الشعر والحداثة

آراء قديمة ما تزال جديدة

 الاستاذ أنطون مقدسي

حوار مع أنطون مقدسي

 

عن أنطون مقدسي يقول أدونيس:

أضع أنطون مقدسي بين أولئك المفكرين في العالم المعاصر الذين يعيدون الوحدة بين الشعر والفكر، على غرار ما كان قائماً في التجارب الإنسانية القديمة التي وصلت إلى أوجها في الفلسفة اليونانية قبل سقراط، عند هيراقليطس بخاصة.

وهو بذلك ممَّن يؤسِّسون للصداقة الوثيقة بين البصر والبصيرة، بين الحدس والعقل، وبين الحاسة والحلم.

ولئن كانت الأشياء لا تنطق حقاً إلا بالشعر، وكان الإنسان أكثر قرباً إلى ما وراءها وإلى ما تعنيه، بقدر ما يقدر أن يتكلم معها، فإننا ندرك أهمية الاتجاه الفكري الذي يمثله أنطون مقدسي في ثقافة المجتمع العربي. فهو مجتمع يرث ثقافة تفصل تقليدياً بين الفكر والشعر؛ والأشياء فيه لا تتكلم بفم الإنسان أو معه، بل بفم الخالق وحده، ومعه وحده.

تتيح المؤالفة بين الفكر والشعر أن يتجاوز الشاعر معنى الفلسفة، أو معنى الشعر، وفقاً للمصطلح السائد مدرسياً وتاريخياً.

في هذا التجاوز، يكون الإنسان في آن واحد ذاتياً وموضوعياً: يعايش العالم فيما يصاغ مفهومياً، ويفهم فيما يعاش. وتتمثل أهمية الوحدة بين الشعر والفكر، وبخاصة في الثقافة العربية، في أن الشعر مكان لتفجر الحياة وفيضانها. فالشعر أكثر غنى، بما لا يقاس، من كل فلسفة، وأكثر اتساعاً من كل منطق. وفي هذا ما يجعل المسكوت عنه، أو اللامقول، قابلاً أن يظهر، وأن يقال. وفيه ما يحوِّل الجسد إلى جزء حيٍّ من مادة الفكر.

هكذا يرتسم في نتاج أنطون مقدسي، فيما وراء كتابته، أفق يؤالف بين أنواع المعرفة، ويؤالف بين مستويات الواقع في مستوى آخر، موحِّداً بين الأسس المعرفية الحدسية–الإشراقية، والأسس العلمية التقنية، مجدداً اللغة المعرفية والجمالية في خطاب يلامس اللاوعي، حدساً وعقلاً، ويستشرف أفقاً آخر للعمل.

***

بمناسبة حصول الأديب والمفكر أنطون مقدسي على جائزة مؤسسة الأمير كلاوس الثقافية للعام 2001 تنشر معابر هذه المقابلة القديمة-الحديثة لمفكِّرنا العربي الكبير. *

***

سوق عكاظ لم تزل حاضرة. وهي تتكرر بين فترة وأخرى في غير عاصمة عربية. الغزو الإسرائيلي للبنان وضع العرب أمام السؤال التاريخي: الوجود أو اللاوجود.

***

لا نبالغ إذا اعتبرنا أنطون مقدسي أحد أبرز المفكرين التحديثيين العرب اليوم. ثقافة واسعة، مغتذية، جدلية، تربط ما بين تراث الفكر الإنساني وحاضره، وتسعى في مغامرة الواثق إلى الضرب في المجهول.

عندما يتكلم تنصت إليه بكثير رهبة وإعجاب، تتعلَّم منه، ويزدحم في سرِّك أكثر من تساؤل، يلخصه الآتي: كيف استطاع هذا الموسوعي أن يخترق ذاكرة جيله البليدة ويتحول إلى علامة فارقة، استثنائية، في مطلِّ الحداثة الشمولية، عندنا وفي العالم.

تعجب لشيخ في مثل عمره كيف هو أكثر شباباً من كثير من الشباب المأخوذين بهاجس الحداثة في مجالات كافة، خصوصاً مجالات الفكر والإبداع والنقد.

تراه تواقاً إلى التقصِّي، يحب في الوضوحات العظيمة حنينها إلى الغموض. والرموز عنده ليست سوى مؤشرات خاطفة، متلألئة، على طريق الوضوح الأسمى.

يسدِّد أنطون مقدسي انتباهه على كل شيء، يلاحق النداء الأقصى، ولا يساير على حساب المغامرة والجرأة وطرح الأسئلة المؤرقة. وهو، في حاله هذه، يبقى أيضاً الأكثر جِدَّة وترصداً للموقف الثقافي الحضاري.

التقيناه مؤخراً، على هامش زيارته الخاطفة إلى بيروت في عداد وفد من اتحاد الكتَّاب العرب، ودار بيننا الحوار الآتي. وقد بدأناه بسؤال حول مصطلح "الحداثة" الأكثر رواجاً، فأجاب:

لا يمكننا أن نفهم الحداثة العربية إلا في ضوء الحداثة ذاتها، كما بدأت بوادرها في أوائل هذا القرن، وبدأت تصبح منعطفاً تاريخياً بعيد الخمسينات. الحداثة ظاهرة كلِّية ومرحلة تاريخية جديدة. وأقصد بالظاهرة الكلِّية أن لها أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وأقصد بمرحلة تاريخية جديدة أنها تكوِّن للإنسان ذاكرة جديدة، بمعنى أنها تحاول أن تلغي الذاكرة القديمة، أي أنها رفض للتاريخ والماضي. والفلاسفة التحديثيون هم جُلُّهم على هذا التفكير، ينزعون إلى إحداث القطيعة مع الماضي وإلغاء الجذور؛ وعلى رأس هؤلاء ميشيل فوكو الذي مات مؤخراً.

وأيضاً فيليب سولرز الذي "دمَّر" النص الكتابي الجاهز؟

معك حق. فهذا انقلابي فرنسي كبير أيضاً.

وماذا تقول في خصائص الحداثة؟

للحداثة خصائص كثيرة، أنتخب منها ثلاث. الخاصة الأولى هي الكتابية، والثانية هي الجسدية، والثالثة هي المعقولية الإجرائية. والخصائص الثلاث متكاملة، يستدعي كل منها الأخريين. فالكتابة حلَّت نهائياً محل الكتابة الصوتية التي، بدورها، حلَّت، منذ أيام أفلاطون، محلَّ الكلام الحي. فأفلاطون يذكر ذلك في حوار الفيدرُس. كما أن جان جاك روسو، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، لاحظ ذلك. فالكتابة موضوعية مغلقة، تتعامل مع المفاهيم. وقد بلغت ذروتها في النصف الثاني من القرن العشرين مع التصييغ، أي مع تحويل المفاهيم إلى صيغ رياضية. المفاهيم تمثل الواقع، والكتابة استعاضت عن الواقع بصيغ رياضية؛ وهي تحاول أن تستخدم هذه الصيغ لكي تبدل الواقع، بمعنى أنها تنفُذ إلى صميمه، وتقوم بعملية تبديل جذرية في الإنسان والأشياء. فمعنى العلم تغير تماماً؛ لم يعد العلم معرفة. المعرفة صارت تلي الإجراء. وهذه هي المعقولية الإجرائية. والدليل الواضح هو في الإعلام: لم يعد ثمة رأي عام له عفويَّته.

أما الجسدية، فقائمة لأن ثمة تركيزاً على الأشياء. وتشييء الناس هو تحويل الموجودات إلى أشياء. وهذا يتبدَّى أكثر ما يتبدَّى في العلاقة بين المرأة والرجل، واستطراداً، في بقية العلاقات الإنسانية. لقد فقد الحب بالمعنى القديم كل لغزيته وكل سرِّيته. وهذا ما بشَّر به فرويد. فكأن الموجودات والناس أشياء، أجساد بلا أرواح. فلقد امتصَّ الجسد الروح، صارت تابعاً له، كما أن الكلمة امتصَّت دلالتها. وبالفعل، في اللغويات الحديثة، الدلالة هي عبارة عن فوارق بين علائق الأحرف بعضها ببعض، وعلائق العبارات أيضاً بعضها ببعض.

الوجود أو اللاوجود

هل يمكن للعربي في المرحلة الراهنة أن ينسى ذاكرته التي هي هوِّيته؟

تلك هي بالضبط مشكلة الحداثة في العالم العربي. وإذا كان الأدب العربي في حال ركود الآن، بمعنى أنه، على ما أعلم، لم يظهر حتى اليوم شاعر من مقياس أدونيس أو محمود درويش، فلأن الغزو الإسرائيلي للبنان وضع العرب كلَّهم أمام السؤال الأساسي: الوجود أو اللاوجود. فالعربي موجود في التاريخ. وإذا حذفتَ بُعده التاريخي فقد كل شيء، لأنه أساساً دخل التاريخ حديثاً؛ هذه نقطة. أما النقطة الثانية فمتعلقة بماهيَّة الكلام العربي. كلام العرب شعر، والشعر يُنشَد أي يُلقى. ولذلك – بالمناسبة – توجد بالنسبة إلى الشعراء الذين يأخذون بالحداثة مشكلة أساسية هي مشكلة الإلقاء. فلا يمكن أن تتبدل هذه البنية الكلامية بين عشية وضحاها.

ولابد أنك تلاحظ معي إلى أيِّ حدٍّ صار الشاعر العربي الحديث أشبه بالمهرج في المهرجانات الشعرية العربية التي تقام اليوم. تصور كيف يُحشَر أكثر من خمسين أو ستين شاعراً في مهرجان شعري واحد! أليس ذلك بكارثة شعرية، وزلزال يضيق خناق السامعين؟! الجمهور العربي، يا صاحِ، ما زال يتأثر بالكلام والصوت والسلطة الشخصية. فالشاعر، ككل، إنسان لا يستطيع الإفلات من مرحلته التاريخية؛ هو يستوحي ظرفاً معيناً ويكتب لجمهور هذا الظرف.

تقصد، في الإجمال، أن الشاعر العربي عاشق لسلطة فردية جامحة من خلال خطابه الشعري. إنه، بمعنى آخر، طمَّاح ليعكس سلطته السياسية المفتقدة. ما تعليقك؟

ربما كان قولك صحيحاً. ومع ذلك فلا ضير من أن ينزع الشاعر إلى فردية يشدِّد فيها على خصوصيته ويؤكد تمايزها. فهذه الخصوصية هي التي تمنح القصيدة نكهتها وجِدَّتها.

الشعر الحديث يحمل قيماً مختلفة

نحن معك فيما تقوله حول المهرجانات الشعرية العربية، وكيف صارت إليه علاقة الشاعر فيها. ولكن هل يمكن للشاعر العربي أن يتخلَّى عن هذا التقليد، تقليد العلاقة مع الجمهور؟ وما هو البديل؟

الجمهور الذي يزدحم في قاعات المهرجانات الشعرية جمهور يعيد سيرته التقليدية في التاريخ، يعيد إنتاج المنتج في العلاقة مع الشعر والشاعر. فعكاظ تتكرر، بين فترة وأخرى، في غير عاصمة عربية؛ وهذا التكرار لا يحقق نتائجه المرجوَّة لأن الشعر الحديث يحمل قيماً مختلفة، صدمت وتصدم الذاكرة العربية المأسورة بقوة إلى تاريخها الشعري القديم. وهذا لا يعني أن الشعراء الذين "يتبارون" في "العكاظات الجديدة" قد قفزوا بقيمهم من حال التقليد إلى جِدَّة منفتحة وضاربة في المجهول الإبداعي. فقلة ضئيلة من الشعراء هي التي قدمت وتقدم نصوصاً جديدة حديثة تعكس قلق التحوُّل في مجتمعنا والعالم بأكمله.

الجمهور الشعري يطلب من الشاعر أن يثير انفعالاته. والشاعر، بدوره، يحاول جاهداً محاكاة وهم الجمهور. وهذا من شأن الكلام، لا من شأن الكتابة؟

طبعاً! فثمة فارق كبير بين الكلام والكتابة. والنص الحديث، كونه يقيم علاقة جديدة مع العقل والذوق، يفترِض، بالمقابل، أن يرقى كل من العقل والذوق إلى مستوى هذه العلاقة الجديدة.

وهل هذه العلاقة تكون تأملية ذاتية يقوم بها القارئ بمعزل عن المهرجانية والحشدية؟

ربما. ولكن لابُدَّ من إيجاد الصيغ التي تعين الشاعر على القراءة بصوته ويكون مستوعباً، شريطة الابتعاد عن الخطابية والإثارة نفسها التي تعوَّدنا عليها. فالقصيدة الحديثة لا تتحمل مثل هذه الانفعالات.

ولكننا في البدايات... مفهوم الحداثة عندنا لا يزال غامضاً؟

في أكثر من مناسبة قلت إننا في البدايات وإن مفهوم الحداثة لا يزال مشوشاً وغير واضح في الذهن العربي. ثمة فارق كبير بين الحداثة والمعاصرة: ليس كل أديب معاصر هو أديب حديث. ولأننا في البدايات فلا بأس من أن يجرب الشعراء والكتاب والفنانون؛ فبالتجريب نستطيع أن نرسي لبنات الحداثة في المجالات الإبداعية الأدبية والفنية كافة.

ولا بد من إعطاء الملاحظة الآتية، وهي أن الأدب العربي، بشكل عام، خطا منذ الستينيات خطوة كبيرة إلى الأمام، أخرجت بعض نصوصه من الإطار المحلِّي إلى الإقليمي، ومن الإقليمي إلى القومي، ومنه إلى العالمي. بينما الفكر العربي لم يتمكن حتى الآن من وضع نص يمكن أن يفرض ذاته، حتى عربياً، إلا فيما ندر!

لماذا؟

لأن العرب عندما أخذوا بالأسلوب التحليلي، أي أسلوب أرسطو، قصروه على الفلسفة، وعلم الكلام، والفقه، وبقية علوم العرب. أما الشعر فبقي جاهلياً حتى محمد مهدي الجواهري.

نحتاج إلى مؤسسات تربوية وثقافية

إلى أيِّ حد كبير لم يتجلَّ معنى الحداثة العربية إلا في الشعر والثورة الأسلوبية الشعرية؟

هذا السؤال مهم. وأعتقد أنني أجبت عنه بعض الشيء قبل قليل. فالشعر – ومعه الفنون التشكيلية – هما السبَّاقان الآن في المجال التجريبي التحديثي الإبداعي على المستوى العربي. ولكي نفهم نصوص الحداثة واللوحة الحديثة يتطلب منا الأمر انقلاباً في ملَكة الفهم عندنا. وهذا الانقلاب له شروطه الثقافية العميقة. فعلى الأقل يحتاج الأمر إلى مؤسسات تربوية وثقافية خبيرة ومتمكِّنة كي تربي الناشئة وتعودِّها مناطق التغاير والاختلاف.

وماذا عن الموسيقى؟

هي، مثل الشعر واللوحة، تبدلت علاقتها بالسامع. والثورة الموسيقية التي بدأت مع فاغنر في أواخر المرحلة الرومانسية ألغت النغم، ثم ألغت اللحن، فيما بعد، مع شونبرغ. ثم جاء شتوكهاوزن، سيِّد الموسيقى الإلكترونية الموزَّعة التي تقسم الصوت إلى تنويعات صوتية كثيرة معقدة الإيقاع.

على صعيد العالم العربي بدأ الاختلاف يظهر على نحو كبير في ذوق الأجيال موسيقياً. فإذا كانت زوجتي ما زالت تحب سماع أم كلثوم وفيروز فإن ابنتي تميل إلى موسيقى الجاز وتستمتع بها وترى فيها متعتها الذوقية. وأنا بين الحالين أراقب وأتفهَّم وأحلِّل.

أتستهويك موسيقى الجاز؟

أنا أتفهَّمها كنتيجة وكمحصِّلة في سياق ما يستجدُّ على صعيد الموسيقى في العالم وعندنا. ولا مانع عندي أحياناً من أن أتذوَّقها وأعيشها. وليس سراً أن أكشف لك أنني معجب بأعمال شتوكهاوزن.

أستاذ أنطون: العقل العربي لم يزل يرى في الحداثة هجوماً استبدادياً يطوله. ما تعليقك على ذلك؟

في الحداثة، إذا أخذناها بكل تفاصيلها الاقتصادية والسياسية والفكرية إلخ، شيء غير إنساني. وهذا تماماً ما عناه عدد من الفلاسفة بحديثهم عن موت الإنسان؛ ويقصدون بذلك انتهاء النزعة الإنسانية، أو الخط البياني الإنساني الذي بدأ في عصر النهضة والذي جعل من الإنسان أحد محوري الوجود الأساسيين: الله والإنسان. وأستدرك فأقول إن إنساننا العربي ضعيف وفاقد المناعة إلى درجة أنه بحاجة الآن إلى تركيز على بعده الإنساني. وهذه، في الحقيقة، هي المشكلة الجوهرية للحداثة العربية. ويجب أن تبقى الأمور على هذا الشكل حتى تتحدد النتائج لأن في الإنسان العربي جاذباً كبيراً يشدُّه إلى مظاهر الحضارة الحديثة كافة، وبصورة خاصة نحو صورة المستهلك. ولكن المجتمع الاستهلاكي يخسر الإنسانُ فيه روحَه، كرهان فاوست. هذا من جهة. إنساننا، من جهة ثانية، يخاف الغزو الأوروبي، بدليل كثرة الكلام على الغزو الثقافي. والغزو الثقافي، في الحقيقة، ليس غزو هذا التيار الفكري أو ذاك، بقدر ما هو غزو للمجتمع الاستهلاكي العربي بغية ترسيخ واقعه. أي أن الغرب يريد أن يبسط نفوذه كي نبقى نحن سوقاً لتصريف نتاجه.

نحن نستهلك كل شيء ميكانيكياً. الآلة الغربية، مثلاً، نستهلكها بغير فهم لكيفية اختراعها والتطوير الطارئ عليها؛ نصير مأسورين لها وللتطورات الحاصلة في بنيتها. على عكس الإنسان الغربي الذي ينتج هذه الآلة؛ فهو دائماً في حال من الانتصار عليها، بينما نحن في حال من التبعية لها و لـ"سياسة" مخترعها. وما لم يشارك الإنسان العربي في إبداع الشيء ونتاجه فإنه سيبقى تابعاً ذليلاً!

وكيف يمكن التوفيق – وحالنا العربية على ما هي عليه – بين حاجتنا للآلة الغربية وقطع دابر "الحداثة الاستبدادية"؟

قد أختلف معك في هذا النعت. ولكن إذا كان من إجابة عن هذا السؤال فإني أقول إن الإنسانين الغربي والعربي هما ضحية للآلة، خصوصاً منذ أوائل القرن العشرين، حيث تركز الاقتصاد حول مسألة النتاج ورفع مستواه. فالكل يسمع في الراديو والتلفزيون والصحف أخبار السباق المحموم بغية الاستزادة في عملية النتاج. وحتى الخمسينيات كان الاقتصاد في الإجمال يتركز حول موضوع النتاج. أما بعد الخمسينيات فقد تركزت سياسة الاقتصاد على الاستهلاك. صار المستهلك هو الهدف. ولأجل تحقيق ذلك اشتد التنافس في الغرب حتى ألغي الإنسان. لقد تحول الإنسان الأوروبي، مثلاً، إلى آلة؛ يبرمج وقته في اليوم، وفي السنة. فهو يشتغل من الساعة كذا للساعة كذا، لا يحيد ولا يهاتر بالنظام الصارم المفروض عليه. تراه، مثلاً، يحدِّد ماذا سيفعل في عطلته السنوية منذ شهر شباط [فبراير]. في اختصار، لقد تشيَّأ هذا الإنسان وصار محكوماً بنظام تنافس النتاج وبرمجته التي تزداد يوماً عن يوم. ونتيجة ما حلَّ بالمجتمع، من جراء ذلك، ضَعُفَ دور الحكومات المركزية، ضَعُفَ دور البرلمانات، وصارت الأولوية للتنفيذ على التشريع. وربما هذا هو الذي يفرز ما سميته أنت بـ"الحداثة الاستبدادية".

وإنساننا العربي ضحية للآلة، بمعنى أنه تابع لها كمستهلك. وهو لا يمكنه أن يدخل في السباق المحموم الذي قزَّم الإنسان الأوروبي. أضف إلى ذلك أن صدمة التكنولوجيا هي التي ساهمت في تمزيق إنساننا العربي، وبات المثقف في بلادنا مشتتاً ما بين الثقافة الغربية الوافدة وثقافته الموروثة؛ بمعنى آخر، بين الذهنية الغيبية الاسترخائية والذهنية العلمية الصارمة. وصدمة التكنولوجيا، بمعنى من المعاني، هي التي سببت لمجتمعنا العربي ما نشهده من تفكك وتجزئة. والمسألة، في العمق، ليست نتيجة هذا النظام العربي أو ذاك؛ المسألة برمَّتها تتعلق بمرحلة تاريخية وحضارية عامة. إننا نعاني أزمة وجود وغربة عن تاريخنا، وعن حاضرنا، وبالطبع، عن التفكير بالمستقبل.

وأستدرك فأقول: إذا كان هناك من دور للأدب فيتجلَّى، أولاً، بترك الخطابيات والاستثارات الانفعالية؛ وثانياً، في تربية عقل الإنسان العربي وحساسيته. فنحن – مع الأسف – ما نزال نتعاطى والأشياء بعقلية البداوة.

وكيف تفهم موقف كلود ليفي–ستروس من الحداثة في الغرب واعتباره، مثلاً، أبعد قرية في الصين، أو أبعد جماعة من جماعات الهنود الحمر في شمال أمريكا وجنوبها، أكثر تحضراً من حداثة الغربيين وقيمهم. الغرب، في رأيه، هو النموذج الحقيقي للتوحش والبدائية؟

الحقيقة أن ستروس يشير بهذا الأمر إلى الأزمة الخانقة التي تعانيها الحضارة الغربية والإنسان في الغرب. ونحن ينبغي ألا نفهم هذا الكلام إلا من خلال الأطوار والمراحل التي مرَّ، ويمرُّ بها الإنسان الغربي.

وما هو تقويمك للتجربة اليابانية – تلك التي جمع فيها الإنسان الياباني بين إرثه الروحي وعقله التكنولوجي اليقظ؟

لست مطلعاً على التجربة اليابانية بما فيه الكفاية. لذا لا يمكنني الكلام حولها.

نحن بحاجة إلى ثورة تحديثية

لنعد إلى دائرة الأدب والفنون. ماذا تقول في انتفاء الفواصل بين الأجناس الأدبية وتحوُّل الشعر والقصة والمسرح والرواية والنقد إلى ما يشبه النص الواحد. وهل أنت مع النص الأدبي المفتوح؟

لا أرى مانعاً من أن يجرب الأديب أو الشاعر العربي. ومثلما يقال إن المتنبي هو الذي انتهى معه الشعر العربي – فكل ما قيل بعده هو تكرار على تنويعاته الشعرية – فنحن أحوج ما نكون إذن إلى فعل التغيير، فعل كسر الذاكرة في علاقتها الاستسلامية المرضية مع الماضي. وسواء ضاقت الفواصل بين الأجناس أو انتفت، فالمهم هو التجريب، وصولاً إلى النص القادر على أن يعكس قلقنا الحضاري في ملئه. وعلى الرغم من ظهور النص الأدبي المفتوح، بقيت القصة قصة، والمسرحية مسرحية، وخصوصاً في المجتمعات التي لا تستهجن الثورة التحديثية في الآداب والفنون.
مع النص الحديث صار القارئ جزءاً لا يتجزأ من حيثيات هذا النص؟

هذا صحيح. فالقارئ معني بما يوحيه النص فيه. واختلاف التفسير لا يهم ما دامت الغاية هي إحداث الصدمة والتحوُّل والتفاعل مع هذا النص.

ثمة ذاكرة عربية جديدة تتأسس. فينبغي ألا نخشى من التبدلات، ولا من الانقلابات الحاصلة في مجموع القيم والتقاليد والأفكار والثقافات. علينا مواجهة الحضارة الحديثة والمستقبل بعقل فاعل، مغامر وجريء.

*** *** ***

أجرى الحوار: أحمد فرحات

عن الكفاح العربي، 30/7/ 1984


* تعود هذه المقابلة (التي زوَّدنا بنصِّها مشكوراً صديقنا الشاعر جبران سعد من محفوظات أرشيفه الشخصي) إلى عام 1984، لكن طروحات الأستاذ المقدسي الواردة فيها ما تزال تتصف بالطزاجة والرؤية المستقبلية البعيدة المدى. (المحررون)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود