لغة غراس

حسين الموزاني

 

صحيح أن ثلاثية غدانسغ لغونتر غراس ليست عملاً بيوغرافيًا في المقام الأوَّل، إلا أنَّها انطوت على معالم محلية متعددة، تصدرها مسقط رأس غراس نفسه، أي موطن الكاشوبيين الذي كان ومازال الكاتب شديد التعلُّق به والولاء له، بحيث استطاع أن ينقذ بعضًا من لغة هذا الشعب الصغير، الذي تنحدر منه والدته. وفي كتابه من يوميات حلزون يخاطب غراس ولده «راؤول» بالقول: "أريد أن أبلغك أنتَ، يا من تهتم بفروع الأشجار والحدود غير المنتظمة، بأن الكاشوبيين أو الكاسوبيين الذين يرجَّح بأن ثلاثمئة ألف منهم مازالوا يعيشون اليوم، هم من قدماء السلافيين ويتكلمون لغةً مهددةً بالانقراض، لغةً مطعَّمةً بالمفردات المستعارة من اللغتين الألمانية والبولندية".

وبات غراس مولعًا باللغة الكاشوبية وبذل قصارى جهده بغية إحيائها من خلال اللغة الألمانية، لغة الأبِّ إن صح التعبير. لكنَّ هذه اللغة التي استخدمها غراس لم تكن عادية تقليدية ومألوفة، إنما لغة خاصة به وحده، أوجدها لنفسه، أو أعاد صياغتها، فصار ينحت ويشتق منها كما يشاء. ولم يكتف بذلك، إنما وضع لها لحنًا مميزًا يتناغم مع إيقاع الجملة طولاً وقصرًا، مولِّدًا أنغامًا وإيقاعات موسيقية وصرخات بشرية وأناشيد جماعية، وغير ذلك من الأصوات التي يشهدها المرء في الحرب والسلم. وقد عرف عن غراس أيضًا أنه كان يردد ما يدونه بصوت عال كما لو أنه يلقيه إلقاء، مما جعله يحظى بإعجاب المستمعين الألمان في أماسيه الأدبية. فالتطبيل إذن هو السرَّد وقد اتخذ طابع القرع اللغوي بمضربين لا يختلفان عن قلميِّ الكتابة، بغيةَ إيقاظ الحواس واستحضار الذاكرة واستنطاق التاريخ. والطبل هو الأداة القابضة على الإيقاع والضابطة له، منذ بداية الرواية وحتَّى نهايتها. ونورد هنا بعض النماذج المتعلقة بإيقاع الجملة:

كانت بناية المسرح البلدي، أي مطحنة البنِّ الدرامية، قد أغرت أصواتي الجديدة المتكلفة التي جربتها فوق سطحنا، فوجهتها نحو نوافذها المصطبغة بحمرة الشمس الغاربة. وبعد دقائق من الصراخ المتنوع الشحن والاحتقان الذي لم يسبب ضررًا، تمكنت من استخلاص صوت غير مسموع إلى حدٍّ ما، فأصبح بإمكان أوسكار أن يعلن بفرح وبفخر خائن غدَّار: لقد توجَّب على زجاجتين في الوسط من الجهة اليسرى لنوافذ البهو التخلِّي عن شمس الغروب، حتَّى أصبح يمكن التعرُّف عليهما كمربعين سوداوين، يحتاجان إلى تركيب زجاج جديد على وجه السرعة.

وفي مشهد مؤثر يصف أوسكار حالة الحزن التي استبدت بوالده ماتسرات إثر فقدان خليلته، والدة أوسكار، فيقول:

كنت أرى ماتسرات الذي لم يكن يحتسي الخمر في زمن أمِّي إلا بصحبة الآخرين، جالسًا بمفرده في وقت متأخر خلف كأس صغيرة مخصصة لجرعة واحدة، ويتطلَّع بنظرة مخمورة. وكان يقلِّب ألبوم الصور، محاولاً، ومثلما أفعل أنا الآن، إحياء ذكرى أمِّي المسكينة بصور سيئة أو جيدة الإضاءة، ثمَّ يبكي في منتصف الليل عندما تحين ساعة البكاء فيخاطب هتلر أو بيتهوفن المتجهمين المعلقين قبالة بعضهما بعضًا [...] وبدا أيضًا كما لو أنه كان يتلقَّى إجابة من ذلك العبقري الأصم، في حين كان القائد الزاهد بالشرب يلوذ بالصمت، لأن ماتسرات الذي كان مسؤول خليَّة صغيرة وسكيرًا تراءى غير جدير بالتنبؤ بالمستقبل.

ومن المفيد هنا أن نأتي بمثل آخر على انشغال غراس بهاجس الإيقاع وهو المثل الذي يلخِّص كل ما شهده أوسكار، البطل المركزي، ومحتوى الرواية، بعد أن منحه طابع الصلاة الأخيرة:

ما الذي عليَّ أن أقوله الآن: فتحت اللمباتِ ولدتُ وفي سنِّ الثالثة توقفتُ عن النمو عمدًا، وطبلاً تسلمتُ، وزجاجًا حطمتُ وعطر َ فانيلا شممتُ، وفي الكنيسة سعلتُ، ولوتسي أطعمتُ، ونملا ً راقبتُ، وعلى النمو أصررتُ، وطبلاً دفنتُ، وإلى الغرب رحلتُ، والمشرقَ أضعتُ، والنحتَ تعلمتُ، وموديلاً وقفتُ، إلى التطبيل عدتُ، فالخرسانة تفقَّدتُ، ومالاً كسبتُ، وإصبعًا حفظتُ، وإصبعًا أهديتُ، وضاحكًا هربتُ، وبسلَّمٍ طلعتُ، وللاعتقال تعرضَّتُ فحكمتُ وإلى المصحة نقلتُ، ثمَّ بُّرأت، واليوم في عيد ميلادي الثلاثين احتفلتُ، لكنني خائف من الطاهية السوداء مازلت – آمين.

والترجمة في معظم الأحوال هي تفسير للنصِّ، وأحيانًا يوقف هذا التفسير العبارة الأصلية على معنى واحد لا غير، فيحدُّ من تداعياتها وإيحاءاتها ويخلُّ كذلك بتركيبها. وعندما يقدم مترجم آخر على نقل نصٍّ مترجم أصلا ً إلى لغة ثالثة، مثلما حدث مع رواية طبل الصفيح التي صدرت بترجمتين عن الفرنسية والإنكليزية وغير مرخَّص بهما، فإن هذه التداعيات والإيحاءات الشاحبة في الترجمة الأولى ستختفي لا محالة، فضلاً عن وقوع المترجم الثاني في أخطاء لا حصر لها. وستكون أسماء الشخصيات والمدن والشوارع والأنهار، أي طوبوغرافيا العمل الذي أريد له أن يكون بمثابة طوبوغرافيا قوم ودولة اندثرا، فلم يخلفا سوى الحنين والأسماء وبقايا لغة تتعرض للانقراض، ستكون هذه الأشياء كلُّها من أول ضحايا الترجمة غير الأصلية.

والرواية بمجملها عبارة عن قراءة تاريخية نقدية للأحداث المهمة التي شهدتها أوروبا وألمانيا على وجه الخصوص، ولذلك فإن أسماء المواضع تشير حيثما وردت إلى أحداث تاريخية مهمة، وأي تحريف فيها قد يؤدي إلى سوء فهم، أو إلى التقليل من أهمية الحدث ذاته، فضلاً عن أن هذا التصحيف يؤدي بالضرورة إلى اختلال الصورة الفنيَّة وتداعياتها.

*** *** ***

القدس العربي

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني