هل حرَّم الإسلام الرسم والفن
وهل من أسُس لهذا التحريم؟!

 

أحمد الخليل

 

منذ أن بدأ نظام طالبان المتطرِّف في دكِّ تماثيل بوذا والتراث الأفغاني بمدافعه الثقيلة (بداية عام 2001) مرورًا بالرسوم الدانمركية التي تجسِّد النبيَّ وردود الفعل الصاخبة ضدها، وحتى عاصفة شارلي ايبدو وانتهاءً بتدمير داعش لمحتويات متحف الموصل وتماثيله وتجريف مدن تاريخية كنمرود ومدينة حضر في العراق، هذا غير تدمير العشرات من المواقع الأثرية السورية...، ارتفعت عقيرة بعض الفقهاء والإسلاميين في النقاش حول مشروعية هذه الأفعال دينيًا وإسلاميًا أم عدم مشروعيتها؟ البعض قاس سلوك التنظيمات المتطرفة (طالبان- داعش..) على فعل تحطيم الأصنام الذي قام به الإسلام والنبيُّ محمَّد عند فتح مكة، فحين دخل الفتح الإسلامي مكة تم تدمير أكثر من 360 تمثالاً في الكعبة وحدها، ومنهم الإله هبل. وأُمر بتدمير مئات الأصنام الأخرى، كأساف ونائلة ومناة والعزة واللات... أي أن الفعل لم يناقش في إطاره السياسي والأيديولوجي وإنما نحا منحى فقهيًا دينيًا في سعي مقصود أو غير مقصود لتبرير النهج الداعشي ومنحه مشروعية يفتقدها بأن كل أفعاله من الذبح وحتى تدمير الآثار والتحف هي تطبيق حرفي للنصِّ الديني الإسلامي، فهل حرَّم الإسلام التصوير والفن عمومًا أم لا؟!

كثير من المفكرين يؤكدون أن القرآن لا ينصُّ صراحة على شيء واضح فيما يخصُّ تحريم الرسم والفنون والنحت... فهو (القرآن) يكتفي بتحريم عادات (وثنية) محددة كانت سائدة في مجتمع ما قبل الإسلام، "سورة المائدة 90-92" (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ،....) وليس هنا التحريم قطعيًا وإنما في الآية دعوة لتجنبه والابتعاد عنه فقط، بينما في أقوال وتصرفات وأفعال النبيِّ محمَّد هناك موقف وصفه البعض بأنه (عدائي وصريح من الأشكال المصورة ومن الفنون عمومًا) ولكن جمع الحديث وأقوال الرسول كما هو معروف تمَّ في القرن التاسع الميلادي أي بعد وفاة الرسول بثلاثة قرون، وهذا الزمن كافٍ ليعتري التدوين الكثير من التشويه والتحريف نتيجة النقل الشفوي بين الأجيال، وشحن الكثير من أقوال وكلام الرسول بوجهات نظر سائدة تعبر عن مصالح فئات مهيمنة في القرن التاسع.

وقد حصر المستشرق لويس ماسينيون تحريم التصوير والرسم تحريمًا قاطعًا في أربعة مواضع حسب ما ورد في (مجلة سورية 1921) في مقال تحت عنوان: (أساليب المنجزات الفنية لدى الشعوب الإسلامية):

التحريم الأول: استنزال اللعنة على عبدة أضرحة الأنبياء والقديسين وصورهم، لأن الأشكال ما هي إلا أداة في محاولة غايتها تجسيد عبارة هي وقفًا على الله وحده، والنبي محمَّد كما هو معروف لم يدَّعِ القدرة على إتيان الخوارق بل قدَّم نفسه كإنسان اصطفاه الله رسولاً (إنما أنا بشر مثلكم..) والإسلام خلافًا لما هو عليه الحال في الديانات الأخرى (البوذية، المانوية، والمسيحية...) لم يكن قط بحاجة إلى أيقونات تمثِّل حياة الرسول.

رغم ذلك رأى بعض الباحثين أن هناك تأثيرًا متبادلاً بين الفن القبطي والفن الإسلامي، ففي دراسة أثرية للدكتور ضاحى أبو غانم مدير عام إدارة الأيقونات والرسوم القبطية بوزارة الآثار المصرية يؤكِّد فيها تأثر الفن القبطي بالفن الإسلامي في رسم الأيقونات التي صممت بعد الفتح الإسلامي لمصر، حيث استخدمت اللغة العربية بجوار اللغة القبطية أو اللغة العربية وحدها في كتابة أسماء القديسين وألقابهم وبعض الأدعية للشخص الذي أهدى الأيقونة أو الفنان الذي قام برسمها وكذلك في تاريخ رسم الصورة والجهة المهدى إليها، كما جاء في الدراسة:

إن تأثير الفن الإسلامي يظهر في طابع الملابس وبعض التفاصيل المعمارية مثل استخدام الأشكال النباتية والهندسية مثل الطبق النجمي الذي لم يعرف إلا في الفن الإسلامي ولقد وصل حدُّ الاندماج بين الفن القبطي والفن الإسلامي إلى درجة يصعب معها التفرقة بينهما خاصة في الأعمال الفنية المنفذة على الخشب والعاج والنسيج...

وأوضحت الدراسة أهمية الكتابة على الأيقونة سواء كانت قبطية أو عربية فهي التي توضح المنظر المرسوم بالإشارة إلى أسماء الأشخاص ووظيفتهم أو تشير إلى نصٍّ إنجيلي على لسان المصوِّر، كما ساهمت هذه الكتابات في الكشف عن الكثير من المعلومات الخاصة بالأيقونة ومنها مصدر الأيقونة والأسلوب الفني المستخدم في رسمها وتاريخ صناعة الأيقونة أو الإهداء والتوقيعات عليها من أعلى أو أسفل أو في الإطار أو على ظهر الأيقونة وهذه التوقيعات أو الكتابات تتضمن معلومات مهمة عن تاريخ الأيقونة أو صاحبها أو الفنان الذي قام برسمها.

وحسب نفس الدراسة فإن الحروف والكلمات تعدُّ جزءًا من تصميم الأيقونة فبدون اسم الشخص المصوِّر تصبح الأيقونة غير مكتملة، وللكتابة على الأيقونة أسلوب مميز يمزج بين تنسيق الكتابة والأسلوب الفني المتبع في رسم الأيقونة حسب مميزات كل عصر والتي تحدِّد الشكل الزخرفي للحروف، وقد أرَّخ الفنان القبطي الأيقونات بالتقويم القبطي وأحيانًا الميلادي ويكتب التاريخ بالحروف العربية وأحيانًا القبطية.

وذكرت الدراسة بعض نماذج الأيقونات بالكتابات العربية منها أيقونة السيدة العذراء والسيد المسيح وقف كنيسة زويلة الكبرى وقد كتب عليها (عوِّض يا رب عبدك المهتمَّ المعلم نيروز وأولاده في ملكوت السموات سنة 1162) وأيقونة القديس أسطفانوس وقد كتب عليها باللغة العربية (عمل إبراهيم الناسخ ويوحنا الأرمني) وأيقونة السيدة العذراء والسيد المسيح 1265 من كنيسة العذراء الدمشرية مصر القديمة ، ووضع حرف (ش) بجوار التاريخ تعنى التقويم القبطي.

التحريم الثاني: قد يكون مستوحى أو مُستنتجًا من سورة آل عمران الآية 49: (إني قد جئتكم بآية من ربكم إني أخلُق لكم من الطين كهيئة طير فأنفخ فيه، فيكون طيرًا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين)، بهذا قال المسيح بن مريم مخاطبًا بني إسرائيل.

ويقول الحديث المحمديُّ: إن صانعي الصور والأنصاب سينزل بهم الله في يوم الحساب عقابًا يفرض عليهم الاستمرار في محاولتهم اليائسة والعقيمة الرامية إلى نفخ الحياة فيما تصنع أيديهم، والمقصود هنا العقل البشري الذي يدعي مجاراة الخالق في صنع أشكال يعجز هذا العقل البشري عن نفخ الحياة فيها؟ والمقصود بهذا صانعو الصور التي تمثل كائنات حية.

وقد كتب ريشار انتيغوزن في (الفن العربي):

إن من يقتني هذه الصور يرتكب الإثم الذي يرتكبه من يقتني كلبًا، لأن الصورة، كالكلب هذا الحيوان الرذول، يحول دون دخول ملاك التوبة بيت صاحبه، لأن الملاك قد يرى في هذه الصورة مسخًا للعمل الإلهي، فيبتعد عن البيت المذكور.

وجدير بالذكر أن فعل (صوَّر) مرادف لفعل خلق، فالله (الربُّ) ليس الخالق وحسب بل هو المصوِّر، من هنا يبدو صانع الصور والأشكال وكأنه مزاحم لعمل الله، ومجدِّف على عمله وخلقه؟!!

وفي الآية لم يكن هناك ذكر للصورة إلا الأنصاب والتي هي رموز طوطمية بلا شكل يتقرَّب بها عبدة الأنصاب إلى الله زلفى. الإسلام عندما ظهر في الجزيرة العربية لم يحرِّم الرسم والنحت، إنما استبعدهما عن حياة المسلم، لأن هذه الفنون تصرف الناس عن العبادة وتشغل المسلمون الجدد عن إقامة الصلوات والعبادات الأخرى.

ولو كان نبيُّ الإسلام محمَّد قد دعا لتحريم الصورة كصورة مجردة لما امتنع عن إزاحة صورة السيد المسيح وأمه مريم العذراء التي كانت معلقة في الكعبة حين دخلها محررًا عندما أمر بتحطيم 360 ثلاثة مائة وستين صنمًا أثناء الفتح المبين. كما جاء في كتاب فتوح مكة لـ (الأزرقي). أما فيما يخصُّ الأحاديث فقد جاءت مليئة بالتهديد والوعيد، يقول رواتها إنها جاءت على لسان النبيِّ محمَّد ولم يذكر أسماء رواتها. منها مثلاً: أن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون. إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم أحيوا ما خلقتم. إن أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله.

التحريم الثالث: حظر استعمال الأقمشة والوسائد ذات النقوش الرامزة (صور) ولكن الحديث المسند بهذا الشأن هو موضع خلاف، لأن ثمَّة من يقول: إن وسائد من هذا النوع قد وجدت في بيت النبيِّ نفسه.

التحريم الرابع: يرد في الحديث النبويِّ ويتعلق بعبادة الصليب ولكن هذا التحريم يبتعد بنا عن الصورة كصورة.

انطلاقًا من هذه الأحاديث يصعب القول إن الإسلام حرم تحريمًا قطعيًا كل ما يمثل هيئة أو شكل الكائنات الحية، يضاف إلى ذلك أن كثير من هذه الأحاديث يعتورها الشك في صحتها لأنها لا تتفق مع النص القرآني نصًا وروحًا.

ويستشهد زكي بيضون في مقال له بعنوان الإسلام وتصوير الأنبياء بما قالته المستشرقة فانيسيا رنترغيم في مقال لها تحت عنوان التصوير المصوَّر للنبيِّ محمَّد نشر عام 2012 في الموقع الإلكتروني للمعهد الفرنسي للشرق الأدنى، تقول رنترغيم:

القرآن لا يحرِّم البتة تصوير الهيئات الحيوانية والإنسانية، إنما هو يشجب فقط العبادة الوثنية وينهى في هذا الإطار عن تمثل الذات الإلهية من خلال الأصنام والرسوم في طقوس العبادة.

وتضيف رنترغيم:

... وبينما كانت الإمبراطورية الإسلامية الفتية في طور التشكل، سرعان ما تمَّ استبعاد صور الهيئات الإنسانية والحيوانية من المساجد، لكن من دون أن يشمل ذلك الزخارف الزهورية (نسبةً إلى الزهور) والتجريدية، الأمر الذي يشهد عليه مسجد الأمويين في دمشق المبني في بداية القرن الثامن الميلادي.

بينما تؤكد الكاتبة والروائية السورية روزا ياسين حسن أن ما تقوم به التنظيمات المتطرفة الإسلامية ومنها داعش يستند إلى أفعال وسلوك إسلاميين مثبتين تاريخيًا وليس حدثًا جديدًا وتستشهد بتدمير التماثيل في مكة وتحطيم الإرث الحضاري لما قبل الإسلام (... وسار خلفاء الرسول على هدايته في تحطيم كلِّ الأصنام وأشكال الفن المجسَّم والمصوَّر التي لاقوها في طريقهم). وتضيف ياسين: (إذًا، ينبغي الاعتراف بأن داعش لا يُكثِّف فحسب، الوجه البشع لتاريخنا الإسلامي الطويل، ولكنه آت من رحمه!!)

وتطالب ياسين بوقفة صريحة مع الذات:

علينا أن نرى هذا الوجه البشع فينا، كما رأت أوروبا الوجه القبيح للمسيحية المكثف في عصر محاكم التفتيش.... وإن كنا صادقين مع أنفسنا، ومع غضبنا تجاه ما يفعله داعش اليوم، ينبغي أن نكفَّ عن تدريس أجيالنا، كما درَّسناهم على مدار قرون، أن تحطيم الآثار في زمن "الفتوحات الإسلامية" هو عمل حضاري لوأد الجاهلية!!!

المشكلة في غالبية الآراء التي أوردناها آنفًا أنها أغفلت نقطة في غاية الأهمية، وهي أن الهدف النبويَّ من تحطيم تماثيل الكعبة أو حظر الرسوم هو سياسي أولاً ثم ديني ثانيًا ينبغي وضع في إطاره التاريخي السياسي، فبعد أن أسس الإسلام جنين دولة وقويت شوكته إلى حد ما، أراد بسط هيمنته السياسية والأيديولوجية على كامل منطقة الجزيرة العربية وعدم السماح لأي سلطة أخرى أو فكر آخر بمنازعته سلطته، فكان لابد من تحطيم رموز سلطة قريش قبل ترويض قادتها والمهيمنين عليها سياسيًا واقتصاديًا، فكان تحطيم (الآلهة) القرشية قبل التطبيع مع سادة قريش (من دخل بيت أبو سفيان فهو آمن...)، وليس بعيدًا عن هذا الهدف السلوك الداعشي حيث يهدف للهيمنة عبر الاستبداد وفرض أيديولوجيا خاصة به يربطها بالتاريخ والدين الإسلاميين، بهدف إصباغ المشروعية السياسية على أفعاله هذا من جهة، ومن جهة أخرى بهدف إيجاد مصدر تمويل جديد بعد محاصرة مصادر تمويله الأخرى (النفط والضرائب...) فتجارة الآثار تجارة رائجة ورابحة تشارك بها دول وعصابات ومسؤولين سياسيين وأمنيين كبار من مختلف دول العالم، فتحطيم التماثيل الكبرى يخفي صفقات بيع قطع أثرية هائلة من خلال تهريبها عبر الحدود.

*** *** ***

الأوان

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني