الصفحة السابقة                     الصفحة التالية  

قواعد علم الطاقة الحيوية: الجزء الثاني

 

ألكسندر لووِن 

الجزء الثاني
ثقافتنا معلَّقة لا تتطوَّر

من ليست قدماه على الأرض معلَّقٌ لا يتطوَّر. وأنْ يكون المرء معلَّقًا لهو إشراط نفسي. وبما أنه ليس متجذِّرًا فهذه حالة جسمانية. وكلاهما يتكاملان بقدر ما هما مظهران لحالة عدم الاتصال بحقيقة الكينونة الخاصة. وبخصوص هذه المشكلة يستخدم علم الطاقة الحيوية مقاربة مزدوجة: الجسمانية كما أشرت قبل قليل، والنفسانية المتأسِّسَة على فهم طبيعة شلل نشاطات الشخص. من يطبق مقاربات مزدوجة يشبه شخصًا لديه ساقين يمشي عليهما. فالشخص الذي يستخدم ساقًا واحدة فقط لكي يتنقل يمكنه أن يتقدم، ولكن على نحو محدود جدًا. لا بدَّ من العمل على المشكلة، فالأمر على قدر ما هو جسماني هو نفساني كذلك. واستخدام واحدة فقط من هاتين المقاربتين هو كما لو أننا نعالج الأمر بطريقة أكثر فاعلية ولكن مع افتقاد الوحدة بين الأنا والآخرين.

أن يكون المرء معلَّقًا يعني عدم استطاعته التحرك في اتجاه تحقيق غايات الحياة. ليس سهلاً التحرر من إشراط أن يكون المرء في حالة ركود كبيرة. فتيار الإثارة في الجسد متوقف ولا يصل حتى القدمين – وهو شرط ضروري لكي يكون لدينا حركات تلقائية. ومثل هذا التيار لا يصل أيضًا إلى الرأس حيث يمكن تنشيط سياق تلقائي لأفكار قادرة على تشجيع فهمِ أن المرء معلق. فلأي سبب، وما العمل للتحرر من هذا الحصار؟

ماكس حالة رمزية لهذه المشكلة وللعمل على حلها. أتى ماكس، منذ خمسين عامًا تقريبًا، يبحث عني بسبب صعوبات في علاقته مع امرأة كان يعتقد أنها تحبه كثيرًا. وقال إنهما كانا يشعران بلذة حياتهما الجنسية، لكنه لم يكن يتوصل لفهم لماذا كانت غير راضية وترغب في الخروج مع رجال آخرين. أدركت على الفور أن ماكس لم يكن متصلاً على نحوِ كافٍ مع الأرض grounding. والتمارين كانت موجهة إلى استحضار طاقة أكبر إلى ساقيه تسمح له بالشعور بهما، وتساعده على تنمية اهتزازات فيهما. وبهذا أحس أنه أكثر حياةً، وأكثر أملاً بإمكانية عثوره على حل لمشكلته. إلا أنه ظل يشكو من أنه لم يكن يفهم ما الخطأ في علاقته مع حبيبته. إشارتنا إلى أنه لم يكن متصلاً على نحو كافٍ مع الأرض grounding ولذلك لم يكن رجوليًا بالقدر الكافي، لم تجدِ نفعًا كثيرًا. وعند تحليل جسمه من جديد، أدركت أنه كان يعاني انقباضًا توتريًا شديدًا في أعلى الظهر. كان ظهره محنيًا في هذه المنطقة، ومدوَّرًا كما لو أنه جبل. رقبته قصيرة وذات مظهر ضعيف كما لو كانت تصعد من خلف جبل وتسند رأسه الذي كان يظهر بدوره منفصلاً عن ظهره. وبالنظر إلى الظهر كنت أرى أن خط الكتفين كان مستقيمًا وصلبًا. كنت قد وصفت هذا المستوى التوتري في أحد كتبي، وهو الجسد في كآبة، مثل "وضعية العليقة" لأن الجسد كان يبدو كما لو أن عليقة معطف تمسك الشخص وهو واقف. (منذ بضعة أعوام أقاموا عرضًا off Broadway بعنوان "Oh Dad, poor Dad, Mama's hung you in the closet and I'm awfully sad". "أوه بابا، مسكين بابا، علَّقته الماما في خزانة الثياب، وأنا آسف على ذلك أقصى حدود الأسف".

كانت أم ماكس قد علَّقته، وكان هدفه أن يجعلها سعيدة، الأمر الذي لم يستطع والده القيام به. فقد كان والد ماكس متمركزًا حول أناه أو نرجسيًا، ولم يكن يفكر إلا في النفوذ في مهنته. وإذ أدرك ماكس تعاسة أمه، ألزم نفسه بأن يضمن سعادتها. وبتعهده القيام بذلك، كان ممكنًا أن يرى نفسه كشخص متفوق على والده. وعلى الرغم من أنه لم يتوصل إلى جعلها سعيدة، فإن هذا الالتزام ظل مكوَّنًا في شخصيته، مسيطرًا على تصرفه الراشد أمام النساء كلهن. وكانت هذه العلاقات تنتهي بألا تشبع أي واحد من الطرفين، وبعد وقت ما كانت الأحوال تسوء. غير أنه لم يكن بمقدور ماكس فهم سبب ما يحصل في ذلك كله، ذلك أن رغبته في مساعدة كل واحدة منهن كانت بالنسبة له أمرًا عفويًا. ولكن، هل كان عفويًا فعلاً؟ ألم ينجم ذلك عن حاجة إلى الشعور بقرب أمه منذ كان طفلاً؟ ألم يكن ذلك انحرافًا في العلاقة الطبيعية لأم–طفل، ذلك أنه في ديناميكية علاقة الأم–طفل الصحية تكون رغبة الأم في أن تكون على استعداد تجاه الابن هي الأساس وليس العكس. ألم تكن خدمة ماكس لأمه الطريقة الوحيدة ليعيش هذه القربى؟

يتوجب علي أيضًا أن أضيف وصف جسم ماكس، فكتلته العضلية الثقيلة تتوضع في أعلى الظهر، مما جعل ظهره منتصبًا في مظهر جسماني للغضب. وهذه حركة مشتركة مع الحيوانات من حيث أن الأخيرة ينتصب وبرها في إبراز عدائي للأسنان، كتحذير على أن الحيوان مهيأً للانقضاض. من جهة أخرى، يشير الكتفين المعلَّقين لماكس إلى تعبير عن خوف. فهذه الوضعية تتصل بغضب مكبوت ذي تعبير قد تم تجميده أيضًا من خلال خوف أعظم. ومع ذلك، فلا الغضب، ولا الخوف قد تمت معايشتهما فعلاً لأن مستوى التوتر العضلي الذي يُبقي على هذه الوضعية مزمنٌ ومجمَّد. وبما أنه ليس من الممكن الشعور بما هو مُجَمَّد لا يتحرك، فإن ماكس لم يكن يشعر بأنه معلَّق كما لم يكن يشعر بنقص اتصاله الخاص مع الأرض grounding. وكحل للمعضلة توجب اللجوء إلى تمرين الاتصال مع الأرض grounding لتعزيز إحساسه بساقيه وقدميه، ولخلق إحساس بالأمان أكثر حضورًا. وفي الوقت نفسه كان صراع شخصيته في علاقاته مع النساء بحاجة إلى تحليل، على نحوٍ يتوصل فيه ماكس إلى فهم دينامية التجميد.

يحصل مثل هذا التجميد لنساء في الوضعية الجسمانية نفسها: كتفان مقوستان، وظهر مرتفع مشكلاً حدبة – باللغة الدارجة نسميها "حدبة الأرملة". يمثل هذا المستوى من التوتر عند النساء الدينامية نفسها التي عند الرجال، رغبة الطفلة في إرضاء والدها، وهي مشتركة مع الغيرة من الأم، ومغطية لغضب عميق من الوالد لإغوائه الطفل. هذه الديناميات تنجم عن عقدة أوديب الموصوفة سابقًا. فالأم تغوي الصبي بعلاقة جنسية لا تخرج البتة إلى حيز الواقع، جاعلة منه طفلاً معلَّقًا محدود القدرة مستقبلاً في استسلامه تمامًا لإمرأة. أعتقد أن هذا العامل يمكنه أن يساهم في تنمية المثلية الجنسية لدى الرجال والنساء. فالسلوك المغوي من قبل الوالدين في علاقتهما مع الأبناء يضعف قدرتهم على إقامة اتصال مع الأرض، الأمر الذي ينعكس فيما بعد في العجز عن الاستسلام تمامًا للإثارة الجنسية.

ناقشت في كتابي خوف من الحياة، وبشكل موسَّع، دينامية الوضع الأوديبي الذي أسَّس عنصرًا بارزًا للعيان لدى كل العائلات المتحضرة. وقد لعب دورًا هامًا على نحوٍ لا يمكن تجنبه في تنشئتي. وقد رويت في مناسبة سابقة كيف كانت والدتي تنتظر مني أن أتصرف معها كامرأة. وكان علي أن أصبو للنجاح الذي لم يحققه والدي. وإلى حد ما فإن ذلك التحريض كان يمثل بالنسبة لي إغواءً جنسيًا كان يثيرني دون أن يصل مع ذلك إلى أن يكون ذا طبيعة تناسلية. حتى وأنا صغير جدًا، كان ممكنًا لي أن أستلقي في السرير إلى جانبها – دائمًا ظهري باتجاهها – ومع ذلك كنت أحس بالإثارة الجنسية في ذلك الوضع، حتى ولي من العمر ثلاثة أعوام فقط. كانت تنكر أي اهتمام جنسي. وعلى الرغم من انشغالي كثيرًا بالوظيفة الشرجية فإن والدتي كانت تعتبر الجنس شيئًا قذرًا. وهذا أيقظ فيَّ فضولاً كبيرًا للأعضاء الداخلية للنساء، وكان اهتمام كهذا يجعلني أشعر بأني مكروه وقذر إلى حد ما. فضولي لأعضاء المرأة التناسلية بقي حتى سن البلوغ. وعندما بدأت أستمني ازداد قلقي على نحو ملحوظ. لم أعد أستطيع التوصل إلى السيطرة على رغبتي. كانت والدتي تتصرف كما لو أنها لا تلاحظ شيئًا. في حين كان والدي يروي لي قصة حول أحد الأقارب الذي صار مجنونًا لأنه لم يتوقف عن الاستمناء.

حسب ما رويت في فصول سابقة، فإن المراهقة كانت مرحلة صعبة بالنسبة لي. وبقدر ما كنت أتحول إلى شاب راشد، كانت الحياة تصير أكثر سهولة. فبالإضافة إلى الاهتمام بأنواع الرياضة، فالجنس كان يسيطر على أيامي يومًا بعد يوم، ليس بطريقة إيجابية، كنبع للإشباع والفرح، وإنما كحاجة وإكراه كانت تصل أحيانًا حد العذابات. ولم أخرج من مرحلة العذاب هذه قبل بلوغي سن العشرين، بعدها بعدة سنوات تعرفت بحبيبتي الأولى.

على مر أيام الشباب كنت معلقًَا، بسبب الجنس، بطريقة مؤلمة جدًا. فيما بعد ساعدني اتصالي مع رايش على شعوري "بالطبيعي" بخصوص رغباتي الجنسية. وأيضًا ارتباطي مع ليزلي Leslie وزواجنا ساعدني على الانتفاع من حرارة الحب والجنس، على الرغم من استمرار بعض التحديات. أتذكر مثلاً استيقاظي ذات صباح، ويدي على قضيبي، محاصرًا بفكرة أنه "لا يجب عليَّ فعل هذا". عذاب الخجل والإكراه لم يفارقاني بعد بشكل كامل. ولم أعثر على الكمال الذي كنت أبحث عنه وأحتاج إليه حتى تبددت تلك المشاعر. وقد ساعدتني كتابة هذه السيرة الذاتية بشكل كبير في هذا المسعى نحو الكمال.

انتهيت إلى فهم العلاقة بين قهرية الإنسان الحديث وبين نزاعاته مع الجنس. فمنذ أن سقط القانون الأخلاقي للعصر الفيكتوري صار بإمكان الرجال والنساء أن يسلموا أنفسهم بحرية لرغباتهم الجنسية، وهم يدركون جيدًا متى وكيف يكون ذلك. وصار بالإمكان التفكير بأن حياتهم الجنسية أصبحت مصدرًا للذة والنعيم. لكن، ويا للغرابة، ليست هذه هي الحال. فالناس لديها نزاعات جنسية أكثر من أي وقت مضى. وهذه الحال تظهر أنها على علاقة مع الأخلاقية التي أزالت كل القيود عن إظهار التساؤلات الجنسية على الملأ. ذلك أن غياب الحدود والقوانين الأخلاقية بالنسبة للسلوك الجنسي يخلق مشكلة مشؤومة تعطي بدورها مجالاً لمسألة أسوأ من تلك التي تبحث عن حل. وبعبارة أخرى: ليس ثمة حرية دون انتباه ودون حدود. لا يمكن ملء وعاء واطئ. ليس ثمة تجاوز (تعالي) دون أن يخلق ذاتًا. إذ نكون أحرارًا بشكل حقيقي عندما نكون أوفياء لطبيعتنا. ومشكلة الجنس تكمن في أن الجنس لا معنى له دون حب. ومعناه متناسب بشكل مباشر مع كمية الحب الذي يحمله كلا الشخصين خلال الفعل الجنسي. الجنس دون حب كالماء لا يُمسَك باليد، يمكنه أن يقدم انتعاشًا ما، ولكن ليس تحقيقًا.

يؤدي فقدان الاتصال الحيوي والقوي مع الأرض والجسد إلى نقصان الحمولة الجنسية. فليس للإنسان الحديث جذور قوية في طبيعته الجنسية. وهذا ينعكس، على سبيل المثال، في الميل الحالي لارتداء الثياب بطريقة يمكن وصفها بأنها واحدة لكلا الجنسين unisex. فاستعمال الجينز لكلا الجنسين unisex هو ظاهرة نموذجية. وعدا عن ذلك، فإن فقدان التمييز بين الرجال والنساء يظهر في جوانب أخرى من الحياة، خاصة في سوق العمل، حيث يُنتظر من النساء أن يتصرفن كالرجال. وهذا ما يُدفع ثمنه غاليًا في مجال الحياة الجنسية. لستُ أدافع عن تبنِّي مستوى مزدوج للأخلاقية لكلا الجنسين، والذي اُستبعِد باعتباره شكلاً من أشكال التمييز بين الجنسين. فعلى الرجال والنساء أن يكونوا أحرارًا بشكل متساو في تعبيرهم عن رغباتهم الجنسية. إن تقليص المعايشة الحميمية في الفعل الجنسي إلى أنه مباح فيها كل شيء يحرمها من الحب الضروري لتجربة التعالي (التجاوز) والفرح الذي يستطيع فقط فعل الحب الجنسي إتاحته. فالفعل الفيزيولوجي للجنس في ذاته لا يتيح للمرء شحنةً قادرة على ارتقاء الروح إلى أعالي القمم. وهذه الشحنة هي الإحساس بالحب الذي يستطيع الارتقاء بروح الشخص إلى الأعالي الرفيعة حتى بدون الاتصال الجنسي. فالحب الملتحم في الفعل الانفجاري للحميمية الجنسية يمكن أن يؤدي إلى شحنة قادرة أن توضع في مدار الروح الإنساني.

لقد أصبحت الجنسانية سوقية بالنسبة لهذه الثقافة ذات القيم الوهمية التي تسود حياتنا. قيم مثل النجاح، السلطة، الشهرة، الثروة، بيوت فخمة وأصناف أخرى مكلفة لا تمت بصلة إلى قيم الجسد. ما من شيء من هذا كله يزيد من اللذة الجسمانية، إذ من المؤكد أن منزلاً رائعًا لن يحسِّن من صحة مالكه. فهذه الأشياء أو الملكيات التي نسعى إليها على نحو يائس تهمُّ الأنا فقط، نظرًا إلى أن قيمها توجد في العقل لا في الجسد، في حين تمثل القيم الجسدانية اتصالاً مباشرًا مع الأحاسيس الجسدانية. أثبت ثلاثة أمثلة منها: 1. وضعية منتصبة لائقة. 2. حركات رشيقة. 3. حديث منطقي متكامل. فمن يملك صفات كهذه هو إنسان مُنعَمٌ عليه بإحساس الفرح الذي يضيء حياته كما الشمس.

الإنسان الحديث أسير للقيم الأنانية، ذلك لأنه فقد إحساسه بالحقيقة عندما فقد اتصاله مع حقائق الحياة: الإحساس بالأرض التي نطأ عليها، اختبار فرح أن نكون ممتلئين بالحياة، وفي تناغم مع الجسد خاصتنا، الشعور بالحب تجاه كل الخلائق الصغيرة والكبيرة. ففي رأيي أن الإنسان الحديث معلَّق في أناه.

لا أقصد الوعظ بالمحبة لأن الكلمات عاجزة عن التأثير في الأحاسيس الأكثر عمقًا في الجسد، تلك الملازمة للسياقات الطبيعية، مثل النبضات الايقاعية للقلب، ودفعات التنفس، والاهتزاز الايقاعي لكل خلايا الجسم الحية. ففي نوعية كائنات موهوبة بحساسية، لديها وعي بالحركات التي تنشد أعظم اتصال للمتعضية الحية مع الجو المحيط، أحاسيس مؤلمة تصدر عن حركات انكماش إزاء الاتصال مع العالم الخارجي (المعرفة، حركات الانقباض). ومن جهة أخرى، فإن الحركات في اتجاه الاتساع تؤدي بنا إلى أحاسيس السرور. ولكي نبسِّط الأمر: بالحب نتوسَّع وبالخوف ننكمش.

هذه الخفقات الأساسية (انبساط وانقباض، لذة وخوف) ملازمة للسياق الحي، بدءًا من البلازما البسيطة، مرورًا بالفطور، وصولاً إلى الأشكال العليا للحياة بما فيها الإنسان. ففي أشكال الحياة المتطورة والمنظمة إلى درجة عالية تشترك الحركات العفوية مع جريان السوائل الجسمانية من خلال أقنية الجسم المتعددة. فجريان الدم، على سبيل المثال، يجري على نحو نبضي: ينبسط ثم ينقبض. لكن لديه أيضًا وجهة يتبعها من القلب إلى الأعضاء المحيطية، ومن ثم يرجع إلى القلب. نختبر هذه الحركات كسيَّالة للإثارة داخل الجسم. ففي المتعضيات الأكثر تطورًا تمثل سيالة كهذه اتجاهًا طولانيًا من الرأس إلى الوراء وإلى أسفل، ثم في الاتجاه المعاكس إلى الأمام وإلى أعلى. إلا أنها، باعتبارها نبضية، لا تستطيع السيَلان في اتجاه أكثر من آخر. ففي الكائن الإنساني لا يمكن أن تكون سيالة الإثارة حتى الرأس أكبر من السيالة باتجاه القدمين، كذلك ليس بوسعنا القول إن تيار الإثارة باتجاه الأعضاء التناسلية يمكن أن يكون أكبر من تيار الإثارة حتى العينين.

الخفقة الطولانية من الرأس إلى القدمين، والعكس بالعكس، هي إشارة مميزة لشخص معافى متصل مع جسده ومع الأرض. الاتصال العميق مع الجسد يستند على قاعدة الشعور بالحب نظرًا لكونه متمركزًا في القلب. أن نحب يعني الشعور بالاتصال من خلال القلب مع قلب الشخص المحبوب. فعندما يتحاب قلبان فإنهما يخفقان بتناغم وبالإيقاع نفسه. ولكي يحصل هذا الأمر على القلب أن يكون منفتحًا. فالقلب المنغلق لا يشعر بالحب لأنه لا يتوصل إلى الاتصال مع قلب شخص آخر. أمَّا قلبان يخفقان كقلب واحد، فهاهنا مَثَل العشاق. يبدأ تجميد القلب في شغافه (غلاف القلب) وفي عضلات القفص الصدري. والتوترات العضلية المزمنة في هذه المنطقة تقفل على القلب في وعاء صلب يحدُّ من قدرته على الشعور بالاتصال مع الحياة ويقود إلى إحساس عميق بالعزلة. ازدياد خطورة هذا الإشراط يمكن أن يؤدي، في حده الأقصى، إلى اعتلال القلب أو حتى إلى الموت. أهتم بالعلاقة بين الحب والاتصال مع الأرض grounding أو بين نقصان الحب وفقدان "الأرض التي هي خاصتنا"، فبالنسبة لمعظم الناس في هذه الثقافة يبدأ سياق كهذا منذ الولادة.

عندما يولد الطفل فإن أرضه هي جسد أمه الدافئ والمحب. وفي معظم الثقافات السابقة للقرن العشرين يظل الطفل متصلاً بجسد أمه، محمولاً على ظهرها حتى بلوغه أحيانًا الثلاث سنوات. فساكنو الولايات المتحدة الأصليون من النساء كنَّ يحملن أبناءهن في سلَّة على ظهرهن أثناء قيامهن بمهامهن. وكانت المكسيكيات منهن يحملن أطفالهن في شالٍ ملتف حول جسدهن. وعلى هذا النحو كانت الأم تستطيع أن ترضع ابنها كلما اقتضى الأمر. يوفر الإرضاع للطفل الاتصال الأكثر حميمية مع الأم بعد خروجه من الجو المحيط الساخن والآمن لرحمها. ومع هذا الترتيب كانت الأم تستطيع العناية بعملها الأسري الضروري، دون انقطاع هذا الاتصال الحيوي مع الطفل. لسوء الحظ، إن الاتصال عن كثب ليس خبرة عامة في الثقافة الغربية، ففيها يوضع الصغار في مهد، وذلك لتحرير الأم لكي تقوم بمهام أخرى، والإرضاع صار تجربة غير مألوفة.

لم أشعر باتصال مع الأرض grounding لأنني لم أكن قادرًا على الاستسلام تمامًا للحياة. وأنا، مثل كثيرين آخرين، ذو حاجة طفولية ضرورية لأن أكون محبوبًا دون شروط مسبقة، ولكن، لم تتم الاستجابة لهذه الحاجة، وكنت أظن أن النجاح والإنجازات وأن أُعرَف على مستوى عامة الناس سوف يضمن لي الحب والأمان. لكن ذلك لم يجدِ نفعًا. إلا أنني، ولحسن حظي، فهمت لتوي أهمية إبقائي على اتصال مع جسدي، وأن أحل مشاكلي على هذا المستوى. كانت المشكلة هي انعدام شعوري بالأمان والخوف الناجمين عن نقصان الاتصال الكامل مع الأرض grounding، حتى أن جهودي مع تمارين الطاقة الحيوية لم تحقق نجاحًا جيدًا، فقد كنت معلقًا وبدون وعي لهذا الأمر. كنت أبرِّر جشعي بفكرة أنه لدي الكثير لكي أقدمه للعالَم، مثل منظور علم الطاقة الحيوية للشخصية الإنسانية. رغم أن هذا يمكن أن يكون حقيقة، لكن، لم يكن يبرِّر استخدامي له لكي أعزِّز أناي. إن "أنا" معافى لا يحتاج مساعدة لكي يبقي احترامي الذاتي في حقيقة الجسد وإحساساته. ولذلك عدتُ إلى نفسي، إلى الجسد، وإلى تمارين الاتصال مع الأرض grounding التي أقوم بها عمليًا كل يوم.

فالمرء غير المتعلق بالقيم الأنانية قادر على الانفتاح، على جعل كل نشاطاته وعلاقاته أكثر امتلاءً وعطاءً. هذا هو الحب الذي يشمل قلبًا منفتحًا. في قلب منفتح تتناسب كمية الحب التي يشعر بها الشخص ويتلقَّاها في علاقةٍ مع الإثارة واللذة التي تتيحها هذه العلاقة. هذا التحليل ليس مشروطًا بالعلاقات الرومانسية فقط، إذ يستطيع هذا الشخص الاتصال انفعاليًا مع مكان أو مع عمل ككتابة مقال، تشييد مكتبة، حتى أيضًا مع أن يرقص. إن كمية الحب التي يشعر بها محددة بالدرجة التي يتوصل فيها إلى الاستسلام له أو تسليمه لأي شيء يحرضه بطريقة يشعر فيها بالسرور. يستطيع هذا المفهوم للحب أن يُمَثَّل من خلال الحكمة القديمة: "كل ما تفعله، قم به من كل قلبك".

لسوء الحظ، يمثل انفتاح القلب بالنسبة لأغلبية الناس أمرًا مرعبًا. إذ لا يشعر المرء أنه عار ومعرَّض لأن يُجْرَحَ فقط، بل يخشى أن يُترك حزينًا، مرفوضًا، ذليلاً ووحيدًا. عايشنا هذا كله حين كنا صغارًا. في براءتنا كان قلبنا منفتحًا على أبوينا اللذين لم يكن بمقدورهما أن يبادلا هذا الحب بالتمام. فكل رضيع، وكل طفل، يفتقد التزامًا غير مشروط من قبل الوالدين، والتيقُّن بأنهما سيكونان إلى جانبه في كل مرة يحتاج فيها إلى الشعور بالأمان والاتصال. ودائمًا يفشل الأبوان في هذا المُفاد. ويعاني الطفل الأثر نفسه الذي يشعر به الراشد كما لو أنه اختبر هزة أرضية قوية. من الطبيعي، إذا استطاع الراشد البقاء على قيد الحياة، أن يستطيع الطفل البقاء على قيد الحياة مع فقدان وقتي للأرضية التي يستند عليها وذلك عندما لا تبادله الأم حاجته. ولكن كل واحدة من هذه الخبرات تضعف الإحساس بالأمان لدى الطفل في علاقته مع العالم. وانعدام الإحساس بالأمان يُحمَل عبر الحياة التي تظهره كعجز تام عن انفتاح القلب للحب. وهكذا نمضي الحياة مقدِّمين لرفقائنا حبًا مشروطًا، شبيهًا بذلك الذي تلقيناه من أبوينا.

يمكن أن نعبر عن هذا الوضع بالطريقة التالية: "أنا أحبك على أن تقبلني وتحبني على نحوٍ غير مشروط". والأمل بأن يحصل هذا يطلق إثارة قادرة على إزالة الأرض من تحت القدمين. أعتقد أننا، جميعًا، شعرنا سابقًا بهذا الحب الساحر في لحظة ما من حياتنا، وأنا على يقين أننا عايشنا سابقًا الإحباط وذلك بإدراكنا أن هذا الحلم لا يمكن له أن يتحقق. وهكذا نختم طفولتنا، ولا يمكن بالنسبة لكل الناس، ولن يستطيع شخص آخر أن يعوِّضنا عن ذلك. نحتاج إلى المسير على ساقينا الخاصتين. وإذا لم نقم بذلك، فإن حياتنا تؤول إلى الفشل. بالإضافة إلى واقع أننا تأذينا من خلال عدم ملاءمة الرعاية الموجهة إلينا من قِبَلِ والدينا عندما كنا أطفالاً، وسنلمح أمامنا أن ما يعد به المستقبل هو دون آمال.

ولكن ثمة آمال. وفي النهاية، لدينا ساقين نثبت عليهما، وفي المقابل يسببان لنا إحساسًا بانعدام الأمان. وعندما نصير راشدين فبوسعنا اتخاذ الاحتياطات اللازمة لتحصين ساقينا وجعلها أكثر أمانًا – ربما يكون ضروريًا أن نعتمد على مساعدة ما لنضمن هذا التحقيق. ووظيفة العلاج هي، أو بعبارة أخرى، يجب أن تكون وظيفتها بالضبط هي هذه: مساعدة الشخص على الشعور بالأمان أكثر عندما يكون واقفًا على قدميه.

وحسب تجربتي فإن انعدام الشعور بالأمان عند معظم الناس هائل، وما من وسيلة سريعة أو سهلة لتفادي هذه الحال. وتمارين الطاقة الحيوية توجد للمساعدة في بلوغ هذا الهدف. لكن الأفراد يفضلون المقاومة على أن يلتزموا بهذا البرنامج الذي يُكرَّس للأحاسيس، وليس للقدرة. إنه لأسهل بكثير إقناع أحد بالقيام بالتمارين الشعبية كالآيروبيك (الجري، قيادة دراجة ergometrica، استعمال حصيرة للتمارين... الخ) من إقناعهم بالقيام بالتمارين التي تثير أحاسيسًا.

قِلَةٌ هم الذين لديهم استعداد للشعور بدرجة انعدام الإحساس بالأمان عندهم، وعلى النحو نفسه الشعور بالحزن والفراغ في حياة لا ارتواء فيها وبدون تحقيقات. ويُلاحَظ الغضب الشديد، والحزن العميق لدى الأشخاص المحرومين من الحب في طفولتهم، حب كان بإمكانه أن يتيح لهم الشعور بالأمان الذي كانوا بحاجة إليه. ليس سهلاً في الحياة الراشدة القبول بأن أحدًا في وسعه أن يقدم لهم ما ينشدونه من شعور بالأمان. إنهم يعتقدون أن تمرين القوة سيكون بإمكانه التعويض عن فقدان الشعور بالأمان الداخلي.

ففي ثقافتنا تعني القوةُ المالَ أو الثروة. وهذا هو نزاعنا الرئيسي، فالناس تبذل جهدًا عظيمًا لتحصين وضعية الأنا بأن يصيروا أغنياء مقتدرين، ومشاهير، ومشهورين، أو جذابين جسمانيًا. يخلق هذا المجهود شخصية نرجسية غير قادرة على الحب، يعد الجنس بالنسبة إليها تعبيرًا عن الأنا، وليس عن الحب. ولكي نشيد القدرة على انفتاح القلب على الحياة، علينا التخلي عن هذا التأكيد على الأنا.

ترجمة: نبيل سلامة

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود