حورية

 

معن عبد السلام

 

اسمي دودة حورية، ويناديني أصدقائي حورية الحقل. ولدتُ منذ زمن بعيد جداً – ثلاثة أيام، على ما أذكر. وضعتني أمي فوق ورقة خضراء، وذهبتْ إلى جارتنا الآنسة وردة. لكن للأسف لم أعد أراها من يومها. ربما ضلَّت طريق عودتها، أو ربما قررت الرحيل إلى حقل آخر لتبني بيتاً أوسع من بيتنا هذا. فأنا أعيش مع إخوتي كلِّهم في بيت صغير. وهم يبلغون حوالى الخمسة آلاف. لذلك قررت اليوم، بعدما رأيت صديقي دودة، أن أرحل إلى بيت أصنعه بنفسي.

*

-       يا لك من كسولة! مضت على ولادتك ثلاثة أيام، وما زلت تعيشين مثل الأطفال مع إخوتك! وربما ما زلت تبكين في الليل لأن أمك تركتك ورحلتْ!

-       كيف عرفت؟! أخبرني حالاً! هل قال لك أحدُ إخوتي هذا؟ أرجوك، قل لي أيَّ واحد منهم، وسوف أريه كيف يتلصص علي...

-       كم أنت غبية! كيف تريدينني أن أحفظ أسماء إخوتك كلِّهم؟! لا... لا... الحقيقة أنني أيضاً بكيت عندما رحلت أمِّي وتركتني وحيداً. ولهذا فأنا أعتمد على نفسي الآن.

-       ماذا تحمل على ظهركَ يا دودة؟

-       أحمل بعض العشب الطري لأصنع منه لحافاً لفراشي الجديد.

-       أين؟! لم تقل لي أين مسكنك الجديد!

-       آه، يا حورية العزيزة... إنه قرب تلة النمل.

-       ولكن ألا... ألا تخاف أن يأتوك ليلاً ويخطفوك كما فعلوا مع الكثيرين من أصدقائنا؟

-       لا، فقد رأيت أن أفضل طريقة للاختباء منهم هي العيش بقربهم. فهم لن يتوقعوا أبداً أن أسكن هناك. ولذلك فأنا في أمان تام... ها... بماذا تفكرين؟ لماذا أنت شاردة هكذا؟!

-       إنني أفكر بمكان جميل يكون بيتاً لي.

-       هل تودين أن تكوني جارتي؟

-       أوه... يا لك من لطيف! ولكنني أحبذ العيش بعيداً عن المخاطر. كم أود يا صديقي أن يكون لي بيتٌ في أعلى شجرة التوت لكي أتمكن من رؤية شكل جارتنا وردة التي أخبرتني عنها أمي، وأداعب الهواء كما تداعبه الأغصان. لا بدَّ أنه رقيق لا يخدش، ولا يجعل أجسامنا تتقافز كما يفعل معنا هنا على الأرض.

-       أنت حالمة كبيرة! في يوم من الأيام، وبينما أنت تسيرين حالمة هكذا، سوف تتعرقلين بجيش كبير من النمل، وسوف يخطفونك بسبب شرودك.

*

اسمي حورية... في كل مساء أتسلق شجرة التوت الكبيرة لأضع قشة أو اثنتين تكونان لي بيتاً بعد حين. إنني أعمل في المساء فقط لكي لا يراني النمل ويخطفني، كما قال صديقي دودة.

*

في إحدى الأماسي، وبينما كانت حورية تتسلق شجرة التوت، التمعَ ضوءٌ في السماء البعيدة جداً جداً. كان الضوء يتحرك بسرعة كبيرة، وكأنه متَّجه إليها تماماً. خافتْ كثيراً... أرادت أن تهرب، لكن أقدامها الصغيرة لم تسعفها، فتسمَّرت في مكانها منتظرة قضاءها. إلا أن الضوء لم يأتِ، بل اختفى في آخر السماء، وكأنه كان يطارد دودة أخرى!

"أتكون نملة كبيرة تخطف الدود؟! لكن النمل لا يطير هكذا، ولا يضيء في الليل... آه... أيكون حلماً هذا الذي رأيت... طيب، يا له من حلم ساحر!"

ما كانت إلا لحظات تسلقت فيها حورية أحد الأغصان المتفرعة حتى رأت:

"آه... آه..."

طوفان من نور فضِّي هدر إلى قلبها. تيبَّستْ، وكأنها غصن مماثل نَبَتَ حديثاً ندياً من جسد شجرة التوت.

كان القمر يتحول بدراً بهياً يملأ السماء بوجهه الرزين المتبسِّم.

كان النور يرفُّ من كل الجهات، صادحاً مع حفيف الأوراق، يعزف ألحاناً ساحرة على أوتار ساقية قريبة، يداعب دمع حورية الذي بدأ يفيض، لا تعرف لماذا، ينهمر، لا تعرف لماذا!

"أمِّـي... أمِّـي... أهذه أنتِ يا أمي؟! أخبريني، هل هذا بيتكِ الجديد. آه... ما أجملكِ يا أمي!"

"حوريتي...

حوريتي الصغيرة!"

صدى صوت نَبَضَ في فؤاد حورية، واختفى كل شيء. سحابة سوداء مرَّتْ، أغلقتْ أبواب السماء.

حيرانة في العتمة والبرد، يأكل جسمها، لا تدري ما ألمَّ بها.

"أحقاً هي أمِّي، أم...؟!"

اختبأت حورية بين ورقتين في بطن إحدى الفروع الصغيرة، ونامت حتى الصباح الباكر، إذ قررت أن تصنع بيتها بأسرع ما يمكن.

*

"لا وقت لدي... يجب أن تكون داري مكتملة، وبابي يُفتَح واسعاً لمقدم زائري الحبيب."

لم تكن عندها أدنى فكرة عن كيفية صنع البيت – إلا ما قاله لها صديقها عن القش والعشب. ولكن هذا لن ينفع بعد الآن. فالحمل ثقيل إلى أعلى الشجرة، والوقت يمضي سريعاً.

أتى الليل، وحورية لم تجد حلاً ولم تعرف ما تفعل. كان الجو يخفق بعبير حنون، والقمر هناك في البعيد يلوِّح بيده الفضية من خلف كل سحابة تمر.

بهجة حورية تكبر، وتكبر معها حيرتُها واشتياقُها لمعرفة كينونة هذا الغريب الدافئ.

"آه... لو أعرف اسمه... اسمه فقط!"

لم يطل بها الوقت حتى أسمته قمر!

"صديقي قمر... يا لاسمك الجميل!"

أمضت حورية ليلتها بين الورقتين تستعملهما فراشاً ودثاراً لها من البرد.

*

النهار الثالث لم يكن بأفضل من سابقيه ولم تكن حورية بأقل حيرة وأرقاً.

*

-       يا صديقي دودة ساعدني!

-       إنك تتوهمين. طلبتُ منك أن تأتي وتعيشي بالقرب من بيتي. ولكنك عنيدة وحالمة! وهذا ما يحصل مع الحالمين أمثالكِ: يندمون ويأتون في طلب المساعدة.

-       لكني لست نادمة... إنما أريدُ أن أتعلم صنع منزل يضمُّني ورفيقي الذي في السماء.

-       أوَّاه... ها قد عدنا ثانية!

يرحل دودة، وهو يغني مغتاظاً، متجاهلاً حورية:

بيتي الجميل

أبنيه من طين

في الحقل أبنيه

بيتي الجميل

بالقش أبنيه

*

همٌّ ثقيل يربض فوق قلب حورية. خافضة الرأس تمشي حزينة.

 سألتْ إخوتَها الخمسة آلاف، ولكنهم أجابوها بصوت واحد:

-       حالمة... أنتِ حالمة يا حورية! اذهبي لأننا جائعون ونريد أن نأكل من الورق المتساقط على الأرض.

"آه، أمي. لو أنكِ هنا لكنتِ علَّمتِني كيف أبني بيتاً!"

*

في المساء، والوحدة تقتل حورية، جلست في مكانها المعتاد تنتظر باشتياق كبير انزياحَ السحب لترى صديقها المبتسم. لكن السحب لم تكن لتذهب. ثقيلة كالهمِّ في قلب حورية كانت. أحست أنها محاصرة من كل جانب، وأن الحياة ليست جميلة كما كانت تعتقد. فالأشياء التي تحبها لا تحصل عليها. أخذ الحزن يتملَّك قلبها حتى لم يعد هناك سوى البكاء. لم يكن شيء ليوقفها. ذاقت ملوحة دموعها.

"آه، لو أجد من ينجدني. أين أنت يا أمي؟! كم هي الحياة حزينة! أين أنتَ أيها النمل لتأتي وتخلِّصني من حياتي البائسة هذه!"

نفخت الريح بوقها، فهدرت السحب هاربة متشتتة، كأنها قطيع من النمل الأسود يهرب أمام سيل ماء جارف. عَلَتْ ابتسامةٌ مليئة بالدموع وجهَ حورية عندما وصلتْها تلويحةٌ فضية من يد القمر. انتبهت إلى خيوط السحب، وهي تتحول شالاً، يلفُّه القمر حول جسمه، وينشره ثانية كأنه يرقص في السماء، مداعباً حورية التي تحوَّل حزنُها ابتهاجاً. وراحت هي أيضاً ترقص وتلتف حول نفسها، شاعرة أن الشالَ ينهمر عليها حريراً ناعماً.

بدأ جسدها يخفُّ ويخفُّ، حتى أحست بقلبها يطير. تملَّكها التعب، ولم تعد تقوى على الحركة. صار الشال كثيفاً ثقيلاً. أمست في عتمة حالكة، والشال يغطيها من رأسها حتى أخمص أقدامها. ومن شدة إرهاقها نامت نوماً عميقاً.

*

[تحولت حورية إلى شرنقة.]

*

"اسمي حورية." [رأت في منامها]

"اسمي حورية."

"آه، أعرف... أعرف اسمك أيها الملاك اللطيف!"

*

كانت تسير بين أعشاب خضراء طويلة القامة. وكان الذي خاطبتْه صديقها القمر. إلا أنها أضاعته، وراحت تجوب الحقل تبحث عنه. وبينما هي سائرة، نظرت إلى السماء، فوجدت جرادة كبيرة جداً وجميلة تلتمع كما تلمع حبات الندى في السماء. كانت الجرادة تطير من أول السماء إلى آخرها، تحمل في فمها شالاً من الندى تلِّوح به، وتطير من آخر السماء إلى أولها.

كانت دهشتها كبيرة حين حوَّلت الجرادة وجهَها إليها، وركضت بسرعة النحل في الغابة – بل ربما أسرع – ثم قذفتْ عليها الشال فغطَّاها وجعلها تشعر بخَدَر ورغبة في النوم.

سمعتْ طرقاً على بابها فاستيقظت. كانت متعبة وأعضاؤها تؤلمها، ولكنها تمالكت نفسها وفتحت الباب.

انسال ضوءٌ أشعرها بالدفء والطمأنينة.

قفز قلبُها وراء النور. حلَّقت في السماء بجناحيها الملونين الزاهيين لترى الحقل وقد أصبح صغيراً، والوردةَ الحمراءَ المنعشة الرائحة تتمايلُ مهلِّلة، والهواء اللطيف لا يقذف بها. وكان صديقها القمر مختبئاً في قطرة ندى على خدِّ تلك الوردة.

"آه، إنه يقترب... يقترب..."

أحست أنها تلامس جبينه. قبَّلتْه... فكان غبطة وعسلاً يسكن قلبَ حورية.

*** *** ***

شتاء 2000

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود