الجودة المعلوماتية

ضد الاستهلاك الرخيص!

 

حوار مع فايز فوق العادة

 

التقينا مع المهندس فايز فوق العادة، رئيس الجمعية الكونية السورية، وأجرينا معه حواراً حول تكنولوجيا المعلومات بين المرسل والمستقبل. وفيما يلي نص الحوار:

 

تكنولوجيا المعلومات

ماذا عن تكنولوجيا المعلومات؟

ما من شك بأن العصر الحالي هو عصر المعلومات التي دخلت كعنصر جديد يمكن قياسه. وهي، مثل المسافة، يمكن قياسها. المسافة تقاس بالكيلومترات والوزن بالكيلوغرامات. أما المعلومات فيمكن قياسها بوحدة تسمى الـ"بِتْ" bit وبوحدة مضاعفة تسمى الـ"بايت" bite. وسنتوقف هنا عند نقطة هامة. هناك قياسات لا معنى لها، أو لا معنى إنسانياً لها، كأن أقول بأني وزنت كتلة من الألبسة الزاهية! هذا الوزن لا معنى له. كذلك الأمر عندما أشاهد برامج تضر بأدمغة الناس في كل أنحاء العالم. إنها برامج لا معنى لها، معلومات كثيرة نستطيع قياسها، ولكن لا معنى لها، ولا تنطوي على أية جودة.

مبدأ الجودة المعلوماتية

هل نستطيع أن نقول بأن لها معنى، لكنه تخريبي؟

للإجابة على تساؤلك سأتوقف عند نقطة أخرى. دعني أوضح معنى عبارة "لا تنطوي على أية جودة": هناك مبدأ يمكن أن نطلق عليه اسم "مبدأ الجودة المعلوماتية"، بمعنى أن هناك معلومة سيئة ومعلومة أخرى جيدة، مثلما أن هناك ألبسة جيدة تقيني الحر أو البرد، وألبسة سيئة أضطر أن أجاريها امتثالاً فقط لقواعد اجتماعية واقتصادية، فأبدِّلها كل يوم أو كل شهر أو كل سنة. (أنا شخصياً أستمر في لبس قطعة الثياب حتى تبلى، فلا تعود تؤدي وظيفتها.)

المعلومات، ككل عنصر فيزيائي، تدخل حياتنا: مرسِل يقدم لي ألبسة، وقناة تصلني عبرها الألبسة (التاجر، البائع، تجار الشنطة – وما شاء الله كلنا صرنا تجار شنطة! –، كل هؤلاء قناة) وأنا، مستهلك الألبسة، مستقبِل. وفي المعلومات أيضاً، المرسِل يتخذ قناة، والمستقبِل أنا وأنت، ويمكن أن يكون المرسِل نفسه مستقبِلاً لمعلومات أخرى.

طريقة نقل المعلومات تختلف؛ فقد تكون تلفزيون بكابلات مكلفة، أو هوائية، أو عبر الأقمار الصناعية، أو راديوية، الخ، لكن نحن دوماً نلوم المرسِل! المستقبِل برأيي هو الذي يتحمل المسؤولية. أنا وأنت لا نلبس الألبسة الغالية، وهذا ليس لأننا لا نملك ثمنها، بل لأنها تافهة بحد ذاتها. إذا كنت أملك 10 آلاف ليرة، فبدلاً من شراء ألبسة تافهة، أشتري بهذا المبلغ كتباً قيِّمة، أرفع بها مستواي الفني والروحي. كذلك المستقبِل المعلوماتي له دور رئيسي وقيمة كبيرة. إذا كان بنياني الداخلي غير متماسك، وكان معي كم من المال (والله أعلم من أين حصلت عليه، وما من أحد – أياً كان – يملك مالاً إلا ويدور حوله سؤال حول مصدر هذا المال)، وأسَّست بهذا المال محطة تلفزيونية على طريقة الغرب التي بتنا نحاكيها أكثر فأكثر، ولقيت قبولاً عند الناس لهذه التفاهات التي أقدِّمها، فإن ذلك يشجعني على الاسترسال من تفاهة إلى تفاهة. حتى أصل مرحلة لا أستطيع أن أجرؤ فيها على التوقف، ليس بسبب الربح، وإنما بسبب مطالبة الجمهور بتقديم المزيد من التفاهات! لنتصور الآن عملاً سحرياً ما: بمعجزة ما، توقفت محطات التلفزيون في العالم 24 ساعة. عندها... من أين ستظهر الأزمة؟ أمن المرسِلين أو من المستقبِلينأأ؟ من سيتظاهر ويحتج؟ المستقبِلون قطعاً هم الذين سيحتجون. المرسِلون عندهم أرصدتهم المالية التي تمكِّنهم من التوقف 24 ساعة. إذاً المشكلة مشكلة المستقبِل. أكبر دليل على ذلك أن المستقبِل في الاتحاد السوفييتي السابق كان تواقاً للاستهلاك. قد تكون هناك أخطاء في الاتحاد السوفييتي، ولكن الأخطاء وحدها لا تُسقِط إمبراطورية. سقوط إمبراطورية له علاقة حتماً برداءة الاستقبال المعلوماتي، علاقة بجمهور واسع بحاجة ماسة إلى معلومات تافهة. كان النظام في الاتحاد السوفييتي، على علاته، يقدم معلومات جادة، حفلات موسيقية، وكذلك مسرحيات على مستوى رفيع؛ يقدم كتاباً زهيد السعر جداً وعالي المستوى. لكن يبدو أن الناس لا يريدون ذلك، بل يريدون كتاباً غالياً جداً وتافهاً جداً، ولباساً غالياً وتافهاً أيضاً، وموسيقى تافهة. إذاً المستقبِل المعلوماتي يتحمَّل معظم المسؤولية.

إذا أخذنا بوجهة النظر هذه فنحن أمام مشكلة خطيرة جداً: كيف يجب أن يُبنَى الإنسان؟ وهذا يقودنا إلى سؤال أكبر بكثير: هل يأتي الإنسان وهو يتمتع بموهبة ما؟ إذا كان الجواب هو مقولة أن ثلة من الناس فقط تتمتع بموهبة يجب تنميتها، فإن هذه المقولة خطيرة جداً لأنها تحكم على الباقين [من غير الموهوبين] حكماً قدرياً أن يلبسوا ويأكلوا ويشاهدوا التلفزيون فقط.

ولكن السؤال عميق جداً. أنا غير قادر أن آخذ بالتيار الذي يكتفي فقط بتوجيه اللوم إلى المرسِل. المستقبِل هو المسؤول؛ عبر التاريخ هو المسؤول.

في هنغاريا، مثلاً، شاهدتُ في ظل النظام الاشتراكي مظاهرة تضم 100 ألف شخص لاستقبال فرقة من عازفي الغيتار الكهربائي، في الوقت الذي كان عازف بيانو مشهور من الاتحاد السوفييتي يقدم بدار الأوبرا في العاصمة بودابست بعض المقطوعات مجاناً أو بسعر رمزي. ولكن القاعة التي كان يعزف فيها كانت خالية، بينما التظاهرة تملأ الشوارع. مظاهرة حقيقية أهم من المظاهرات السياسية بكثير لاستقبال بعض الأغبياء الذين لا أستطيع أن أطلق على أي منهم لقب إنسان، حتى إنه لم يصل بعد إلى مستوى إنسان. هنا نعود إلى طرح السؤال: هل يمكن بناء الإنسان فعلاً؟

70 سنة من النظام الاشتراكي لم تبنِ، على ما يبدو، الإنسان من الداخل. أنا سافرت إلى هنغاريا (وهي الدولة الوحيدة التي زرتها من دول النظام الاشتراكي) وكنت معجباً جداً بنظام الحياة العادلة المضمونة للناس كلهم. ولكن الناس الذين قابلتهم في هنغاريا لا يريدون أي شيء مضمون؛ يريدون أن يأكلوا بعضهم بعضاً. فعلى مَن تقع المسؤولية؟

تصنيع الرأي الآخر

هل يمكن تصنيع الرأي الآخر؟

ممكن طبعاً. ولكن الآن تسود موضة الـ"دِشْ" dish [الصحن اللاقط]؛ وقبلها كانت موضة الفيديو، وستأتي الآن موضة الإنترنت. من جهتي، لم يدخل إلى بيتي الفيديو. ومع أني من أوائل الناس الذين درَّسوا الكمبيوتر وأقيم دورات متقدمة لتعليم البرمجة، كذلك لم يدخل الكمبيوتر بيتي لأنه لا حاجة لي إليه في البيت. لقد دخل الكمبيوتر كل بيت، أو معظم البيوت، من أجل ألعاب الفيديو (الأتاري)، أو لمجرد أن يقال: "عندي كمبيوتر!" أنا معلِّم كمبيوتر، ومع ذلك، لا أقتني حتى آلة حاسبة. أحياناً أحتاج إلى عملية حسابية، فأستخدم يدي لإجراء العملية الحسابية. أما في العمل فعندي كمبيوتر لأني هناك بحاجة إليه.

هل من الممكن أن تكوِّن في هذا الواقع مقياساً للآخرين؟

إذا أُعلِنَت صحة نظرية علمية معينة يكفي مثال واحد مناقض لها لتدميرها. فإذا قلتَ بأن المسؤولية يتحمَّلها المرسِل، ووجدتَ، في الوقت نفسه، مستقبِلاً واحداً رافضاً لهذه المقولة، فلا يمكن اعتبار المرسِل هو المسؤول، بل المستقبِل.

من وجهة نظر تبدو متشائمة، فإن المطالبة بالعدالة تكاد تكون ضرباً من المحال من موقع الإنسانُ غير قادر منه على فرض العدالة على الآخرين. نحن نعرف بأن الاشتراكيين الحقيقيين في ظل النظام العالمي الجديد لا يمكن تصنيفهم في خانة المليونيرية، وبالتالي لا يعترف هذا النظام بهم. سابقاً كان يمكن الاعتراف بماركسي فقير، أما الآن فلا يُعترَف به؛ إذ يجب أن يملك رصيداً مالياً معيناً. يجب أن يكون "وجهاً". وليس المقصود البعد العلمي أو الاشتراكي للمسألة، وإنما المقصود "الوجه" الإعلامي، أي أن تكون له علاقة بجو المعلومات العالمي، ويمكن لوسائل الإعلام العالمية أن تسلِّط الأضواء عليه؛ إذ بدونها لا يمكن أن يعترف به أحد.

البنية النفسية

في رأيك أن لعبة كرة القدم هي انتقال من أ إلى ب إلى ج، ومن بعدُ العودة إلى نقطة أ، وهي، بالتالي، لعبة تافهة. وما نلمسه الآن هو ابتعاد الناس عن الاستماع إلى ندوات المراكز الثقافية، بينما المدرجات الرياضية تمتلئ لمشاهدة مباريات كرة القدم؟

هذا يعزز وجهة نظري. القضية هي قضية البنية النفسية للشخص نفسه، ماذا تطلب وفيما ترغب. كلا الندوة الثقافية ومباراة كرة القدم مفتوح لأي شخص. لكن ما من بيت إلا ويُشعَل فيه التلفزيون، وأحياناً كثيرة يُشعَل دون أن يتفرج عليه أحد، لأنه صار جزءاً لا يتجزأ من حياة البيت. ومهما كان الشيء الذي يُعرَض، لا يجرؤ أحد على إغلاق التلفزيون – ليس عندنا فقط وإنما في العالم كله –، ليس بسبب أن أحداً يمنعه من ذلك، وإنما لأنه يملك بنية داخلية، بناءً داخلياً مشروطاً بتلفزيون مفتوح دائماً.

طبعاً أنا لا أبرِّئ المرسِل، إطلاقاً. لكن المرسِل يجد أن الأمر رابح، وهو يجني أرباحاً كلما أمعن في هذا الطريق. فلِمَ لا يسترسل في ذلك مادام يربح؟! ليس لديه وازع مادام مقياسه في الحياة هو تكديس الأموال، ويعتبر نفسه على حق.

كذلك المستقبِل يستلذُّ عيش حياته مُسْتحوَذاً عليه، لا بُنية داخلية له مستقلة. هو كذلك يعتبر نفسه على حق. هذا يسمونه في علم النفس "التجيير"، أو "التذرُّع"، عندما لا تريد "الأنا" أن تتحمل مسؤولية حتى أمام نفسها. الطفل يعاني من حالة التجيير النفسي. فعندما تلوم الطفل على فعلة قام بها فإنه يجيِّر تلك الفعلة إلى طفل آخر. والناس أيضاً تجيِّر لمطلق كبير جداً. أما أن تكون عندي الدوافع كلها داخلية، وأن أتحمل مسؤولية حتى نزعاتي النفسية، فأطفئ التلفزيون على الرغم من أنه يستحوذ عليَّ تقريباً، أن أطفئه، رغماً عني، حتى أحقق استقلاليتي، فهذا بات صعباً جداً ونادراً. هذا هو الموقف الذي يجب أن يتخذه الإنسان الحقيقي. ولكن إنسان عصرنا غير هذا؛ يفضل أن يُستحوَذ عليه، ويريد أن يكون غير مستقِل. وإذا كان مستقلاً في فترة من حياته – وأعني الاستقلال الذاتي بأن يكون له رأي ما في أية قضية –، فإنه سرعان ما لا يتحمل مسؤولية توليد رأي لنفسه، مفضلاً أن يسمعه من التلفزيون عبر دعاية تجارية أو أي شيء آخر، لمجرد أن يبهر به الآخرين في نقاشات "اجتماعية". كثيرون ينتظرون مسلسلاً تلفزيونياً ليمنحهم حكمة اجتماعية لأنهم عاجزون عن تكوين رأي بمشكلة اجتماعية تخصُّهم ويستشهدون بالمسلسل قائلين: "هكذا هي الحكمة وهكذا هو القانون." أين يقع هنا دور المرسِل؟!

مسؤولية المرسِل

يتحكم المرسِل حالياً بالاتصالات عن طريق الاحتكارات أو جماعات الضغط الدولية. كيف يمكن مواجهة هذا الواقع؟

أوافقك على ذلك. وبرأيي أن كل مموِّل كبير يمكن أن يدلي بدلوه. وأنا متفق معك؛ المرسِل هو الملوم الأول في الأساس. ولكن، في وقتنا هذا، المستقبِل هو الملوم الأول وليس المرسِل. والأمثلة على ذلك كثيرة. فإذا أخذنا قضية الهجرة من العالم الثالث إلى العالم المتقدم، فإن كثيراً ممَّن يهاجرون ليسوا بحاجة إلى الهجرة من الناحية المالية، وإنما يصطنعون أسباباً واهية لهذه الهجرة. يقولون مثلاً بأنهم يقفون في الدور للحصول على مادة معينة، بينما في الخارج لا تحتاج للوقوف طويلاً للحصول على حاجتك – مع أن المرء هناك يعاني من قضايا أخطر بكثير بدون أن يشعر (حياته هناك مهددة مثلاً). إنه في ذلك لا يمتلك بنية داخلية تمنحه القدرة على اتخاذ قرار مناسب، فيجيِّر الأمور للغير، لمؤسسة ضخمة كبيرة، على سبيل المثال. فهو جزء من العالم، وغير قادر أن يكوِّن مؤسسة مستقلة، شخصية خلاقة، وغير قادر أن يضيف شيئاً للواقع. فإذا سافر يجيِّر ذلك لقوة مطلقة، الخ. والنتيجة أن يعيش مرتاحاً. والتلفزيون، بالمناسبة، أداة ممتازة للامتصاص والتجيير، وهي أداة رهيبة جداً. فبإمكانك أن تقضي كل السهرة دون أن تحس بما مضى عليك من الوقت. جيَّرت قسماً كبيراً من حياتك للمنتِج التلفزيوني. فمن يكون المسؤول في هذه الحالة؟ أنا لست مع توجيه اللوم إلى الملوم؛ أنا مع توجيه اللوم للذي يسلِّم نفسه فريسة سهلة.

لقد آن الأوان، في العالم كله، لأن نتساءل: ماذا يريد الإنسان؟ هل نعيش ونحن نكيل الاتهامات للآخرين؟ أم يكون كل واحد إنساناً خلاقاً بإمكاناته، ويعرف أنه مسؤول عن إنسانيَّته؟

عندي شعور بأن أصغر إنسان في أبعد قرية مسؤول عن الإنسانية كلِّها. إذا قطف وردة في غير أوانها يجب أن يحس بالذنب العميق.

هل هذا الشعور متوفر أكثر عند الرأسماليين، أم عند الاشتراكيين، أم عند المثقفين؟ سؤال يصعب الوصول إلى جواب له، لكن الجواب قطعاً يكمن في سوية النضج والتماسك الداخليين، بصرف النظر عن النظام الذي يعيش فيه المرء.

تكنولوجيا المعلومات

ماذا عن تكنولوجيا المعلومات؟

التكنولوجيا، بما فيها التكنولوجيا الخاصة بالمعلومات، 90 % منها استهلاكي وتُطرَح في الأسواق، ولا ضرورة لها على الإطلاق. دعني أشبِّه لك الأمر بالسيارة: منذ أن اختُرِعَت السيارة حتى الآن، ما يزال المبدأ الفيزيائي نفسه يفعل في حلقة اسمها "دورة كارنو"، هي التي تتحكم في آلية عمل السيارة. وكل الإضافات التي أُدخِلت على السيارات لا علاقة لها بعمل السيارة التي ستوصلني إلى المكان الذي أبتغيه. الآن يجري تبديل السيارة إذا خُدِشت، مثلاً، أو إذا ظهر طراز جديد أحدث. وفي الواقع ليس هذا الطراز أحدث إطلاقاً؛ هو سيارة فقط. لكن الناس فارغون من الداخل، عندهم خواء داخلي. فهل تملؤه السيارات والتلفزيونات والتكنولوجيا الفارغة، أم يسعى الإنسان جدياً إلى ملء فراغه الداخلي بالمعرفة الحقيقية؟ تلك هي المسألة.

دعني أذكر مثالاً آخر: في الاتحاد السوفييتي السابق كانت التكنولوجيا الاستهلاكية متخلِّفة عن الغرب كثيراً، ولكنه كان يستطيع أن يصنع ويطلق المركبات الفضائية بعيداً في الفضاء بتكنولوجيا تُعتبَر بدائية، ولكنها كافية جداً للوصول إلى الهدف، وبنجاعة أكثر من تكنولوجيا الغرب. ورغم معرفة السوفييت بهذه الحقائق، إلا أنهم، بكل بساطة، ركضوا خلف إعلان تلفزيوني تافه دوَّخهم، وجعلهم يخمرون من هذا الإعلان التافه.

لدي كتاب أمريكي عن الكمبيوتر، أحضرته في السبعينات من الولايات المتحدة، يعترف بأن أعظم برنامج كمبيوتر موجود في الاتحاد السوفييتي. كانوا ينتجون ما يسمَّى "نموذجاً أولياً" prototype. وهذا يعني بأنه جهاز كمبيوتر خاص، لا مثيل له، صُنِع خصيصاً لغرض معين.

ولقد سمعتُ بأن معظم البيوت اليابانية لا يوجد فيها تلفزيون، مع أننا نستهلك التلفزيونات اليابانية بالدرجة الأولى؛ وسمعت أن الناس في أماكن كثيرة من اليابان يستخدمون المحسِّب اليدوي. للتكنولوجيا وظيفة محددة، ويجب أن يقتصر استعمالها على الضرورات وحسب. لا أركب السيارة عندما تكون المسافة 1 كم، بل أقطعها مشياً. وإذا أردت أن أعَقْلِن الأمور أكثر من ذلك قلت: إذا كانت مساحة المدن محدودة بعدة كيلومترات، فلا ضرورة للسيارة إطلاقاً؛ فإما المشي وإما الدراجة العادية.

هناك فيلم أمريكي جميل، صار من الكلاسيكيات، يمكن أن أتحدث عنه، هو ET ("القادم من الفضاء الخارجي"). الفيلم، باختصار شديد، يقدِّم كائناً دميماً جداً قادماً من الفضاء، تنساه جماعته على الأرض. معلومات هذا الكائن العلمية تفوق معلومات كل علماء الأرض، ولكن الكائن لا يطبق معلوماته إلا عند الضرورة القصوى. فهو يعرف كيف يلغي أثر الجاذبية الأرضية محلياً (كخيال علمي). وهو على الأرض لا يستطيع أن يصادق الكبار، وإنما يصادق الأطفال، لأنه ذو بنية طيبة جداً ولم يكبر بعد، أو، كما يقول دوستويفسكي، "لم يقضم التفاحة بعد"! هو إذن طفل في بنيته النفسية، وعبقري في بنيته العقلية. رفاقه الأطفال يهرِّبونه على الدراجة، وتحصل مطاردات على الطريقة الأمريكية؛ وسيارات شرطة تلاحقه للقبض عليه، إلى أن تُرفَع بندقية وتُصوَّب نحو الأطفال... عندها فقط يستخدم ET معلوماته في التكنولوجيا، ويقرر إلغاء الجاذبية، فيطير هو وأصدقاؤه في الفضاء. إذاً لم يستخدم التقدم العلمي إلا عند الضرورة.

نحن الآن في هذا العصر نستخدم فقط "ما يطبَّق"، أي نبحث في الأمور العلمية القابلة للتطبيق وحسب، وفيما عدا ذلك لا نهتم بالبحث. هذا اسمه جنون التطبيق!

ليس سراً أن أنهار العالم مسمَّمة بسبب أصبغة الألبسة الملونة التي نلبسها. عندما كنت طفلاً لم تكن هناك ألبسة ملونة؛ القميص مثلاً كان أبيض. مرة عادت أمي من السوق لتقول إنها شاهدت في السوق قميصاً "مختَّماً"، وهو تعبير عن القميص الملوَّن. أعود فأقول بأن التكنولوجيا المعلوماتية السائدة استهلاكية، 90 % منها غير ضروري. لكننا لم نعد في العالم كلِّه نستطيع أن نميِّز بين ما هو ضروري وما هو غير ضروري. أقول مثلاً بأن الهاتف ضرورة قصوى. لكن من يستخدم الهاتف للضرورة القصوى؟! الهواتف مشغولة في العالم بالأحاديث الفارغة التي لا معنى لها إطلاقاً. تولستوي دعته ابنته لمشاهدة الاختراع الجديد المسمى بالسينما. وبعد أن خرج من المشاهدة قال: "إذا كان هذا الاختراع العظيم سيُستخدَم هذا الاستخدام المبتذَل فمن الأفضل أن تستغني الإنسانية عنه!"

تكنولوجيا المعلومات والأقنية المعلوماتية والإنترنت... كلُّها ضرورات. ولكن، ماذا تنقل من مكان إلى آخر؟ فيلماً لا معنى له، أحاديث جوفاء، فارغة، أقنية للمباريات... أقنية للرقص... مواقع للجنس... مواقع لأي شيء... تصور كائناً كونياً متقدماً يلتقط الموجات التلفزيونية الأرضية... بماذا سيحكم علينا؟!!

نخترع هذا الاختراع العظيم، وبعد ذلك ماذا نفعل به؟! أنا لا ألوم من يجب لومه؛ بل ألوم من يسلِّم نفسه، ومن يجد بأن الحياة يجب أن تكون سهلة.

الحياة يجب ألا تكون سهلة. لم نوجد لكي نجلس 5 ساعات مضطجعين أمام التلفزيون. كل دقيقة تمر يمكن أن نصنع فيها أشياء عظيمة، أن نخلق فكرة عظيمة.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود