قراءة موجزة في قصة آخر من تبقى من مواليده* للروائي حسين رحيم

 

د. محمد حميد بلال*

 

نبدأ من العنوان وهو العتبة الأولى للقصة وأحداثها الغامضة. فمنذ البدء وقفنا عند العنوان فوضعنا علامة استفهام كبيرة، واتبعنا ذلك السؤال بسؤال آخر: من هو؟ ولماذا؟ أسئلة جذبتنا لقراءة المضمون الذي نتتبعه للوصول إلى الإجابة.

إن القاص قد اختار موضوعه من تجاربه وثقافته ومن بيئته التي عاشها في مدينة الموصل، متناولاً النفس البشرية وسلوكها، والإنسان وحياته وذكرياته، واضعًا قصته على ثلاثة معاني هي: (الخوف والموت والحب)، وقدم لنا فيها وجهة نظره نحو الحياة.

تدور الحبكة حول سر اختفاء ثلاثة أصدقاء. تتطور الأحداث بشكل تقليدي وبتراتب منطقي إلا أن النهاية كانت غير متوقعة، أغلقت جميع النوافذ وذلك بموت الجد الذي هو (آخر من تبقى من مواليده) "الذي غادر آخذًا معه سر اختفاء القاص والشاعر والرسام".

صورت لنا القصة بيئة مكانية معروفة هي (حديقة الشهداء) وأسماء أماكن معروفة هي باشطابيا ومنارة الحدباء وهي من أسماء مدينة الموصل، فالحديقة هي المكان الرئيس في القصة والتي دارت عليه الحوادث، وقد اسماها الراوي بالحديقة المشؤومة، (الحديقة) مكان جميل جدًا و(الشهداء) تسمية ذات دلالة عظيمة وهي التضحية من أجل الدين والوطن والأنفس، والحديقة رمز لمدينة الموصل الحدباء، وحتى الشخصيات القصصية فهم من أهل المدينة، وهذه الشخصيات لها طموحاتها ورغباتها وأمنياتها في العيش الرغيد الذي لم يجدوه في هذه المدينة، حتى وصل بهم المطاف إلى نهاية مأساوية غامضة. حكايات كان الجَدُّ قد قصها مرات عديدة على حفيده الشاب. ولكن في المرة الأخيرة بعد أن سمعها في الحديقة قال لجده: "إنها ليست الحقيقة بل الحقيقة يا جدي أنت تخفيها". ولكن القدر كان أسرع من الشاب، فرحل الجَدُّ في قطار الموت الذي لا يعود.

تُلاحظ هيمنة المكان على القصة، فنجده ظاهرًا مع الشخصيات وسير الحدث واستعمالات الأزمنة، وقد تعامل الراوي مع الزمان بفنية فكان الانتقال من الحاضر إلى الماضي ومن الماضي إلى المستقبل باستخدام الاسترجاع، هذا التفاوت يجعل من القصة أكثر تشويقًا وخروجًا عن تراتبية الأحداث وجمودها.

أما الشخصيات القصصية فكانت على نوعين هما:

-       الأولى: الشخصية الرئيسة هي الجد.

-       الثانية: الشخصيات الثانوية وهم (الرسام والقاص والشاعر).

هذه الشخصيات حركت مسار الأحداث بلغة معبرة وواضحة تتراوح بين العامية أحيانًا والفصحى أحيانًا أخرى، فتكون الأسلوب القصصي الذي بدأ مع العنوان باستخدام ضمير الغائب، مما يوحي بالغموض، فيجذب القارئ إليها، ومن الأساليب الأخرى استعمال الاستعارة، نجد ذلك عندما وصف الراوي أشجار الحديقة بقوله: "وهذه الأشجار رضعت صمت الحديقة وهي شتلات ماتزال واقفة وهي عملاقة سلوانها الصمت...".

وللأسلوب دور فاعل في عرض الحوادث فقصة اختفاء الأصدقاء الثلاثة نجد في نهايتها كسر لأفق التوقع، وقد أشارت القصة على لسان حفيد الجد بقوله: "منذ أربعين عامًا وأنا اسمع وهْمَ اختفائهم من خلال قصصك الخيالية عنهم وفي كل مرة تكون القصة هي الوسيلة الجديدة لإقناعي...".

وفي هذا الأسلوب يتشكل السرد القصصي أو الحكائي الذي يتتابع مع القارئ، فنجد أحيانًا توقف الزمن القصصي، وذلك بدخول السرد في الوصف أو المنولوج فيتوقف الحدث عن النمو أو عن التفاعل مع الشخصيات، فينتقل السرد من الراوي الداخلي إلى الراوي الخارجي، مثال: "وجلاَّس الحديقة ينظرون إليه ويضحكون حتى قال الشاعر: لقد أضيف مجنون جديد إلى الحديقة... ووقف مراقبًا ممرات الحديقة المرصوفة بالشتايكر المحاط بأزهار وورود الجنبد والجولونيا وحلق السبع والقرنفل وورد الدفلى والتي هي أشبه بأسوار معطرة...".

نلاحظ أن الزمن قد توقف والوصف يعمل على ثبات الصورة لإعطاء أوصاف للأشياء. وقد وجدنا أن الراوي في النص القصصي قد وظف عنصري (التاريخ ولأسطورة) وهذا ما وجدناه في أسماء تاريخية وجغرافية معروفة مثل (العيلاميين) وهم من الغزاة قد ذكرهم التاريخ القديم. و(آشور بانيبال) و(زينوفون) وهو قائد إغريقي قاد الجيوش في الحروب على أرمينيا لقول الراوي: "خرج شلمنصر الثالث قاتلَ العيلاميين ودحرهم. أما الطينُ الذي كان كتبة آشور بانيبال يعملون منه الرقم فقد كان يأتي من هنا، حتى اكتملت أول مكتبة في التاريخ وقد حوت عشرة آلاف رقيم، أما حملة العشرة مقاتل والتي كان يقودها زينوفون فقد مرت من هنا...".

هذه الأساطير من تاريخ العراق القديم وحضاراته وثقافاته وبطولاته "مرت من هنا" - أي من (حديقة الشهداء) فهي رمزُ خلدته (الحديقة) لكل شهيد سقط من أجل الوطن، وهي رمزُ ثقافي لحضارتنا المجيدة.

وعندما تساءل أحدهم: "أتعرفون ما معنى التاريخ؟... إنه الإنسان"، فتساءل آخر: "ومن أبواه؟"، فأجاب أحدهم: "أنهم يتغيرون باستمرار عبره..." منذ السيد (هيرودوت) كما تعرفه الأساطير اليونانية بأنه رحالة مشهور بمعرفته للمناطق، فهذه التسميات الأسطورية في القصة تعمل على خلق مقارنة بين ثقافتين، فضلاً عن اكتشاف الآخر، وهذا الانتقال من التاريخ القديم والأساطير إلى الحاضر يضفي فضاءً قصصيًا داخل القصة نفسها.

لقد أبرز الحوار صراعًا خارجيًا كان بين الشخصيات، مثال ذلك الحوار بين الشيخ وحفيده الشاب بطريقة السؤال والجواب في أكثر من مشهد، مثال:

-       لم لا تصارحني يا جدي؟

-       وهل كذبت عليك يا ولد.

-       لا يا جدي ولكنك تربأ عن إخباري بالحقيقة.

-       أي حقيقة؟

-       ما حدث قبل أربعين عامًا.

*** *** ***


 

horizontal rule

* نُشرت القصة في مجلة مناهل جامعية (جامعة الموصل)، وقد فازت بالجائزة الأولى في المسابقة التي أقامتها قناة الديار الفضائية عام 2008. القصة من الحجم المتوسط، وعدد صفحاتها خمسة عشر صفحة.

* كلية التربية، جامعة الموصل.

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني