الصفحة السابقة                             

قواعد علم الطاقة الحيوية: الجزء الثالث

ألكسندر لووِن

الجزء الثالث
اهتزاز

لتحليل علم الطاقة الحيوية مفهوم خاص للاهتزاز، وهو الذي اختبرته في علاجي مع رايش. وأنا أتنفس مستلقيًا على الحمَّالة، شعرتُ في جسمي ردي فعل اثنين لا إراديين، وعفويين. نبض في اليدين، وارتجاف في الساقين. كانت يديَّ معتادتين أن تكونا باردتين، وبطريقة ما مجمَّدتين، غير قادرتين على تحمُّل حمولة طاقوية قوية. (واقع حال تدخيني للغليون كان أيضًا يساهم في تلك البرودة، ذلك أن النيكوتين يجعل الأوعية الدموية المحيطة في حالة انقباض)، والإحساس بالنبض كان يشير إلى زيادة في الحمولة الطاقوية، التي كانت تجعل يديَّ دافئتين بقدر ما كانتا تسترخيان. وكان هذا الإحساس يظهر على الشفتين، اللتين كانتا تظلان أكثر حمولة. وبقدر ما كان الجسد يسترخي، كانت ساقاي تبدآن بالارتجاف ليبدأ إحساس لذيذ. كانت عضلات الساقين تسترخي، كما كانت تصير أكثر طاقة وتأخذ بالاهتزاز. وكانت الساقان تهتزان وفقًا للمستوى الإيقاعي وليس على نحوٍ فوضوي.

تدعى هذه النبضات بالتنميل، والتي يعرِّفها قاموس Funk & Wagnall على أنها "عيوب في أعضاء الحواس الخارجية"، وعلى أنها نفسانيًا "هلوسة سببها أحاسيس ملتوية أو غير طبيعية". ومن جهة أخرى، كنت أعتبر أن هذه الظاهرة ازدياد في إثارة جزء محيطي للجسد بسبب اتساع التنفس الذي بمقدوره أن يكون قويًا جدًا ويؤدي إلى شلل مؤقت. وعلى الرغم من أن بعض الأطباء يعتبرون الظواهر غير الطبيعية (كالتنميل، أو اللدغة، أو الاحتراق البسيط في العضو دون مؤثرات خارجية) على أنها رد فعل مَرَضي، فثمة دائمًا استقبال ملائم لهذه الظواهر غير الطبيعية. والآن، وبعد أن أصبحتُ أكثر استرخاءً بفضل عمل علم الطاقة الحيوية الذي تطور معي، أستطيع تركيز الطاقة في اليدين أو القدمين بشكل واعٍ و"التسبُّب بالنبضان".

في اختباراتهم الأولى كالتنميل والارتعاشات اللاإرادية، يفزع معظم المرضى. وقد اعتدت على تهدئتهم، مذكرًا إياهم ببساطة أن الموتى لا يتحركون ولا يهتزون. فالاهتزاز ظاهرة الحياة، والجسم الحي ينبض، والاهتزاز مظهر للخاصية النبضية للنسيج الحي. وإذا لم يكن لدى الشخص خوف من فقدان السيطرة، فالاهتزاز يمكنه أن يتحول إلى تحرير من الميزة الصلبة للعصاب. ويَعْتَبِر الحقل الطبي حتى الآن أن فقدان السيطرة هو ظاهرة مرضية، ولا تقتضي هذه الظاهرة أن تكون على هذا النحو، فالفرد الذي يخشى الاستسلام لأحاسيسه يمكنه رؤية الفعل الاهتزازي للجسم كما لو أنه ضعف مرضي. ومع ذلك، فالسيطرة ليست بالضرورة صحية، وفي معظم الحالات تمثل خوفًا من الأحاسيس الشديدة التي تحركنا. فشخص غاضب – لكنه معافى – يستطيع بالحرف الواحد أن يرتجف غضبًا، ودون أن يحمله ذلك إلى فعل مدمِّر. وتسبب لدى بعض الأفراد أحاسيسًا قوية بالخوف، فالشخص معافى، ولذلك لا يخشى أحاسيسه الخاصة. خشية الأحاسيس علامة على الشخصية العصابية. فنحن نكون ما نشعر.

أنت هو جسدك، وغاية العلاج هي مساعدة المرء على أن يتحد به. فنحن جسدنا، ومع ذلك، فالكثير من الناس لديهم خوف من الأحاسيس الأكثر شدة ومن الجسد. وهذا الخوف يجعلنا محدودين لأنه يقفل علينا داخل العضلات المنقبضة على نحو مزمن. فالانقباض المزمن يلغي الإحساس بالخوف، ولكن هذا له ثمنه: تقليص العفوية في الحركات والأحاسيس. يتناول العلاج استعادة الفعل الاهتزازي للعضلات، الأمر الذي يقتضي زيادة الطاقة في الجسم، وخصوصًا في العضلات.

فمن الضروري أن تحرك الطاقة الجسد لكي تجعله يهتز. وبالرغم من أن الوصول إلى هذه النقطة هو أمر صعب، فعندما نتوصل إلى جعل منهَكٍ يهتز، فإن كآبته تزول. وزيادة الطاقة في الجسم تتطلب أن يبقى التنفس أكثر عمقًا. فالدلالة الأولى على أن الجسد محمَّل بالطاقة هي تنمية أحاسيس النبضان. فهذه الأحاسيس تستطيع توفير حركات عفوية في الساقين وفي الجذع بشكل عام، ولكننا نحتاج أن نعمد إلى بعض التمارين لتعبئة الجسد قبل الوصول إلى اهتزازٍ ما ذي معنى: إن تمارين الاتصال مع الأرض grounding تهدف إلى ايقاظ فعل اهتزازي ما في عضلات الساقين. هذا الاهتزاز يعطي بدءًا سيَّالة من التحريض في الساقين، والتي بوسعها الصعود عبر الجسد مسبِّبةً فعلاً اهتزازيًا قويًا في الجذع. وبشكل طبيعي إذا بدأ الفعل الاهتزازي في الجذع، فإن التنفس يصبح أكثر عمقًا، ويرتفع مستوى الطاقة منشطًا الفعل الاهتزازي.

الاهتزاز القوي أكثر من اللازم يمكنه أن يؤدي إلى قلق عند المريض. وعندما يحدث ذلك أثناء جلسة علاجية، فمن الممكن أخذ الأنا بالحسبان، فالأنا يدفع بالشخص إلى الانزواء والارتداد على أعقابه. فالفرد يمكنه حتى أخذ وضع جنيني في جهده لاحتواء الخوف. يحدث هذا أحيانًا مع أشخاص متاخمين للمرض، ذوي جسم لا يستطيع احتمال حمولة قوية. لكن هذا لا يتضمن أي خطر لمن يكون في حضور معالِج – الذي هو هناك لكي يقدِّمَ الشعور بالأمان. إنني أعطي دائمًا الأشخاص المتاخمين للمرض هذا الدعم، في حال أصابتهم شدة الإثارة بالهلع. فبتأنٍّ وعلى نحوٍ آمنٍ رأيت إلى هذا الحد مرضى يتحولون إلى أشخاص ممتلئين حياة، وأكثر احتواء ذاتيًا وأكثر فعالية. والنتائج الإيجابية نفسها تحدث مع نموذج مريض عصابي، إذ يعتادون على الشعور بخوف أقل واتصال أقوى مع الجسم نفسه، ففيهم إحساس أقوى بقيمة أكبر وشعور باللذة.

وفي حالات قليلة، فالعمل كنشاط اهتزازي قوي يمكنه تمامًا ايقاف المرضى على الأرض. فهؤلاء الأشخاص كانوا أقوياء جسمانيًا مع حمولة عالية من الطاقة، لكنهم كانوا يفتقدون الإمكانية على احتواء هذه الطاقة، لأنهم حين كانوا صغارًا سيطر عليهم اهتمامهم الجنسي لأحد الوالدين. ففي إحدى الحالات نمَّى جسم المريض كل صنوف الحركات العفوية، وذلك عندما ازدادت الحمولة الطاقية كنتيجة لتنفسٍ بعمق، أخذ رأسه يتحرك بعفوية من اليمين إلى اليسار، وذلك في حركة نشيطة من نكران إلى أنه لم يكن يتوصل إلى إحداث التكامل ولا الاتصال مع أحداث بداية حياته. فحركات الرأس وهي تطرق على الحمَّالة انبثقت على نحو عفوي كما لو أنه يقول "لا أستطيع الاحتمال".

مثال على مظهر الصحة وتجربة الفرح – حركة تشنجية لا إرادية، كنموذج خاص للاهتزاز – هو انعكاس لهزَّة الجماع، مليء باللذة، لأنه يضاعف حركات الجسد في ذروة الفعل الجنسي، وذلك دون وجود حمولة جنسية في الأعضاء التناسلية. عايشت هذه الحركة التشنجية ظاهريًا في علاجي مع رايش، كإحساس قوي، واختبرتها في علاقاتي الجنسية مع زوجتي. هاتان التجربتان صارتا ممكنتين كنتيجة للعلاج مع رايش، وعلى غراره اعتبرت رد الفعل هذا إشارة إلى الصحة الانفعالية. عليَّ الاعتراف بأن قلَّةً من المرضى وصلوا إلى هذه النقطة، الأمر الذي أعزوه إلى تلف صحة الأشخاص الانفعالية على مدار الخمسين سنة أخيرة، وإلى شخصية رايش الصادمة بقوة. وهكذا فحتى الآن، الحياة الجنسية بالنسبة لكثيرين قد تحسَّنَت على نحوٍ معتبَر بالعلاج. وأتابع معتبرًا انعكاس هزة الجماع مقياسًا للصحة الجسمانية والانفعالية للفرد. فالجسد الحي يظل في حالة اهتزازية تظهر في رجفات ضئيلة عبر الجسم، مرئية حتى وأنت في استراحة. العينان، على سبيل المثال، لا تستطيعان البقاء ثابتتين البتة عندما تكونان مفتوحتين. وتسجلان حركة ما دائمًا. فهذا النشاط الاهتزازي يمكن أيضًا أن يكون ظاهرًا عبر مقياس القدرة الكهربية في العضلات. وهذه الظاهرة الكهربية هي مظهر للنشاط الاهتزازي لأنها تزول مع توقف كل حركة المتعضية. وعلى الرغم من أن الاهتزاز مظهر متصل بالنسيج الحي، فنوعية النشاط الاهتزازي تتنوع حسب الحالة الانفعالية للمتعضية. ستصير الاهتزازات أكثر قوة وعنفًا إذا كانت الحالة الانفعالية شديدة جدًا. فالجسد يرتجف غضبًا، وتتملكه حركات تشنجية في بكاء شديد أو قفزة من الفرح. وبشكل خاص في الفعل الجنسي فإن هذا النشاط الاهتزازي أو التشنجي يمكنه بلوغ قمم الشدة واللذة المتميز لتجربة الانتشاء. إلا أن إثارة مؤلمة سيكون بوسعها أيضًا أن تجعل الجسد يهتز أو حتى إظهار تشنجات.

النشاط الاهتزازي للجسد هو قاعدة الحياة الحسَّاسة. فجسد لا اهتزاز فيه هو ميت انفعاليًا، أو أنه محروم من الأحاسيس. هذه هي المشكلة الأكثر عمومًا في ثقافتنا حيث معظم الناس لا يشعرون بأقدامهم، وآخرون لا يشعرون حتى بسيقانهم. وتنفسهم سطحي، الأمر الذي يتيح مستوى منخفض من الطاقة في الجسم، وخسارة ناتجة للفعل الاهتزازي. وينجم من هذا مستوى منهكًا وظيفيًا، ما يقود إلى حالة من الكآبة. وعلى الرغم من غياب إحساس كئيب فإن هؤلاء الأشخاص يعملون في مستوى انفعالي كئيب، وبمعنى آخر، يعيشون على قاعدة الوظيفة الواعية وفي تمرين الإرادة وليس وفقًا لأحاسيسهم.

كل مشكلة عصابية نجد لها جذورًا في حالة جسمانية من الكآبة الاهتزازية، على الرغم من واقع أن بعض الأشخاص العصابيين يشتغلون في مستوى زائد من النشاط. فهذا لا يعني أنهم أكثر حياة وأن لديهم طاقة أكثر. إذ إن نشاطهم الزائد ينجم عن عجز في احتواء الإثارة والأحاسيس. هذا النقص في السيطرة هو سبب حالة من الانقباض في الجهاز العضلي الذي يُسَيطَر عليه بسهولة عندما تجري فيه زيادة من الحمولة أو الإثارة. ومع أن التوتر العضلي المزمن يكون مسؤولاً عن الجسد المكتئب أو الشبه محمَّل ومن خلال شرط النشاط الزائد، فتحدي العلاج يشتمل على استرجاع الحالة الطبيعية الحيوية للجسد، محررًا التوترات العضلية المزمنة التي تحجز حرية سيَّالة الإثارة للجسد. عندما يحصل هذا، فإن السيَّالة تعبر مثل نهر يفيض على ضفتيه، كنهر محاصر بالصخور الكبيرة والكثيفة في مجراه النهري الذي يزبد ويهيِّج مجاريه المائية السريعة. إن سيَّالة صحية من الإثارة هي كنهر عميق يجري باستمرار وبهدوء أو مثل سيارة ذي محرك قدير يعمل بسكوت ونعومة.

إن كتاب تمارين علم الطاقة الحيوية يحتوي تمارينًا أساسية مستخدمَة في التحليل الطاقوي الحيوي لكي يثير هذا التيار الصحي.

ساعدني مفهوم الاهتزاز على فهم الديناميكية الفيزيائية للجسم، وحركته الانفعالية. وصفت جسم بعض المرضى كما لو أنه ميت، أو بالأحرى، ميت انفعاليًا، كما لو كان متوقفًا في حالة صدمة، وذلك بفعل صدمات نفسية في الطفولة. وفي حالات كثيرة، فإن شكلاً ما من علاج الصدمة كان ضروريًا لتحريرها، على المستوى الجسماني وعلى المستوى الانفعالي. يحصل الصدم طبيعيًا من خلال الوعي لامتداد الضرر المؤلم للمريض بسبب الإهمال أو المعاملة السيئة من قِبَل الوالدين. ويمكن لهذا الصدم أن يكون إحساسًا بالخوف المرفوض من قبل الشخص، أو حتى صورة قد تم حجزها في وعيه. ويمكن له أيضًا أن يكون إحساسًا بالفشل مرفوضًا من قِبَل الشخص، وذلك خلال الحياة كلها، لكنه ينبثق الآن كواقع حياته. فالصدم يزعج الشخص بالشكل الكافي لكي يليِّن الحالة الصلبة والمعلَّقة لجسمه، وبهذا تسمح له أن يعايش شعورًا أو إحساسًا محفوظًا في عمق كيانه. فالصدم أحيانًا يكمن من خلال سماعه، في العلاج، حول ذاته نفسها التي لم تكن تعتقد بأنها من الشجاعة بما يكفي لمواجهة حقيقتها. فالصدم يحرر كمية كبرى من الطاقة والأحاسيس حتى ولو كانت ملغاة لكي تحمي البنية العصابية.

يزعزع الصدم بشكل مؤقت البنية العصابية، ويسبب في حالات كثيرة اهتزازات وارتجافات. يمكن لهذا التأثير أن يكون عامل تحويل، ولكن وبشكل عام يفتح الباب بشكل جزئي فقط. إن فتحة كهذه يجب أن تكون موسَّعَة ومحصَّنَة بواسطة جعل فهم المريض كاملاً حول بنية الطبع وزيادة حمولة جسمه مع تعميق التنفس. فالتنفس الأكثر عمقًا يتعزز بالبكاء. بكاء المرء وهو يشهق يحرِّض اهتزازًا في قناة الجسم الداخلية والحبال الصوتية. فإذا كان التنفس قويًا وكافيًا، فنحيب المرء يصير تشنجيًا، ويبلغ حتى عمق منطقة الحوض، مسببًا بكاءً يأتي من الأحشاء، إن هذا في علم الطاقة الحيوية شبيه بالقهقهة التي تصعد من البطن، والتي من الممكن أن تصير تشنجية. فهذا البكاء العميق يفتح القلب. وقد اختبرت ذلك بنفسي في عدة مناسبات.

لكي يكون المرء معالجًا، على البكاء أن يأتيه بشهقات وليس دموعًا[1] فحسب. فالدموع مظهرٌ للحزن، ولكن حسب علاقة الشخص بما يرى وليس بما يشعر. وبخصوص الطفل، فبمجرد نظرة أو نبرة صوت سلبية أو غاضبة من الوالد أو الوالدة تشكل مثالاً جيدًا للعلاقة بين البكاء والتوتر. فجسم الطفل يصير صلبًا مع الصدمة. ولحظات فيما بعد، عندما تتحول الصدمة إلى ارتجافات وتحسُّر مستمر، فإن الطفل يبدأ بالبكاء. ففي معظم الحالات لا يتوقف بكاء الطفل عندما لا يتجاوب الأب أو الأم على نحوٍ إيجابي لحاجة الطفل إلى لمسة حنان. فإذا لم يقدما هذه اللمسة فإن الطفل سوف يبكي حتى تنفد قواه، ويستسلمَ للنوم. ففي هذا المستوى تصير الصدمة لتوها ضمن بنية جسمه. فقد شاهد رايش ردة فعل كهذه لدى طفل له أسبوعان من العمر، وفي اللحظة التي بقي فيها دون دعم بشكل مؤقت، فإن كتفيه أصبحا قاسيين في الأعلى، وتوقف عن التنفس. وردة الفعل هذه معروفة على أنها "قلق السقوط"، ومن الممكن التحقق منها عند الراشدين الذين يقومون بإحدى تمارين السقوط في جلسة العلاج.

البكاء ميكانيكيةٌ طبيعية للتحرر وذلك عندما يختبر المرء فقدانًا ما أو ينتابه رعبٌ. فالراشدون تعلموا ألا يبكوا في هذه المواقف وأن يظهروا أنفسهم أقوياء، وألا يستسلموا، وألا ينكسروا تحت وقع ضغط ما. ثمة لحظات يكون الشخص فيها في خطر على نحوٍ يظهر فيه غير محمي وعاجز أو أن البكاء يهدد حياته. وفي هذه الحالة يعبئ إرادته لمواجهة الموقف بفعالية. إلا أن الإرادة تضع الجسم في حالة عالية من التوتر ولا يجب استعمالها إلا في حال حدوث خطر ما. وبعد عبور الخطر يحتاج الجسم أن يُسمَح له بالسقوط لكي يُطلِق تأثير التوتر. تعاليم المجتمع التي تنحو إلى الحصول على النجاح والمكاسب المادية تتضمن ما يلي: "لا تفقد الرأس" و"ابتلع مشاعرك وأحاسيسك" (ولأجل هذا تنصح بتثبيت الفك وإظهار تعبير بالفوقية في الوجه). أشخاص كثيرون يعبرون الحياة كلها مع هذا القناع الذي اُبتُكِرَ منذ الطفولة، في المرحلة التي تعرضوا فيها للنقد أو الإذلال لكونهم مازالوا يبكون ويظهرون مرتاعين.

لسوء الحظ، التوتر العضلي المشترك في مواقفٍ كهذه مدمِّرٌ للجسم. فالفك الموصَد يجعل بكاء المرء صعبًا، ويعرقل حتى التنفس العميق. بعض الأشخاص يمكنهم أن يصرُفُوا بأسنانهم في المساء، مضرِّين بأسنانهم وبعضلات الوجه. فالفك المثبَّت في وضعية مُسْقَطَة إلى الأمام لا تسمح للشخص بالاسترخاء. نشاهد أيضًا العكس: فالفك المرتد إلى الخلف يمنع ظهور العدوانية. فهذه الحالة الصلبة بقدر ما تحجز التنفس كذلك الأمر مع البكاء أيضًا، حسب تطور حالة التثبيت نسبيًا. وإشراطات إلى هذا الحد يمكن معالجتها من خلال علاج علم الطاقة الحيوية، الذي يشتغل على الجسد بواسطة تمارين ملائمة لها. فضلاً عن ذلك فهي تشتغل على العقل مساعِدةٍ المريض على فهم أن هذه التوترات نمَت في المستوى اللاواعي في الطفولة كاستجابة على مواقف هددت المريض.

تسمح تمارين نوعية للفرد بالاستسلام، ومع هذا فإن فكَّه يمكنه أن يبدأ الشعور بالاهتزازات. والتوتر في نقرة الرقبة الذي له غاية في إبقاء الأفعال والأحاسيس تحت السيطرة، ويمكنه الاسترخاء بالتمارين الملائمة. ففي الطفولة تمثل هذه التوترات مظهرًا لمقاومة متطلبات الوالدين المعتبرة سلبية بالنسبة للطفل. وعندما تبقى في الحياة الراشدة تنتقل لتشكِّل جزءًا من الطبع العصابي، وتعبِّر عن تصلُّب معمم. وهؤلاء الأشخاص يقاومون، بشكل عام، أية متطلبات تُوجَّه إليهم. ولسوء الحظ فالتوتر في هذه العضلات يؤثر في الأوعية الدموية التي تذهب حتى الدماغ جاعلة أفرادًا كهؤلاء ميالين إلى التعرض إلى حوادث مثل جلطات دماغية. إن علم الطاقة الحيوية هو علاج يوصى به أكثر في هذه الحالات، وذلك لتناوله رؤية يتكامل فيها الجسم والعقل.

ولكن، ليس سهلاً تخفيف التوترات المزمنة. فالعدول عن السيطرة ليس شيئًا يمكن القيام به – لأن العمل هو في ذاته شكل من أشكال السيطرة. والمهمة العلاجية تكمن في مساعدة الشخص على الاستسلام لجسمه الخاص. ولهذا فهو يشير إلى التخلي عن الإرادة. ومن الواضح أن استعمال الإرادة للتوصل إلى استسلام الإرادة هو أمر متناقض في ذاته. فالمرضى لا يتحسنون لأن هذه هي رغبة الإرادة. لقد اعتدت مثل رايش على أن أقول لنفسي حول التنفس: "لا تفعل شيئًا"[2]. فالجسم يعرف كيف يتنفس ونحن نسلِّم أنفسنا له. وإذا لم نثق به فبمن وبما نستطيع أن نثق؟ لا نثق بجسمنا لأننا لا نثق بأنفسنا، وفي الطبيعة، وفي الله. ندخل الحياة كمخلوقات صغيرة واثقة ونتلقى الصدمة عندما نتحقق أن دوافعنا الطبيعية سيئة وغير مقبولة. نحتاج القبول بأحاسيسنا. فهذا لا يعني أننا سنبدأ التصرف فقط من أجل هذه الدوافع. ولكن هذا يعني أن نتعرَّف عليها ونقبل بها كجوهر وجودنا.

التحرر من الالتصاق بالمستوى العقلي كان إحدى مشاكلي. وعملي الشخصي في العلاج ساعدني كثيرًا أن أتخلَّى عن السيطرة المشتركة مع بنية الطبع العصابي. بيد أنني اكتشفت بأنني حتى الآن لم أكن حرًا من علامات عصابية. لم يكن بمقدوري التجرد عن العقل والاستغناء عن السيطرة. فكان رأسي يخدمني جيدًا دون أدنى شك، وحققت بعض الأشياء التي أفتخر بها. ومع ذلك بقدر ما كنت أتقدم في السن، أصبحت أشعر في نقرة الرقبة، والضغط estresse المفروض بسبب المحافظة على السيطرة على الذات. توترات مزمنة في الجسم موجودة منذ السنوات الأولى للطفولة ولا تزول بشكل كامل، ولا نستطيع التحول إلى شخص آخر. فإذا كان هذا ممكنًا، سنخسر تاريخنا المسجَّل في الجسم. إذا كنا من نحن، فبوسعنا التحرر من التوترات المزمنة، وجعل أنفسنا أكثر امتلاءً بالحياة وأكثر مصداقية.

قررت تحدي خوفي من فقدان رأسي. واخترت لذلك الشقلبة. ففي عام 1960 كنت قد قمت بعدة تمارين مع مريض على أرجوحة، بشكل شبه منحرف barra de trapézio، وُضِعَت في عيادتي. (ومع ذلك كنت أشعر بخوف من هذه البهلوانيات منذ سقطة عانيت منها حين كنت في السادسة عشرة من عمري). بدأت بالشقلبات على فراش وأخذت تتطور حتى النقطة التي توصلت بها إلى تحقيق بعض التمارين البسيطة على الأرجوحة المتحركة. وهذا سبَّب جزءًا لا بأس به من الخوف.

عندما بلغت الثامنة والسبعين سنة بدأت أشعر بالتوتر في عضلات الرقبة، وأدركت أن لها علاقة بخوفي من فقداني للرأس أو كسر الرقبة – وهو خوف عام لجميع مرضايَ. واتتني فكرة أن أقوم بشقلبات على الحمَّالة أو على الفراش فمن الممكن إظهار هذا الخوف إلى الواعية. فالأطفال الصغار يتولَّعون بهذا التمرين، وبالنسبة لهم ليس ثمة خوف حقيقي من فقدان الرأس، فضلاً عن كون أجسادهم أكثر نعومة ومقاومة من راشد أو كهل. انتابتني الدهشة عند ملاحظة أنه حتى المرضى أنفسهم ذوي الثلاثين عامًا كان لديهم بعض الخوف من القيام بشقلبات. وإذاك أدركتُ خوفي. لقد كنت أعلم أنني لن أكسر رقبتي، ولكن ماذا بالنسبة لأسلوب خاطئ أو ضرر ما؟ كان الأمر يستحق المجازفة.

كنت واعيًا بأن الحركة يجب أن تتم بخفة، تاركًا نفسي تشعر بالخوف كله، وبالتوتر كله، اللذين يوجدان عرضيًا. فالخوف كان في أدنى حالاته، ولكنه مؤلم. ولكي أستطيع تطبيق تلك الحركة في سياق علاجي كان ضروريًا ممارستها لنفسي ذاتها. فبدأت أقوم بشقلبات تكاد تكون يوميًا كجزء من روتين تماريني. ولكن ظلت تسبِّب لي إزعاجًا قليلاً في كل مرة أقوم بها، ومع ذلك أستطيع الشعور بعضلات الرقبة وهي تسترخي ورأسي طليق. هذا التمرين البسيط صار جزءًا من العمل الجسماني الذي أطبقه على مرضاي، وكانوا جميعهم يعلقون على أن التمارين تقدم لهم نتيجة إيجابية، ويحبون رؤيتي أقوم بالتمارين نفسها التي يقومون بها.

بشكل مؤكد، ليس من السهل في هذه الثقافة أن يكون الرأس طليقًا، وأن يكون الحوض طليقًا لكي يتحرك بحرية، فالأمر صعب بشكل متساوٍ بالنسبة للأغلبية. وعلى الرغم من كل الحرية الجنسية في أيامنا هذه، فالحركات الجنسية ليست حرَّة، وتقريبًا جميع مرضاي من شيوخ أو شباب لا يتوصلون إلى إرخاء العضلات حول الحوض بالشكل الكافي، ما يسمح بحدوث انعكاس لهزة الجماع. وهذا يعني أن أحواضهم ليست طليقة كما الأمر بالنسبة للرأس. فثمة توازن في الجسم يجب الإبقاء عليه، ولو بواسطة التوتر والضغط estresse، وذلك لكي تجعل الحركات ممكنة. وفي هذا السياق، فإن توترًا في الرقبة مشترك دومًا مع توتر مشابه في المنطقة القطنية من العمود الفقري. وبشكل طبيعي يوجد ضغط أكثر في ذلك الجزء من الجسم ممقارنة بعضلات نقرة الرقبة، لأن المنطقة القطنية تتلقى وقع تأثير الجاذبية. الفك والحوض هما أيضًا بنيتان متحركتان، مما يسمح بحركتهما إلى الأمام وإلى الخلف. ولذلك فإن عظم الفك السفلي غير المتقلص على علاقة مع الحوض غير المتقلص.

تعد حركة الحوض إلى الأمام فعلاً عدائيًا، كما الأمر بالنسبة للفك. فالحوض بوسعه التوقف في وضعية ممتدة أفقيًا أو أن يُسْحَب بطريقة منفعلة. والاثنتان ساريتا المفعول، إذا استطعنا التحرك بحرية فيما بينهما. الوضعية الثابتة أو غير متحركة هي وضعية مَرَضيَّة لأنها تحجز سيَّالة الإثارة. ففي الفعل الجنسي يتحرك حوض كل واحد من الشريكين إلى الوراء والأمام في حركة تزيد الإثارة حتى النقطة التي تصير فيها الحركات الحوضية لا إرادية. وفقط هذه الحركة اللاإرادية تؤدي إلى تفريغ كلي أو إلى هزة جماع كلية.

التوترات المزمنة في العضلات تتقلص عمليًا لدى كل الأفراد في عصرنا الحديث. وبشكل عام تمنع حدوث الحركات اللاإرادية التي تؤدي إلى هزة جماع كاملة. وكما يوجد إرشاد بألا يُفقد الرأس ثمة إرشاد آخر مشابه يقول بألا يُترك الحوض في حرية حركته. ههنا أيضًا الخوف من فقدان السيطرة والاستسلام للجسم. وكنتيجة، فإن معظم الأشخاص في هذه الثقافة يبلغون حدًا من الذروة في الفعل الجنسي، ولكن قلة هم الذين يصلون إلى هزة جماع رائعة، يجب أن تكون الميزة الأساسية لهذه الخبرة. فسكان البلدان النامية أقل حجزًا لكثير من تعبيراتهم الشهوانية من سكان البلدان الأكثر تطورًا، فهؤلاء الأخيرون لديهم القدرة أما السابقون فلديهم الشهوة.

إن تصوري حول علم الطاقة الحيوية يطمح إلى تحرير الأشخاص من توتراتهم الجسمانية المزمنة، والتي تمنعهم من الاستسلام لجسدهم الخاص وللحياة. وللوصول إلى هذا الهدف، يحتاج الجسم أن يصير أكثر حياة، أكثر شهوة، وأكثر اهتزازًا. تمرين أساسي لزيادة فرصة الحصول على هكذا نتيجة ما يُسمى بالقوس الحوضي. بتطبيق القوس الحوضي كإدراك أكثر عمقًا للجسد، سوية مع تمارين علم الطاقة الحيوية، سيكون الشخص قادرًا أن يُحدِثَ تغييرات جذرية في جسمه وفي شخصيته، وأن يعايش فرح أن يكون حيًا بامتلاء.

في كل الحالات تقريبًا يمكن أن يظهر اهتزاز نسبي في الساقين وفقًا لطاقة أكثر، يبدأ جريان الاهتزاز حتى الأعضاء السفلى، ولكن ربما هذا لا يكفي لكي يعبئ حوض هؤلاء الأشخاص. فمن الضروري بمكان حمولة أكثر قوةً لتسيل عبر الساقين لكي يُعبأ الحوض. يكاد جميع من يمارسون هذا التمرين يشعرون بقدر ما من الوجع في الفخذين أو أن الفخذين يظلان منقبضين لكي يمنعا حركات عفوية في الحوض. إن التمرين المستمر لهذه الحركة يمدِّد أو يرخي هذه العضلات متيحًا للاهتزاز أن يبلغ الحوض. من الأهمية بمكان أنه بينما نقوم بهذا أو بأي تمرين آخر أن يتنفس الشخص بعمق حاملاً طاقة حتى العضلات وجاعلاً إياها أكثر استرخاءً. عند فهم هذا المبدأ، يصير الفرد ممارسًا لهذه التمارين بطريقة إيجابية، تاركًا أكثر الفعل يحدث من تلقاء ذاته.

عندما تنكمش العضلات لتحريك الجسد فإنها تستخدم الطاقة. وللاسترخاء وإمكانية العمل من جديد أو تحريك الجسد، فعليها أن تُحمَّل ثانية واضعة الطاقة المستعمَلَة في العمل. فالأوكسجين ضروري من أجل إحراق الأكسدة التي تُنتِج الطاقة بواسطة الغذاء. والتنفس يشكل جزءًا نبضيًا يحدث في الجسد. فالشعور والاتحاد بالجسم هما فعلان جوهريان لكي تستطيع هذه السياقات اللاإرادية أن تعمل بامتلاء وحرية. في النهاية، فإن هذا السياق يسمح بأن تكون جسدك.

ترجمة: نبيل سلامة

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] يقرُّ التصوف الشرقي بشكل عام بوجود نوعين من الدموع منها الدنيوية والأخرى الروحية، وهذه الأخيرة تتعلق بمستوى آخر في كيان الإنسان فهي مرتبطة حسب ما يقول العارفون بتذكار دائم لله، وبالأسف، والحزن العميق والموجع للانفصال عنه، وهذه الدموع تطهر الإنسان من أهوائه وتحييه بالكلية. كما يقول آخرون إن الدموع هي الجسر الذي يربط الروح بالمادة، والعبور من المادة إلى الروح يعبر عنه الدموع وفي الدموع. [المترجم]

[2] هذا هو جوهر التأمل الشرقي: الجلوس فحسب دون فكر ودون فعل أي شيء سوى الانتباه لما يحصل، ومن المعروف في الشرق أن بوذية الزن أتى اسمها من زازن وهي في اليابانية تعني الجلوس دون أن تفعل شيئًا. [المترجم]

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود