تراتيل العشق والفناء في جيتانجالي أو قرابين الغناء
(21-30)

 

رابندرانات طاغور

 

(21)

ترى هل أزف الوقت الذي سألقي فيه بمركبي في خضمِّ هذا البحر الواسع؟

واأسفاه... فإنَّ عدو الأزمنة المضنية يتبدَّد سريعًا مخلِّفًا محلوله اللؤلؤيَّ في زبد الشُّطآن المتلاشي.

لقد منح الرَّبيع كلَّ أزاهيره قبل أن يطلق ترنيمة الوداع الأخيرة، وها أنذا مثقل برماد الأزهار المطفأة أنتظر متخاذلاً في قيد الرَّجاء.

لقد تعالت صيحة الأمواج المصطخبة، ووراء الضفَّة البعيدة أخذت الأوراق الصَّفراء تهمي مرتعشة في الدُّروب الموشَّاة بالظِّلال.

ففي أيِّ فراغ ما زلت تتأمَّل؟ ألم تشعر بنشوة الزَّوال تملأ الفضاء كلَّه وتتماهى مع ذلك النَّشيد البعيد المتصاعد من مفازات الشَّاطئ الآخر؟

(22)

في أعماق ظلال شهر تمُّوز المطير، تمضي أنت بخفَّة ليلٍ ساجٍ منسرق الخطا، ملتبسًا بالظُّلمة بعيدًا عن عيون الرُّقباء.

اليوم أغمض الصَّباح جفنيه ذاهلاً عن صبوات نداء رياح الشَّرق، وامتدَّ ضباب كثيف في لازورد السَّماوات الوضيئة.

إنَّ الغابات قد كتمت تواشيح غنائها، وأبواب المنازل قد غدت جميعها موصدة، وأنت العابر الوحيد في هذه الدَّرب المقفرة.

فيا رفيقي الأوحد وحبيبي الأثير، لقد شرَّعت لك أبواب بيتي كلَّها... فلا تذهب بدوني وتتوارى بعيدًا كالحلم.

(23)

يا رفيقي، تراك تمضي هائمًا في ترحُّلك العشقيِّ عبر هياكل الليل، ومناجل الرِّيح تحصد في لجج الظَّلام المغلَّس ابتهالات السَّماوات المدلَّهة؟

لقد هجر الرُّقاد هذه الليلة عينيَّ الوانيتين يا رفيقي، وإنني المرَّة تلو الأخرى أفتح الباب لأغرق في عتمة متجمِّدة فلا أبصر شيئًا أمامي.

ترى صوب أيِّ قبلة في سديم الجِّهات تمتدُّ سبل دربك، وعبر أيِّ ضفَّة منسيَّة من مداد النَّهر الأسود، وأيِّ طرف قصيٍّ بين أعمدة الضَّباب المترامية على حوافِّ الغابات المتوعِّدة، تلتمس يا رفيقي طريق عودتك إليَّ؟

(24)

إذا انقضى النَّهار وعزفت عصافير الغناء عن إنشادها، وتوسَّدت الرِّيح المتعبة عتبات مشارف الزَّوال، فاسدل عليَّ وشاح العزلة كما تسربل خدور الأرض بغلائل الرُّقاد ، وتطبق في حنوِّ بتلات زهرة اللوتس الوانية في غسق ينابيع الليل.

أبعد حدقات التَّنكيل وأغلال الفقر عن المترحِّل الذي فرغت زوَّادته واستنفد قرابين العطاء قبل أن يتمَّ رحلته، ذاك المسافر الذي تمزَّقت ثيابه وغدا أسير التَّعب منهوبًا للشَّقاء، جدِّد حياته كما تنبعث زهرة القيامة من رماد الأرض حين تسرمدها تحت سماوات ليلك الشَّفيف.

(25)

في ليلة الضَّجر، دعني أستسلم أخيرًا لوطأة الرُّقاد، هبني قلبك كيما أستمسك أبدًا بشعلة اليقين، ولا تأذن لروحي الوامقة في قدس عبادتك أن تبتهل إليك في صلاة زائفة.

أنت وحدك الذي تجلو عيون النَّهار بأنداء فيض الليل المعتِّم، لتنبعث جذلى في رقصة الحياة المتجدِّدة.

(26)

ها قد أتى إلى جانبي، وجعل مجلس قربه دانيًا إليَّ، ولكنَّني بقيت في غفلة عنه.

آه... أيُّها الرُّقاد اللَّعين! لقد جعلتني بائسًا قمينًا بالرِّثاء.

ها قد أتى في سكينة الليل الدَّاجية، وهو ممسك قيثارته بين يديه، لتتراقص على أوتار غنائه كلُّ أحلامي.

يا لحسرتي... كيف تبدَّدت لياليَّ كلَّها في سديم النِّسيان؟

آه... لماذا يتوارى عن عينيَّ دومًا ذاك الذي تداعب أنفاسُه أحلام رقادي؟

(27)

آه النُّور؟ أين هو النُّور؟ لتتلألأ أعراس النُّور حياة متسرمدة بفيض من تأوِّج اللَّذة الملتهب.

ها هو المصباح، لكنَّه خال، ليس ثمَّة فيه أثارة من ذبالة ضوء مرتعش.

أهكذا هي مشيئة الأقدار يا قلبي؟ آه... لعلَّ ملاك الموت يكون أكثر رحمة بك.

إنَّ يد الشَّقاء تقرع بابك وتزجي رسالته إليك بأن مولاك على أهبة الرُّوح ساهرًا الدَّهر كلَّه،

يدعوك إلى هيكل الحبِّ عبر ضباب أثير الليل.

إنَّ السَّماء محتشدة بمواكب الغيوم، وقطرات المطر تهمي مشعشعة الفضاء كلَّه في انثيال محموم،

وكلُّ ذلك قد جعل قلبي ملتبسًا بالحيرة.

إن بيارق السُّحب قد أغمدت جفنيَّ في هوَّة الظُّلمة الممتدَّة حتَّى حوافِّ الأفق اللامتناهي، إلا أنَّ قلبي ما زال يلتمس الدُّروب الخبيئة التي تتناهى إليها أنغام موسيقى الليل.

آه النُّور؟ أين هو النُّور؟ لتتلألأ أعراس النُّور حياة متسرمدة بفيض من تأوُّج اللَّذة الملتهب.

إنَّ السَّماوات مخضَّبة بزمجرة الرُّعود والرِّيح الوحشيَّة تسوطها بالعويل، والليل الأبديُّ واجم في قنوط كالصَّخرة السَّوداء.

آه... لا تدع الأزمنة تتلاشى في قبور الظَّلام، وأشعل مشكاة الحبِّ بنور حياتك.

(28)

إنَّ قيود الحياة تثقلني، ولكنَّ الألم يعتصر قلبي إمَّا حاولت الفكاك منها.

إنَّني أستجدي الخلاص فحسب، ولكنَّ الحياء يتملَّكني ما إن مددت له يد الرَّجاء.

إنَّني موقن أبدًا أنَّ كنوزك الدَّهريَّة لا حدَّ لها، وأنَّك وحدك صديقي الأثير، غير أنَّ قلبي الواجف لا يجرؤ أن يرمي بعيدًا ذلك البهرج الزَّائف الذي يزيِّن غرفتي.

إنَّ هذه الحُجب المسدلة على جسدي ليست إلَّا كفن الفناء والصِّلصال الآثم، وإنَّني لأمقته، ثمَّ لا ألبث أن أجذبه إليَّ في توق لا ينتهي.

إنَّ ديوني لعظيمة، وإنَّ خيبتي لشقاء متَّصل يكلِّله العار ويخضِّبه الخجل، بيد أنَّني حين أدعوك لتهبني ما هو ملك لي، أرتدُّ في وجل خشية أن تستجيب صلاتي.

(29)

إنَّ اسمي ليس إلا سجنًا من دخان وصدى ينتحب فيه من يبقى أسيرًا بين جدرانه.

لقد جهدت دومًا في رفع هذا الصَّرح من حولي، حتَّى شارفت أسواره تخوم السَّماء، وفقدت في غياهب ظلاله المغشَّاة ضوء حقيقتي.

إنَّ الكبر ليتملَّكني وأنا أفتخر مزهوًّا بهذا الصَّرح العظيم، وأسعى دائبًا لأن أُعنى به مرمِّمًا أطرافه بالتُّراب والرِّمال، كيما يبدو أبدًا في تمام كماله، ولفرط العناية التي أحوط بها اسمي أذهل مغشيًا عن ضوء حقيقتي.

(30)

إنَّني أمضي وحيدًا في مسالك السَّعي حتى أستشرف عتبات وصالك، ولكن من تراه يقتفي وقع خطاي عبر ظلال تلك العتمة الصَّموت؟

إنَّني أتحاشاه دومًا خشية لقائه، ولكنني عبثًا كنت أحاول النَّجاة منه والخلاص من ربقة تربُّصه بي.

إنَّه يهيِّج بمواكب خيلائه غبار الأرض من حولي، ويحدو بصوته المصطخب كلَّ كلمة يلهج بها قلبي.

إنَّه تلك "الأنا" الحقيرة يا مولاي، آه... إنَّه لا يعرف الحياء أبدًا، إلا أنَّ الخجل يثنيني عن المثول في حضرتك وهو إلى جانبي.

ترجمة أحمد حميدة وراما وهبة

*** *** ***

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني