الصفحة السابقة             الصفحة التالية

غاندي المتمرد 4 : التحدِّي الكبير

جان-ماري مولِّر

 

بتاريخ 15 شباط/فبراير 1930، وخلال اجتماع اللجنة التنفيذية لحزب المؤتمر والذي انعقدَ في أشرم سَبَرْماتي، أعلنَ غاندي لأصحابه أنه قرَّرَ اختيارَ إلغاءِ القانون المتعلِّق بالمِلْح هدفًا لحملة العصيان المدني. وبحسبِ شهادة مادلين سلاد Madeleine Slade[1]، "عندما قَـدَّمَ باﭙـو Bapu[2] اقتراحَه الذي يطلبُ فيه خَرْقَ القوانين الخاصة بالمِلْح، قوبِلَ [غاندي] بتشكيك اللجنة. فصاحَ أعضاءُ اللجنة: «المِلْحَ! أتتوقَّعُ منَّا أنْ نذهبَ جميعًا ونبدأَ بجمع المِلْح[3]؟»" لكنَّ قدرةَ الإقناع لدى غاندي نجحَتْ في إقناع جميع أعضاء اللجنة الذين تبَـنَّوا القرارَ التالي:

وفقًا لما تراه اللجنةُ التنفيذية، ينبغي أنْ يقومَ بإطلاقِ حمْلة العصيان المدني والإشرافِ عليها أناسٌ يؤْمنون، من أجل بلوغ الاستقلال التام، باللاعنف عقيدةً جوهريةً. ونظرًا لأنَّ حِزْبَ المؤتمر Congrès يتضمَّنُ في تنظيمه ليس فقط مثلَ هؤلاء الرجال والنساء، بل يتضمَّن أيضًا أُناسًا يَـقْـبَـلون باللاعنف سياسةً لا غنىً عنها في الظروف السائدة حاليًا في بلادنا، فإنَّ اللجنةَ التنفيذيةَ تُرَحِّبُ باستحسانٍ باقتراح المهاتما غاندي وتجيزُ له وكذلك للذين يعملون معه ويؤْمنون باللاعنف عقيدةً إيمانيةً، كما أشيرَ إلى ذلك آنِفًا، أنْ يُطْلِقوا حمْلةَ العصيانِ المدني في الوقت الذي يرغبون فيه وبالطريقة وبالمدى الذي يقرِّرونه. وتأملُ اللجنةُ التنفيذيةُ بكل ثقةٍ أنْ يقومَ جميعُ أعضاءِ حزب المؤتمر وآخرون أيضًا، عندما يتم إطلاقُ الحملة فعليًا، بتقديم تعاونِهم التام وبكل الطُّرُق الممكنة للمقاوِمين المدنيين وأنْ يراعوا ويحافظوا على لاعنفٍ تام على الرغم من الاستفزازات التي يمكن أنْ تحصل. كما تأمل اللجنةُ التنفيذيةُ أنْ يقومَ، عند احتمال قيام حركة جماهيرية، جميعُ الذين يتعاونون بصورة إرادية مع الحكومة، كالمحامين، والذين يحصلون منها على مكاسبَ مزعومةٍ، كالطلاب، أنْ يقوموا بإيقاف تعاونهم أو بالتنازل عن مكاسبهم وذلك حسب الحالة وأنْ يلتزموا في الكفاح النهائي من أجل الحرِّية. وتأمل اللجنةُ التنفيذيةُ بثقةٍ وذلك في حال اعتقال القادة وسجنهم أنْ يقومَ الذين يبقون أحرارًا ويمتلكون روحَ التضحيةِ والخدمةِ بالنيابة عن القادة في تنظيم حزب المؤتمر وبقيادة الحركة بأفضل ما لديهم من كفاءات[4].

يَـعْـلَم غاندي بالخبرة أنَّ دعوتَه للعصيان المدني تنطوي على خطرِ إثارةِ بعض ردود أفعال عنيفة في أوساط الشعب الهندي. غيْرَ أنه يرى في نهاية الأمر أنَّ العنفَ الذي يُلحِقُه الاستبدادُ البريطانيُّ بالشعبِ الهنديِّ أخطرُ بكثيرٍ من العنف الذي يمكن أنْ يلجأَ إليه الشعبُ الهنديُّ للتحرُّر من الاستبداد البريطاني. وفي هذه المرة، إذا حصلَت أحداثٌ فسـيُـتَّـخَـذُ قرارٌ بعدم وقف حركة المقاومة كما ظنَّ أنه يجب عليه فِعلَه في عام 1922[5]. لقد صرَّحَ أحدُ قادةِ حزب المؤتمر بهذا الشأن لأحد الصحفيين: "(...) ما يحصل يوميًا باسمِ النظام الاجتماعي ليس في الواقع إلاَّ القضاءَ على القوى الحية وحتى على روح هذا الشعب". وقد كتبَ جاك شاستونيه Jacques Chastenet في المجلَّة السياسية والبرلمانية Revue politique et parlementaire الصادرةِ بتاريخ 10 نيسان/أبريل 1930 راويًا هذا التصريحَ:

هذه هي الكلمةُ الطَّـنَّانةُ التي أُطلِقَت على عواهنها والتي تجعل الحركةَ الغانديةَ محترمةً ومُرَوِّعةً في آنٍ واحد: إنها «روح» الهند. مقابلَ مثل هذا الدافع تحطَّمَت كلُّ جهود المحتل من أجل تقديم رفاهية أكثر وأمن أكثر للشعب الهندوسي. هذان الخصمان، ونظرًا لكونهما ليسا على مستوى واحد، محكومٌ عليهما بأنْ يظلاَّ غيرَ قابلَينِ للمصالحة.

فـجاك شاستونيه Jacques Chastenet، من جهته، أرادَ أنْ يضعَ نفسَه على المستوى نفسِه "للمحتل" البريطاني وختمَ يومياتِه حول "الاضطراب الغاندي" مؤكدًا على أنه من مصلحة المحتل الفرنسي في الهند الصينية [شبه الجزيرة الهندية الصينية] l'Indochine أنْ تُحافظَ إنكلترا على هيمنتها على الهند، فكتب يقول:

لا بد أنَّ فرنسا، كقوة عظمى آسيوية، ترغب في أنْ تنجحَ جارتُها في أنْ تستعيدَ من بلاد الهند – غيرِ البعيدة جدًا عن الهند الصينية – جزءًا على الأقل من الأراضي المفقودة.

وفي مقال نُشِرَ بتاريخ 27 شباط/فبراير في مجلَّة الهند الفَـتِـيَّـة، برَّرَ غاندي قرارَه بتحدِّي الحكومة البريطانية عندما طلبَ من الهنود أنْ يعْصوا علنًا القانونَ الذي يُجْبرُهم على دفع ضريبة على المِلْح:

إلى جانب الهواء والماء، قد يكون المِلْحُ أكبرَ ضرورةٍ من ضرورات الحياة. فهو التابَِـلُ [أَفاوِيةُ الطعام] الوحيد للفقير. فالماشيةُ لا يمكنها أنْ تعيشَ بدون مِلْح. والمِلْح مادةٌ ضروريةٌ في عدة صناعات. إنه سماد غني أيضًا.

ما عدا الماءَِ، ليس هناك من مادة كالمِلْح تُـمَـكِّنُ الضريبةُ عليها الدولةَ من أنْ تؤذيَ ملايينَ الجائعين والمرضى والعاجزين والفقراء المُعْدَمين. وبالتالي، تُشكِّلُ هذه الضريبةُ أكثرَ ضريبةٍ غيرِ إنسانيةٍ يمكن لدهاء الإنسان أنْ يتصوَّرَها. (...) والنتيجةُ الحتميةُ لاحتكار المِلْح كانت التدميرَ، أيْ إغلاقَ المشاغلِ في آلاف الأماكن التي كان الفقراءُ يُصَنِّعون فيها مِلْحَهم. (...)

اللاشرعيةُ هي أنْ تقوم حكومةٌ ما بسرقة مِلْح الشعب وبجعلِه يدفع ثمنًا باهظًا لقاءَ السلعة المسروقة. سيكون من حق الشعب، عندما يعي سلطتَه، أنْ يضعَ يدَه على الشيء الذي يمتلكُه[6].

وفي مقال آخر نُشِرَ في مجلَّة الهند الفَـتِـيَّـة بتاريخ اليوم نفسِه، يُقدِّم غاندي تعليماتٍ دقيقةً للهنود الذين سينخرطون في حركة المقاومة المدنية:

بقدر ما يعنيني الأمرُ، أنوي عدمَ البدء بالحركة إلاَّ مع أعضاء الأشرم ومع الذين خضعوا لنظامه وتمثَّلوا روحَه ومناهجَه. وبالتالي فإنَّ الذين سينخرطون في الكفاح سيكونون مجهولين. (...)

عندما تكون الحركةُ قد أُطلِقَتْ فعليًا فإنني آملُ في الحصول على استجابة البلاد بأسْرِها. عندئذٍ سيكون من واجب كل فردٍ من هؤلاء الذين يريدون إنجاحَ الحركة أنْ يبقى لاعنفيًا ومنضبطًا. سيكون لزامًا على كل فرد أنْ يبقى في موقعه إلاَّ إذا دعاه رئيسُه. فإذا كانت هناك استجابةٌ عفوية من الجماهير، كما آمل، وإذا كانت الخبرةُ الماضيةُ قد علَّمَت درسًا فإنها ستكون منضبطةً ذاتيًا تمامًا. لكنَّ جميعَ الذين يَقْبلون باللاعنف عقيدةً جوهريةً أو منهجًا سياسيًا ينبغي عليهم المشاركةُ في هذه الحركة الجماهيرية. فالحركاتُ الجماهيريةُ في كل أصقاع العالَم قد فرزَتْ قادةً غيرَ متوقَّعين. ومن المفروض ألاَّ تكونَ هذه الحركةُ استثناءً على القاعدة. وبالتالي، بينما ينبغي بَذْلُ جميعِ الجهود الممكنة والقابلة للتصور مِن أجل احتواء قوى العنف، لا يعود هذه المرةَ من الممكن إيقافُ العصيان المدني بعد أنْ يبدأَ ولا ينبغي إيقافُه مادام هناك مقاوِمٌ مدني حُـرٌّ أو حي. لا بدَّ لكلِّ مُناصر لِلاَّعنف أنْ يجدَ نفسَه في أحد المواقف التالية:

1.     في السجن أو في وضع مشابه؛

2.     أو ملتزم في العصيان المدني؛

3.     أو بناءً على تعليمات، يعمل على بكرة المِغْزَل أو يمارس عملاً بَنَّـاءً يُـقرِّبُ الخُطى من الاستقلال[7].

ويسرد غاندي في العدد نفسِه من مجلَّة الهند الفَتِيَّة التعليماتِ التي يجب أنْ يراعيَها جميعُ المتطوِّعين الذين سينخرطون في المقاومة اللاعنفية:

ساتياغراها Satyagraha تعني حرفيًا الإصرارَ على البحث عن الحقيقة. هذا الإصرارُ يُسَـلِّح مَن يختارُ هذا الطريقَ بقدرةٍ لا مثيلَ لها. (...) حيث لا يمكنُ أبدًا للقوة التي ينبغي ممارستُها على هذا النحو أنْ تكونَ قوةً جسديةً. وبالتالي فإنَّ القوة الوحيدة الصالحة لكل زمان ومكان لا يمكن إلاَّ أنْ تكونَ قوةَ الأهيمسا ahimsa، أيْ قوة المَحبَّة. (...)

المقاوِمُ المدنيُّ يتألَّمُ بفرح، حتى ولو وصلَ به الأمرُ إلى الموت. ينجم عن ذلك أنَّ المقاوم المدني، بينما هو يبذلُ قُصارى جهدِه للتحضير لإنهاء السلطة القائمة، لا يُسبِّب أيَّ أذىً، سواءً بالفكر أم بالقول أم بالعمل، لشخصِ أيِّ إنكليزي. هذا الشرح المختصر بالضرورة عن الساتياغراها ربما سيتيح للقارئ فَهْمَ القواعد التالية وتقديرَ قيمتِها:

بصفتِه فردًا

1. على المقاوِم المدنيّ ألاَّ يغذِّيَ أيَّ شعور بالغضب.

2. يتحمَّـلُ غضبَ الخصم.

3. وعليه، يصبر على اعتداءات الخصم دون أنْ ينتقمَ بتاتًا؛ لكنه لا يخضع، خوفًا من عقاب أو أي تهديد آخر، لأيِّ أمرٍ يُعطَى له تحت تأثير الغضب.

4. إذا أراد ممثلٌ عن السلطة توقيفَ مقاوِم مدني فإنَّ على هذا المقاوِم أنْ يخضعَ إراديًا للتوقيف ولا يعارضَ حجْزَ أموالِه أو الاستيلاءَ عليها، هذا على افتراض حصول ذلك، عندما تسعى السلطاتُ إلى مصادرتها.

5. إذا كان في حوزة المقاوم المدني مالٌ قد عُهِدَ إليه أمانةً فإنَّ عليه أنْ يرفضَ أنْ يأخذَ أحدٌ منه ما ائْـتُمِنَ عليه حتى لو كان عليه أنْ يفقدَ حياتَه دفاعًا عنه. وبالمقابل، لا يقابِلُ الشرَّ بالشرِّ أبدًا.

6. رفضُ الانتقام يُبْـعِد كلَّ شتيمة وكلَّ مسبَّة.

7. وعليه فإنَّ المقاوم المدني لا يشتم خصمَه أبدًا ولا يستخدم أيَّ شعار من الشعارات العديدة التي وُضِعَت مؤخَّرًا والتي تتنافى مع روح اللاعنف.

8. المقاوِمُ المدنيُّ لا يحيِّي العَلَمَ البريطانيَّ، لكنه بالمقابل لا يشتمه أيضًا، ولا يشتم الموظَّفين، إنكليزًا كانوا أم هنودًا.

9. إذا قام أحدٌ خلال الكفاح بشتم موظَّف أو بالاعتداء عليه فإنَّ على المقاوم المدني أنْ يحميَه حتى ولو خاطرَ المقاوِمُ بحياتِه.

بصفتِه سجينًا

10. يتصرَّف المقاومُ المدنيُّ، بصفتِه سجينًا، مع موظَّفي السجنِ بكل تهذيبٍ ويراعي جميعَ أنظمة السجن التي لا تتنافى مع احترام الذات؛ فعلى سبيل المثال، عندما يُحْـيِّي الموظَّفين بالطريقة الاعتيادية، لا يقومُ بأية حركةٍ مُهِيْنةٍ ويرفض أنْ يناديَ بشِعارِ «عاشت الحكومةُ» أو بأي شعار آخر مشابه. ويَتَقَـبَّـلُ الطعامَ المُـعَـدَّ بطريقة لائقة والمقدَّمَ بطريقة لائقة عندما لا يتعارض مع دِينِه ويرفض الطعامَ المقدَّمَ بطريقة مُهِيْنةٍ أو المقدَّمَ بأوانيَ متَّسخة.

11. لا يقوم المقاوِمُ المدنيُّ بأيِّ تمييزٍ بينَه وبين السجين العادي، ولا يَعتبِرُ نفسَه أعلى من الآخرين ولا يطلب أيةَ رفاهيةٍ غيرَِ لازمةٍ للحفاظ على جسده في صحة جيدة وفي حالة حَسَنة. ويحق له طلبُ الاستفادة من وسائل الراحة الضرورية لراحته الجسدية والروحية.

12. لا يمكن للمقاوم المدني أنْ يصومَ من أجل طلب وسائل راحة لا يؤدِّي الحرمانُ منها إلى أي مَساسٍ بكرامته.

بصفتِه عضوًا في جماعة

13. على المقاوم المدني أنْ يخضعَ بكل سرور لجميع الأوامر التي يُصدِرُها قائدُ الجماعة، سواء أعجَبَـتْه أم لم تُعجبْه.

14. في بادئ الأمر، عليه أنْ يُنَـفِّـذَ الأوامرَ حتى وإنْ بدَتْ له مُهيْنةً أو عدائيةً أو غبيةً، ثم يقوم فيما بعدُ بالاعتراض لدى السلطة الأعلى. وقبْـلَ أنْ ينضمَّ إلى الجماعة يكون حرًا في النظر إنْ كان يناسبه نظامُها، ولكنْ بعدَ أنْ ينضمَّ إليها يصبح لزامًا عليه الخضوعُ لنظامها سواء أكان مكروهًا أم لا. وإذا كان الكَمُّ الإجماليُّ لعمل الجماعة يبدو لأحد الأعضاء غيرَ مناسب أو منكَر فإنَّ له الحقَّ في أنْ يوقفَ اشتراكَه فيها، ولكنْ عندما ينتسب إليها لا يحق له مخالفةُ نظامها.

15. ليس على أي مقاوم مدني أنْ يتأمَّلَ في أنْ يقومَ أحدٌ بإعالة الأشخاص المسؤول عنهم. وقد لا يكون من الطبيعي الاستعداد لمثل ذلك. فالمقاوم المدني يستودِعُ اللهَ الأشخاصَ المكلَّف بإعالتهم. فحتى في حرب اعتيادية يشارك فيها مئاتُ الألوف من الأشخاص، ليس من الممكن لهم أنْ يتَّخذوا مسبقًا أيَّ استعداد. من بابٍ أَولى، أليس من المفروض أنْ يكون الأمرُ كذلك في المقاومة اللاعنفية؟ فالتجربةُ العالمية تُظهِرُ أنه في عصور كهذه لم يُترَكْ أحدٌ يموتُ من الجوع.

في الصراعات بين الطوائف

16. لا يمكن لأي مقاوم مدني أنْ يصبحَ عن عمْدٍ سببًا لنزاع بين الطوائف.

17. وفي حالة حصول نزاع مشابه، لا يتحيَّزُ لفئةٍ، بل يقدِّم دعمَه للفريق الذي يمكن أنْ يَـثْـبُتَ أنه مع حقوقه. فإذا كان هندوسيًا يكون كريمًا مع المسلمين وغيرِهم ويَقْبل بأنْ يضحِّيَ بنفسه لمحاولة حماية غير الهندوس من اعتداء الهندوس. وإذا جاء الاعتداءُ من المعسكر الآخر فلا يشاركُ في أية عملية انتقام، بل يقدِّم حياتَه لحماية الهندوس.

18. يعمل كلَّ ما بوسعه لتجنُّبِ أية فرصة لإشعال نزاعات بين الطوائف.

19. إذا كانت هناك مسيرةٌ للمقاومين المدنيين فإنَّ عليهم ألاَّ يفعلوا أيَّ شيء من شأنه أنْ يؤثِّرَ سلبًا على الحساسيات الدينية لأية طائفة وألاَّ يشاركوا في أية مسيرة أخرى من شأنها أنْ تثيرَ مثل هذه الحساسيات[8].

هذه التعليماتُ التي أعطاها غاندي للهنود الملتزمين طوعًا في حركة العصيان المدني إنما هي تعليمات صارمة جدًا، وأحيانًا قاسيةٌ جدًا، وخاصةً عندما يتكلَّم عن النظام الذي يجب عليهم أنْ يُلزِموا أنفسَهم به. ولكنْ عندما يطلب، في هذا الصدد، مِن المقاومين المدنيين إطاعةَ الأوامر "حتى وإنْ بدَتْ لهم مهينةً (insulting)"، ألا ينبغي ربما تذكيرُه بوجودِ حقِّ اعتراضِ الضميرِ الذي يسمح لكل شخص أنْ يرفضَ طاعةَ أمرٍ يبدو له جائرًا؟

في الثاني من آذار/مارس 1930، وجَّهَ غاندي رسالةً إلى نائب المَلِك، اللورد إيروين Lord Irwin، يرسل له فيها إنذارًا نهائيًا من خلال إِخطارِه بأنه إذا لم يُـلَـبِّ المطالبَ الأساسيةَ للشعب الهندي فإنه سينظِّم ابتداءً من الحادي عشرَ من آذار/مارس حملةَ مقاوَمةٍ مدَنيَّة من خلال خَرْق قانون المِلْح عن سابق الإصرار والتصميم. هذا النص هو بالتأكيد أحد أهم النصوص التي كتبَها غاندي على الإطلاق:

صديقي العزيز،

قبل أنْ أَشْرَعَ في حملة عصيان مدني وأَرْكَبَ مخاطرَ قد خشيتُ اقتحامَها على مر كل هذه السنوات، أراني مُلْزَمًا بأنْ أتوجَّهَ إليكم بهدف السعي إلى إيجاد مَخْرج.

إيماني الشخصي واضح جدًا. لا يمكنني أنْ أقومَ عمدًا بأَذِيَّة أي كائن حي، ولا بأَذِيَّة إخواني البشر من بابٍ أَولى، حتى وإنْ سبَّبوا لِيْ ولِذَويَّ أعظمَ الأذى. وبالتالي، وعلى الرغم من أنني أعتبِرُ النظامَ البريطانيَّ لعنةً، ليست لديَّ النيةُ في إيذاء أي إنكليزي أو في الإضرار بالمصالح المشروعة التي يمكن أنْ يمتلكها هذا النظامُ في الهند.

يجب أنْ تفهموني جيدًا. فعلى الرغم من أنني أرى النظامَ البريطانيَّ لعنةً، لا أعتبرُ مع ذلك أنَّ الشعبَ الإنكليزي عمومًا أسوأ من أي شعب آخر على الأرض. وأعتبر مَكْرُمةً لي أنْ أَعُـدَّ عددًا من الإنكليز من بين أصدقائي الأعزّ على قلبي. وفي الحقيقة، يعود الفضلُ في جزء كبير مما تعلَّمْتُه عن حب النظام البريطاني للأذى إلى كتاباتِ أشخاص إنكليزيين صادقين وشجعان لم يتردَّدوا في قول الحقيقة البشعة عن هذا النظام.

لماذا أعتبِرُ النظامَ البريطانيَّ لعنةً؟

لأنه أفقرَ الملايين من البشر الذين أرغمَهم على السكوت نظامُ استغلال تدريجي وإدارةٌ مدنيةٌ وعسكريةٌ لا تجلب إلاَّ الخرابَ وتتجاوزُ إمكانياتِ البلاد.

سياسيًا، أوصلَنا إلى حالة من العبودية. وهدمَ مؤسساتِنا الثقافية من أساسها. ومن خلال سياسةٍ قاسية لنزع السلاح أخَّرَنا روحيًا. وبعدَ أنْ أصبحْنا ضعفاء، أَوصَلنَا، من جَرَّاء هذا النزع الكامل للسلاح، إلى حالة قريبةً من حالة العجز التام.

مع كثير من أبناء بلدي، واصلْتُ الأملَ في أنْ يتمكَّنَ مؤتمرُ المائدة المستديرة من تقديم حل. ولكنْ عندما قلتم بوضوحٍ أنكم لا أنتم ولا الحكومة البريطانية تستطيعون أنْ تضْمنوا لنا التزامَكم بدعم مشروع نظام الدومينيون، فإنَّ مؤتمر المائدة المستديرة لم يعدْ في استطاعته أنْ يقدِّمَ الحلَّ الذي ينتظره بصورةٍ واعيةٍ الهنودُ الذين يُعَبِّرون عن رأيهم وينتظره بصورة غير واعية الهنودُ الذين يلتزمون الصمتَ. (...)

هذه المَظالمُ المذكورةُ أعلاه قد أُبقِـيَتْ بهدف الإنفاق على إدارة أجنبية ثَبُتَ أنها الأكثرُ كِلْفةً في العالَم. خذوا راتبكَم مثالاً على ذلك. (...) أنتم تكسبون أكثرَ من 700 روبية roupie يوميًا، بينما متوسِّطُ الدخل في الهند أقلُّ من أنَّـتَينِ annas اثنَينِ يوميًا [الأنَّـــة l’anna = 1/16 من الروبية]. وهكذا فإنكم تكسبون دخلاً أكبرَ من الدخل المتوسط في الهند بأكثر من خمسمئة مرة. [بينما] يكسب رئيسُ الوزراء البريطاني دخلاً أكبرَ من الدخل المتوسط في بريطانيا العظمى بتسعين مرة فقط. بكل خضوع أطلبُ إليكم التفكيرَ في هذه الظاهرة. وقد قدَّمْتُ مثالاً شخصيًا لأوضحَ حقيقةً مؤلمة. إنَّ تقديري لكم كإنسان أكبر من أنْ يجعلني أجرح مشاعرَكم. وأنا على عِلْمٍ بأنكم لا تحتاجون إلى الراتب الذي تكسبونه. فمِن المُرَجَّحِ أنْ يذهب راتـبُكم بكامله لأعمال خيرية. لكنَّ النظام الذي يُنتِج مثلَ هذه الفوضى يستحقُّ الرفضَ سريعًا. وما ينطبق على راتب نائب الملك ينطبق بصورة عامة على كل الإدارة.

وبالتالي فإنَّ أيَّ تخفيض جذري لإيراد الدولة منوطٌ بتخفيض جذري أيضًا لنفقات الإدارة. هذا يعني تغييرَ مشروع الحكومة. وهذا التغييرُ مستحيل بدون الاستقلال. هذا ما يفسِّر، في رأيي، المظاهرةَ العفويةَ التي جرت بتاريخ 26 كانون الثاني/يناير والتي شاركَ فيها مئاتُ الآلاف من القرويين بدافع الفطرة فقط. فهم يرون أنَّ الاستقلال يعني التحرر من عبء فادح.

على ما يبدو لي، ليس هناك أيُّ حزب من الأحزاب السياسية البريطانية الكبرى مستعد للتخلِّي عن الغنيمة الهندية التي تستفيد منها بريطانيا العظمى يومًا بعد يوم، على الرغم من معارضة الرأي العام الهندي بالإجماع.

إذا كان على الهند أنْ تحيا كأُمَّة، وإذا أرادوا إيقافَ العملية التي تدفع بشعب الهند إلى الموت البطيء من الجوع، فيجب مباشرةً إيجادُ علاج من شأنه أنْ يخفِّفَ عنه. فالمسألةُ لم تعدْ اللجوءَ إلى حجج للإقناع. ستجد المشكلةُ حلَّها بنفسها عن طريق إحدى القوَّتين المتواجهتين. إنَّ بريطانيا العظمى، أمامَ حججٍ مقنِعة أو غير مقنعة، ستُدافع عن تجارتها وعن مصالحها في الهند باستخدام جميع القدرات التي تمتلكها. يجب على الهند، بالنتيجة، أنْ تستجمعَ قوةً كافيةً لتتمكَّنَ من تحرير نفسها من كابوس الموت. (...) ففريقُ العنف آخِذٌ في كسْبِ مكانةٍ وإحداث وقْعٍ له. هدفُه كهدفي. لكنني مقتنع بأنه لا يستطيع التخفيفَ عن الملايين من الهنود الذين يتألَّمون بصمت. وقناعتي تعمَّقَتْ أكثرَ فأكثرَ في أنْ لا شيءَ غير اللاعنف، بشرط أنْ يكون صِرفًا، يمكنه أنْ يُحبِطَ العنفَ المنظَّمَ للحكومة البريطانية. كثيرٌ من الناس يظنُّون أنَّ اللاعنف ليس قوةً فعَّالة. وتجربتي، على محدوديتها، تُظهِرُ أنَّ اللاعنف يمكن أنْ يكونَ قوةً فعَّالةً جدًا. ونيَّتي هي تحريكُ هذه القوةِ سواء ضدَّ عنفِ السلطة البريطانية المنظَّمِ أم ضدَّ العنف غير المنظَّم لفريق العنف الذي تتزايد أعدادُه. والبقاءُ قاعدين بلا حركة يعني إطلاقَ العِنان لهذين العُـنْـفَـينِ. ونظرًا لأنَّ إيماني باللاعنف غير مشروط وراسخ فإنني سأكون مذْنِبًا لو انتظرْتُ أكثرَ من ذلك.

يُـعَـبَّـرُ عن هذا اللاعنف من خلال العصيان المدني؛ حاليًا لا يخصُّ هذا اللاعنفُ إلاَّ أفرادَ جماعتنا (الأشرم)، لكنه لا بد أنْ ينتهيَ به الأمرُ إلى أنْ يصبحَ موجَّهًا إلى جميع الذين يختارون الانضمامَ إلى الحركة بحدودها الواضحة.

أعْلَم أنني بانخراطي في اللاعنف سأواجهُ خطرَ إمكانيةِ أنْ يُعتبَرَ اللاعنفُ عبثًا وهذا مبرَّر. لكنَّ انتصاراتِ الحقيقة لم يتمَّ إحرازُها أبدًا بدون مخاطرَ، وغالبًا ما تكون أعظمَ المخاطر. إنَّ ما يبرِّرُ جميعَ هذه المخاطر هو هدْيُ conversion أمَّةٍ جعلَت بطريقة واعية أو غير واعية فريستَها أمةً أخرى أكثر منها عددًا وأعرق منها وليست أقلَّ ثقافة منها.

وقد استخدمْتُ عمدًا كلمةَ هَدْي conversion. لأنَّ طموحي ليس أبدًا أقلَّ مِن هَدْيِ الشعبِ البريطاني عن طريق اللاعنف ومِن جعْلِه يدرك الأذى الذي سبَّبه للهند. ولا أسعى إلى التسبب بأذى لشعبكم. بل أريد خدمتَه كما أخدم شعبي. وأعتقد أنني خدمتُهما دائمًا. خدمتُهما بصورة عمياء حتى سنة 1919. ولكنْ عندما تفتَّحَت عينايَ وأدركْتُ اللاتعاونَ، كان هدفي أيضًا هو خدمتهما. (...) فإذا انضمَّ الشعبُ إليَّ، كما آملُ، فإنَّ الآلام التي صبرَ عليها، إلاَّ إذا قرَّرَت بريطانيا العظمى سريعًا جدًا التراجعَ، ستكفي لتُحرِّكَ مشاعرَ أقسى القلوب.

سيكون الهدفُ من وراء تنظيم العصيان المدني هو محاربة الشرور كتلك التي كنتُ قد عدَّدْتُها. فإذا كنا نريد قَطْعَ علاقاتنا مع بريطانيا العظمى فذلك بسبب مثل تلك الشرور. إذًا، الطريقُ مفتوح نحو مفاوضات ودية. عندما تخلو التجارةُ البريطانيةُ من الجشع فلن يعودَ لديكم أيةُ مشكلة في الاعتراف باستقلالنا. أطلبُ منكم إذًا بكل احترام أنْ ترسموا الطريقَ نحوَ وضعِ حد لهذه الشرور مباشرةً وأنْ تشُقُّوا بذلك الدربَ لمؤتمر حقيقي يجمع أناسًا متساوين فيما بينهم. لقد قمتم بلا جدوى بالتركيز على المشاكل الطائفية التي تصيب لسوء الحظ هذه البلادَ. فعلى الرغم من أنَّ هذه المشاكل مهمة بلا أدنى شك من أجل دراسة أي مشروع للحكومة، فإنَّ لها تأثيرًا قليلاً على المشاكل الأهم التي تتخطَّى الطوائفَ وتصيبها جميعًا بالطريقة نفسها. لكنْ إذا لم ترَوا أيَّ علاج لهذه الشرور وإذا لم تلامسْ رسالتي قلبَكم، فسأشرع عندئذٍ في اليوم الحادي عشر من هذا الشهر بخرق أحكام قانون المِلْح أنا وجميع أصحابي الذين يتمكَّنون من الانضمام إليَّ. فمن وجهة نظر الفقير، أعتبر هذه الضريبةَ أكثرَ الضرائب جورًا. وبما أنَّ حركة الاستقلال تهدف بصورة رئيسية إلى خدمة أكثر الناس فقرًا في هذه البلاد، فإنها ستبدأ بالتصدِّي لهذا الشر. العجيبُ في الأمر هو أننا خضعْنا فترةً طويلةً جدًا لهذا الاحتكار القاسي. أَعْـلَم أنَّ باستطاعتكم أنْ تُحبِطوا مشروعي من خلال توقيفي. فإنني آملُ أنْ يكون هناك عشراتُ الآلاف من الأشخاص المستعدِّين بطريقة منظَّمة لمواصلة هذه المهمة من بعدي ولتعريضِ أنفسِهم، بعصيانهم قانونَ المِلْح، للعقوبات التي نصَّ عليها قانونٌ كان من المفروض منه ألاَّ يشوِّهَ أبدًا القانونَ المدني.

لا أرغب، بقدر المستطاع، أنْ أسبِّبَ لكم أيَّ إرباك. فإذا رأيتم أنَّ لرسالتي فائدةً ما، وإذا رغبتم في بحث أية مسألة معي، وإذا أحببتم، لأجل ذلك، أنْ أُؤجِّـلَ نشرَ هذه الرسالة، فسأكون سعيدًا بالقيام بذلك إذا أرسلتم لي بعد تسلُّمها بقليل برقيةً تطلب مني ذلك. مع ذلك، تكونون قد تفضَّلْتم علَيَّ إذا لم تصرِفوني عن طريقي، اللهمَّ إلاَّ إذا لم تجدوا إمكانيةَ التقيد بمضمون هذه الرسالة.

لا تعني هذه الرسالةُ تهديدًا بأي شكل كان؛ إنها تأديةُ واجب بسيط ومقدَّس يقع على عاتق أي مقاوم مدني. ولهذا السبب أنقلها إليكم عن طريق عناية شابٍّ إنكليزي صديق يؤْمن بقضية الهند ويؤْمن كلَّ الإيمان باللاعنف والذي أرسلَتْه العنايةُ الإلهيةُ إليَّ لهذه الغاية.

أبقى صديقكم المخْلص[9].

هذا الشاب الإنكليزي الصديق لغاندي هو ريجينالد رينولدز Reginald Reynolds، وهو كويكري quaker [أحد أعضاء "جمعية الأصدقاء" Friends الدينية، الكويكرز "الهزّازين" Quakers] يعيش في أشرم سَبَرْماتي. وفي اليوم التالي تمامًا، سلَّمَ الرسالةَ للسكرتير الخاص لنائب الملك.

لم يقتنع اللورد إيروين بتاتًا بإنذار غاندي ولم يتأثَّرْ به فأجابه عن طريق سكرتيره الخاص، ج. كانينغهام G. Cunningham، بالكلمات التالية:

طلبَ مني سيادة نائب الملك أنْ أبلغَكم بتسلُّم رسالتكم المؤرَّخة في 2 آذار/مارس. ويؤسفه إعلامكم أنكم تنوون تبَنِّي خطَّ سلوك يتضمَّن بوضوح خرْقَ القانون وتعريضَ السِّـلْم العام للخطر[10].

في 12 آذار/مارس، اليوم نفسه لبداية الحملة، نشرَ غاندي في مجلة الهند الفَـتيَّة مقالاً علَّقَ فيه بهذه الكلمات على رد نائب الملك:

كنتُ أطلبُ بكل خضوع خبزًا، فتلقَّيتُ بدلاً من الخبز حجرًا. كنتُ أتوقع أنْ يُهدِّئَني نائبُ الملك بإلغاء الرسم على مِلْح الفقير الذي تُكلِّفه الضريبةُ عليه خمس أنَّات annas سنويًا، أي ما يعادل ثلاثةَ أيام من دخله. (...) كنتُ أنتظر أنْ يفعلَ نائبُ الملك أشياءً أخرى كثيرةً باستثناء أنْ يرسلَ لي الجوابَ الاعتيادي. لكنَّ الوقت لم يأتِ بعدُ لأجل هذا. إنه يمثِّل أمَّةً لا تستسلم بسهولة، لا تتأسَّف بسهولة. ولا يمكن للتوسل أبدًا أنْ يقنعَها. ولا تقيم وزنًا إلاَّ للقوة المادية. (...) وعلى الرغم من وجود غابة من الكتب التي تحتوي على قواعدَ وأنظمةٍ فإنَّ القانونَ الوحيدَ الذي تعرفه الأمَّةُ هو إرادةُ قادة الإدارة البريطانية، وإنَّ السِّلْم العام الوحيد الذي تعرفه الأمَّةُ هو سلامُ سجنٍ عام. ليست الهند إلاَّ سجنًا واسعًا. إذًا، أنا أعترضُ على هذا القانون وأعتبر أنَّ من واجبي المقدَّس كسْرَ الرتابة المرعبة للسلام المفروض على الأمَّة والذي يجرح قلبَها بحرمانها من الحرية[11].

على الرغم من أن غاندي لم يتخلَّ عن طموحه في هدايةِ conversion الإنكليز فإنَّ حملة العصيان المدني التي يفكِّر فيها تهدف إلى إرغام الحكومة البريطانية على تلبية مطالب الهنود. وقد قال هذه الفكرةَ بصراحةٍ أثناء خطاب ألقاه بتاريخ 10 آذار/مارس، أيْ قبل إطلاق الحملة بيومين فأكَّد آنذاك بقوله:

لنفترضْ أنَّ عشرة أشخاص في كل قرية من السبعمئة ألف قرية في الهند قرَّروا صناعةَ المِلْح وبهذا قرَّروا عصيان القانون، فماذا تظنون أنْ تفعلَ هذه الحكومةُ؟ حتى أسوأ دكتاتور يمكنكم أنْ تتصوَّروه لا ينجح في تفريق أفواج المقاومين المدنيين السِّلْميين من خلال فتح فوَّهات مدافعه. يكفي أنْ تُقرِّروا الاستنفارَ وأنا أؤكِّد لكم أنكم ستتمكَّنون من إنهاك هذه الحكومة في وقت قصير جدًا[12].

وهنا ينوي غاندي جَـعْـلَ الحكومة تستسلم من خلال إنهاكها لا من خلال هدايتها.

في البداية، لم يفهم العديدُ من قادة حزب المؤتمر فهمًا جيدًا قرارَ غاندي بالاكتفاء بمحاربة قانون المِلْح. يروي نِهْرو: "بين صفوفنا ساد الذهولُ: لم نكنْ نرى جيدًا ماذا كان المِلْح سيفعل في كفاحٍ من أجل الاستقلال الوطني." لكنَّ نهرو أدركَ بسرعة كبيرة أنَّ غاندي كان يمتلك "فكرةً عبقرية": "فجأةً، اتَّخذَت كلمةُ «مِلْح» البسيطةُ شكْلَ صيغة سحرية وشُحِنَتْ بقدرة خَفيَّة[13]."

تشير سيمون ﭙـانتر-بريك، Simone Panter-Brick، في كتابها غاندي ضد ماكياﭭـيلِّي Gandhi contre Machiavel، إلى صفة السداد بصورة خاصة في الخيار الذي اتَّخذَه غاندي:

عمل عدواني. (...)

عمل بسيط جدًا – كان من العبقري ربط هذه البساطة بالعدوانية.

عمل مُـغْـرٍ – كان يملِّح مجانًا وجبةَ الفلاَّح الفقير، وفي الوقت نفسه يستخفُّ بالحكومة.

حركة [إشارة] تحدِّي متواضعة – كانت تستعجل الإصلاحاتِ وتضيئها قداسةُ مَن أعطى نموذجًا عنها.

حركة متواضعة على مستوى الملايين من عامة الناس – حوَّلَها معنى الروعة والسياسة إلى ملحمة[14].

بتاريخ 11 آذار/مارس، أيْ عشيةَ الانطلاق، وجَّهَ خطابًا حقيقيًا، لا يخلو من التَّـفَـيْـهُـق [التفاصُح]، إلى الذين من المفروض أنْ يرافقوه:

إمَّـا أنْ نبلغَ الهدفَ الذي من أجله سنقوم بالمسيرة، وإما أنْ نموتَ ونحن نحاول بلوغَه. مستقبلاً، لن يكون في استطاعتنا أنْ نعودَ أدراجَنا. ولن نتوقَّفَ عن كفاحنا حتى يحصلَ الاستقلالُ في الهند. سيكون هذا الكفاحُ كفاحًا نهائيًا. يجب على الجنود الذين يرافقونني أنْ يَحفظوا جيدًا أنه لن يكون هناك انسحاب. يجب على المتزوجين أنْ يودِّعوا زوجاتِهم، وعلى النساء أنْ يُهنِّئْنَ أزواجَهنَّ بكونِهم في عِداد جنود المعركة الأوائل من أجل حرية بلادهم. عندما نترك الأشرمَ، نترك بيوتَنا. ولن نستطيعَ العودةَ إلى هنا إلاَّ بالنصر التام[15].

في اليوم نفسه، وعند ساعة صلاة المساء، اجتمعَ حشدٌ كبيرٌ لسماع غاندي يتكلَّم، إذْ صرَّح قائلاً:

سيكون هذا على الأرجح آخرَ خطاب أوجِّهُه لكم. وحتى إنْ سمحَتْ الحكومةُ لي بأنْ أسيرَ صباحَ غد، فسيكون هذا آخر خطاب لي على الضفاف المقدَّسة للسَّـبَرْماتي. ومن المحتمل أنْ تكون هذه الكلماتُ آخرَ كلمات في حياتي أنطقها هنا.

احرصِوا على ألاَّ يحصلَ أيُّ انتهاك للسلام، حتى وإنْ اعتُقِـلْنا جميعًا. لقد اتَّخذْنا القرارَ باستخدام جميع إمكانياتنا لإنجاح نضال يكون لاعنفيًا حصرًا. فليحرصْ كلُّ فرد منكم على ألاَّ يؤذيَ تحت تأثير الغضب. ذلكم هو أملي ورجائي. أتمنى أنْ تصلَ كلماتي إلى جميع أماكن البلاد وزواياها. [وبذلك] ستكون مهمتي قد أُنجِزَتْ إذا متُّ وشاركني رفاقي مصيري. عندئذٍ تؤول إلى اللجنة التنفيذية لحزب المؤتمر مهمةُ أنْ يدُلُّوكم على الطريق لكم وما عليكم إلاَّ أنْ تسْلكوه. (...)

يجب البدءُ بالعصيان المدني على قوانين المِلْح أينما أمكنَ ذلك. ويمكن خَرْقُ هذه القوانين بثلاث طرق. إنَّ تصنيعَ المِلْح جريمة في أي مكان تتوفَّر فيه إمكانياتُ ذلك. وحيازةُ المِلْح المُهَرَّب وبيعُه جريمة أيضًا (بما في ذلك المِلْح الطبيعي ومِلْح المناجم). والذين يشترون المِلْحَ مجرمون أيضًا. وأخذُ المِلْحِ الطبيعي الموجود على الشاطئ انتهاك للقانون أيضًا. كذلك الأمرُ بالنسبة للتجوُّل لبيع هذا المِلْح. باختصار، يمكنكم اختيارُ واحدةً من هذه الوسائل، كما يمكنكم اختيارُها جميعًا من أجل كسر احتكار المِلْح. (...)

ولا يَظُـنَّـنَّ احدٌ منكم أنه لن يبْقَ بعد اعتقالي أحدٌ يرشدكم. ليس أنا، بل الـﭙـانديت جواهَرْلال le Pandit Jawaharlal سيكون مرشدَكم. فلديه كلُّ الكفاءة ليكون قائدَكم. مع أنَّ الذين تعَلَّموا دروسَ البسالة والتواضع ليسوا بحاجةٍ لقائد، وإذا كانت هذه الفضائلُ تنقصُنا فلن يتمكَّنَ حتى جواهَرْلالُ من بعثِها فينا[16].

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] مادلين سلاد Madeleine Slade (ميرابِهني Mirabehn، اسمها الهندي) هي امرأة إنكليزية، ابنةُ أميرال، جاءت عامَ 1925 لتعيش إلى جانب غاندي في أشرمِ سَبَرْماتي.

[2] كلمةُ باﭙـو Bapu، التي تعني "الأبَ"، هي اسم كان المقرَّبون من غاندي ينادون به غاندي.

[3] مادلين سلاد Madeleine Slade، Dans l'intimité de Gandhi [بين أصدقاء غاندي]، باريس، دونويل Denoël، 1965، ص 69.

[4] المجلَّد رقم 42، ص 480.

[5] في شهر شباط/فبراير من عام 1922، قرَّرَ غاندي وقْفَ حملةِ العصيان المدني التي كان قد أطلقَها ولم يمْضِ عليها وقتٌ في منطقة بَرْدولي [باردولي] Bardoli، وذلك إثْرَ مقتل 25 شرطيًا في شوري-شورا [شاوري-شاورا [چوري چورا]] Chauri-Chaura. راجِعْ: أعلاه، ص 50.

[6] المجلَّد 42، ص 499-500.

[7] المجلَّد 42، ص 497-498.

[8] المجلَّد 42، ص 491-493.

[9] المجلد 43، ص 2-8.

[10] المجلد 43، ص 51.

[11] المجلد 43، ص 52.

[12] المجلد 43، ص 37.

[13] الـﭙـانديت نِهْرو Pandit Nehru، Ma vie et mes prisons [حياتي وسجنيسبقَ ذِكْرُه، ص 190.

[14] س. ﭙـانتر-بريك، S. Panter-Brick، Gandhi contre Machiavel [غاندي ضد ماكياﭭـيلِّيسبقَ ذكره، ص 176.

[15] المجلَّد 43، ص 45.

[16] المجلَّد 43، ص 46-47.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود