رشَّحه بن غوريون لرئاسة إسرائيل
مواقف ألبرت أينشتاين من الصراع العربي–الصهيوني:

السياسة أصعب من الفيزياء!

 

عفيف فراج

 

لم يكن أينشتاين يتوقع أن يتصادم مشروع الوطن الصهيوني مع مصالح الفلسطينيين ومشاعر العرب القومية. فالوطن الصهيوني، في رأيه، مشروع لتحرير اليهود, لا لقهر الفلسطينيين واستعداء العرب. إذ ليست هناك على أرض فلسطين فواعل التنافر العرقي والتنافس الاقتصادي التي كانت قائمة على أرض "الأغيار" الأوروبيين. فالشعبان الساميان، في نظره، هما "الأقرب نسباً" من وجهة عرقية, وليس هناك، بالتالي، ما يمنع "التعايش والتفاعل الثقافي بين شعبين سبق أن تعايشا ورفدا الحضارة الغربية بقيم خالدة". ولن يكون هناك صراع على ملكية الأرض, لأن الصهاينة لن يتوطَّنوا إلا في أرض يشترونها بالمال: "الأرض التي أقيمت عليها المستوطنات تمَّ شراؤها لا مصادرتها", كما كتب في نهاية العشرينات. وقال أيضاً: "لا نريد مصادرة ممتلكات أو انتهاك حقوق."

على مستوى الاقتصاد, تصور أينشتاين أن العلاقة بين الفلسطينيين واليهود ستكون علاقة تكامل في حقل العمل والإنتاج, وتفاعل في مجال الثقافة:

إن الصهاينة سيقيمون علاقات تعاون وتوادٍّ بنَّاء مع العرب الذين تربطنا بهم علاقات القربى العرقية. وسنشكل معهم نقابات عمالية مشتركة. وكل شيء يدل على أن الوضع الاقتصادي والصحي قد تحسَّن بفضل الاستيطان.

والطبقة العاملة اليهودية هي المؤهَّلة لنسج العلاقات الإنسانية بين الشعبين:

وحدها الطبقة العاملة تمتلك القدرة على تأسيس علاقات سليمة مع العرب, وهي أهم المهام السياسية الملقاة على عاتق الصهيونية. إن الإدارات تجيء وتذهب, لكن العلاقات الإنسانية وحدها هي التي تقلب الموازين في حياة الأمم في النهاية.

ما يتحدث عنه أينشتاين من تنظيم نقابي موحَّد يضم العمال الفلسطينيين والصهاينة, إضافة إلى الدور الريادي الذي يَكِلُه إلى الطبقة اليهودية العاملة في عملية التكامل والتفاعل بين الشعبين, يقرِّبه من التيار الماركسي الصهيوني الذي بقي وفياً للمبادئ الأممية، وصديقاً للاتحاد السوفييتي، وخاض حرباً حقيقية, لكن خاسرة, ضد الجناح العمالي الذي كان يقوده بن غوريون الذي انتهج سياسة الفصل العنصري بين العمال الفلسطينيين والعرب تحت شعار "الاستيلاء على العمل". وقد تَمَظْهَرَت سياسة بن غوريون في منع العمال العرب بدءاً من العام 1916 من العمل في المستعمرات أو الانتساب إلى النقابات (الهستدروت).

لكن أينشتاين لم يتقرَّ المرامي الانفصالية لسياسة بن غوريون, وثبت على القناعة بأن فلسطين لن تكون وطناً قومياً مستقلاً عن الفلسطينيين وعلى حسابهم, وإنما ستكون بيتاً جامعاً بين اليهود والفلسطينيين تحت سقف دولة ديموقراطية علمانية واحدة، تقدم النموذج النقيض والبديل عن الأوطان والقوميات العرقية الأوروبية.

ويبدو أن هاجس إنقاذ اليهود من "جحيم روسيا وبولونيا"، أولاً, ومن ألمانيا النازية، لاحقاً, أدخل أينشتاين في نوع من تفكير التمنِّي حجب عنه الوجه الاستعماري للمشروع الصهيوني. فقد كتب في نهاية العشرينات:

لا أستطيع أن أتصور أن في إمكاننا [اليهود] أن نقوم بأي عمل يمكن أن يُلحِقَ أي أذى بالفلسطينيين.

ولذلك نجده يحذِّر القيادة الصهيونية تكراراً من اعتبار فلسطين ملجأ لكل يهود العالم, لأن ذلك يعني قيام وطن يهودي على كامل أرض فلسطين.

وجاءت الانتفاضة الفلسطينية الدامية في آب/أغسطس 1929 لتصدم رؤيته المثالية المبسَّطة. فبعث برسالة إلى حاييم وايزمان في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1929، جاء فيها:

إذا عجزنا عن إيجاد طريقة للتعاون المخلص والحوار الصادق مع العرب لا نكون قد تعلَّمنا شيئاً من معاناة ألفي سنة ولَّت, وكل ما يحصل لنا تبعاً لذلك سيكون مستحقاً.

لقد انتقد أينشتاين اعتمادَ وايزمان المفرط على أصدقائه الإنكليز الذين يمارسون نهج التفرقة بين اليهود والفلسطينيين؛ فردَّ وايزمان مطالباً أينشتاين بـ"وقف هجماته المؤذية على الصهاينة".

لكن أينشتاين لم يُلقِ باللوم في انتفاضة 1929 الفلسطينية الدموية على الإنكليز والقيادة الصهيونية وحسب, وإنما حمل في رسائل كتبها إلى جريدتي المانشستر غارديان والتيمس البريطانيتين على من وصفهم بـ"القوميين العرب" و"الإسلاميين المتطرفين". وقد أثنى، في المقابل، على "عرب قاموا بحماية اليهود من الجمهور المتعصب". كذلك اتهم المفتي أمين الحسيني بإثارة مشاعر المسلمين الدينية وتلفيق إشاعات عن نيات مزعومة للصهاينة بهدم المسجد الأقصى. وقد وصف المفتي بأنه "مغاير سياسي, وأصل المشكلة". وحرص أينشتاين في رسائله إلى الصحيفتين البريطانيتين على تذكير الإنكليز بأن "اليهود لا يرغبون في العيش في أرض آبائهم في حماية الحراب البريطانية"، وأنهم [اليهود] "يجيئون إلى فلسطين كأصدقاء للأمة العربية الأقرب نسباً إليهم".

كان يضاعف خشيتَه من البريطانيين الدورُ الذي كانوا يلعبونه في الهند، حيث كانوا يبذرون بذور الفتنة بين المسلمين والهندوس. وهو يبدو، في تخوفه من دور بريطاني مماثل في فلسطين وفي تحذيره الصهاينة من اعتماد نهج العنف، متأثراً بموقف غاندي من المسألة اليهودية. وهو موقف عبَّر عنه غاندي في رسالة وُجِدَت بين أوراق أينشتاين، جاء فيها:

أفهم توق اليهودي للعودة إلى بلاد أجداده. وهو يستطيع أن يفعل ذلك, لكن من دون حراب الإنكليز, ومن دون حراب يهودية كذلك. في هذه الحالة فقط يستطيع اليهودي العائد إلى فلسطين أن يعيش بسلام ووئام تامَّين مع العرب.

وفي هذا السياق كان أينشتاين يردِّد:

لنحذر التعصب القومي في صفوفنا؛ فإنه خطر عظيم. ولا يمكن استبدال حراب الإنكليز بالعقل والمنطق.

ومن جهة ثانية، وجَّه أينشتاين نداءً إلى "الشعب العربي العظيم"، يطالبه بأن "يُظهِر تفهماً أكبر لحاجات اليهود إلى إعادة بناء وطنهم في مركزه القديم: القدس", مؤكداً قناعته بأن

النهضة العربية القائمة على المساحات الواسعة التي يسكنها العرب ستحقق مكاسب من تعاطف اليهود مع العرب, وسأرحب بحوار صريح وحرٍّ لمناقشة إمكانات كهذه. ذلك أنني أعتقد أن الشعبين الساميين العظيمين قد أسهما, كلٌّ على طريقته, بإغناء حضارة الغرب بقيم خالدة, وأن إسهاماً كهذا يؤهلهما لمستقبل عظيم مشترك.

وبعد هدأة انتفاضة 1929، تبادل أينشتاين عام 1930 الرسائل مع رئيس تحرير صحيفة عربية كانت تصدر في يافا. وقد جاء في رسالة له، مؤرخة في 15 آذار/مارس 1930:

أعتقد أن الصعاب التي تعترض مسار الوفاق هي نفسية أكثر منها حقيقية, وأن في الإمكان التغلب عليها إذا توافرت الاستقامة والإرادة الطيبة.

وهو يعبِّر عن ثقته بأن "مستقبلاً عظيماً مشتركاً ينتظر الشعبين الساميين العظيمين إذا استعاد كل منهما ثقته بالآخر". وقد خلص إلى اقتراح "تشكيل مجلس سرِّي من ثمانية أعضاء, أربعة من العرب وعدد مماثل من اليهود, يمثلون الشعبين ويوفِّقون بين مصالحهم ويحصِّنون أمنهم في مواجهة مخططات الانتداب البريطاني". ويتضمن الاقتراح أن يكون الأعضاء الثمانية "مستقلين عن الأحزاب السياسية كافة, وأن يتمثل كلٌّ من الوفدين بطبيب ومحامٍ ورجل دين وعامل، تنتخبهم مجالسُهم واتحاداتُهم".

ويوجِّه أينشتاين رسالة في العام 1930 إلى المنظمة الصهيونية العالمية، محذراً إياها من أنه "سيوقف كل دعم لهم إن لم يتوصلوا إلى سلام مع العرب". ويؤكد مجدداً:

إن الشعبين سيعودان إلى التلاقي, على الرغم من أحداث العنف التي أظهرت الطبيعة البشرية في أزرى حالاتها؛ وهي أحداث ما كانت لتحصل لولا سياسة تغريب كل من الشعبين عن الآخر.

وهو يغمز من قناة البريطانيين الذين "يسمحون بنشر الدعايات المسمومة وخلق الأجواء المتوترة".

ضد التقسيم والدولة القومية

في تموز/يوليو 1937 أصدرت لجنة بيل Peel المَلَكية البريطانية تقريرها القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين. وقد حسم بن غوريون الانقسام الصهيوني حول القرار بقبوله, تكتيكياً ومرحلياً, تاركاً أمر رفضه للعرب. أما أينشتاين فكان في عداد الرافضين لمشروع التقسيم من موقع الحرص على التعايش مع العرب. فكتب في العام 1937 مقالة ينتقد فيها رعاية بريطانيا لمشروع التقسيم وإقامة دولة يهودية مستقلة, وطالب بدولة يهودية–فلسطينية تجمع ولا تفرِّق:

إن المطلوب هو دولة واحدة، لا دولتان. وإنني أفضِّل التوصل إلى اتفاق معقول مع العرب والعيش بسلام معهم على أن أعيش لأشهد ولادة دولة يهودية.

وهو يرفض أن يستعيد الصهاينة الحقبة المكابية التي قاوم فيها اليهود الرومان بقيادة باركوخبا للحفاظ على دولة مستقلة:

إن الرجوع إلى الأمة بالمعنى السياسي للكلمة يعادل الارتداد عن رَوْحَنَة مجتمعنا بالمُثُل التي أراد الأنبياء غرسها في هذا المجتمع.

وفي هذا الخيار النابذ لمشاريع تقسيمية تُضمِرُ العنفَ يبدو أينشتاين، نظرياً على الأقل, أقرب ما يكون إلى مفهوم صديقه غاندي للصهيونية الروحية. يقول غاندي:

إن الصهيونية الحقيقية المتوطِّنة في قلوب اليهود هي هدف يستحق أن يبذل فيه اليهودي حياته. إن صهيونية كهذه هي موطن الله. لكن الصهيونية الروحية لا يحدُّها وطن، ولا تحتاج إلى وطن محدد. فالأوطان لا تتسع للروح.

لكن أينشتاين يفترق عن غاندي الذي يبني على هذه المقدمة الاستنتاج المنطقي الآتي:

إن القدس الحقيقية هي قدس روحية, والصهيونية يمكن أن يحققها اليهودي في أي مكان من العالم.

في حين رأى أينشتاين أنها لا تتحقق إلا في دولة يهودية–فلسطينية تقوم على أرض الميعاد. وفي حين كان غاندي جازماً في اعتقاده أن فلسطين هي للفلسطينيين العرب, رأى أينشتاين أنها تتَّسع للشعبين, وأنها أرض الأجداد العبريين, كما هي أرض الفلسطينيين.

إن إيمان أينشتاين بمُثُل الصهيونية الروحية العالمية كانت تشوبه القناعةُ بأن هناك أماكن في العالم – وفي أوروبا تحديداً – لن يكون في إمكان اليهود أن يعيشوا فيها. وكان أفضل ما تمخَّض عنه جهده الفكري لحلٍّ سلمي للصراع العربي–الصهيوني هو

إنشاء حكومة يهودية–عربية في فلسطين تمارس عملها في عهدة الأمم المتحدة، وتحت إشرافها المباشر, وليس تحت وصاية أية دولة منفردة، حتى ولو كانت أمريكا, والتوصل إلى صوغ دستور يكفل حقَّ الشعبين بالمشاركة في القرارات, ويمنع كل منهما من استبعاد الآخر عن طريق التصويت والاحتكام إلى الأكثرية النسبية.

ويتضمن اقتراح أينشتاين الدعوة إلى إقامة ما يشبه فيدرالية الطوائف المتحدة, مما يذكرنا بالمفكر السياسي اللبناني ميشيل شيحا ونظرية الديموقراطية التوافقية اللبنانية. وقد أرفق اقتراحه بحض اليهود على "رذل القومية الصبيانية المستوردة من أوروبا التي يؤجِّجها محترفو السياسة".

ثم خاطب اليهود عام 1938 في خضم الثورة الفلسطينية ضد الإنكليز والصهاينة ليذكِّرهم بأن الدين اليهودي والدولة اليهودية القومية يتعارضان في المبدأ والأساس, ذلك أن اليهودية ديانة كونية لا قومية:

إن معرفتي بالأسس الجوهرية للديانة اليهودية تجعلني أرفض فكرة الدولة المتَّصفة بالحدود والجيش والسلطة الزمنية. أخشى أن يلحق اليهودُ الضررَ بأنفسهم نتيجة تنامي القومية الضيقة بين صفوفنا, وهي التي حاربناها بقوة قبل أن تكون لنا دولة [...]. إن العودة إلى الدولة هي ارتداد عن رَوْحَنَة مجتمعنا كما ارتجى منا الأنبياء.

ويعود ليؤكد عام 1946 أن

فكرة دولة إسرائيل لا تتوافق مع رغبات قلبي. إنني لا أفهم لماذا نحن بحاجة إلى دولة كهذه. إن الدولة القومية هي فكرة رديئة، وقد عارضتُها على الدوام. إننا نقلِّد أوروبا, والذي دمَّر أوروبا في النهاية هو القومية.

إن أينشتاين يريد توطين اليهود الذين تضيق بهم أوروبا, ويريد أن يكون لليهود وطنٌ في فلسطين, لكنه لا يريد فلسطين يهودية، كما هي إنكلترا إنكليزية. وكان هذا هو موقف أديبنا النهضوي أمين الريحاني الذي قابل أينشتاين وتبادل وإياه الرأي حول الصراع العربي–الصهيوني وحول وجهة نظر الصهاينة الروحيين إلى النزاع. فأينشتاين لم يكن, لا من قبلُ ولا من بعدُ, في عداد الصهاينة المؤمنين بأن الوعد الإلهي لإبراهيم ويعقوب بأن تكون أرض فلسطين إرثاً لذرِّيتهم هو وعد حق. وعندما حاول حاييم وايزمان إقناعه بحق اليهود الإلهي في فلسطين, ردَّ أينشتاين بالقول:

إن الله الذي أعطى فلسطين لليهود هو الذي أسكن الفلسطينيين فيها. وكل فريق يرى أن الله معه. فلنترك الله خارج المحاجَجَة.

اعتراض واعتراف

قبل شهر من اندلاع حرب 1948 بين العرب واليهود, بعث أينشتاين رسالة إلى جريدة نيويورك تايمز قال فيها:

إن العرب واليهود المتطرفين يدفعون فلسطين بتهورهم إلى حرب عقيمة. إننا نشعر أن من واجبنا الإعلان بقوة أننا لا نجيز الإرهاب والتعصب القومي، سواء مارسه اليهود أو العرب. إن نصراً حاسماً يحقِّقه أحد الفريقين سيولِّد مرارة محبطة. وإننا نتوجَّه إلى يهود هذه البلاد [أمريكا] وإلى يهود فلسطين بألا يسلكوا سلوك اليائس أو يبحثوا عن بطولات زائفة تنجم عنها ممارسات انتحارية.

والنتيجة المنطقية التي تنبني على هذه الطروح التي حملت رؤيةَ أينشتاين للمسألة اليهودية–الفلسطينية هي أن عالِم الفيزياء سيكون أول المعترضين على حرب 1948 وتداعياتها الناقضة لكل مُثُله اليهودية والاشتراكية والإنسانوية, وأولها عدم جواز احتلال الأرض بالقوة. لكن أينشتاين يفاجئنا بإعلان اغتباطه لقيام دولة اليهود على أرض مغتصبة بالقوة؛ إذ لم تكن نسبة الأرض التي كانت الوكالة اليهودية اشترتها بالمال عند قيام الحرب تزيد على 6% من مجموع الأرض الفلسطينية. وهو يكتفي بالتعبير عن أسفه لأن الدولة شقت طريقها إلى الوجود بطريق العنف و"لأن علاقاتنا مع العرب لا تتوافق مع المبادئ الأخلاقية اليهودية التي تكونت على مدى تاريخ طويل". وللحق فإنه قد دان نزعة العنف التي تَمَظْهَرَت في مجزرة دير ياسين.

وفي 15 آذار/مارس 1949 ألقى أينشتاين خطبة بمناسبة منحه الدكتوراه الفخرية من الجامعة العبرية, يلقي فيها مسؤولية الحرب على البريطانيين, ويزعم أن "اليهود والعرب كانوا راغبين في تحقيق السلام المبني على التفاهم، بدل الاحتكام إلى العنف، لولا ضغوط الخارج", ويشير بإصبع الاتهام, مجدداً, إلى بريطانيا. وهو يعبِّر عن خشيته من أن تؤدي المواجهة المستديمة بين العرب واليهود إلى اعتماد اليهود على قوى دولية خارجية تجعلهم تابعين، بدلاً من أن يكونوا مستقلين. ويجدد، بالتالي، الأمل بـ"التعاون البنَّاء مع العرب على قاعدة الثقة والاحترام، لأن ذلك هو الوسيلة الوحيدة لاستقلال الشعبين الحقيقي عن العالم الخارجي". وقد كتب عام 1952 رسالة إلى آبا إبان يقول فيها: "إن الموقف الذي نتخذه من الأقلية العربية سيكون الامتحان الحقيقي لمقاييسنا الأخلاقية كشعب." لكن حديثه عن "أقلية عربية" يتضمن التسليم بشرعية الدولة اليهودية التي قامت على حساب الغالبية العربية.

لا يفسَّر خفض أينشتاين لسقف مُثُله إلا بتقاطع هويته اليهودية الثقافية مع تاريخ التنافي والاستبعاد المتبادل والعنف الذي كانت الأكثرية في الغرب الأوروبي قادرة على ممارسته ضد الأقلية اليهودية. والأرجح أن تغاضيه عن الولادة الدموية للدولة اليهودية وتداعياتها ناجم، إلى حدٍّ بعيد، عن تجربة اليهود مع النازية ومحرقتها، من جهة, وعن نهج العنف والقطيعة ومطالب الحدِّ الأقصى الذي قابلت به الدولُ العربية المشروعَ الصهيوني، من جهة ثانية.

ومع ذلك، يبقى لأينشتاين ما يميِّزه عن الصهاينة. فهو، على الرغم من تسليمه بنتائج حرب 1948, إلا أنه لم يُسقِط مصالح الفلسطينيين في المطلق من حساباته, واستمر يصف الصراع على فلسطين بأنه "صراع بين حقَّين". من هنا توزُّعه بين إيمان بوطن يهودي في فلسطين, وحقٍّ الفلسطينيين في الوطن, وبين خوف على اليهود من "الأغيار" وخوف عليهم منهم.

وقبيل وفاته عام 1955 سئل أينشتاين: "لماذا يستطيع العلماء أن يكتشفوا الذرات ولا يستطيعون أن يسيطروا عليها?", فأجاب: "لأن السياسة أصعب من الفيزياء." وقد صعب عليه فهم السياسة الصهيونية، شكلاً ومضموناً.

لقد دخل أينشتاين السياسة من باب الدين والفلسفة. وعبثاً حاول أن يصالح موسى وسبينوزا وكانط مع مكيافيلي الذي طالع ملامحه في قادة الصهاينة، بدءاً بحاييم وايزمان الذي لم يكن من صقور الصهاينة قطعاً، مقارنة باليمين الفاشي أو حتى ببن غوريون. وهو يقول إنه لا يستطيع أن يفهم شخصية بن غوريون؛ وهذا ليس بالأمر المستغرب. فالزعيم الصهيوني كان اشتراكياً أممياً وصهيونياً عنصرياً في آن, يراسل غاندي, مثله, ويبني الهاغاناه ويصنِّع السلاح ويفصل اليهود عن العرب, ويقبل تكتيكياً قرار التقسيم, ويستكمل استعداداته لحرب توسعية تفضي إلى قيام "دولة اليهود" على كامل أرض فلسطين. وهو يدعو أينشتاين لترؤس دولة إسرائيل، على الملأ وفي العلن وعبر وسائل الإعلام, ويُسِرُّ لإسحاق نافون (الذي صار رئيساً لدولة إسرائيل) بخشيته من أن يقبل أينشتاين دعوته ويترأس الدولة بالفعل!

في العام 1953 التقى أينشتاين بمحمد حسنين هيكل خلال زيارة قام بها الأخير إلى أمريكا. وحين استشف علاقة خصوصية بين هيكل وعبد الناصر, وعرف من هيكل أن عبد الناصر هو القائد الفعلي للثورة وأن محمد نجيب هو واجهتها, مدَّد الوقت الذي خصَّصه لمقابلته, ودعاه إلى منزله, وحمَّله رسالة خطية إلى عبد الناصر يسأله فيها عن خطَّته لحلِّ الصراع بين اليهود والعرب، ويعرض خدماته, لا كوسيط, وإنما كـ"عامل محرِّض" catalyst. وحين مرَّ الزمن ولم يتلقَّ جواباً على مبادرته, بعث برسالة إلى نهرو, الزعيم الهندي, كي يحدِّث عبد الناصر في الموضوع الذي سبق أن حدَّث به "أحد أصدقاء عبد الناصر [يقصد هيكل]..., لكن نتائج المقابلة ظلَّت معلَّقة في الهواء".

وقد مات أينشتاين عام 1955 قبل أن يتلقَّى رسالة جوابية!

*** *** ***

عن الحياة، 20/8/2002

شكر خاص للصديق شادي حجازي (كوبي، اليابان) الذي وقع على هذا النص فأرسله إلى منتدى معابرنا.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود