آخر كلماته "خلي بالكم من الميدان"

 

حسام عبد البصير

 

شيعت مصر أمس جثمان شاعرها الكبير أحمد فؤاد نجم أحد أبرز معالمها الثقافية الذي حفظ الملايين أشعاره، والتي مثلت بالنسبة لهم وقود الثورة في سنوات القمع العربي، إذ هتف بها طلاب الجامعات والمدارس وعمال المصانع في كل أزمة ألمت بالوطن.

وبعد أربعة وثمانين عامًا، هي سنوات عمره، قدر لصاحب الجسد النحيف أن يوارى ثرى وطنه الذي لطالما أنشد له حلو الكلام ومره على مدار ستين عامًا. مثَّل الشاعر الكبير الظهير الرئيسي لليسار المصري في عالم الشعر، وكانت كلماته هي الوقود والمحرك لثورة الخبز في 18 و19 كانون الثاني/يناير 1977 حيث شكلت وقود انتفاضة الجماهير الحالمة بالخبز والحرية، كما مثلت قصائده العمود الفقري في مواجهة اتفاقية كامب ديفيد التي أبرمها مع اسرائيل الرئيس أنور السادات. وبحسه الموغل في الوطنية ورشاقة كلماته نجح شعر "الفاجومي" – وهو اللقب الاكثر التصاقًا بنجم - في التغلغل للطبقات الدنيا من المجتمع، وبات بمثابة ملهم الجماهير على التمرد في مواجهة سياسة الانفتاح على الصعيد الاقتصادي التي اعتبرها الشاعر الراحل أكبر الأخطار التي قضت على تجربة عبد الناصر التي أتاحت نوعًا من العدالة الاجتماعية للفقراء.

وبحسب صديقه وناشر دواوينه محمد هاشم فقد توفي أحمد فؤاد نجم رمز الشعر السياسي في العالم العربي صباح أمس في منزله بالقاهرة عن عمر 84 عامًا، وشيعت جنازته بعد صلاة الظهر من مسجد الحسين حسب وصيته. ولد أحمد فؤاد نجم في عام 1929، في قرية كفر أبو نجم بمحافظة الشرقية، لدى أسرة أهم ما يميزها كثرة عدد أفرادها، وعرف مبكرًا حياة الفقر والحرمان. بعد وفاة والده ضابط الشرطة وأمه ذاق طعم اليتم وتم وضعه في ملجأ للأيتام، وهناك التقى بالعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ. وخرج من الملجأ وعمره 17 عامًا، وعاد الى قريته ليعمل راعيًا للبهائم، وعمل بعدها في عدة أماكن بينها العمل في معسكرات الاحتلال البريطاني في مجال التشييد والبناء.

وقد خيم الحزن على الشارع المصري بجميع أطيافه، ونعى العديد من الرموز نجم. قال عمرو موسى أمين الجامعة العربية الأسبق في تصريحات خاصة للقدس العربي إن مصر فقدت اليوم أحد أهم أعلامها الثقافية، وإنه لمن المحزن أن يرحل نجم قبل أن يشهد مولد الدستور الجديد للبلاد والذي لطالما انتظره، معتبرًا رحيله خسارة كبيره للعالم العربي بأسره واصفًا إياه بأنه كان أحد أهم المحرضين على الثورات ضد البطش والظلم والفساد. وبلهجة يغلفها الأسى نعى الأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي للجماهير العربية الشاعر معتبرًا إياه أحد موجهي الشارع، وأشار في تصريحات صحفيه إلى أنه "أثرى الحياة الثقافية المصرية بأشعاره التي عبرت عن الهوية المصرية الأصيلة ضد الظلم والطغيان على مر العصور"، وتابع العربي: "سيظل الراحل علمًا من أعلام شعراء العامية المصرية ورمزًا للنضال والكفاح على مر الأجيال". فيما كتب المرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي مؤسس التيار الشعبي المصري عبر حسابه على موقع تويتر: "عمال وفلاحون وطلبة... يودعون اليوم صوتهم العفي النقي الجسور... وداعًا شاعر الشعب أحمد فؤاد نجم". وفي تصريحات خاصة للقدس العربي أكد الشاعر سيد حجاب أن أحمد فؤاد نجم هو أحد كبار الشعراء الذين نجحوا في أن يكونوا بمثابة البوصلة التي توجه الرأي العام عبر أشعار مست شغاف قلوب البسطاء والمثقفين على حد سواء. وقال الفنان عادل إمام للقدس العربي: هذا يوم غير جميل بالمرة أن نفقد أحد شعرائنا الكبار الذين علموا البسطاء حب الشعر وناضلوا لسنوات وعرفوا مرارة الحياة. ونعى الفنان نور الشريف نجم مؤكدًا بأنه أحد الأفذاذ الكبار في عالم الشعر داعيًا لتخليد ذكراه: "نجم هو أيقونة من أيقونات الابداع على الخريطة العربية". وأكد المطرب محمد الحلو أحد الذين غنوا من كلمات الراحل أن تأثير غيابه سيكون كبيرًا على الحركة الثقافية، وأثنى عليه في تصريحاته للقدس العربي واصفًا إياه بأنه ظل محتفظًا بقدره مدهشة وموهبة أهم ما يميزها أنها شابة حتى بعد بلوغه الثمانين. وفي ذات السياق أثنى المطرب على الحجار على الراحل مؤكدًا أنه فارس الثورة والمحرض على المقاومة.

وقد بدأ نجم كتابة الشعر في الخمسينات وعرف في مصر في الستينات بقصائده السياسية النقدية للسلطة والتي اخترقت القصور. ولم يوقف صاحبها التهديدات ما أدى إلى اعتقاله عدة مرات في عهد الرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات. ومن المفارقات أن نجم ظل يثني على عبد الناصر حتى الأيام الأخيرة من وفاته بالرغم من أنه قاده للسجن.

ويعد نجم من أهم شعراء العامية في مصر جنبًا إلى جنب مع الشعراء الكبار عبد الرحمن الابنودي والراحلين فؤاد حداد وصلاح جاهين. وقد غنى له علي الحجار ومحمد منير ومحمد الحلو. وفتح بيت منزله المتواضع والذي كان يحلو له أن يطلق عليه مجلس قيادة السطوح بحي المقطم بالقاهرة للأجيال الجديدة وظل دائمًا يمثل اليد الحانية على شباب الشعراء، لم يبخل عليهم بالنصح والارشاد. غير أن الإنجاز الأعظم للشاعر الراحل تمثل في ذلك التعاون الذي جمع بينه وبين الملحن والمغني الراحل الشيخ إمام عيسى، حيث مثلت أعمالهما الغنائية الوقود لمختلف مظاهرات عمال المصانع والطلبة في الجامعات، خاصة مع بزوغ فجر عهد الرئيس الراحل أنور السادات مطلع السبعينات والذي واجه معارضة شرسة من قبل قوى اليسار حيث مثل كل من نجم وإمام الرافعة التي نقلت النضال اليساري من عالم الندوات إلى الفضاء الواسع في ساحات الجامعات والمصانع، وأصبحت أغنياتهما التي كانت تسمع سرًا في المنازل هي الهتافات التي تشعل الصدور في المظاهرات التي كان يطلقها الطلبة والعمال خاصة في انتفاضة 19 كانون الثاني/يناير 1979، التي أطلق عليها الرئيس السادات اسم "انتفاضة الحرامية". وتجاوز كلا الرمزين نطاق المحلية وباتا نجمين بازغين في سماء العواصم العربية حتى تلك التي كان الخوف هو العملة المتداولة فيها. كما وجد نجم وصديق عمره الفرصة سانحة أمامهما لوضع قدماهما على الخريطة العالمية عبر عملهما الكبير جيفارا مات.

وخلال عمله في مدينة فايد تعرف على عمال المطابع الذين يميلون إلى الفكر الشيوعي فتأثر بهم، وكانت وراء مشاركته مع الآلاف من المصريين في تظاهرات عام 1946.

وقد تنبأ عبر تجربته الشعرية الطويلة بوصول قطار الحرية لمصر والعواصم العربية تباعًا، وتوعدت قصائده الديكتاتورية وصناعها. وقد ظل مبشرًا بالعدالة الاجتماعية والحرية والخبز. حرص نجم أن تكون أبرز أدواته الفنية السخرية التي نال كل من تعرض له بشعره النصيب العادل منها. ولم يقف عند حاجز معين وباتت قصائده تمثل مصدر ازعاج للجميع سواء السلطة أو النخب السياسية كافة. حتى حسني مبارك ذلك الديكتاتور الذي كان الكثيرين يسعون للتودد له لم يتخلى نجم عن أسلوبه وقوض منامه بقصيدة رددها المصريين عن نجله جمال مبارك بعنوان مبروك يا عريسنا بمفردات شعبية بسيطة. وقد حصل الراحل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية ومنها الجائزة الكبرى لمؤسسة الامير كلاوس للثقافة والتنمية الهولندية تقديرًا لتأثيره الكبير في عدة أجيال مصرية وعربية، وكان يفترض أن يتسلمها في 10 كانون الأول/ديسمبر. وقالت المؤسسة الهولندية إن "منح الشاعر هذه الجائزة يأتي تقديرًا لمساهماته وأشعاره باللهجة العامية المصرية التي ألهمت ثلاثة أجيال من المصريين والعرب. وقد تميزت قصائده بحس نقدي ساخر، وبتأكيدها على الحرية والعدالة الاجتماعية".

وفي عام 2007 اختارته المجموعة العربية في صندوق مكافحة الفقر التابع للأمم المتحدة سفيرًا للفقراء. ومن المفارقات أن الديوان الشعري الأول صدر له وهو في السجن وحمل عنوان صور من الحياة والسجن من خلال مشاركته في مسابقة كان ينظمها المجلس الأعلى لرعاية الأدب والفنون، وتبنته الكاتبة المصرية سهير القلماوي. وبعد خروجه من السجن أصبح من شعراء الإذاعة المصرية. وكانت كلمات نجم وأشعاره حاضرة بقوة حيث سبقت حضور جسده النحيل لميدان التحرير حينما ردد آلاف المتظاهرين كلماته في ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011 التي أسقطت الرئيس السابق حسني مبارك، كما لعبت تلك الأشعار بعد ذلك في 30 حزيران/يونيو دورًا بارزًا في إسقاط حكم جماعة الإخوان المسلمين ورحيل السابق محمد مرسي عن قصر الاتحادية للسجن الذي سبقه إليه مبارك. ليكون أحمد فؤاد نجم هو الشاعر الذي نجح بالورقة والقلم في إسقاط رئيسين خلال ثلاثة أعوام فقط. ومن آخر كلمات نجم قبل أيام أنه سعيد لأن مصر سارت في الطريق نحو الحرية وتخلصت من جلاديها تباعًا. همس في أذن ابنته نواره نجم قائلاً: "معدتش خايف من الموت". وداعب صديقه التاريخي محمد هاشم دامعًا: "خلي بالك من الميدان".

*** *** ***

القدس العربي

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني