فلسفة التاريخ بين

اشبنغلر وتوينبي

 

يوسف سامي اليوسف

 

أ. أوسفالد شبنغلر

1. تمهيد

لئن كان إدوارد غِبُّن، الإنجليزي الجنسية، والمتوفى سنة 1794، هو أول مؤرخ أوروبي حديث، فإن التفكير في معنى التاريخ وفحواه هو تقليد ألماني في العصور الجديدة. فربما كان هردر، أستاذ غوته، هو أول أوروبي بين أولئك الذين فكروا بحركة الحضارة وانتقالها من طور إلى طور، ومن مكان إلى آخر. أما فريدريك هيغل فهو أول من ألف كتاباً عنوانه فلسفة التاريخ.

ولقد ظهرت في ألمانيا كوكبة من المؤرخين الكبار بعد هيغل، وكذلك من أولئك الذين يفكرون بفحوى التاريخ ومساره وطبيعته، بحيث صار علم التاريخ تقليداً من تقاليد الثقافة الألمانية، أو اختصاصاً من اختصاصاتها. ومن أبرز هؤلاء المؤرخين والمفكرين رجل يسمى رانكه، وهو من وقع تحت تأثير هيغل كما نزع نزعة موضوعية خالصة ورأى أن الأخلاق هي سرّ عظمة الأمم. ثم إن هنالك بوركهارد وريكرت وسِمِّل ودلتاي الذين كتبوا في أواخر القرن التاسع عشر.

2. اشبنغلر

وفي وسط هذا الزخم الثقافي الألماني، ولد أوسفالد اشبنغلر في مدينة بلاكنبورغ، وذلك في شهر أيار سنة 1880. وحين شبّ درس العلوم الطبيعية في جامعة برلين. وبعد تخرجه رحل إلى مدينة ميونخ ليعيش بقية عمره في القراءة والكتابة، معزولاً، أو معتزلاً الناس، ومنقطعاً للبحث والتنقيب، حتى مات في شهر أيار، سنة 1936. وقد ترك مجموعة من المؤلفات أبرزها انهيار الغرب الذي قُرئ كثيراً في أوروبا وأميركا، والذي تُرجِم إلى عدة لغات، من بينها اللغة العربية.

3. مذهب اشبنغلر

لعل في ميسور كل من قرأ الكتاب بأناة أن يلاحظ ما فحواه أن اشبنغلر شديد التأثر بنيتشه، بل لا أبالغ إذا ما قلت بأنه ضحية نيتشه الذي يعبد القوة، والذي من شأن أفكاره أن تعبد المحاربين، أو الطبقة التي تسمى عادة بطبقة النبلاء. ففي عقيدة اشبنغلر أن الحضارة من شأنها أن تتدهور حين تنحط طبقة النبلاء. ولما كانت هذه الطبقة قد انحطت بعد الثورة الفرنسية، فإن الغرب قد انهار، وهو الآن في سبيله إلى الشيخوخة والهرم. ولاريب عندي في أن هذه النزعة هي صنف من أصناف الأحادية الممجوجة التي لاتنم إلا عن ذهن شديد الضيق؛ بل هي الوجه المريض للرومانسية الذي يؤشر تبنِّيه لها إلى الانهيار فعلاً.

ويؤمن اشبنغلر بأن الحضارات لا يؤثر بعضها في بعض؛ بل إن كل حضارة، في رأيه، ليست سوى دائرة مقفلة لا يدخل إليها شيء ولا يخرج منها شيء. ومما هو صريح أن هذه الفكرة من شأنها أن تؤشر إلى التحجُّر الذي أصاب الغرب؛ والتحجر هو الاسم الآخر للانهيار نفسه.

ويعتقد اشبنغلر أن "الحضارة الفاوستية"، أي حضارة الغرب الحديث، هي أرقى حضارة عرفها التاريخ. ولا يدري المرء لماذا ذهب الرجل هذا المذهب. ألأنها حضارة صناعية وعلمية؟ صحيح أن "السورة الفاوستية قد غيرت وجه الأرض"، كما يقول هو نفسه، ولكن هذه الحضارة قد رسخت الإنسانية في همجيَّة لا تبذها همجية المغول ولا همجية التتار أو الصليبيين. ولكن اشبنغلر يعبد المحاربينأ، شأنه في ذلك شأن نيتشه. ولهذا، فإن الحرب لم تظهر قط في كتابه بوصفها همجية، أو وجهاً من وجوه البؤس البشري.

4. شطح أو هذيان

في الحق أن اشبنغلر يشطح كثيراً، بل هو يهذي في بعض الأحيان. فهو يزعم، مثلاً، أن البانثيون الذي بناه الإمبراطور الروماني هادريان في روما هو "أول مسجد إسلامي" في التاريخ. كما يزعم في موضع آخر أن هزيمة أنطونيوس في معركة أكسيوم البحرية سنة 31 ق م كانت أول هزيمة للعرب. وللذهن المعافى أن يتساءل عن صلة العرب بذلك الصراع الذي كان يدور بين جيشين رومانيين متناحرين. ها هو ذا يقول في المجلد الثاني من الترجمة العربية (بيروت، بلا تاريخ، ص 274): "ففي معركة أكسيوم كانت الحضارة العربية، التي لم تولد بعد، هي التي تجابه المدنية الكلاسيكية." ولله في خلقه شؤون! فكيف عساه أن يجابه أي عدو، مهما يكن نوعه، ذاك الذي لم يولد بعد؟ يقيناً، إن هذا صنف من أصناف البحران.

وهو يؤكد على أن الأسلوب الخاص بأية حضارة من الحضارات لا سلف له ولا خلف. ومع ذلك فإنه يتحدث عن "التشكل الزائف"، أي أن تعتمد حضارة ما على أسلوب حضارة سابقة فلا تكون إلا زائفة. وأبرز الأمثلة عنده على هذا التشكل الزائف هو الحضارة العربية، التي يراها عالة على الحضارة البيزنطية، كما لو أن هنالك حضارة بيزنطية فعلاً. والغريب أن لباب نظرية اشبنغلر مأخوذ من مقدمة ابن خلدون التي ترجمت إلى الألمانية سنة 1910، أي قبل أن يكتب كتابه بسبع سنوات. يقيناً، إن اشبنغلر لا يقول فكرة صائبة واحدة تخص التاريخ حصراً إلا وهي وثيقة الصلة بنظرية ابن خلدون. ويقيناً مرة أخرى إن اشبنغلر حاقد على العرب كما لو أنه واحد من غلاة المستشرقين. وكثر هم الذين يشربون من البئر ثم يرمون فيه بحجر.

اسمع كيف يشطح على نحو هذياني: "يوجد في الحضارة العربية فقط علة واحدة هي الله، الذي يكمن دائماً وراء كل معلول، لذلك فإن وجهة النظر العربية ترى أن الإيمان بقوانين الطبيعة هو بمثابة شك في قدرة الله الكلية." (الترجمة العربية، الجزء الأول، ص 669) إن هذه الصفة هي صفة الحضارة الأوروبية في القرون الوسطى، وليست صفة الحضارة العربية بتاتاً. فالحضارة العربية هي الوحيدة في زمنها التي أطلقت سراح الذهن العلمي بعدما تشنج في أوروبا الإقطاعية. ولكن اشبنغلر لا يطيق أن يرى هذه السمة للحضارة العربية؛ فما كان منه إلا أن بخس الناس أشياءهم. وهو يعجز عن التمييز بين الحضارات التي تشكلت في منطقتنا إثر انهيار بابل ومصر الفرعونية، ويسميها كلها "الحضارة المجوسية". وهذه عبارة ملتبسة ليس من شأنها إلا أن تضلل الدارس وتعميه عن الحقيقة. ففي اعتقاد اشبنغلر أن الحضارة الفارسية والبيزنطية والسريانية والعربية هي حضارة واحدة اسمها الحضارة "المجوسية"، التي يعتقد بأنها تشكلت سنة 300 ق م، أي إثر تشكل الدول الهلنستية في الشرق.

وليس هذا الزعم الخائب سوى صنف من أصناف عمى الألوان، دون أدنى ريب.

5. ختام

لاأحسبني إلا حليفاً للحق إذا ما زعمت بأن اشبنغلر لا صلة له بعلم التاريخ، ولا بفلسفة التاريخ، من قريب أو من بعيد. أما لماذا قرئ كتابه كثيراً فذلك لسببين: الأول أن العنوان له جاذبية قوية، ولاسيما حين ظهوره في أواخر الحرب العالمية الأولى التي ألحقت بأوروبا خراباً لم تألف مثله من قبل. وأما الثاني فهو أسلوبه الرصين، الذي هو نتاج لتطور الأساليب الأدبية في ألمانيا لمدة تزيد عن مئتي سنة. ولكي أنصف الرجل أقول بأنه ناقد فنون من الطراز الأول. ويبدو أنه قد ضل سبيله فذهب إلى المكان الذي لا يناسبه بتاتاً. فهو يتحدى الفلسفة، أو يواجه التفكير الذهني، بتفلسف روحي صرف استمده من غوته الذي اعترف بتأثره به. وفي الحق أن تأثير هذا الشاعر الألماني مثمر فعلاً، بينما لم يكن لنيتشه سوى تأثير تخريبي على اشبنغلر.

فحين يميز بين منجزات ميكلانجلو ومنجزات ليوناردو دافنشي، من حيث إن الأولى نتاج كابوس وصراع مرير ضد قوى الكون، بينما الثانية نتاج حنين يتجلى في ألوان كأنها "التجسيد المادي الفرِح لما هو روحي" – حين يفعل ذلك فإن من شأنه أن يقنع المرء بأن قدرته على الرؤية عارمة حقاً. ولذلك، فإني أراه مصيباً حين يقول: "ولما كنا قد ولدنا لنرى، فإننا نكدح لنضع اللامدرك في الضوء." ومما هو شديد النصوع أن هذا المبدأ هو مبدأ البوذا، نبي الاستنارة الرامي إلى غمس الأشياء في بحر من الضياء؛ ولكنه شديد الصلة باشبنغلر حين يتأمل الفنون، ولاسيما العمارة وفن الرسم والنحت على السواء.

وربما كان اشبنغلر على حق حين ربط بين نمو الموسيقى الأوروبية ونمو الرياضيات في الغرب؛ وكذلك حين رأى هذه الموسيقى وهي تصور لوحات بخطوط الأنغام في القرن السابع عشر. أما في القرن الثامن عشر، فإن الموسيقى الألمانية، في نظره، قد أخذت تتحكم بالرسم والعمارة. وأظنه كان رائياً حقاً عندما أبصر الروح الموسيقية وهي تتجلى في إنجازات الرسم الذي قدمته مدينة البندقية، ولاسيما تيسيان، الذي سمع اشبنغلر في لوحاته أنغامَ أوتار تعزف انبثاقاً من خبرة عمق لا يسبر.

إذن، لعل من حق المرء أن يتساءل الآن عما إذا كان اشبنغلر فيلسوف تاريخ أم فيلسوف فن. أما كاتب هذه السطور فيرى أن الصفة الثانية ألصق به من الأولى، وأنه ما ذهب إلى التاريخ إلا تحت ضغط الحرب العالمية الأولى، التي لابد من أن تكون قد دفعت الكثير من الناس نحو التفكير بمصائر الشعوب، أي بمصير هذا العالم الذي استفحلت فيه الشرور مع استفحال الصناعة وتضخم الأموال. ويبدو أن علم التاريخ لا ينضج إلا في العصور المتوترة على نحو ملحمي مرير.

*

ب. آرنولد توينبي

1. مدخل

خلال القرن التاسع عشر نضج علم التاريخ في أوروبا الغربية، كما نضجت النظريات التي بذلت جهداً مرموقاً بغية استيعاب ماهية التاريخ، بل حتى بغية التحكم بمساره لصالح الغربيين. وعندما ولد النظري الإنجليزي آرنولد توينبي سنة 1889، أي بعد ولادة اشبنغلر بسبع سنوات، كان الألمان قد أنجزوا الكثير، سواء كمؤرخين، أو كنظريين معنيين بفهم مسار التاريخ واتجاهه العام.

درس توينبي في جامعة أكسفورد، ثم اشتغل موظفاً في وزارة الخارجية البريطانية. كما درس التاريخ في جامعة لندن، ولكنه سرعان ما صار مديراً للمعهد الملكي للشؤون الدولية، وابتداء من سنة 1921 راح يؤلف كتابه الشهير الذي جعله واحداً من أعلام القرن العشرين، وعنوانه دراسة التاريخ. ولم يكتمل الكتاب إلا في سنة 1961، يوم صدر المجلد الثاني عشر، أو الأخير. وهذا يعني أنه اشتغل أربعين سنة في كتابه النفيس.

والجدير بالتنويه أن هذه الدراسة لم تترجَم إلى العربية حتى الآن، مع أنها واحدة من أشهر الدراسات الأوروبية المتخصصة بنظرية التاريخ. ولكن بعضاً من طلاب توينبي لخصوا كتابه في أربعة مجلدات، أي اختصروه إلى الثلث، فأقدم فؤاد محمد شبل على ترجمة هذا الموجز ونشره في القاهرة بين سنة 1964 وسنة 1966.

ولعل أهم ما ينبغي التنويه به في هذا السياق أن توينبي قد اعترف بأنه متأثر بابن خلدون. كما أنه كان صديقاً للعرب، فدافع عن حقهم في فلسطين منذ العشرينيات، أو بعد صدور وعد بلفور. وفي عام 1960 خاض حواراً طويلاً في كندا ضد أحد المسؤولين الصهاينة، وتصدى للمزاعم الصهيونية التي حاولت تشويه الحقائق المتعلقة بالمسألة الفلسطينية، فنال إثر ذلك الحوار شعبية وشهرة أوساط المثقفين العرب.

2. نظرية توينبي

ليس من اليسير أن يستعرض المرء نظرية بثها مؤلفها في اثني عشر مجلداً، وخصصها لدراسة إحدى وعشرين حضارة، هي أبرز الحضارات في التاريخ كله. ومع ذلك فإن في الميسور أن يوجز المرء بعضاً من الأفكار المحورية في تلك النظرية.

لعل مما هو شديد النصوع أن المقولة السيدة في نظرية توينبي هي مقولة "التحدي والاستجابة". ولدى تبسيط هذه المقولة، يسعك القول بأن البيئة من شأنها أن تتحدى الناس؛ فإن استجابوا للتحدي بنجاح، فإنهم سوف يتمكنون من إنشاء حضارة قوية ذات شأن، وإن هم أخفقوا في ذلك، فإن نمو حضارة متقدمة في تلك البيئة (التي قد تكون شديدة القسوة، كالصحراء في شبه الجزيرة العربية) سوف لن يكلل بالنجاح بتاتاً. وبإيجاز، إن نمو حضارة من الحضارات أمر مرهون بمدى استجابة الناس للتحديات التي تواجههم.

وتضيف النظرية ما فحواه أن كل حضارة تمر بطورين اثنين. ففي الطور الأول، وهو طور النمو، تكون الاستجابة للتحديات موفقة دوماً؛ أي أن الناس يكونون أقدر من القوة التي تعارضهم وتعرقل تفتحهم. أما في الطور الثاني، فيكون الوضع مناقضاً لما كان عليه الحال في الطور الأول، أي تكون التحديات أقوى من كفاءة الناس، الذين يعجزون عن الاستجابة لها. ففي هذا الطور يظهر التحدي الذي يؤدي إلى ردّ فعل مخفق. ثم يظهر تحدٍّ أكبر من السابق، فيكون الرد عليه أضعف من الرد الأول. ويستمر الحال هكذا إلى أن تضمحل الحضارة أو تشيخ.

ويعتقد توينبي بأن الحروب هي السبب الجوهري لانهيار المجتمعات أو الحضارات. وهو يأخذ المجتمع الآشوري القديم مثالاً على ذلك. يقول: "لقد هوت آشور جثة هامدة، ولكنها مدججة بسلاحها. ومن المعلوم أن تسليح آشور هو أقوى تسليح في غرب آسيا خلال القرن السابع قبل الميلاد. ومع ذلك، فقد انهارت بسرعة قصوى أمام هجمة الميديين والبابليين." وههنا يستشهد توينبي بقول السيد المسيح (عليه السلام): "من يأخذ بالسيف، فبالسيف يهلك."

ولا يوافق توينبي على مذهب اشبنغلر القائل بأن الغرب قد أخذ بالانهيار. وهو يعتقد بأن حضارة الغرب لم تستنفد بعد إمكاناتها، وأن الغرب مازال شاباً وأنه قد لا يضمحل، أو قد يستمر في الوجود لآلاف السنين.

3. توينبي يشطح

مع أن توينبي لا يشطح كما يشطح اشبنغلر، أي لا يرمي القول على عواهنه إلا لماماً، فإنه كثيراً ما يخرج عن سمت العقل فيجيء بأفكار لا تستحق التدوين في كتاب جدير بالاحترام.

ثمة شطحة فاقعة في كتابه الراهن ينبغي التعرض لها في هذا السياق. فها هو ذا يذكر في الجزء الأول من الترجمة العربية (ص 442) رأياً من الآراء التي لا يجوز لعالم أن يتلفظ بها قط. يقول الكاتب: "إن انهيار الحضارة السورية أحرى بأن يؤرَّخ من انحلال دولة سليمان بعد موت مؤسسها عام 937 ق م، لا أن يؤرخ من عبور آشور ناصر بال الفرات لأول مرة عام 876 ق م."

ربما صح الزعم بأن منطقتنا كلها، وليست سورية وحدها، قد اتخذت قراراً بالانتحار عندما بدأت الجولة الحربية الآشورية الأخيرة، التي امتدت من أواسط القرن التاسع ق م حتى القرن السابع، أي زهاء مئتين وخمسين سنة. وقد أسفرت هذه الحروب عن ترمُّد منطقتنا مما جعلها لقمة سائغة للاسكندر المكدوني الذي لا أراه سوى حركة في فراغ. فلاريب في أن منطقتنا لم تتعرض للانهيار إلا بسبب كثرة حروبها.

ولكن توينبي، الذي لم يستطع أن يظل علمي النزعة دوماً، قد ارتأى أن يعيد انهيار الحضارة السورية إلى موقف السوريين من دويلة اليهود في فلسطين، ورفضهم لهم، مما أدى إلى إخفاق الغزوة التي قام بها سليمان باتجاه الشمال حتى بلغ إلى مدينة حماة، أو هكذا يزعم توينبي.

أولاً، هل من برهان على أن تلك الحملة قد جرت فعلاً في أي يوم من الأيام؟ وثانياً، هل كان في نية القيادة التي كانت تقود تلك الحملة المفترضة أنها تريد توحيد بلاد الشام، أم تراها زحفت (بجيش صغير حتماً) باتجاه الشمال ابتغاء غرض آخر؟ إن توينبي يعلم تماماً أن الآراميين كانوا يقتتلون فيما بينهم على الدوام (وهذا واحد من أهم أسباب انهيار الحضارة السورية، وهو السبب الرئيسي في انهزام الآراميين أمام الآشوريين)؛ وأغلب الظن أن الدويلة التي يزعمون أنها نشأت في القدس خلال القرن العاشر ق م قد تدخلت لصالح طرف آرامي ضد طرف آخر، فقام جيشها بتلك الحملة المفترضة نحو الشمال. فلئن كانت الدويلة نفسها موضع ريب، فما بالك بالحملة نفسها؟

لقد فات توينبي أن قوة بلاد الشام تتمركز في وسطها وشمالها، وليس في جنوبها. والحق أن الجنوب لم يكن قادراً في أي يوم من الأيام على فرض إرادته في الوسط والشمال، وذلك لأن مدن الشمال، أي اقتصاده وثقله السكاني، تتمركز في هاتين المنطقتين، وليس في الجنوب الجبلي والصحراوي. ولهذا، فإن الحملة المفترضة، إن كانت قد تمت بالفعل، هي حركة مخفقة سلفاً.

4. خاتمة

ليست نظرية توينبي بغير ثغرات؛ بل يبدو أنه ما من شيء إلا وهو مثغر، أو مثلم، ويكابد نقصه الخاص. والحقيقة أن هذا النظري، أو سواه ممن نظروا في التاريخ من الأوروبيين، يفتقر إلى الحكمة التي ينبغي أن تطهى على نار هادئة، وعلى امتداد قرون طويلة وأزمنة مديدة. فبينما يعمل الحكيم وفقاً لمبدأ التأمل الهادئ المتجه صوب الحقيقة من أجل ذاتها، فإن هؤلاء الغربيين يتبدون وكأنهم آلات تؤدي الفعل بغير شعور. يقيناً، إن توينبي أقرب إلى معلِّم المدرسة منه إلى الحكيم العميق الآخذ بمبدأ التوسُّم أو الاستبصار. إن الحقيقة لا تسفر عن وجهها من تلقاء نفسها إلا للحكيم وحده.

ومما هو ناصع أنه قد خان منهجه نفسه، فهو يعتقد بأن الحروب هي التي تدمر الحضارات. أما الحضارة السورية، بنظره، فلم تدمرها حروبها الكثيرة جداً، بل رفضها للإذعان لدويلة مزعومة لا برهان على وجودها قط.

***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود