الصفحة السابقة             الصفحة التالية

غاندي المتمرد 5: واجب عدم الولاء

 

جان-ماري مولِّر

 

في يوم الأربعاء بتاريخ 12 آذار/مارس 1930 في الساعة السادسة والنصف صباحًا، بتأخير يوم عن الموعد المعلَن في رسالة غاندي إلى نائب الملك، يترك غاندي أشرمَ سَبَرْماتي على رأس 79 مشارك في المسيرة. وقبل الانطلاق أعلنَ غاندي: "نلتزم بكفاح مدى الحياة وإلى الممات، في حرب مقدَّسة"[1].

في اليوم نفسه، نشرت صحيفةُ لاكروا La Croix الفرنسيةُ على عمودَينِ في الصفحة الرئيسية مقالاً بعنوان: "حملة العصيان المدني في بلاد الهند". وقد وضِعَ في المقال صورةَُ "الخصمين": اللورد إيروين، نائب الملك لبلاد الهند، الذي كان "رجلاً ذا عقلية متحرِّرة، لكنه يعرف كيف يُظهِر حزمًا" وغاندي الذي "يتمتَّع لدى الشعب الهندوسي بتأثير عظيم نظرًا للمقامِ الرفيعِ لحياته التي يطبِّق عليها بعضَ تعاليم الإنجيل الذي كان على ما يبدو يقرأه كلَّ يوم".

إنَّ اعتقال غاندي منسجم مع المنطق نفسه للتحدِّي المدهش الذي أطلقه ضد السلطة البريطانية. هذه السلطةُ، بالمقابل، وخلافًا لتوقُّعات الجميع، فضَّلَت عدمَ التدخُّل. روَتْ مادلين سلاد Madeleine Slade انطلاقَ مسيرة المِلْح بهذه الكلمات:

في عصر يوم الحادي عشر، بدأ سكانُ أحمد أباد يتوافدون. وقام حشودٌ وحشودٌ من الرجال والنساء والأطفال بالخوض في النهر وعبورِه، وفي وقت صلاة المساء، أصبحَ عددهم كبيرًا إلى درجة أنَّ الضفافَ الرملية كانت المكانَ الوحيدَ الذي يمكن أنْ يتَّسعَ لهم.

كان الليلُ يخيِّم ولم تأتِ الشرطةُ بعدُ لتقبضَ على شخص باﭙـو Bapu [الأب غاندي]. كنا جميعًا على أحر من الجمر، لكنه كان يتابع اهتماماتِه الاعتياديةَ هادئًا كعادته وكأنَّ شيئًا لم يكنْ. (...)

مع طلوع النهار كانت هناك حشود متحمِّسة تجتمع وتتزايد عددًا، لكنَّ الشرطة لم تظهرْ بعدُ. كان قد قيل إنَّ السلطة الإمبراطورية نفسها كانت متردِّدةً في انتزاع باﭙـو من حماس شعب بأكمله. غير أنَّ ساعة الانطلاق قد حانت، كلُّ شيءٍ جاهز، وروحُ الهند كانت متيقِّظةً وكان باﭙـو النقطةَ المركزية التي يتركَّز فيها نورُها.

الطريق الموجود بعدَ بابِ الأشرمِ كان قد أُخلِيَ واجتمعَت المجموعةُ الصغيرة في نظام تام. (...) كان جيشًا من طراز جديد، جيشًا بلا أسلحة، يتألَّف فقط من ثمانين رجلاً من الرجال الأشِدَّاء الذين تحفِّزُهم الثقةُ المُبهِجةُ بهزيمة أكبر إمبراطورية في العالَم[2].

تُقدِّم صحيفةُ التايمز The Times، في عددها الصادر بتاريخ 13 آذار/مارس 1930، للرأي العام الإنكليزي صورةً أخرى عن مسير غاندي. فكتبَت الصحيفةُ اللُّنْدُنيةُ نقلاً عن المراسل الخاص لصحيفة تايمز الهند Times of India: "منذ الصباح الباكر، كان الفلاَّحون يعملون في الحقول بلامبالاة تامة إزاءَ مسيرة مُخَـلِّصِهم الوشيكة الحدوث."

وبتاريخ 14 آذار/مارس 1930، في مقال نُشِرَ في الصفحة الأولى، تَعرِض صحيفةُ الفيغارو Le Figaro بهذه الكلمات "الاضطرابَ في الهند":

لقد بدأَت المقاومةُ السلبية في الهند. لقد بدأَتْ بأمرٍ من القائد غاندي شرارةُ حملة العصيان المدني التي تهدف إلى الاحتجاج على وصاية إنكلترا التي اعتُبِرَت مزعجةً. فمحاولةُ التحرُّر هذه هي خطيرةٌ نظرًا لإدارتها بطرق ملتوية ولدعم مبعوثي موسكو لها.

تفيد الأنباءُ الواردة من لندن أنَّ مئة ألف شخص قد هتفوا لغاندي لحظةَ ترْكِه لأحمد أباد قبل البارحة صباحًا، ليذهبَ سيرًا على قدمَيهِ إلى السِّباخ [المستنقعات] المالحة [المَلاَّحات] في جلالـﭙور [جلالبور] Jalalpur على الشاطئ الغربي للهند، شمال مومباي، بهدف الشروع في حملته الخاصة بالعصيان المدني. ويأملُ غاندي بالوصول خلال خمسة عشر يومًا إلى جلالبور حيث يُفترَض أنْ يُطلِقَ تحدِّيًا للسلطات في الهند من خلال انصرافه إلى صناعة المِلْح على الرغم من الاحتكار التي تقوم به الحكومةُ. كما أعلنَ القائدُ الوطني، فضلاً عن ذلك، أنه لم يَـنْوِ خَرْقَ قوانين البلاد خلال مسيرته، بل سيكرِّس نفسَه لحملة ناشطة في القرى التي سيجتازها لصالح المقاومة المدنية ضد الضريبة على المِلْح.

كان هناك في أحمد أباد شركتان بريطانيتان وجمعٌ غفير من الهندوس.

مع ذلك، لم تحملْ صحيفةُ الفيغارو قرَّاءها على إظهار مزيد من القلق إزاء احتمالات غاندي الحقيقية في بلوغ غاياته. فكتبَتْ بتاريخ 20 آذار/مارس بتوقيع مارسيل بولنجيه Marcel Boulenger:

يا غاندي، أيها الفظيع الحاذق غاندي، يا من تريد تدميرَ سلطةَ الإمبراطورية البريطانية في الهند، لن يتأَتَّى لك ذلك. فهناك فِتْيانٌ آخرون غيركَ حاولوا تقويضَ دعائم إنكلترا، وحتى لو كان إله الحرب نفسه، إمبراطورنا نابليون: لا ينجح، لا أحد ينجح. (...) فعلى الرغم من براعتك الهائلة يا غاندي، ستفشل كجميع هؤلاء. فالإمبراطورية البريطانية هي قلعةٌ شهيرة، صلبة البنيان، والتي كسرَ شمشون Samson شخصيًا ذراعَيه أمامها بلا شك. فلن تفعلَ أفضلَ مما فعلَ شمشون، يا غاندي المليء بالحيلة.

بتاريخ 15 آذار/مارس، قامت صحيفةُ لاكروا La Croix بالتحليل السياسي التالي عن مسيرة المِلْح:

قام غاندي، وهو يواصلُ مع متطوِّعيه التسعة والسبعين «مسيرتَه مسيرةَ الشهداء»، يومَ الخميس بقطعِ مرحلتين هتفَ له خلالهما سكانُ القرى التي اجتازها.

يبدو أنهم في لندن يحْمِلون على محمل الجد حملةَ غاندي لا بسبب النتائج التي سيصل إليها هذا المثيرُ للقلاقل، بل لأنهم يعتبرون، كما تقول صحيفة مورنينغ ﭙوست Morning Post هذا الصباحَ، أنَّ مِن الممكن ألاَّ تكونَ حركةُ غاندي التمثيلية إلاَّ «ستارًا من الدخان» يهدف إلى إخفاء مشاريعَ خطيرةٍ.

تتابع الصحيفةُ قولَها:

القادة الهندوس المتطرِّفون منظَّمون تنظيمًا جيدًا ويمكن أنْ يكونوا قد عقدوا اتِّفاقًا سِرِّيًا. من جهة أخرى، البَلْشفية bolchevisme والتطرُّف الهندوسي مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، وأحداثُ اليوم تدعو للافتراض بأنهما يعملان يدًا بيد.

في 22 آذار/مارس، عادت صحيفةُ الإلُّوستراسيون L'Illustration وتولَّت هذا التحليل متَّهمةً غاندي بأنه يخدم مباشرةً مصالحَ الشيوعية دون أنْ يقصد:

مرةً أخرى، ذهبَ مثيرُ القلاقل الشهيرُ المهاتما غاندي في حملة ضد الإنكليز. إنه لرمزٌ مثير للفضول رمزُ «المِسِّيا [المُخَـلِّص] Messie الهندوسي»، روح التمرد الوطني، لكنه ثوريٌّ مسالم يستلهم من مذهب تولستوي في عدم مقاومة الشر. فهو الذي كان يصرِّح للإنكليز: "لنجعلَ قضيتَنا تنتصرُ، نحن مستعدُّون لإراقة دماءنا لا دمائكم." (...)

في هذه اللحظة، يواصل غاندي الوفي لوعده مسيرتَه المظفَّرة عبر القرى يستقبله في كل مكان آلافُ المنضمِّين الجدد المتحمِّسين، ويتوقَّع أنْ يُعتقَلَ، في حين أنَّ مَلاَّحات جلالـﭙـور تحرسُها قوى الشرطة. (...)

يشكِّل هذا الاضطرابُ لإنكلترا خطرًا جدِّيًا، لأنه يخدم مصالحَ الشيوعيين الكثيرين جدًا في الهند حيث يشجِّعُهم سرًا مبعوثو موسكو والذين ليس لديهم السِّـلْمية نفسها التي لدى غاندي. هؤلاء ينتظرون وقتَهم لكي يفجِّروا ثورةً لا تتوقَّف أمام العنف ويأملون في الاستفادة من تحريض النفوس الذي يُنتِجه تصوُّفٌ أرعن.

كانت الصحيفةُ الفرنسيةُ نفسُها في عددها الصادر بتاريخ 29 آذار/مارس أكثرَ وضوحًا إذْ أكَّدَت: "غاندي هو بلا شك وبدون أنْ يريدَ ذلك عميلٌ للشيوعية".

مقابلَ هذه الاتِّهامات التي وُجِّهَت بحق غاندي، من المهم ملاحظةُ التحليل الذي أجرَتْه صحيفةُ الأومانيتيه L'Humanité في الوقت نفسه الذي شرعَ فيه غاندي بالعمل. فهو مختلفٌ اختلافًا واضحًا. فبتاريخ 13 آذار/مارس 1930، نشرَت صحيفةُ الحزب الشيوعي الفرنسي مقالاً بعنوان: "جولة غاندي الإعلانية بدأَت البارحةَ". وبتاريخ 15 آذار/مارس، يمكن أنْ نقرأَ في الصحيفة نفسها ما يلي:

يواصلُ المهاتما غاندي بكل حرية دعايتَه للعصيان المدني الذي ندَّدْنا به حتى هنا. كما أنَّ نائب الملك لم يفعلْ شيئًا من أجل اعتقاله، بينما كان في الجهة الأخرى قادةُ الطبقة العاملة خلف قضبان السجون منذ سنة. إنَّ غاندي بموقفه قد ساعدَ الاستعماريين مباشرةً بصرف انتباه الجماهير من خلال حملته عن مكافحة الاستعمار وحلفائه من الأسياد الإقطاعيين والرأسماليين في الهند.

وبتاريخ 24 آذار/مارس، نشرت الصحيفةُ الشيوعيةُ مقالاً جديدًا بعنوان: "جوهر حملة غاندي تظهر كلَّ يوم":

يواصلُ غاندي، بحسب ما أُوضِحَ، «حملتَه» لصالح «العصيان المدني». لقد ندَّدْنا بهذه الحركة وبيَّـنَّـا كلَّ معناها المتمثِّل بخيانة الثورة الهندوسية. فحتى هذه اللحظةِ، لم يَشْرَعْ غاندي في أي شيء من شأنه أنْ يؤدِّيَ إلى تدخُّـلِ الشرطة. إنها دعوةٌ إلى الهدوء، إنها ديماغوجيةُ رجُـلٍ فقير [درويش، ناسك] fakir، بهدف صَـدِّ العمال والفلاحين الهندوس عن القيام بأعمال ثورية حاسمةٍ تطرد وحدَها الاستعمارَ البريطانيَّ وتقيمُ في الهند جمهوريةَ السوﭭـيات. فغاندي يستخدم لغةً ذاتَ ديماغوجية مفرطة، لكنها لغةٌ لم يعُـدْ يمكنُها أنْ تخدعَ العمالَ والفلاحين الهندوس الذين يتَّبِعون الآن الحزبَ الشيوعيَّ والنقاباتِ الحُمْرَ.

وفي 25 آذار/مارس، نشرَت جريدةُ بروكسلَ اليوميةُ لوسوار Le Soir في صفحتها الأولى مقالاً مُطوَّلاً خصَّصَتْه لـ"مسألة الهند". وقد رسمَت الجريدةُ البلجيكيةُ هذه الصورةَ عن القائد الهندي:

يا لَغاندي هذا مِن مشاغبٍ مِن طرازٍ فريد واستثنائي جدًا في هذا الشرق الذي تكون فيه الحيوية المفرطة المتهورة هي القاعدة. رباطة جأش، إرادة عنيدة، خضوع صارم للمنهج الذي كلَّفَ نفسَه به وللهدف المحدَّد الذي يمشي نحوه: وهو استقلال الهند.

ويضيف كاتبُ المقال:

حتى للمدافعين عن الاستقلال التام لا بد أنْ تظهرَ هذه الخرافةُ – سرًا – كأكثر خرافة غير قابلة للتحقيق. فالجماهيرُ غيرُ متعلِّمة؛ والنخبةُ غير مهيَّـأة بما يكفي لإدارة الشأن العام؛ وتماسك العقليات الموجَّه فقط ضد بريطانيا واضح وسلبي؛ فإلغاء السلطة البريطانية التي تقف حائلاً بين العناصر الإثنية المتنافسة تنافسًا كامنًا وعميقًا يعني السيطرة الأكيدة للفوضى و[يعني أنْ تصبحَ الهندُ] فريسة سهلة تُلقَى بين أيدي البلشفية.

خلال هذا الوقت، واصلَ غاندي مسيرَه دون حادث واستُقبِلَ بحماس في جميع القرى التي كان يمرُّ فيها. كما واصلَ شرْحَ معنى عملِه للهنود. ونشرَ بتاريخ 27 آذار/مارس مقالين في مجلته الهند الفَتيَّة. المقال الأول يتطرَّق إلى أمر يسوع الموجَّه إلى تلاميذه بأنْ "أعطوا قيصرَ ما لقيصرَ"، والثاني يتطرَّق إلى "واجب عدم الولاء". أراد غاندي في المقال الأول أنْ يُظهِرَ أنَّ العصيان المدني، وخلافًا لما يأخذه عليه بعضُ المسيحيين، لا يمكنه أنْ يتعارضَ مع تعاليم يسوع:

بما أنني أعتقد بأن سلوكي ينسجم انسجامًا تامًا مع الدين الكوني وبما أنني أُقَدِّرُ تعاليمَ العهد الجديد تقديرًا عاليًا، لا يسرُّني أنْ يكون صحيحًا أنْ يقال عني أنني أخالفُ تعاليمَ يسوع. ذُكِرَتْ عبارةُ "أعطوا قيصرَ" شاهدًا ضدي. وأنا لم أقرأِْ الآيةَ الشهيرةَ بالمعنى الذي حاول نُقَّادي إعطاءه إياها. فيسوع تحاشى السؤالَ المباشرَ الذي طُرِحَ عليه لأنه كان فخَّـًا. ولم يكنْ بأية حال مجبَرًا على الإجابة عليه. ولذلك طلبَ أنْ يرى القطعةَ المعدنيةَ التي تُدفَع بها الضريبةُ. وقال عندئذٍ بازدراء صاعق: "كيف يمكنكم رفْض دفع الضريبة، وأنتم تتاجرون بأموال قيصر وتحصلون بذلك على فوائدَ من حكومة قيصر؟" إنَّ كلَّ وعظ يسوع وكلَّ عملِه يُـعَـلِّمان بلا أدنى شك اللاتعاونَ الذي يتضمَّنُ بالضرورة عدمَ دفع الضريبة. لم يعترفْ يسوعُ أبدًا بسلطة الإنسان عندما تتعارض مع سلطة الله. فهو الذي لم يُـقِـمْ أيَّ وزنٍ لكلِّ الإكليروس الديني الذي كان في ذاك الوقت أعلى من المَلَكية ما كان ليتردَّدَ في تحدِّي سلطة الأباطرة إذا رأى ضرورةً لذلك. ألم يعامِلْ بازدراءٍ ما بعدَه ازدراءٌ كلَّ المحكمة المُضحكة التي قدَّموه إليها[3]؟

فيما يخصُّ "واجب عدم الولاء"، يؤكد غاندي بوضوحٍ أنَّ العصيانَ المدني لقوانينَ جائرةٍ تُبْـقي على نظام قمعي مفروضٌ على كل مواطن يريد المطالبةَ بحريته:

يقوم نظامُ الحكومة هذا علنًا على استغلالٍ لا رحمة فيه للملايين التي لا تحصى من سكان الهند. (...) ولهذا السبب يكون من واجب الذين يعرِفون حقَّ المعرفة الشرَّ المُرَوِّعَ الذي مارسَه نظامُ الحكومة أنْ يكونوا غيرَ موالين وأنْ ينادوا علنًا بعدم الموالاة. في الحقيقة، موالاةُ دولةٍ فاسدة إلى هذا الحد هو خطيئة وعدم موالاتها فضيلة.

إنَّ مشهد ثلاثمئة مليون شخص لا عزْم لهم يعيشون في الخوف من ثلاثمئة شخص هو مشهد محبِط للطغاة وللضحايا على حد سواء. إنَّ مِن واجبِ جميع الذين يعرفون حقَّ المعرفةِ الطبيعةَ المؤذيةَ لهذا النظام، حتى وإنْ استطاع أنْ يَظهَرَ جذَّابًا في بعض جوانبه التي خرجَتْ من سياقها، إنَّ مِن واجبِهم تدميرَه بدون أدنى تلكُّؤ. إنَّ مِن واجبهم العلني أنْ يركبوا جميعَ المَخاطر لبلوغ هذه الغاية.

غيرَ أنه يجب أنْ يكون أيضًا من الواضح أنَّ مِن الرعونةِ أنْ يحاولَ الثلاثمئةُ مليون شخص قَتْـلَ الثلاثمئة شخص من المسؤولين أو مسؤولي الإدارة في هذا النظام. (...) فالطريقةُ الأكثرُ فعاليةً لمساعدة أية إدارة هي إطاعةُ أوامرها وقراراتها. والإدارةُ السيئة لا تستحقُّ مثلَ هذا الولاء. فإطاعتُها يعني المشاركةَ في الشر. وبالتالي فإنَّ الإنسان الجيِّد يقاومُ بكل كيانه إدارةً أو نظامًا سيِّـئَين. وبالتالي فإنَّ عصيان قوانينِ دولةٍ سيِّئةٍ هو واجب. والعصيانُ العنيفُ يستهدفُ أناسًا يمكن أنْ يحلَّ غيرُهم محلَّهم. ويُبقي الشرَّ نفسَه بدون أنْ يُمَسَّ وغالبًا ما يُفاقِمُه. العصيانُ اللاعنفي، أي المدني، هو العلاج الوحيد الذي يمكنه أنْ ينجحَ؛ فهو إذًا واجبٌ على من يريد عدمَ التضامنِ مع الشر[4].

في الأول من نيسان/أبريل، وصلَ غاندي ورفاقُه إلى سورات Surat، وهي مدينة ومرفأ مهم يقع على شاطئ بحر عُمان. وحضرَ قرابةُ 80000 شخص لقاءً على شاطئ تابي [تاﭙـي] Tapi. فحدَّدَ غاندي بوضوحٍ في خطابه الهدفَ من حملتِه وكذلك وسيلةَ بلوغِ ذلك: يمتلك الهنودُ، برفضهم أيَّ تعاون مع نظام الحكومة الذي يُثـقِلُ كاهلَهم، قدرةَ شلِّ هذا النظام والتخلص بذلك من سلطانه. وهنا يحدِّد جيدًا الاستراتيجيةَ التي لا تهدف إلى هداية الإنكليز بل إلى إضعافهم:

ليس لدينا خيارٌ آخر غير فعلِ شيء من أجل مآسينا وآلامنا، انطلاقًا من ذلك فكَّرْنا بهذه الضريبة على المِلْح. (...) إنه قانون غير إنساني، قانون شيطاني. (...)

عندما نبدأ جميعًا في القيام بواجبنا لا يعود في مقدور أعتى حكومةٍ أنْ تقفَ في طريقنا. (...) ستُخرَقُ القوانينُ بسرعة. إحداها اليومَ، والأخرى غدًا. وعندما تُلغَى القوانينُ كيف ستتمكَّنُ الإمبراطوريةُ من الاستمرار في العمل؟ يجب على رؤساء القُرى وَجُباتِها أنْ يستقيلوا. (...) ماذا ستفعل الحكومةُ عندما يُنتزَع الخوفُ من قلوب الجُباة والموظَّفين؟ هل سترسل جنودًا من إنكلترا لتكلِّفَهم بالقيام بعمل رؤساء القرى وجُباتها؟ وأيّ عمل ستلجأ إليه الحكومةُ عندما يرفض الهندوسُ والمسلمون والمجوسُ جميعًا التعاونَ معها؟ لا يمكنها أنْ تفعلَ شيئًا. وسيصبح جميعُ أعضائها مشلولي الحركة. وبهذه الطريقة سيصبح الاستقلالُ في جيوبنا دون أنْ نُضْطَرَّ إلى القيام بأدنى جهد ودون أنْ يضطرَّ شخصٌ واحد إلى أنْ يذهبَ إلى السجن. (...)

مهما يحصل في الهند فأنا عازمٌ إمَّا على الموت ملتزمًا بالعصيان المدني وإما على الحصول على الاستقلال. (...) إذا بقيتُ حيًا إلى الغد فسأغادر من هنا بعد أنْ أحصلَ على بركاتكم. وأدعو المهتمين إلى مرافقتي[5].

وبينما يتقدَّم المسيرُ ويصبح غيرَ بعيد عن بلوغ نهايته، يستمرُّ نائبُ الملك في إظهار الانتهازية. بتاريخ 2 نيسان/أبريل، كتبَ غاندي إلى أحد مراسليه: "لا أستطيع أنْ أتنبَّـأَ متى سيعتقلونني. فالإشاعاتُ تنتشرُ هنا كلَّ يوم. وسلطانُ اللاعنف كبيرٌ إلى درجة أنهم لم يمتلكوا شجاعةَ اعتقالي"[6].

وبتاريخ 3 نيسان/أبريل 1930، توجَّهَ غاندي إلى قرَّاء مجلة الهند الفَـتيَّة ليعطيَهم تعليماتِه الأخيرةَ قبل البدءِ بحملة العصيان المدني:

إذا لم تَصْـدُرْ من الآن إلى ذلك الوقت تعليماتٌ مخالفةٌ فيجب عليهم أنْ يعتبروا هذه التعليماتِ إشارةً يجب بناءً عليها على جميع الذين يستطيعون وعلى جميع المستعدِّين أنْ يبدأوا بالعصيان المدني الجماهيري بشأن قوانين المِلْح ابتداءً من السادس من نيسان/أبريل. (...)

الشرطُ الوحيد للعصيان المدني هو التقيُّـد الصارم باللاعنف، بالمعنى الأقوى للكلمة. (...)

أينما يندلع العنفُ يتعيَّنُ على المتطوِّعين الموتُ من أجل محاولة تهدئته.

من أجل النجاح، لا غنى عن النظام والتعاون التام في قلب مختلف الوحدات.

إذا كان هناك صحوةٌ لدى الجماهير فيتعيَّن على الذين لم يلتزموا في العصيان المدني أنْ يعملوا في أية خدمة وطنية وأنْ يحُـثُّوا الآخرين على القيام بذلك، سواء فيما يتعلَّق بالغزْل أم بتنظيم جماعات مراقبة لمقاطعة الكحول والأفيون أو فيما يتعلَّق برفض استيراد قماش أجنبي أو بإصلاح القرى أو بمساعدة عائلات المقاومين المدنيين السجناء[7].

في الخامس من نيسان/أبريل 1930، وبعد خمس وعشرين يومًا من المسير، وصلَ غاندي ورفاقُه إلى دَنْدي [داندي] Dandi. كان غاندي بعدَ أنْ تركَ جماعتَه الأشرمَ يتوقَّع أنْ يُـعتقَـلَ حتى قبل بلوغِه شاطئَ المحيط. لذلك فهو شبهُ مندهش من موقف الحكومة التي آثَرَتْ عدمَ التدخُّـل. وحاولَ في تصريح له للصحافة أنْ يحلِّلَ الأسبابَ التي حدَتْ بالسلطات البريطانية إلى تبَـنِّي موقف كهذا:

حمدًا لله على ما يمكن تسميتُه بالخاتمة السعيدة للمرحلة الأولى للشيء الذي هو في نظري على الأقل النضالُ النهائيُّ من أجل الحرية. لا يمكنني أنْ أمتنعَ عن الثناء على الحكومة لسياسة عدم التدخُّـل التام التي تبَـنَّـتْها بحقِّنا خلال المسير. (...) وأنا لستُ مهيَّـأً إطلاقاً لعدم التدخُّـل المثالي هذا. ولستُ غبيًا حتى أتخيَّـلَ أنَّ الحكومة قد فقدَتْ فجأةً قدرتَها على إثارة نقمة الشعب وعلى معاقبته فيما بعد من خلال قَمع مُرَوِّع. بوِدِّي أنْ أُصَدِّقَ أنَّ عدمَ التدَخُّـل هذا يُعزَى إلى تغيُّـر حقيقي في المشاعر أو في السياسة. (...) التفسيرُ الوحيد الذي يمكنني أنْ أقدِّمه حول عدم التدَخُّـل هذا هو أنَّ الحكومة البريطانية، مهما كانت قويةً، تتأثَّرُ بالرأي العالمي الذي لا يتساهل في مسألة قمع معارضة سياسية جذرية كما هي الحال بلا شك في العصيان المدني مادام هذا العصيانُ مدنيًا وبالتالي لاعنفيًا بالضرورة.

يبقى أنْ نرى إنْ كانت الحكومةُ ستتساهل، كما تساهلَت في المسير، في الخَرْق الفعلي لقوانين المِلْح والذي سيقوم به اعتبارًا من الغد عددٌ لا يُحصَى من الناس[8].

في اليوم نفسه، أرسلَ رسالتَين. إحداها إلى الناس: "أطلب تعاطُفَ الناس في هذه المعركةِ، معركةِ الحقِّ ضد البطش (this battle of Right against Might)[9]." والأخرى إلى أمريكا:

أعلم أنَّ لديَّ أصدقاء لا يُحصَون في أمريكا ويتعاطفون بعمق مع هذا الكفاح، لكنَّ مجرَّدَ التعاطف لا يساعدني في شيء. ما أحتاج إليه هو التعبير الملموس للرأي العام لصالح حق الهند الثابت في الاستقلال ولصالح الموافقة التامة على الوسائل اللاعنفية تمامًا التي يتبنَّاها حزبُ المؤتمر الوطني للهند. بكل تواضع، ولكنْ بكل حقيقة، أؤكِّد أننا إذا بلغْنا غايتَنا بطُرُقٍ لاعنفية فستكون الهندُ قد قدَّمَت رسالةً للعالَم[10].

صرَّح غاندي في خطاب ألقاه في دَنْدي قائلاً:

غدًا، سنخرق قانونَ الضريبة على المِلْح. (...) ليس لديَّ أدنى شك في نفسي بأنَّ الضريبة على المِلْح ستُلغَى في الوقت الذي سيُتَّـخَذ فيه القرارُ بخَرْق القانون وفي الوقت الذي سيعاهد فيه بعضُ الرجال، مجازفين بحياتهم، على مواصلة الحركة حتى الحصول على الاستقلال.

إذا تساهلَت الحكومةُ بالعصيان المدني الذي أصبحَ الآنَ وشيكَ الحدوث فيمكنكم أنْ تتأكَّدوا من أنَّ الحكومة عازمةٌ أيضًا على إلغاء هذه الضريبة عاجلاً أم آجلاً. وإذا قامت الحكومةُ غدًا باعتقالي أو باعتقال رفاقي فلن يفاجئَني الأمرُ ولن أحزنَ بالتأكيد. سيكون من العبث أنْ أحزنَ إذا حصلْنا على ما كنا عنه باحثين.

ماذا سيحصل إذا اعتُـقِلْتُ وجميعَ القادةِ المُهمِّين في غوجارات Gujarat وفي باقي البلاد؟ تقوم هذه الحركةُ على الإيمان بأنه عندما تحشد الأمةُ بأكملها طاقاتِها وتقومُ بالمسير فلن تكون هناك ضرورةٌ لأي قائد. مِن بينِ مئات الآلاف من الأشخاص الذين باركونا خلال مسيرنا والذين استمعوا إلى خطاباتي، هناك الكثير منهم قد قرَّروا الانخراطَ في هذه المعركة. لا شيءَ غير ذلك يشكِّل عصيانًا مدنيًا جماهيريًا.

نحن الآنَ مصمِّمون على صناعة المِلْح بِحُـرِّية في كل مكان من بلادنا، كما كان أجدادنا يفعلون، وعلى بيعِه من مكان إلى مكان، وسنواصل العملَ على هذا النحو في كل مكان تتاح فيه إمكانيةُ ذلك وذلك حتى تستسلمَ الحكومةُ، إلى درجة أنْ يصبحَ احتياطي مِلْح الحكومة لا جدوى منه. فإذا كانت صحوةُ شعب هذا البلد حقيقيةً فسيُلغَى قانونُ المِلْح أو سِيَّانَ إنْ أُلغيَ أم لم يُلْغَ.

لكنَّ الهدف الذي نريد بلوغَه مازال بعيدَ المنال جدًا. في الوقت الحالي، وجهتُنا هي دَنْدي، لكنَّ وجهتَنا الحقيقيةَ ليست غيرَ معبدِ إلهة الاستقلال. فلن تكونَ نفوسُنا في سلام ولن نتركَ الحكومةَ أيضًا في سلام طالما أننا لم نتمكَّنْ من ملْء أعيننا من رؤية الاستقلال.

يجب على رؤساء القرى الذين استقالوا من مناصبهم أنْ يبرهنوا على وفائهم لكلامهم ويجب أنْ يعتبروا أنَّ مِن الخطيئةِ خدمةَ هذه الحكومة وذلك حتى يأتيَ الوقتُ الذي نحصل فيه على الحرية.

خلال هذه الأيام الأربعة أو الخمسة الأخيرة، تكلَّمْتُ أيضًا عن نشاطات بَنَّاءة أخرى، وإنه لينبغي القيامُ بها مباشرةً في إقليم جلالبور هذا. إنَّ مقاطعة سورات وإقليم جلالبور معروفان بعادة شرب الكحول. الآنَ وقد هبَّت رياحُ التطهير الشخصي هنا فمن المفروض ألاَّ يكونَ مِن الصعبِ كمهمَّةٍ استئصالُ آفة المشروب نهائيًا. هناك خطيئةٌ في كل ورقة نخيل. فقيمتُها الوحيدةُ هي في الخراب الذي تجلبه لنا. إنَّ هذه النبتةَ أشبهُ بالسم لنا. وبالتالي يجب قطعُ جميع أشجار النخيل.

في إقليم جلالبور، يجب ألاَّ يكونَ هناك شخصٌ واحد يحمل قماشًا أجنبيًا. (...) يجب أنْ تكون دَنْدي مكانًا مقدَّسًا لنا حيث يجب علينا ألاَّ ننطقَ بأي كذب وألاَّ نرتكبَ أيةَ خطيئة. يجب على كل من يأتي إلى هنا أنْ يأتيَ حاملاً شعورَ التقوى في قلبه. فإذا سِرْتُم قُدُمًا، إخوةً وأَخَواتٍ، كمتطوِّعين حقيقيين، وإذا انخرطتم في العصيان المدني لقانون المِلْح مهما كانت القوةُ التي تُهدِّد الحكومةُ باستخدامها ضدكم، وإذا نفَّـذْتم كلَّ ما يمكن أنْ يُطلَبَ منكم القيامُ به من جهة أخرى فستكون لدينا قدرةُ الحصول في يوم واحد على ما نعتبره حقَّنا منذ الولادة. (...)

وإذا لم تكونوا بعدُ قد ذهبْتُم لجمع المِلْح فَلْتجتمِعِ القريةُ كلُّها وتذهبْ لجمعِه. (...) يمكنكم اليومَ أنْ تُعاهِدوا على عدم أكل المِلْح الذي تُقدِّمه الحكومةُ. لديكم منْجمٌ من المِلْح على عتبة بابكم تمامًا. (...)

أولاً، من المفروض على الحكومة أنْ تُطبِّقَ الفصلَ رقم (124 أ) من قانون العقوبات على الشخص الذي صلَّى في كل وقت من أجل القضاء على الإمبراطورية والذي حاول أيضًا القضاءَ عليها – أيْ أنه من المفروض أنْ تطبِّقَه علَيَّ أنا. لكنَّ الحقيقة هي أنَّ الفصلَ (124 أ) لا يمكن تطبيقُه إلاَّ على شخص يرغب في الإطاحة بالحكومة من خلال التمرُّد أو العمل المسلَّح. ولا يمكن أبدًا تطبيقُه على شخص يرغب في القضاء على الإمبراطورية بالمعاناة الشخصية من خلال اتِّباع طريق اللاعنف والحقيقة. لكنني لستُ قاضيًا. حتى إنهم شطبوا اسمي من نقابة المحامين[11].

ترجمة: محمد علي عبد الجليل

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] المجلَّد 43، ص 60.

[2] مادلين سلاد Madeleine Slade، Dans l'intimité de Gandhi [بين أصدقاء غانديسبقَ ذِكْرُه، ص 70-71.

[3] المجلد 43، ص 131-132.

[4] المجلد 43، ص 132-133.

[5] المجلد 43، ص 162-165.

[6] المجلد 43، ص 166.

[7] المجلد 43، ص 170-171.

[8] المجلد 43، ص 179.

[9] المجلد 43، ص 180.

[10] المرجع السابق.

[11] المجلد 43، ص 181-185.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود