ملاحظات في العجز

 

دارين أحمد

 

العجز حضور وغياب: حضور الرغبة وغياب القدرة، وإذا كانت الرغبة تحيل إلى عالم الداخل فالقدرة تحيل إلى عالم الخارج ومحدداته، دون أن يعني ذلك وجود كل منهما في حيز منفصل، بل يعني المصدر والمآل؛ ففي حين تتشكل الرغبة وتتجذر في نفس الإنسان تتحرك القدرة في اتجاه الخارج انطلاقًا من الرغبة. وبسبب من ذلك كانت الرغبة شديدة التعقيد مقابل وضوح ملامح القدرة.

*

الرغبة ليست معزولة عن الخارج، ولا تتشكل في داخل المرء إلا بتحريض من هذا الخارج، ومن هنا يمكن اعتبارها مركزًا أساسيًا للنشاط البشري ومنتجه الفكري والواقعي، العام والشخصي. أبعد من هذه العلاقة المتبادلة بين الداخل والخارج في خلق الرغبة وتوجيهها يذهب رينيه جيرار إلى اعتبار الرغبة منتجًا خارجيًا ينمو في نفس الشخص المعني، أي أن الرغبة في شيء لا تكون إلا لأن آخرًا يملكه (المحاكاة) وهذا ما يولد العنف لانصباب الرغبة على موضوع واحد من قبل طرفين هما الراغب بالشيء والنموذج الذي حرَّض الرغبة على أن تكون عبر امتلاكه هذا الشيء أو حتى مجرد إعلان الرغبة في امتلاكه - الشيء ذاته لا يعود ذا أهمية في هذا الثالوث المؤسِّس للعنف بل يمكن حتى تدميره تدميرًا كاملاً دون التنبه إلى ذلك في حمى المنافسة بين الطرفين -.

*

القدرة هي الفعل، الحركة، الإمكان. هي التحدد بالخارج وتحديده، وهي - مثلها مثل الرغبة - ليست معزولة عن الداخل، ولا تتوجه إلى الآخر (موضوعًا أو شخصًا) إلا بتحريض من هذا الداخل.

والقدرة مأسورة بالرغبة، لا وجود لها دونها، فحتى الإله المتحرر من العجز متعلق بهذه الثنائية، فتحرره من العجز مرده قوة القدرة لا غياب الرغبة، فهو راغب في عباده متعال عليهم، ويمثل في صيغته الدينية المنجزة – أفرق بين الدين والأديان من حيث أن الدين حاجة إنسانية فطرية استعملتها الأديان الناجزة لتعزيز مؤسساتها، وهكذا يكون للدين حضور فعال إيجابي وللأديان، كما نعرفها حتى الآن، حضور كابح سلبي عادة – إذًا يمثل الإله هنا النموذجَ وفق النظرية الجيرارية، وهو الذي يضع العبد في الأزمة المحاكية من خلال رغبته المعلنة، أي الإله، في تمثُّل عبده به، وردِّه عن ذلك بالقدرة الضئيلة التي منحها له.

*

كما ينتفي العجز في النطاق الإلهي بسبب من قوة القدرة فإن انتفاءه ممكن في النطاق البشري أيضًا، ولكن في اتجاه معاكس أي في انتفاء الرغبة بما هي قائمة على وفي موضوعات "معزولة" عن المرء منبع هذه الرغبة؛ فالإنسان لا يرغب إلا بما هو "خارجه" وما هو ليس منه ويجب أن يكون له.

وهنا يكون انتفاء الرغبة ليس في كبتها أو قتلها أو نفيها بل في نفي المسافة الفاصلة بين المرء والأشياء أو الأشخاص.

*

يقول دعاء ديني: (اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه) وتقول أغنية دينية: (يا رب لا تزح هذه الجبال ولكن امنحني القوة لصعودها).

في نمط الفكر الديني القائم على الدعاء الأول يتجه الإنسان إلى التسليم بالعجز وقبوله، وهو ما يمكن أن يأخذ – في أعمق معنى له – معنىً متقاربًا من المعنى المعروض في الفقرة السابقة عن انتفاء الرغبة، بينما يتجه إنسان نمط التفكير القائم على المقولة الثانية إلى تعزيز القدرة. وكلاهما يصارع العجز كلٌّ من مكان.

لكن، وعلى صعيد الواقع الاجتماعي، يقف نمط التفكير الأول - على اعتبار أن الوصول إلى المعنى العميق لهذا النمط هو وصول خاصَّة لا عامة - في موقع سلبي مقارنة بنمط التفكير الثاني.

*** *** ***

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني