ثبات الغرائز

تأملات في الثقافة العربية المعاصرة

 

عيسى مخلوف

 

لست أدري ما إذا كان ثمة إضافة وجدوى من هذه الوقفة السريعة بين عامين. عام يبدأ وعام ينتهي. والسؤال المطروح: إلى أين تمضي الثقافة، بل إلى أين يمضي العالم، والثقافة جزء منه؟

الكلمة الآن هي، كما كانت دائماً، للقوى الاقتصادية والعسكرية، لا للقوى الثقافية والمعرفية. حتى في الغرب الذي انتصرت فيه أفكار عصر الأنوار، يمكننا أن نتساءل عما بقي من تلك الأفكار، وأيضاً عن واقع الديموقراطية التي تعيش وضعاً دقيقاً لا ينبع فقط من خارجها وإنما أيضاً من داخلها بالذات. ويكفي هنا أن ننظر إلى طبيعة التغطية الإعلامية في الغرب عموماً، وفي الولايات المتحدة في الأخص، منذ الحادي عشر من أيلول الماضي.

في موازاة الإعلام، جاءت ردود الكتَّاب والمفكرين والسياسيين وعلماء الاجتماع لتصبَّ في نقطتين أساسيتين: الأولى تتمثل في اتهام العرب والمسلمين من خلال لغة بلغت أحياناً حدَّ التحريض العنصري، الديني والإثني، وذلك منذ اليوم الأول للاعتداءات ضد الولايات المتحدة، وقبل أن تبدأ التحقيقات فيها. أما النقطة الثانية فهي، بخلاف الأولى، قد دحضت الفكرة التي سعت إلى تعميمها بعض وسائل الإعلام في التركيز على صراع الأديان والحضارات والثقافات، وحذَّرت من أن تؤدي السياسة الأميركية إلى موجات جديدة من الإرهاب قد تدفع العالم إلى حرب طويلة الأمد. في هذا المجال عبَّر حائز جائزة نوبل للآداب كنزبورو أوي قائلاً إنه كان على أميركا أن تأخذ الوقت الكافي لتضميد جراحها، وأكثر من ذلك للتفكير ملياً في الأسباب التي أدَّت إلى هذه الاعتداءات، بدلاً من اللجوء إلى الانتقام والثأر.

الولايات المتحدة تريد القضاء على الإرهاب، لكن ألم يكن الإرهاب موجوداً قبل الحادي عشر من أيلول؟ وهل يمكن القضاء على الإرهاب، ومعه التعصب الديني، بدون محاربة الأمية والفقر والبطالة، وقبلها وبعدها، التراجع عن سياسة متعالية تحكم العالم وفق مكيالين؟ أما الموقف السياسي الغربي، في خطوطه الأساسية العريضة، فتحتكره الولايات المتحدة. وهي التي تحدِّد معنى الإرهاب، كما تحدِّد من يكون الإرهابيون في العالم، والدول التي تشجِّعهم وينبغي أن تعاقَب. وهي التي تحثُّ شارون على المضي في سياسته الإجرامية، ممَّا يجعله يظن أنه هو بدوره يحارب الإرهاب في الأراضي المحتلة. وحتى حين يحيد الموقف الأوروبي قليلاً عن الموقف الأمريكي بالنسبة إلى هذه القضية، فهو يحيد بخجل. حتى البابا يوحنا بولس الثاني – وهو من رجال الكنيسة الذين تميزوا بمواقفهم العادلة – يشيح النظر عن المجرم الفعلي وعن الإرهاب الفعلي، وفي كلمة واحدة، عن تزوير التاريخ والحقائق – وهو في ذروته الآن –، داعياً في عظته لمناسبة عيد الميلاد إلى حماية الأطفال من العنف: أطفال فلسطين وأطفال إسرائيل وأطفال أفغانستان. عادلٌ الحبر الأعظم في دعوته هذه، لكنه، هو أيضاً، يشيح النظر عن المجرم الحقيقي، ويحجب الإشارة إلى الأسباب الفعلية التي تجعل من حياة هؤلاء الأطفال جحيماً ترافقهم طول العمر. وهذا ما يؤكِّد أن ثمة سياسة واحدة تملي مشيئتها بالقوة على العالم وتستخدم المنجزات العلمية والتكنولوجية كلَّها من أجل تحقيق سيادتها وهيمنتها.

الكلمة للتكنولوجيا

الكلمة اليوم للتطور العلمي والتكنولوجي ولكيفيَّات استخدامه في سياق الحرب الأخيرة. تجلَّى هذا التطور من خلال طائرة ب 52 الأمريكية العملاقة، وهي نجمة الحرب في أفغانستان، مثلما كانت الطائرة الشبحية نجمة حرب الخليج. طائرة ب 52 – وتبلغ تكاليفها ثلاثين مليون دولار – تُعَدُّ تحفة من تحف التكنولوجيا العسكرية المدمِّرة؛ وقد جابت سماء أفغانستان وتباهت وألقت قنابلها التي تزن الأطنان من علوٍّ شاهق، لتذكِّر الإنسان بأنه من التراب. ولقد أعلنت وزارة الدفاع الأميركية منذ أيام أنها استحدثت سلاحاً جديداً متطوراً قادراً على سحب الأوكسجين من قلب الكهوف وقتل الموجودين فيها خنقاً. إن توظيف العلم في خدمة الصناعة الحربية من المظاهر التي تكشف مدى التفاوت الكبير الذي تشهده البشرية اليوم بين ثبات غرائز الإنسان ودوافعه إلى العنف من جهة، والتقدم العلمي والتكنولوجي، المتزايد يوماً يعد يوم، من جهة ثانية. والثورة العلمية التي تفيد منها فعلياً نسبة 12% من البشر، لا يتم استخدامها، في وجهها السلبي، في صناعة الأسلحة فقط، بل أيضاً في العمل على جعل دول الجنوب في حال دائمة من التقزُّم العلمي. وهذا ما يطالعنا أيضاً في منجزات الهندسة الوراثية واستئثار أهل الشمال بنتائجها، وكذلك في "النهب الوراثي" على مستوى الزراعات الصناعية اليوم، وعلى مستوى صناعة الأدوية التي يسمِّيها عالم الفيزياء التونسي محمد العربي بوقرَّة "الاستعمار الصيدلي".

ضد الجنس البشري

إذا كانت الحضارات تولد وتموت، فإن الحضارة التي بدأت تلوح في الأفق مع الثورة العلمية والتكنولوجية الكبيرة التي شهدها الغرب، تحمل منذ الآن نواة دمارها في ذاتها. في كتابه الأخير Hominescence، يتحدث الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير عن أجيال جديدة من العلماء لن تتردد في السنوات أو العقود المقبلة في إنتاج أسلحة نووية–حرارية أشد فتكاً من الأسلحة النووية الكلاسية، وفي تأمينها لرجال السياسة والعسكر في الدول العظمى وفي دول أخرى أقل عظمة. ولا يحصر ميشيل سير التهديد بالإبادة الكاملة في الأسلحة النووية أو النووية–الحرارية، بل يسمي أيضاً تهديدين لا يقلان خطراً في نظره. لكن إذا كان التهديد الأول – وهو التهديد النووي – لا يتم إلا في حال الحرب، فإن التهديد الثاني يتم في السلم ويتجسد من خلال التلوث الصناعي الذي بدأت تظهر نتائجه في تغيرات المناخ وفي القضاء على أصناف عديدة، حيوانية ونباتية، بالإضافة إلى تأثيره على صحة الإنسان.

هناك تهديد ثالث يطالعنا، بحسب الكاتب دائماً، وعلى حدِّ تعبيره، "من خلال الوحشية التي نمارسها ضد أبناء جنسنا، ما دام الغرب يقتل، لقاء المال دائماً، وببرودة كاملة، شعوب العالم الثالث وما دونه من عوالم". ذلك كله في وقت يفكِّك العلماء أبجدية الجينات البشرية وأسرارها، وفيما يفكر بعضهم في مختبراتهم باستنساخ كامل للإنسان أو لأجزاء منه، أو باختراع أصناف جديدة من البشر. ويخلص الفيلسوف الفرنسي إلى القول إن "المزيج الذي يتألف من معرفتنا العظيمة من جهة، ومن عنفنا في حدوده القصوى من جهة أخرى، يرقد بالتأكيد على عمق يتعذَّر سبره وبلوغه".

إن تاريخ البشرية الذي هو، في المقام الأول، تاريخ حروب، بدأ عصراً جديداً مع استعمال السلاح النووي لأنه جعل الحياة على الأرض، للمرة الأولى، مهددة فعلياً بالزوال. غير أن القنبلة النووية التي ألقيت فوق هيروشيما في السادس من آب 1945 وحصدت أكثر من مئة ألف قتيل، وبعدها بثلاثة أيام فوق ناغازاكي وبلغ ضحاياها الثمانين ألفاً، ليست هي الابتكار الوحيد الذي يتغير معه العالم. هناك أيضاً الزراعة المعدَّلة وراثياً، وهناك المنظومات الآلية والمعلوماتية وثورة الاتصال وما يمكن أن تغيِّره في طريقة الرؤية والتفكير.

لابدَّ من الإشارة هنا إلى أنه على الرغم من الإعلام الموجَّه في العالم أجمع، وعلى الرغم من محاولة إخفاء قتلى الحروب النظيفة، تبقى الشاشة الصغيرة ماضية في دور يفضح الصورة الفعلية لما نحن عليه: ثراء الأثرياء وفقر الفقراء. والصورة الأقوى للفقر جاءتنا أخيراً عبر تلك الشاشة من الأرجنتين حيث دخل عشرات بل مئات الجائعين المخازن التجارية وحملوا بين أيديهم أو على أكتافهم اللحوم النيئة التي راحت تتساقط منهم فيما هم يهربون من وجه رجال الشرطة. إنه مشهد آخر من المشاهد التي تبطل فيها الفواصل بين الأزمنة ويتداخل فيها العصر الحجري بالعصور الحديثة.

العرب إذا تتلفزوا!

نحن أبعد ما نكون اليوم عن الوعود التي حملها عصر الأنوار ومفكِّرو الثورة الصناعية. والمشروع الأساسي المطروح على البشرية الآن، انطلاقاً من الغرب الممسك بزمام العالم ومصيره، هو، بحسب بعض المفكِّرين الغربيين الذين لم يلقوا "سلاحهم" بعد، أنسنة العالم والأرض وجعل صورة التقدم العلمي تتناسب وصورة التقدم الإنساني. لكن، أمام التحوُّلات الكبيرة والمتغيرات المتسارعة، أليس من حاجة إلى إعادة النظر في توجهات الحقول الثقافية والمعرفية كلِّها، فكراً وفلسفة وشعراً وفنوناً وعلوماً؟ وإذا كان السؤال مطروحاً بحدَّة على الأدوات المعرفية في الغرب، فكيف الحال عندنا في العالم العربي؟ وأين نحن من التحديات القائمة؟

يختصر المسلسل التلفزيوني المصري عائلة الحاج متولي الذي جاء في هذا الوقت بالذات جانباً مهماً من الحياة العربية الراهنة. ويتبيَّن، من خلال النجاح الجماهيري الكبير لهذا المسلسل، ومن خلال السجال الذي أثاره وشارك فيه عدد كبير من المثقفين على امتداد العالم العربي، ومن خلال المقابلات التي أجرتها وسائل الإعلام مع بطله نور الشريف وزوجاته في المسلسل، الموقع الذي نحن فيه الآن. لقد غيَّب موضوع تعدد الزوجات موضوع الحرب في أفغانستان وفي فلسطين. أما التحديات الكبرى المفروضة على العالم العربي اليوم، في الداخل والخارج على السواء، التي تضاعفت بعد الحادي عشر من أيلول، فبدت كأنها تحديات يواجهها شعب آخر وفي أزمنة أخرى.

مع الحاج متولي يرجع بنا الزمن – ونحن راجعون أصلاً – إلى مرحلة ما قبل قاسم أمين وهدى شعراوي وما قبل النهضويين العرب، بمن فيهم بعض رجال الدين المتنورين، ويكشف كم أن قضية المرأة لا تزال في أولويات قضايانا التي يتوقف على طريقة معالجتها أن نكون أو لا نكون من هذا العصر.

من وجوه ثقافتنا العربية الحاضرة أيضاً ملاحقة نصر حامد أبو زيد بقانون الحسبة، ومحاكمة عدد من اللوطيين في القاهرة، وصدور رواية جديدة للروائي صدَّام حسين. فمع الرئيس العراقي بدأ الزعماء العرب يصيرون روائيين، في حين لم يبق للخلاقين الفعليين إلا الهرب من بلادهم والتشرد في بلدان العالم، يلوكون فيها، شعراً ونثراً وفناً، مأساتهم التي هي، في الوقت ذاته، مأساة أهلهم وشعبهم – بعدما صار الإبداع هو الآخر قراراً من قرارات الرئيس.

الأخطر من ذلك أن الاعتداء اليومي على الثقافة يأتي في جزء منه من بعض المثقفين أنفسهم، أولئك الذين تحصنوا بالسلطة واحتلوا الواجهة الإعلامية. وبعض هؤلاء من اتفق على اعتبارهم رموزاً من رموز ثقافتنا الحديثة. منهم من عرف بانتقاده للثقافة السائدة وهو لا يفتأ يجرُّ الماء إلى طاحونتها، لا سيما في الدول "المدنية" التي تستخدم مفردات الخطاب الديني.

إن إهمال الموروث العقلاني في الحضارة العربية الإسلامية، والانحياز إلى الفكر الغيبي المتعصب الذي لا يقبل الاختلاف، لا يبدأ مع التيارات الأصولية، بل مع الأنظمة التي لم تعمل، منذ نيلها استقلالها الوطني حتى اليوم، على وضع نظم تربوية وتعليمية عصرية وعلى بناء مؤسسات المجتمع المدني، في المعنى الحقيقي لهذه الكلمة، من أجل مواجهة الثقافة التقليدية. وهذا من الأسباب الأساسية التي عبدت الطريق أمام الاجتياح الأصولي القائم. ولئن كانت الحركات الأصولية تجد تجاوباً في المجتمع، خصوصاً على أيدي الفئات الشابة، فلأن البنى السياسية والاجتماعية، وهي بنى تقليدية جامدة، تعيش خارج دورة الزمان.

لا تختصر هذه الأمثلة إلا جانباً من المأساة التي يعيشها العرب. ففي غياب مشروع بناء دولة عصرية، وفي غياب المشروع الثقافي، حلَّت ثقافة التطرف، ومعها ذهنية التحريم. صار على المثقف أن يدافع عن نفسه من موقع أنه ليس كافراً، وهو بهذا المنطق إنما يردُّ على التهمة الدينية الموجهة إليه بتخلُّص ديني أيضاً، لا بالدعوة إلى مجتمع قادر على استيعاب كل الاتجاهات والتيارات مهما اختلفت وتباينت.

أخيراً، لن يخرج العرب من هذا الواقع إذا لم يخرجوا من الزمن الديني الذي يشكل أرضاً خصبة ينمو ويترعرع فيها أولئك الذين يتحدثون وكأنهم ممثلو الله على الأرض... باسمه يقتلون، وباسمه يحتقرون المرأة، وباسمه يرتكبون أفظع الجرائم.

*** *** ***

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود