الحياة والدين والدولة

في حوار توينبي وإيكيدا

 

هشام الدجاني

 

يمثِّل هذا الكتاب* أرقى درجات الحوار في عصرنا. إنه حوار بين المؤرِّخ البريطاني المعروف آرنولد توينبي والمفكِّر الياباني الألمعي دايساكو إكيدا في عدد من المسائل التي تهمُّ الإنسان في كل مكان. ورغم الخصوصية الثقافية لكل منهما فقد كانا ينطلقان على الدوام من منطلقات إنسانية وشمولية.

ويُعَدُّ آرنولد توينبي (1889-1975) من أبرز فلاسفة التاريخ في العالم، ومن أشهرهم عند العرب، بسبب مواقفه الحرَّة، وتأييده حقوقهم المشروعة، ودفاعه النزيه عن عدالة القضايا العربية، وعلى رأسها قضية فلسطين. وهو يؤمن بنظرية "الحلقات" وبأن التاريخ العالمي هو الحصيلة الإجمالية للحضارات المختلفة التي مرت بالأطوار نفسها: الولادة والنمو والانحدار والاضمحلال. وأهمية نظرياته تأتي من تفصيلاتها ودقائقها، ومن كونها إضافات إلى فلسفة التاريخ.

وكان توينبي، بالإضافة إلى نظرياته الأصلية المبتكرة في تفسير التاريخ، إنساناً ممتلئاً بالحكمة والموسوعية وشمولية الرؤية والروح الإنسانية الصافية. كان ينبذ كل أشكال التعصُّب، من قومية ودينية وإيديولوجية وسواها. وعلى الرغم من أنه عاش مواطناً بريطانياً، فقد كان انتماؤه الإنساني هو الغالب عليه: "إن ولائي الأسمى هو للبشر، وليس لدولتي المحلِّية، وليس للمؤسسة التي تسيطر على هذه الدولة."

في هذا الكتاب الحواري المشترك مع الفيلسوف الياباني دايساكو إكيدا، تناول هذان المفكران زبدة أفكارهما بأسلوب الحوار حول الكثير من الموضوعات. ومن شأن هذا العمل أن يقدِّم للقراء فائدة عظيمة ولا ريب.

قال توينبي: "إنهما ينشران الحوار في شكل كتاب على أمل أن تبرهن الموضوعات التي اهتمَّا بها أنها مسائل اهتمام عام عند معاصري الكاتبين في العالم."

وكان توينبي، شأن إكيدا، يسأل مشاركَه حول الكثير من الموضوعات التي يشعر أنه أعلم منه بها ويستوضحه عنها ويحاول أن يستفيد منها.

ويُعَدُّ الفيلسوف الياباني المعاصر دايساكو إكيدا من أبرز المفكرين الذين انصبَّ جلُّ اهتمامهم على تثوير الإدراك وحرية الإنسان وامتحان القِيَم قبل تبنِّيها. وقد رأى أن ثورة الإنسان على داخله هي الشرط الضروري للتقدم.

وقال: "الرأي عندي أن الحلول الصحيحة لا يمكنها أن تنشأ عن إصلاح النظام أو البنية في مجتمع معين. فمن الضروري البدء بامتحان القيم التي تشكل الفعل الإنساني الفردي." وهو شديد الوعي التاريخي، ويميِّز بين قيم العصور المختلفة وبرى أنه "في بعض مراحل الزمن التاريخي كانت الأفكار والأعمال التي أحدثت آلام شديدة الأذى تحظى بتقدير عظيم". وإكيدا من أكبر المناصرين للسلم العالمي لأنه قيمة من القيم الشاملة التي تعني كل البشر. يقول: "في الماضي أدَّت القيم الضيقة إلى مأساة. والآن، وقرننا العشرون يوشك على الانتهاء، ينبغي أن تكون قيمُنا واسعة وعميقة." ولإكيدا أكثر من أربعين كتاباً، تُرجِم معظمُها إلى كثير من اللغات. ومن أشهر هذه الكتب رواية الثورة الإنسانية في خمسة مجلدات، ورسائل الفصول الأربعة، وقبل أن يفوت الأوان، والآثار الكلاسية اليابانية، وسواها...

ويكشف جدول محتويات هذا الكتاب أنه يعالج مجالاً واسعاً من الموضوعات الحوارية. إنه حوار الشرق والغرب: الشرق الأزلي، تمثِّله اليابان ويعبِّر عنه أحد كبار مفكِّريها (إكيدا)، يقابله من الغرب توينبي، المؤرخ وفيلسوف التاريخ المعروف. الكتاب لا يقبل التلخيص؛ فهو موسوعة في ثلاثة أقسام للمشكلات المطروحة اليوم على بساط البحث، ومن أهمِّها: التلوث، الفكر العلمي، التناسل، الإعلام وحرية النشر، زوال الدولة المحلية، الأسلحة والحرب، الديمقراطية والدكتاتورية، الخير والشر... وفي المقام الأول، التعارض بين التكنولوجيا والتاريخ، الذي هو تراث الأمة ورصيد البشرية الذي كوَّنته الأجيال. ويلي بين الأولويات التعارض الذي يأخذ شكلاً يزداد حدَّة مع الإنجازات التكنولوجية، ألا وهو التعارض بين الصناعي والطبيعي.

يتكامل هذا الكتاب مع ما نشرته وزارة الثقافة قبل سنوات بعنوان حوار الشرق والغرب. ويستمد الكتابان أهميتهما الثقافية من أنهما ينطلقان من فسحة الأمة المحدودة إلى فسحة الوجود غير المحدودة.

وهكذا نرى أن الموضوعات التي دار النقاش حولها في هذا الكتاب هي من أنواع مختلفة، بعضها ذو أهمية ملحَّة في الوقت الحاضر. إلا أن بعضها الآخر مسائل ذات أهمية دائمة فكَّر بها البشر وتناقشوا حولها منذ التاريخ المجهول الذي أدرك أسلافنا الوعي فيه.

ومن المحتمل أن تستمر هذه المسائل مجالاً للنقاش ما دام الجنس البشري يحيا في الشكل الجسدي–النفسي لوجوده في بيئتنا المادية. ويتفق المؤلفان على الأمل أن ينجح البشر في الفصل المقبل من التاريخ في الاتحاد سياسياً وروحياً. وإكيدا أكثر أملاً من توينبي في إمكان أن يحدث هذا التبدُّل الكبير.

أما توينبي فهو عموماً أشد تشاؤماً، بمعنى أنه يتوقع أن يدفع البشر ثمناً باهظاً لصنع تلك التبدُّلات العميقة في الموقف والهدف والسلوك التي يؤمن كلا المؤلفين أنها الشروط التي لا غنى عنها لبقاء البشرية.

ورغم الفارق بين الخلفيَّتين الدينية والثقافية للمؤلفين، فإن حداً ملحوظاً من الاتفاق في وجهات نظرهما وأهدافهما ظهر في حوارهما.

إن اتفاقهما بعيد المدى؛ أما نقاط اختلافهما فطفيفة نسبياً. وهما يتفقان على أن الدين هو النابض الرئيسي في الحياة الإنسانية؛ كما يتفقان على أن الإنسان ينبغي أن يكون مكافحاً على الدوام للتغلب على نزوعه الفطري إلى محاولة استغلال بقية الكون. إذ ينبغي له أن يحاول، بدلاً من ذلك، أن يضع نفسه في خدمة الكون. وبذلك، ومن غير تحفظ، تصبح أناه متواحدة مع الواقع الجوهري.

إن مهمة الإنسان الروحية الدائمة، كما يراها المؤلفان، هي: التغلب على الأنانية وتوسيع أناه حتى يتساوى في امتداده مع الواقع الجوهري، الذي هيهات، في الحقيقة، أن ينفصل عنه.

وهذه الممارسة الروحية التي يقوم بها أفراد البشر هي الوسيلة الفاعلة الوحيدة للتبدل الاجتماعي نحو الأفضل. ولا تكون تبدُّلات المؤسسات الاجتماعية فاعلة إلا بمقدار ما تكون إيماءات للتحول الذاتي والروحي ونتائجه عند الأشخاص الذين تكون علاقاتهم بعضهم ببعض هي الشبكة التي تشكِّل المجتمع الإنساني. إن البشر اليوم، على امتداد الكرة الأرضية، يواجههم عدد من المشكلات الخطيرة. وهذه المشكلات تُحْدِق بنا جميعاً، أغنياء وفقراء، متقدمين تكنولوجياً ومتخلفين.

وسواء صادف أن كانت الديانة السلفية للشعب أو الفرد من المدرسة الهندية أم من المدرسة الإبرهيمية، فإن شمولية المشكلات المشتركة الراهنة هي النتيجة التاريخية لشبكة عالمية المجال من العلاقات التكنولوجية والاقتصادية، أوْجَدَها توسيع الشعوب الأوروبية الغربية نشاطاتها في القرون الخمسة الأخيرة.

والعلاقات التكنولوجية والاقتصادية تُحدِث علاقات سياسية وأخلاقية ودينية. ونحن في الحقيقة نشهد في زماننا ميلاد حضارة عالمية مشتركة، نشأت في إطار تكنولوجي غربي الأصل، لكنْ أغنتها الآن روحياً مساهمات من كل الحضارات المحلِّية التاريخية. وهذه النزعة الحديثة في تاريخ البشر قد تفسِّر، جزئياً، المقدار المدهش من القاعدة المشتركة في النظرة العالمية عند إكيدا وتوينبي.

غاص المؤلفان، في تبادلهما الأفكار حول الحياة الفلسفية والدينية، في الطبقات النفسية ما تحت الواعية للطبيعة البشرية، إلى عمق عناصر الطبيعة البشرية التي هي نفسها لكل البشر. فهي نتاج الأساس الجوهري المشترك للوجود، جذر كل الظواهر.

*** *** ***

عن النهار، الاثنين، 17 تشرين الأول 2000


* ريتشارد غيج، التحديات الكبرى: الحياة والدين والدولة: حوار، بترجمة محمود منقذ الهاشمي، وزارة الثقافة السورية، دمشق 2000، 450 صفحة.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود