ضدَّ بديهية القتل

 

دارين أحمد

 

خفِّضْ نفسك إلى الصفر
غاندي

جميعنا واقعون في الفخ ذاته، فخ لاواقعي بما يقترب من الرعب، وحده من استطاع التكور على نفسه في بعض مقولات نهائية قادر على مواجهة هذا الجنون المعمم بتأكيدات وتوقعات لا يهمه إن كانت صحيحة بعد حين أو لا، هو وحده القادر على "الفرح" إن ربح فريقه مدينة أو قرية في حرب أقل ما توصف به أنها فاقدة للمعنى ومحمَّلة بمقولات من كل نوع – مثل كل حرب. مقولات تبدو أمامها هذه السلاسل البشرية الميتة الآن أو بعد حين مثل زينةٍ لازمة ليس إلا؛ فالتاريخ يُكتب بالدم، وتحقيق الحرية أو حماية الوطن أو تنفيذ شرع الله يحتاج إلى دمٍ كثير!

ينظر أحدنا إلى التلفاز، يتابع محطة إخبارية تنسق أفكاره وتطمئنه، تسلبه حقه في الرؤية والحكم، تسلبه حياته وحياة أطفاله، تخبره ماذا سيقول في نهاره وليله، كيف سيرى الجثث المعروضة أشباحَ مقولات معادية أو نارَ مقولات مؤيدة. تحضر جثة الطفل أو المرأة كوقود يشعل نار ثأرٍ لا تنطفئ، ولا يُراد لها أن تنطفئ... لا يوجد بين الأعداء أطفال أو نساء! كلما توغلت الحرب في الدمِّ الحيِّ، كلما تغوَّلت، يختفي الأطفال وتختفي النساء من الوجود في كفة الأعداء ويحضرون كجثث محرِّضة على المزيد من القتل، جثث تُعرض في صفاقة تكتمل بها صفاقة المشهد الكلي.

كتبت سيمون فايل عن الحاجة إلى الحقيقية، وأعلنتْ محقةً أن "الحاجة الأقدس للنفس البشرية هي حاجة الحماية من النصائح والوصايا ومن الخطأ"، وإذا كانت النصائح تقع في الحقل العملي والوصايا في الحقل الفكري والروحي (الديني) فإن الخطأ إن لم يقع في حقل الجهل فهو بالتأكيد واقعٌ في حقل سوء النية، وما نراه اليوم من سلطة الخطأ واستعماله لدفع الناس إلى قبول وتبرير بل وتمجيد القتل وصل إلى حدٍّ يتجاوز بكثير بعض التحليلات الصحفية عن الحروب الإعلامية وكيف يتم إسقاطها كحروب واقعية؛ مما يؤكد أن هذا الخطأ لا يقع في حقل الجهل. الأمثلة أكثر من أن تحصى وما العناوين التي تتصدر الأخبار والتعتيم على التفاصيل وصياغات الخبر المختلفة بين صحيفة أو محطة تلفزيونية وأخرى إلا المدخل الفج لهذا الاختلاط الحالي بين الإعلام والقتل.

تبدأ الحرب في الفكر أولاً، هذا لا لبس فيه، لا يمكن دفع الناس إلى المشاركة في حرب أو قبولها إلا تحت مظلة مقولات السلام أو العدل أو الألوهة، هذه المقولات التي تتفرع عنها مقولات متسقة وفلسفات وتحليلات يأخذ فيها التأكيد على تجذُّر القتل في الإنسان أو التعامل مع هذه "الفكرة" كبديهة مُتفق عليها، جزءًا، بينما يستولي على الجزء الباقي منطق التبرير أو التبرئة؛ كلنا بيلاطس، كلنا لا يريد هذا القتل ويؤكد أنه بريء منه، مدفوع إلى قبوله دفعًا من الآخر-العدو، كلنا هابيل وقد أيقظه الثأر تاركًا روحه في قبرها؛ كلنا زومبي هذا العصر، من يشعرون بوطأة أن يكونوا قتلة ويحتاجون إلى تقديس غاية هذا القتل بطريقة ما. وكالعادة يزداد سطوع قداسة الغاية مع توغل الوسيلة في الظلمة، وكالعادة يبرع الإنسان في تقسيم وعيه وبصره وتوجيههما وفق الهوائي ذاته: غايته المقدسة. ولكن من هذا المكان، من هذه الحاجة إلى التبرئة يخرج السؤال مرة أخرى، هل الإنسان قاتل بالفطرة؟ لا يمكن لأحد أن يجيب بنعم نهائية، المؤكد أن الفكرة قاتلة، وأن الإنسان مخلوق أسير للفكر وأنه يحتاج إلى التبرئة من فعل القتل هذا بأية طريقة، وهذا ما يجعل الفكر محركًا والإنسان أداة لا حول لها ولا قوة رغم كونه وعاء هذا الفكر ومكانه الوحيد – حتى الآن – في الكون.

من هذا المنطلق تكتسب قراءة جدّو كريشنامورتي على سبيل المثال أهمية كبيرة، وهو القائل:

الأزمة استثنائية لأنها تقع في حقل التفكير. نحن نتنازع على أفكار، فنسوِّغ القتل؛ في كل مكان من العالم نسوِّغ القتل كوسيلة إلى غاية صالحة، وهو أمر في حدِّ ذاته لم يسبق له مثيل. كان الشر، من قبلُ، يُعترَف به كشرٍّ، والقتل يُعترَف به كقتل؛ أما اليوم فالقتل وسيلة لبلوغ هدف نبيل. القتل – قتل شخص واحد كان أم قتل مجموعة من الناس – مبرَّر، لأن القاتل، أو الجماعة التي يمثلها، يسوِّغه كوسيلة لبلوغ نتيجة تكون نافعة للإنسان. أي أننا نضحِّي بالحاضر من أجل المستقبل – ولا تهم الوسيلة التي نستخدمها ما دام قصدُنا المُعلَن هو جني نتيجة نحسب أنها نافعة للإنسان. من هنا ينطوي هذا الكلام على أن الوسيلة الخاطئة ستُنتِج غاية صحيحة، ودورك هو أن تبرِّر الوسيلة الخاطئة بواسطة التفكير.

تقرأ هذا الكلام ويعيد ذهنك اللازمة ذاتها "ليس ذنبي، لم أشأ ذلك، لم أرد أن أقتل ولكن المقتول أراد ذلك برفضه الانصياع لي"، في هذا المكان بالذات تبدو اللعبة تراجيديةَ الهزل خصوصًا عندما لا يكون القتل معلنًا كغاية سماوية على الطريقة الداعشية، خصوصًا عندما يشعر طرفا الحوار – في حال كان ثمة ما يزال متسع له – أنهما يبغيان الغاية ذاتها، ويبدآن بإشعال حرائق تعمي ما لا يريدان أن يراه: "كم هما متشابهان!".

الأزمة الآن تجاوزت مقولة كريشنامورتي المكتوبة في القرن الماضي، وانتقلت إلى أن تكون استبداد "عنف فكر الانيميشن" على الواقع كليًا، مضافًا إليه هالة إلهية جُيِّر لها إله الإسلام لسوء حظه! ومن يتابع المقاطع – السينمائية – التي يذهب ضحيتها بشر واقعيون على يد بشر واقعيين، المُخرَجَة من قبل داعش لا يمكن إلا أن تجتاحه حالة من فقدان المعنى تجعل من فكرة "الإنسان القاتل بالفطرة" مؤكدة وغير قابلة للدحض للحظة، خاصة مع تركيز الإعلام الدائم على هذا الجانب ذي الإثارة الإدرينالينية وتحييد الواقع الآخر، الواقع الذي يقول إن عدة أشخاص يحترفون القتل قادرون على صبغ المئات ممن يرفضونه به، الواقع الذي يقول إنه وبينما يذبح بضعةُ بشر بضعةَ بشر؛ هناك المئات ممن ما يزالون يقاومون فكر القتل هذا، ويعيشون معًا، خائفون لكنهم ما زالوا قادرين على رؤية أن ما يغذي هذا الخوف حتى التخمة قائمٌ أساسًا في السياسة ومصالحها وإعلامها. ولهؤلاء وعليهم يعقد أمل لا يمكن لنا أن نحيا دونه.

*** *** ***

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني