقال في الدول القادرة على التحكم في ظرف زمني محدد. هناك فلسفة ضمنية في الدولة قائمة على الفكر السياسي الآحادي الذي لا يتاخمه فكر آخر أو يوازيه أو يسائله، لأن الفكر الآحادي له نفسياً عند صاحبه قيمة الوحي الذي لا يناقشه بَشَر. في زمن قيل فيه إن الإيديولوجيات اندثرت تعود هذه في عقائدية لا تقال ولكنها تعاش. في الحقيقة إننا نعيش زمناً القوة فيه هي العقائدية الوحيدة، وان لم يجرؤ المستكبرون على أن يقولوا ذلك بسبب ادِّعائهم نظاماً إنسانياً.

***

لا أفهم الآلية التي تدفع دولة إلى الاستعمار أو الإمبريالية أو بسط النفوذ. ما من شك في أن الشعوب طيبة وأنها قادرة في الثقافة والتجارة على أن تنمو وتتعاون. الشعوب كلها طيبة وتريد أن تعيش بسلام، وأن تربي أولادها، فيحبوا أولاد الجيران والأصدقاء. ليست الجماعات البشرية هي التي تخوض الحروب. لا أحد يريد أن يصير أولادُه قتلة. من يدفع البشر إلى الموت؟ هناك مصالح اقتصادية كبرى، لا ريب في ذلك. هناك سلاح جديد يجب تصريفه، ومنتجات زراعية لا بد من تحويلها إلى صناعات في الدول المصنعة. ثم هناك نفط وغاز وما إلى ذلك. وتجلس الشركات المتعددة الجنسية فوق هذا كلِّه. ما من شك في أن ثمة آلة اقتصادية تفرز آلة حربية، وتغطي هذه العملية بالمبادئ الكبرى وحب الوطن، فيؤمن البسطاء أنهم مهدَّدون، ويسيرون إلى الذبح متغنِّين برسالة حضارية. من رفَض العلم والرقي إن لم يصحبهما سلاح وإدارة استعمارية؟

لقد افتُضحت أخيراً الأكذوبة القائلة إن هذه الدولة أو تلك تريد بسط الديموقراطية والحرية عند غيرها بعدما بات معروفاً أن الدول المتمدِّنة تفرض بفرح كبير أنظمة عسكرية هنا وثمة، فتمارس ديكتاتورية في بلدها، ويستنزف الحكام فيها جماهيرهم ويثرون. الدول الكبرى لا ترفض استمرار الفساد عند حكام الدول الصغيرة التابعة. الظلم بضاعة يصدِّرها الكبار وينتفع بها الصغار.

***

يظلم الإنسان والدولة والمافيات من الخوف. لا يكذب أحد، لا يسرق أحد، لا يقتل أحد، إلا من خوف. الظالم لم يحقق نفسه، لم يهنأ بما وفره الله له. الاضطراب من عدم الغنى أو من قلَّته، من عدم الفرح أو قلَّته، من عدم السلام، كل هذا يجعل في نفس الظالم عبودية تنتقم لنفسها باستعباد الآخرين. بكلام آخر، يظلم الظالم من كون قلبه لم يشاهد الإله، من كونه في العتمات. يضرب أنَّى أتتْ ضرباته. ينشر الموت ويعيش منه أو يظن ذلك – وهكذا يذهب من إيهام إلى إيهام.

ليس أحد مثل القرآن فهم ذلك. أكثر من ثلاثمئة آية فيها جذر "ظَلَمَ". وليس المجال لأورد المعاني كلَّها. غير أن ما تفرَّد به القرآن في حسباني هو فكرة أن الإنسان يظلم نفسه، كما في قوله: "ومن يفعل ذلك فقط ظَلَمَ نفسه." (البقرة 231). كذلك: "ربِّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي." (القصص 16). المظلوم الأول هو الظالم. وينفي الكتاب الظلم عن الله فيؤكد: "وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم." (هود 101). هنا وثمة يربط القرآن الظلم بتعدِّي حدود الله، بالكفر، بالضلال. ولكن عندي أن ما تميَّز به هو أن الظالم يؤذي نفسه.

***

حيال القهر المستولي على التاريخ، على حياتنا اليومية، نتوق تاريخاً غير هذا ودولاً غير هذه، ونشتهي ألا يجور سيِّد على مسود وأب على ابنه وحاكم على مواطن وقاضٍ على من تقاضى. نتوق ملكوت العدل يسود الظاهر، أعني أهل السلطان، ويسود الباطن، أعني قلوبنا. هل يكون لملكوت الله صورة في زمان الناس؟

إن الفكر الديني، في صميمه، مع كونه يرجو العدل في اليوم الأخير، يدعو إلى النضال في سبيل العدل الآن وهنا. أن نرفع الظلم عن القلب القهَّار فيه لعمري الكثير من التطهُّر. وعندما كان أصدقائي يلومونني لكوني أصدِّق كل الناس، وتالياً يخدعني الكثير منهم، كنت أجيب أني أؤثر أن انخدع تسعاً وتسعين مرة من أن أظلم أحداً مرة. إنه لمؤذٍ كثيراً للنفس أن تفترض أن ما ينويه مخاطبُك هو كذا وكذا ولا يكون الأمر صحيحاً.

ومن عدل الله أنه يراك كما أنت ولا ينسب إليك في دينونته ما ليس فيك. أقل ما يطلب من الإنسان أن يصبح عادلاً على صورة الله هذه، وأن يعدل بين الناس إذا احتكموا إليه، ولا يحابي الوجوه. غير أن العدل الكبير لا يستقيم لك ما لم تحب الإخوة جميعا كما الله أحبَّهم. فقط إذا أحسوا بمحبوبيَّتهم يدركون ملكوتاً معطاء لا ظلم فيه.

*** *** ***

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود