الحب...

 

محسن السراوي

 

لك، أيتها الزهرة الذابلة في حديقة الأيام، والدمعة المسفوحة على جوانب الغرام، بل على ذلك الطلل الخالي، والأثر البالي، هذا هو الجسم الشاحب، وذلك هو العمر الذاهب. أية جنة كنت يرتع منها المشوق في غفلة العيش وبله الحياة؟ بل أية كأس يشربها الجامد فيسيل، والمعتدل فيميل؟ بل أية نضرة كست بها الطبيعة هذا الجلال المرسل والجمال اليتيم، وتوجت بها القدرة هذا المُلك الذي هبط من الجنة يرفرف على الرؤوس؟ بل أيها الجواد المطلق في الميدان، بغير عنان، كم ندم صاحبك، وذل راكبك؟ ولكن ما أصوب خطأك، وما أبلغ عثرتك. آه أيها الزمان القادر، والحاكم الجائر، يا عبوس المراحم، يا لذيذ المظالم، كم غررت بالأحلام واطلعت عليه شمس الزهو من سماءك فتربع على عرشٍ من نفسه، فقوائمه طالت على الأوهام وأركانه بنيت على الآثام، وبات يرسل النظر إلى هذا الكون نظرة الأسد أمام أكمته إلى مداب النمال، ويرى تمثاله في مرآة الشباب كأنه الهيكل المنيف قائم بقدميه على كتفي العالم، إذا مر به النسيم ليلاً ظنه من نفحات رضاه وأنه بعض أنفاسه العاطرات، وإذا نفث القيظ شراره ظنه فحيح غضبه وأنه بعض أنفاسه المستعرات.

يا مطية الغرور، ومسرح الشرور: كم ترقرقت قطرات الحسن في وجنات الملاح تحت أوراقك الوارفة الظلال، واشتبهت في مرآتك البنان بالشفاه في الحمرة والجمال، وتلألأت عنك أقمار الوجوه تحت ظلام الغدائر، وجاز فيك ابتسام العيون، في بكاء المحاجر، وهزت يمينك في القدود قوابض السيوف، وألقى حكمك حبال العشاق على غوارب الحتوف. وكم عرضت الأيام على آمال، فصورك المزينة بالألوان المختلفة من روائع التقاسيم فلم تبق له علالة في النفس إلا أن تنتهي هذه الأعاجيب حتى يستريح من متاعب اللذائذ، فاللذة ضرب من ضروب الشقاء يزينها الفراغ بالقبول.

إني لا أذكر يوم بدأت تفيضك علي الأيام ولكن أذكر يوم بدأت تمسحك عن جبيني، ولو كنت أعلم أنك مقدود عن منكبي لوثبت وثبة من الطفولة إلى الكهولة حتى أتعدى عهدك المحال، أو لرقدت رقدة الصامت حتى تمر بي كما يمر الخيال. أين منك ليلة على ضفاف السهر في مقاصير، سماؤها صبير، وأرضها وتير، إذا جازها السحر وهصرت الشجر، واختلطت صفعة الظلام بدمعة المدام، وذكرت بين الورد والآس فسما إلى رشاش ذلك النذر يلفتني إلى خضوعه المنحدر، وسكونه المستمر، فذكرتني عزة الشباب، آية فرعون في الكتاب، وازدحم جمال الطبيعة على عيني وضاق الفضاء بهذا الحسن المتناثر على أرجاء الكون، وتطايرت أصوات السكينة المعجمة، فتبينت فيها نغي القدرة الفصيحة إلا شيئين: لفظٌ لا معنى له، ومعنى لا وجود له. هذا هو الوفاء، وذلك هو الحب. نعم لا معنى للوفاء، مر هذا اللفظ على آدم، وتخلل ثناياه وولج مسامعه، ثم دار دورته في بروج رأسه فما كاد يصل إلى أحد من ذريته ولولا أني أنا أنا لقلت إني غادر. نعم. لا معنى للوفاء. الإنسان غادر، والحيوان غادر، والنبات غادر، بل والماء والهواء، والأرض والسماء، بل كل ما دار بالرأس وما تخلل الأذن، وما عرض على العين. فما أنبغ الغدر في إخضاع كل موجود: ما عسى يفهم الإنسان من المعنى الذي يتردد بين هذين الحرفين (ح. ب) ويضطرب بين ساحليهما. يقول أناسٌ لو وصفت لنا الهوى... فوالله ما أدري الهوى كيف يوصف: ضعف في النفس، وخفة في الرأس، ونقص في الإرادة، واختلال في التكوين. ولكن: الحب صعبٌ فلا تعبث بصاحبه... فربما قتلتك الحاء والباء. الإنسان قادر أمام كل شيءٍ عاجز أمام هذا اللفظ – الحب. ما خرج من كنه الغيب روح إلى العالم المنظور إلا ورمي سهمًا طائشًا لم يصب به هذا الغرض وغادر له كتابًا لم تأهل ألفاظه بمعانيه في وصف هذا اللفظ المعجم الحب.

*** *** ***

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني