رسالة مفتوحة إلى جورج بوش

 

يوسف سامي اليوسف

 

 

السلام على من اتَّبع العقل وحاز مكارم الأخلاق.

أما أنا، مرسل هذه الرسالة، فأنتسب إلى الأرض الجليلية التي أنجبت السيد المسيح. وأما أنت فتنتسب إلى الشعب الوحيد الذي ضربت دولتُه البشرَ بالأسلحة النووية، وذلك سنة 1945. وهذه فعلة إجرامية تستهين بقيمة الإنسان، ولم يفعلها أحد قبلكم ولا بعدكم، كما يعلم الجميع. ويبدو أن الاعتداء على الأمم الفقيرة هو غريزة تسري في دمائكم منذ أن تكونوا أجنة في بطون أمهاتكم. ومما يثير الشفقة عليكم أنكم لا تخجلون من هذه الغريزة بتاتاً.

يقيناً، إن اندفاعك الهستيري نحو مهاجمة العراق من شأنه أن يثير الاستهجان – بل التقزز والاشمئزاز – في شعور كل كائن غير مختل العقل والوجدان. فأنت تزعم أن العراق يهدد العالم، ثم لا تكف عن هذا الزعم الوسواسي الذي يشبه الحمى، أو يشبه البحران. ترى، لماذا لا يتحمس أحد سواك لضرب العراق، مادام العراق يهدد العالم كله؟ لماذا لا تتحمس ألمانيا وفرنسا وروسيا والصين والهند واليابان لهذا المشروع الإجرامي الذي لا يخطر في بال أحد سوى ساسة أمريكا ومن والاهم وحالفهم على الشر والعدوان؟ حتى تابعك بلير، رئيس وزراء بريطانيا التي أسَّستْ سياستُها الاستعمارية للعدوان على الشعوب ونهبها وافتراسها، لا يتبدى متحمساً لهذا المشروع الإجرامي، مع أنه يوافق عليه دون أدنى تحفظ.

ولكن دعني أؤكد لك جازماً أن حديثك الدائم عن ضرب العراق – وهو ما قد أصبح مساً أو هوساً – يتسلط عليك دون أن يرأف بك؛ حتى لقد ظهر ذلك في عينيك المنهكتين. إن ذلك الحديث أو ذلك الاندفاع الجنوني لم ينشأ من داخل نفسك أو من مفرزاتها، وإنما نشأ من أوامر أسيادك اليهود، أقصد يهود نيويورك حصراً – تلك العصبة من اليهود الذين يشكِّلون قوة ضغط على السياسة الأمريكية، سواء في الكونغرس أو في المؤسَّسات الاقتصادية الكبرى – وهم الذين لا يسعك البتة أن تخالف لهم أمراً، لأن مصيرك عندئذ سيكون مثل مصير سلفك جون كندي، الذي قتله اليهود لسبب مازال نصف غامض حتى الآن، وإن كان هنالك ما يؤشر إلى أن الرجل قد حاول أن يحلَّ المعضلة الفلسطينية على نحو لا يرضي أولئك السفاحين المولعين أيما ولع بدماء الأطفال والنساء.

اسمع، يا جورج!

من المؤكد أن ولاياتكم المتحدة هي قوة لا مثيل لها في التاريخ البشري، منذ بناء الأهرام حتى اليوم. ولكن هذه القوة لا تتمتع بأية رسالة كونية، أو إنسانية عامة، تستهدف النهوض بالجنس البشري كلِّه، بحيث توقف الحرب والصراع اللذين يسودان الأرض منذ آلاف السنين. ولهذا فإن الولايات المتحدة بهذه المثابة قوة بغير قيمة بتاتاً. إنها بلا غاية عالمية، تماماً على النقيض من أُمَم الشرق التي أخذت على مسؤوليتها في الماضي مهمة اختراع الإنسان نفسه. قبلنا لم يكن هنالك سوى الوحش. ثم إننا نحن الذين جعلنا الإنسان كائناً ممكناً في هذا الوجود الذي جلبتم إليه من الشقاء ما لم تجلبه أية قوة تاريخية أخرى، دون استثناء المغول ولا التتار.

وخلاصة الأمر أن الشرق اخترع الإنسان، أما الغرب الحديث فلم يخترع سوى الآلة التي جاءت وبالاً على الجنس البشري كله، ولاسيما على الأمم الضعيفة. فهل من عاقل سوف يعجب بالأسلحة الاستراتيجية التي كدستموها ابتغاء إرغام الشعوب الفقيرة على السجود أمام إرادتكم الشوفينية المحمومة التي لا تبالي بقيمة الإنسان أدنى مبالاة.

إن ساسة الغرب، الذين لا يشبهون سوى الوحوش المسعورة، قد نهبوا الشعوب المضطهدة، ووظفوا ثرواتها المنهوبة في صناعة الأسلحة، وكذلك في البلاهة التافهة التي يسمونها اكتشاف الفضاء. هذا فضلاً عن أنهم راحوا ينشرون السفلس والإيدز أينما حلوا. ومن المؤكد أن صناعتهم الإبليسية قد لوثت هواء العالم بالغازات السامة، حتى أثَّر ذلك على المناخ تأثيراً سلبياً مريعاً، فصار بوسعك أن تطلق على مدنيَّتهم – والمدنية غير الحضارة – الشريرة اسم "مدنية السخام".

ثم إن ساسة الغربيين حيثما حلوا حلَّت المذبحة والعدوان على الحياة. فلكم عانت الأمم المضطهدة من ويلاتهم وشرورهم. يقيناً، إن الضعفاء هم الذين دفعوا ثمن هذه المدنية الأوروأمريكية التافهة، أو ثمن الرفاه الغربي الذي تُكثِر من الحديث عنه، يا جورج. فلا مبالغة في القول بأن المواطن الأمريكي الغافل يأكل لحوم أطفال العالم الثالث؛ ولكنه من البلادة وموت الضمير بحيث لا يشعر بذلك بتاتاً. ترى ما قيمة كائن بغير ضمير، أو بغير هوية داخلية؟ وعندي أنه لا قيمة إلا لمن يتساءل عن القيمة.

وبشيء من الانتباه يملك المرء أن يدرك ما فحواه أن الكثير من الغربيين يعبدون النار والمعادن، وهما أكثر رموز القسوة والشراسة صلاحية لخدمة الشر. فهل من دائرة حضارية سوى دائرة الغربيين قد تعبدتها الطاقة والحديد مثلما تعبدت أولئك الجشعين؟ أليس في هذا مؤشر صريح إلى أن الإنسان الأوروأمريكي من أمثال هؤلاء كائن شرير بالفطرة؟ نحن في الشرق عبدنا الماء والهواء والنبات والنور؛ والجنة في أدياننا هي مكان نباتي ونوراني. أما أولئك الغربيون فالنار دوماً في قاع نفوسهم؛ ولهذا طوروا الأسلحة النارية والنووية إلى هذا الحد الخرافي العجيب!

وفي الحق أن الغرب غربان: أوروبا وأمريكا. ولقد كانت أوروبا نافعة للجنس البشري كلِّه، لأنها اعتادت أن تنعش الآخر الذي هو الشرق، على الرغم من جميع المجازر التي ارتكبتها حيثما حلَّ جنودها. إن حضارة أوروبا قد أيقظت الآخر من نومه ودفعته إلى حياة جديدة لها مثالبها ومناقبها في آن واحد. أما أمريكا فلا تملك أن تتحمل وجود الآخر، بل تبتغي الإجهاز عليه كهوية أول كل شيء. وفي صلب الحق أن الحياة البشرية على الأرض قد أخذت بالذبول، على مستوى الجوهر، منذ أن كفَّت أمريكا عن الالتزام بمبدأ مونرو، وراحت تتدخل في شؤون العالم، حتى لقد صارت السبب الحقيقي لكل بؤس وفقر وجوع في الأرض برمَّتها.

إن ضمائركم ميتة، يا جورج. إنكم موتى، لدى التفكير على مستوى الروح، صدَّقت أو لم تصدق!

لقد بدأ عصر أمريكا منذ حادثة هيروشيما. وفي الحق أن الفنون والآداب والفلسفات قد أخذت تذبل وتذوي في العالم كله طوال هذه المدة التي قد تبلغ ستين سنة، أو زهاء ذلك. إنه الانحطاط الذي جاء به الترف أو التكنولوجيا. فلا ريب في أن لكلِّ شيء ثمناً. وثمن رفاهكم، يا جورج، باهظ جداً. فمن أجله خسرنا ثرواتنا المادية؛ ومن أجله خسرتم أرواحكم، وانحدرتم بها إلى الحضيض.

لقد بدأ الإرهاب الأمريكي يوم رحتم تجتثون الهنود الحمر. وعندما خرجتم إلى العالم سارعتم بالضربة النووية التي سددتموها لليابان. فلقد كنتم تمثلون رعاة البقر تمام التمثيل يوم أقدمتم على تلك الجريمة الهمجية النكراء. ولا ريب في أنكم، يا ساسة أمريكا، ما زلتم رعاة بقر، كما أنكم سوف تظلون رعاة بقر إلى آخر الدهر. ولهذا، لا أستهجن أن لا يخجل الأمريكي العدواني النهَّاب من كونه أمريكياً، أي متطرفاً في الهمجية وإتيان الشر وممارسة الإرهاب.

هذا هو عصر أمريكا! فويل للشعوب في عصر أمريكا! ولكن هذا العصر قد يكون آخر عصر تاريخي؛ إذ لا يبقى بعد الانحطاط سوى الزوال، كما بيَّن ابن خلدون في مقدمته المشهورة. ولقد أخطأ فوكوياما – الذي قد لا تعرفه، يا جورج، مع أنه أمريكي مثلك – حينما قال بأن التاريخ قد انتهى. إذ للحق أن التاريخ لم ينته بعد؛ فقد ظل هنالك فصل الانحطاط البطيء الذي قد يستمر قرنين آخرين، ما لم تتعرض أمريكا لكارثة بيئية، أو مناخية، أو سوى ذلك مما لا يتيسر التنبؤ به الآن.

وعندي أن التاريخ البشري الذي بدأ في سومر – أي في الشطر الجنوبي من العراق، كما يقول كريمر المتخصص بالسومريات – سوف يتفسخ ويتزنَّخ في الولايات المتحدة الأمريكية، موطن الرفاه المادي والانحطاط الروحي. وعندي أن ميل النهاية إلى الاعتداء على البداية، أي ميل أمريكا إلى الاعتداء على العراق، هو شيء من شأنه أن يدعو المرء إلى التأمل الفلسفي.

كم عدد الحروب التي خاضتها ولاياتكم المتحدة ضد البلدان الفقيرة منذ انتصاف القرن العشرين حتى اليوم؟

من المعلوم أن بلدكم قد تابع نشاطه العدواني الإبليسي بعد هيروشيما، فهاجم كوريا وقتل مئات الألوف من البشر هناك، ولكنه مُني بهزيمة منكرة. ومع ذلك، فإنكم لم تتعظوا؛ إذ لقد هاجمتم فيتنام بعد كوريا بقليل. وفي هذه المرة قتلتم مليوناً وثمانمائة ألف إنسان دون أي مسوِّغ، وكذلك دون أية جدوى. ثم هاجمتم لبنان والصومال وبعض دول أمريكا اللاتينية. ومع أنكم قد ارتكبتم هذا الحجم الضخم من الجرائم التي تجعل الإنسان الحساس يخجل من الانتماء إلى الجنس البشري برمته، فإنكم لم تتحملوا أن يضربكم بعض المنتقمين ضربة خفيفة جداً، بل هي لاشيء بالمقارنة مع جرائمكم الموغلة في الهمجية، وذلك في أيلول سنة 2001. إنها خفيفة حقاً؛ إذ لم تسفر إلا عن قتل ألفين وثمانمائة أمريكي فقط. أليس هذا مزاحاً بالمقارنة مع عدد ضحاياكم؟!

فمما هو شديد الوضوح أنكم تريدون أن تقتلوا الشعوب وأن تنهبوها وتبتزوا ثرواتها وتمتصوا دماء أطفالها. ولكن جميع الناس مطالبون بالهدوء والصمت والحياد! لماذا اشترك بعض العرب في هذه الضربة الصغيرة التي لا تزيد عن كونها مزحة مزحها معكم بعض المريدين من أعدائكم؟ لأنكم تنهبون نفط العرب، تسرقونه، وتترفَّهون بمردوده، أو بمعظمه، وتنفقون شطراً كبيراً من المردود على الغيتو الصهيوني الذي تعبدون. لقد كانت ميزانية ذلك الغيتو أربعة وستين مليار دولار سنة 2001. فمن أين لليهود الصهاينة هذا المبلغ كله؟!

وبعد ضربة أيلول رحتم تتشدقون بالأقوال الكبيرة: إن من اعتدى عليكم يكون قد اعتدى على الحضارة والحرية والديموقراطية. ولكن من اعتدى عليكم يكون قد اعتدى على حصون الشياطين! تضربون الناس بالأسلحة النووية وغير النووية، وتمارسون المجازر والإرهاب في كل مكان من أماكن العالم؛ ومع ذلك فإنكم تظلون تمثلون الحضارة والحرية والإنسانية والطهر والنبل. يا إلهي لكم هو مضحك هذا الجنون الذي هو أنتم!

أليس مما هو ذو دلالة أن تنحط جميع المنجزات الرفيعة التي أنفق الإنسان عشرين ألف سنة وهو يطورها ويدفعها إلى الأعلى فالأعلى؟ انظر إلى الفنون والآداب والفلسفات والأديان والأخلاق، ماذا حل بها في عصر أمريكا الذي بدأ بالضربة النووية؟ إنكم تعطبون الجذور التي يطلع منها الوجه الروحي للمشروع البشري. لقد كان يجدر بكم أن تستغلوا قوتكم الهائلة بحيث تجعلوا من الإنسان أخاً للإنسان، يرحمه ولا يظلمه؛ ولكنكم عملتم على ترسيخ تلك الفكرة التي قال بها هوبز ذات يوم: "الإنسان ذئب الإنسان." ولم يكن ذلك بالصدفة، بل حدث لأنكم موتى أخلاقياً، أو بغير أرواح. وهذا ما قاله عدد كبير من كتابكم.

والآن، اسمح لي، يا جورج، أن أؤكد لك بأن حقيقة الحادي عشر من أيلول معروفة وناصعة تماماً لكل من هو قادر على الانتباه. إنها ضربة أدارها قادة اليهود الصهاينة ونفَّذها أناس غير يهود. ولماذا فعل أولئك اليهود ذلك؟ إنهم يعتقدون بأن العالم الإسلامي سوف يظل يصارعهم ويقاتلهم حتى يطردهم من أرض فلسطين، كما طرد الصليبيين من قبل. ولهذا، فإن اليهود الصهاينة يريدون أن يؤلِّبوا الغرب على المسلمين، وأن يعمقوا الهاوية التي تفصل سلفاً بين العالمين، الإسلامي والأوروأمريكي، فضربوكم تلك الضربة التي من شأنها أن تجعل أي لقاء بين الطرفين أمراً يشبه المحال طوال جيل كامل. إن اليهود يطالبونكم بأن تكرهوا العرب؛ ولقد أفلحوا في إذكاء نازع الحقد داخل شخصيتكم التي هي بطبعها شخصية عدوانية تحترف الإجرام وإراقة الدماء.

أنت، يا جورج، تعرف حقيقة الحادي عشر من أيلول؛ بل تعرفها أكثر مما أعرفها أنا. ولهذا، فإني أتحداك أن تعلنها لشعبك الذي تزعم بأنك تحبه كثيراً. ولكن، هل يجرؤ أي رئيس أمريكي، بعد مقتل كندي، أن يتحدى اليهود الصهاينة في عقر دارهم، أقصد نيويورك، قلعتهم الأولى في العالم؟

أنت تعلم علم اليقين أن العراق لا يملك قطعة واحدة من أسلحة الدمار الشامل. إذن، لماذا تريد أن تضرب العراق، يا جورج، مادمت متأكداً من أنه لا يحوز أية أسلحة استراتيجية؟ سوف أجيبك عن هذا السؤال عما قليل.

العراق لا يشكل خطراً على أحد، لا على الغرب ولا على الشرق. ثق تماماً بأنه ما من قوة على الأرض تشكل خطراً عليكم طوال جيل كامل من الآن. أتدري ما هو عدوكم، وأين يكمن مصدر الخطر الذي يتهددكم بالزوال؟ إنه ترفكم الذي صرحت بأنك سوف تدافع عنه بكل ما لديك من قوة، يا جورج. ولهذا، فإني أنصح لك بمطالعة مقدمة ابن خلدون الذي بيَّن هذه الفكرة بالتفصيل، والذي أكد على حقيقة فحواها أنه ما هدم المجتمعات القوية سوى الترف. وهذا يعني أن ما تسعى إلى إنجازه هو عدوك، كما يعني أن الأشياء تُباطِنُها نزعةُ عدالة مستتبة في جوفها القرير. وهذه هي الحكمة، والحكمة ملك الشرقيين، ولم تكن في أي يوم من الأيام ملك الغربيين من أمثالك، ولن تكون ملكهم بتاتاً. ولكن دعنا نصل إلى الأطروحة اللبابية.

أنت تعلم علم اليقين أنك لا تحكم الولايات المتحدة، لا أنت، ولا بقية العصابة الخماسية. إن الحكومة الفعلية للولايات المتحدة مخبوءة في أماكن سرية لا أدري مدى معرفتكم بها. ولا ريب في أن أداتها الأولى للهيمنة على أمريكا نفسها هي الاستخبارات المركزية التي قتلت كندي.

إذن، أنت تتلقى الأوامر وتنفذها. وأغلب ظني أن الحكام الفعليين للولايات المتحدة هم عصابة معظمها من اليهود الصهاينة الذين لا يستطيع أي أمريكي أن يخالفهم بتاتاً. وإني أتحداك أن تعلن هذه الحقيقة على الملأ في بلادك وشعبك الذي تزعم بأنك تحبه.

قد تعلم، وقد لا تعلم، أن اليهود لهم ثأر قديم عند العراق. إنه الثأر من سركون ونبوخذنصر. وأنا ميال إلى الظن بأنك أمِّي ثقافياً، شأنك في ذلك شأن معظم الأمريكيين؛ ولهذا فإنني أرتاب بأنك تعرف سركون ونبوخذنصر. وعلى أية حال، فإن الأول قد دمَّر السامرة، عاصمة الدولة اليهودية الشمالية، وسبى سكانها إلى شمال العراق وشمال إيران، وإن الثاني قد دمَّر بيت المقدس وسبى سكانه إلى بابل. هكذا يقول العهد القديم، والعهدة على الراوي. ولقد مضى على الحادث الأول أكثر من سبعة وعشرين قرناً، ومضى على الحادث الثاني زهاء ستة وعشرين قرناً. ولكن رغبة اليهود الصهاينة في الثأر، وتعطشهم إلى الدم البشري لا ينقضيان، على الرغم من مرور هذا الزمن الطويل.

إن على العراق أن يسدد اليوم فواتير سركون ونبوخذنصر. ولهذا، هجمتم على العراق سابقاً؛ وها أنتم اليوم تزمعون مهاجمته مرة أخرى، وبذلك تثبتون لأهل الذكاء أن الولايات المتحدة ليست سوى أداة طيِّعة في أيدي الصهاينة.

لقد خدعتم العراق سنة 1991. أوهمتموه بأنه سوف ينجو إذا ما سلَّمكم أسلحته الاستراتيجية، وبعثتم المفتشين مندوبين عن الأمم المتحدة التي لم تعد، بكل أسف، سوى ..... تزعر فيه الصهيونية والإمبريالية وتدعران. سلَّم العراق جميع أسلحته التي من شأنها أن تساهم في الدفاع ضد الهجوم المرتقب. وهذا يعني أنكم تريدون أن تهاجموا العراق لأنه لا يملك البتة أية أسلحة استراتيجية؛ إذ ها هي ذي أحسن فرصة للقضاء على ذلك البلد المأمون الجانب.

لماذا يحق للغيتو الصهيوني الذي بنيتموه على أرض فلسطين المغدورة أن يملك جميع أسلحة الدمار الشامل دون أن يخضع لأية رقابة بتاتاً؟ أنت تعلم، يا جورج، أن الصين والهند وباكستان وإيران وروسيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة تملك أسلحة استراتيجية. فلماذا يُحرَم العراق وحده من هذه الأسلحة؟ قد تزعم بأن العراق يهدد جيرانه. ولكن هو ذا الغيتو الصهيوني يهدد جيرانه يومياً. أما الولايات المتحدة فتهدد العالم بأسره. وفي الحق أنها الدولة الوحيدة التي استخدمت الأسلحة النووية بالفعل. وعندي أن تلك الضربة التي سدَّدتها أمريكا لليابان من شأنها أن تجعل المرء – إن كان حساساً – أن يتقزز من الجنس البشري كله، وأن يعتقد جازماً بأن اكتشاف أمريكا سنة 1492 هو أكبر مأساة في التاريخ البشري، منذ بدايته وحتى الزمن الراهن.

إني أرجِّح، يا جورج، أنك لم تقرأ التاريخ؛ بل إنني واثق من أن المواطن الأمريكي يكابد الأمِّية الثقافية، أو ربما كان معادياً للثقافة والمثقفين – وإلا فلماذا هرب روائيوكم وشعراؤكم الكبار إلى أوروبا (جيمز، إليوت، باوند، هنري ميلر، على سبيل المثال فقط)؟

ومهما يكن الأمر، فإنك لو قرأت التاريخ، يا جورج، لأدركت أنه ما من شيء قد أسهم في القضاء على المجتمعات الكبرى والإمبراطوريات العظمى كما أسهمت الحروب. وأبرز الأمثلة على ذلك آشور وروما والدولة الأموية وبيزنطة. فهذه الدول قد حاربت كثيراً، شأنها في ذلك شأن الولايات المتحدة التي سوف تؤهِّلها كثرة حروبها للزوال كما زالت القوى العظمى من قبل. وبزوالها سوف يدخل التاريخ البشري كله – على ما أرجِّح – في طور الاضمحلال.

ومما هو معلوم في هذه الأيام أن أجهزة الإعلام في بلادكم تحاول دائماً أن توهم مواطنيكم بأن العدو الأول لأمريكا هو المسلمون. وفي الحق أن عدوكم الأول هو اليهود الصهاينة وليس أي صنف آخر من أصناف البشر. صدِّقْ، يا جورج، أن هذه الفئة من اليهود هي السوس الذي سوف ينخر مجتمعكم من داخله، تماماً كما تُنخَر الأسنان. وعندي أن هنالك أربعة عوامل سوف تقضي على مجتمعكم وتحيله إلى أطلال: الصهيونية والترف والحروب وجشعكم الذي لا حدود له بتاتاً، وهو ما يؤسِّس عنجهيتكم الممرورة وميلكم الجنوني إلى العدوان وارتكاب الشرور. وبإيجاز، إنني أرى تاريخكم ينبع من اللاعقلانية والجريمة والاستهتار بقيمة الإنسان.

ولعل أهم فكرة أود أن أنقلها إليك وإلى جميع الأمريكيين، ولاسيما الصقريين منهم، هي أن أي تدمير تقومون به للعراق، أو لسواه، سوف ينتج عنه تدمير نسبي في بنية الولايات المتحدة نفسها؛ إذ بقدر ما تدمر الآخر فإنك تدمر نفسك، أو بقدر ما ترتكب من شرور فإنك تشوِّه هويتك الروحية، الأمر الذي يشبه ما يجري في رواية دوريان غري لأوسكار وايلد – وهي رواية أنصح لك بقراءتها، علك تتعلم شيئاً من الأفكار النافعة.

وههنا تتجلَّى العدالة الكونية الحقيقية: فمن قتل الآخر قتل نفسه. وهذه حقيقة لا يعلمها إلا من قرأ التاريخ جيداً وتأمله كثيراً – ولا أظنك قد فعلت. ولا ريب عندي في أن الحقائق العميقة الأصيلة محرَّمة على الجهلة والأمِّيين والأغبياء، لأنها وقف على الروحانيين وحدهم. وعلى أية حال، فإني قد أحطتك علماً بهذه الحقيقة أملاً بأن تكون قادراً على أن تصنع شيئاً مهماً لبلدك الغني بالآلات والفقير بالروحانيات.

ترى، هل تملك أن تتحدى يهود نيويورك الصهاينة، وأن تحاول إنقاذ بلدك من همجيتهم التوراتية، وحقدهم على البشرية، وشدة ميلهم إلى الفتك بالأطفال والنساء على نحو خاص؟ (لاحظ هذه الظاهرة في أخبارهم منذ سنة 1948 وحتى اليوم.)

حين كتب اشبنغلر انهيار الغرب فإنه قد ذكر العديد من العلائم التي تدل على أن الغرب شائخ أو منحط. فمنها، مثلاً، تضخم المدن، وكذلك انتشار الألعاب الرياضية؛ بل إن منها نمو العلم الذي رأى فيه ذلك الألماني عرضاً خريفياً أو شيخوخياً. (لقد برهن العلم التطبيقي بالتجربة على أنه خادم ذليل للشر.) ولكن اشبنغلر نسي واحدة من أبرز العلائم التي تدل على اتِّضاع الغرب. إنها هيمنة اليهود الصهاينة على مقدَّراته ومصيره، أو قبوله بأن يكون خادماً ذليلاً لهم. وبما أنكم تخدمون تلك الكائنات، ولما كنتم تتطرفون في الاهتمام بمصيرهم والدفاع عنهم، فإنكم تدلِّلون على أنكم ذللتم وأذعنتم للانحطاط؛ إذ للحق أنه لا يخدم المنحط إلا من هو أحط منه. ولهذا، فقد صار في ميسور أي إنسان واع أن يعرِّف الإنسان الأوروأمريكي بأنه الموجود من أجل مصلحة الصهيونية.

ولا أحسبك تعترف بلاعقلانية الغيتو الصهيوني الذي جيء بسكانه من ثلاثة وثمانين قطراً، والذي بني على أرض أُرغِم سكانُها على الجلاء عنها بالمجازر وقوة السلاح. فمثلما بدأ تاريخ أمريكا بجريمة هيروشيما، كذلك بدأ تاريخ الغيتو الصهيوني بجريمة تشريد الناس تحت كل سماء. وفضلاً عن ذلك، فإن اليهود الصهاينة الذين تعبدون على نحو لاعقلاني، قد تركوا سهول أوروبا الشرقية الشاسعة المنداحة، كما تركوا أنهارها الغزيرة المتدفقة، وجاؤوا إلى فلسطين يزاحمون الناس على مصادر مياههم الشحيحة، وعلى أراضيهم الجبلية القاحلة. وأنتم تزعمون بأن الشعب الذي اختاره الله قد عاد إلى الأرض التي اختارها الله نفسه. يا لهذا العقل الفاسد الممرور! ومع ذلك فإنكم تزعمون، زوراً وبهتاناً، بأنكم أنتم الغربيين قد أرسيتم العقلانية في الأرض، ولم يسبقكم إليها أحد!

واليوم، ها أنتم أولاء تريدون أن تقسموا العراق إلى ثلاثة أقسام أو أكثر. ترى كم طفلاً عراقياً سوف تقتل، يا جورج، لكي يعيش أطفال الغيتو الصهيوني بأمان؟ فأنت تعلم أن الصهاينة يريدون تجزئة العراق لأنهم يعتقدون بأنه يشكل إمكانية خطر على ذلك الغيتو في المستقبل البعيد. إن الصهيوني يحمل قنبلة نووية في كل يد من يديه؛ ومع ذلك فإنه يرتعد فرقاً من المستقبل. ولهذا، فإنه يحرِّضكم على العراق، ولا تجدون أمامكم من سبيل للتمرد، حتى ولا إلى التفكير بمصالحكم التي قد تتضرر من العدوان المرتقب.

ولكن دعني أؤكد لك جازماً بأن الكيان الصهيوني سوف يزول من الوجود إلى الأبد، وما من جهد يسعكم أن تبذلوه ابتغاء صيانته من الزوال.

ولا سلام إلا على الطيبين.

مخيم اليرموك

تشرين الأول، 2002

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود