عن "فارس بلا جواد" وما يستدعيه

 

 

هشام الدجاني

 

استفزَّني صاحبي عندما راح يتحدث متحمساً عن مسلسل "فارس بلا جواد" لمحمد صبحي في سهرة رمضانية جمعت عدداً من الأصدقاء. انطلق مدافعاً: "صحيح أن بعض المصادر تشكك بحقيقة بروتوكولات حكماء صهيون، لكن هذا غير مهم. المهم أن المسلسل يثير مشاعر الكراهية ضد اليهود!"

لم أتمالك نفسي تجاه سلسلة المغالطات التي ذكرها صاحبي الذي يكتب في عدد من الصحف السورية – وكان في يوم من الأيام سكرتيراً للتحرير في إحداها – فقلت: بات في حكم الثابت والمؤكد، يا صاحبي، أن بروتوكولات حكماء صهيون كانت من فبركة الشرطة السرية الروسية في عهد [القيصر] نقولا الثاني، وكانت الغاية منها تأليب مشاعر المواطنين الروس ضد اليهود بصورة عامة لأن مجموعة من اليهود الروس كانت تقف، إلى جانب فئات أخرى، ضد الظلم القيصري. هذه الحقيقة أكَّدها علماء غربيون ثقاة، كما أكَّدها أستاذنا الخبير في الشؤون الصهيونية عبد الوهاب المسيري. ولو أنك قرأت البروتوكولات لاكتشفت بنفسك تهافتها وعناصر المبالغة الجامحة فيها، لأنها تجعل من اليهود أنصاف آلهة، وتجعل ممن يُسمَّوْن "حكماء صهيون" قادرين على التحكم في مصائر الأمم والشعوب من خلال المكائد والدسائس. هكذا، ببساطة، تتحكم حفنة من "الحكماء" في مصير العالم، وكأن العالم قطيع من الغنم!

هذه النزعة العجيبة في المبالغة بقدرة الصهيونية الخارقة والكونية ما تزال تلازمنا، سواء في أحاديث العامة أو حتى في كتابات عدد كبير من مثقفينا، ونكاد نسمعها كل يوم أو نقرؤها في كل ما يُكتَب ويقال عن نفوذ الصهيونية الأسطوري في الولايات المتحدة وعن سيطرة اللوبي الصهيوني على الإدارات الأمريكية المختلفة، ومن بينها إدارة بوش بالطبع. فمن العبارات التي باتت تتردد في أدبياتنا اليومية، وكأنها حقيقة راسخة لا يتطرق إليها أي شك، أن سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط يرسمها اللوبي الصهيوني.

لا أريد أن أتوقف طويلاً عند هذا الموضوع الحساس والبالغ الأهمية؛ فله مكان آخر.

قلت لصاحبي: إذا كان من الضروري أن نكتب ونعرض أعمالاً درامية تكشف مؤامرات إسرائيل أو مكائده، وتكشف أساليب الصهاينة القذرة، وخاصة في هذه المرحلة، حيث تبدو آمال السلام أبعد ما تكون عن الواقع، وحيث ينكِّل اليمينُ الصهيوني الحاقد بشعبنا الأعزل اليائس، فلدى إسرائيل سجلٌّ حافل من المؤامرات القذرة ذات المصداقية انكشف أمام العالم كلِّه. أليس هذا أجدى كثيراً من بناء مسلسل على رواية تاريخية كاذبة ليس لها أساس واقعي؟! لدينا مذابح قبية ودير ياسين – وبعض شهودها ما زالوا أحياء؛ لدينا مأساة قتل الجنود المصريين العُزَّل في الصحراء وتَركِهم يموتون جوعاً وعطشاً...

قال: "هذه استُهلِكَتْ، وكُتِبَ عنها الكثير."

قلت: لكنها لم تسجَّل في عمل درامي حقيقي؛ وإن كان قد سُجِّل بعضُها في فيلم وثائقي أجنبي ليس من صنعنا. لندع هذه. لماذا لا نتناول فضيحة لافون أو مأساة السفينة ليبرتي، على سبيل المثال لا الحصر، التي تكشف كل واحدة منها أن السلطات الإسرائيلية لا تتورع عن أي عمل قذر، حتى ضد أصدقائها، من أجل تسميم العلاقات بين الولايات المتحدة والعرب. وثائق فضيحة لافون باتت معروفة؛ وكذلك خبايا وتفاصيل مأساة ليبرتي. فلماذا لا نصنع عملاً درامياً يستند إلى وثائق وحقائق، بدلاً من الاستناد إلى أسطورة ساقطة تاريخياً وعلمياً؟

تقول إنك تريد عملاً درامياً يحرك مشاعر العرب ضد "اليهود". وهل هناك ما هو أكثر درامية من مشاهد التنكيل اليومية التي نراها – ويراها العالم معنا – ضد إخواننا العُزَّل في فلسطين، من تهديم للبيوت، وتشريد للسكان، واعتقالات، وحصار؟! لعل هذه المشاهد حرَّكت العالم معنا أكثر مما حرَّكتنا! حتى في إسرائيل قامت مظاهرات ضد الحرب وضد تدمير عملية السلام، بل حتى ضد ضرب العراق. فماذا فعلنا نحن؟

جمْع بعض التبرعات، والوقوف بضع دقائق أمام مكاتب الأمم المتحدة في عواصمنا للتعبير عن "غضبنا"! هل قامت مظاهرة شعبية واحدة في العالم العربي ضد ضرب العراق؟!

تقول إنك تريد أن تؤلِّب مشاعر جماهيرنا ضد "اليهود"؟! هل معركتنا مع "اليهود"، أم مع "الصهاينة" – مع من يحتلون أرضنا، ويشردون أهلنا، ويدوسون كرامتنا في كل يوم، ويرفضون يد السلام الممدودة لهم؟! هذه الحقيقة يعرفها حتى طالب المدرسة الإعدادية. فكيف تغيب عن ذهن مثقف مثلك؟

هذه الحقيقة، مع الأسف، تغيب عن أذهان كثير من المثقفين، فنراهم يخلطون بين "اليهود" و"الصهاينة"؛ بين اليهود – وفيهم كثيرون يقفون معنا، ويتظاهرون من أجلنا، ويمدون يد السلام لنا – وبين الصهاينة المتعصبين الذين يرفضون حقوق شعبنا في فلسطين، ويرفضون حتى تنفيذ المواثيق التي وقَّعوا عليها!

كيف نحارب اليهود وفيهم كثير من المواطنين العرب يعيشون بين ظهرانينا في المغرب وتونس ومصر وسورية وغيرها من البلدان العربية؟ يتشبثون بعروبتهم والعيش في أوطانهم. ألا يكفي الخطأ التاريخي الفادح الذي ارتكبه بعض جهابذة حكَّامنا العرب، عن جهل وسوء نية، حين أسهموا في المؤامرة الصهيونية لتهجير جماهير اليهود في بلداننا إلى إسرائيل بحجة أنهم يتعرضون للاضطهاد؟! بسبب هذه الحملات اللاإنسانية ساهمنا في اقتلاع آلاف مؤلَّفة من اليهود من بلادهم – بلادنا – ليصيروا أعداء لنا وليتبوَّأوا مناصب حساسة في حكومات إسرائيل المتعاقبة.

لا نريد أن نكرر أخطاءنا التاريخية. اليهود ليسوا أعداءنا. أعداؤنا هم الطغمة الحاكمة في إسرائيل اليوم من المتطرفين والمتعصبين الصهاينة. أعداؤنا هم أعداء السلام في إسرائيل – وهم أعداء شعبهم أيضاً. هذا الظلام الدامس هو الظلام الذي يسجن انبلاج الفجر.

أعرف أن المسلسل "فارس بلا جواد" لم يُرَدْ له أن يتوقف. فالحكومة المصرية لم ترغب الظهور بمظهر المستكين للضغط الأمريكي، كما لم تُرِدْ أن تستفز مشاعر شعبها المقهور، ومعه الشعوب العربية التي تستفزها كل يوم غطرسةُ القوة في إسرائيل وممارسات الطغمة الحاكمة ضد شعبنا الأعزل.

لكن الحقيقة تبقى الحقيقة.

لسنا بحاجة إلى أسطورة زائفة كي نبني عليها واحدة من قصص نضالنا ضد القهر. لدينا من القصص الواقعية ما يكفي يزيد.

*** *** ***

عن الحياة، العدد 14513، الأحد 15 كانون الأول 2002

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود