خُفَّا حُنَين
ثلاث قصص قصيرة

 

عبد الغني عبده

 

(1)

ربما كان تمكنه من السيطرة على لسانه من أكثر أسباب اكتسابه مهابته التي يتحاكى بها الناس. نعم الناس؛ فهو مشهور إلى درجة أنك لا تتجاوز الحقيقة عندما تقول هذه الكلمة في حقه. شفتاه الدقيقتان مزمومتان، حتى أن بعضهم راهن أنه لم يضحك في حياته!! نظراته للآخرين تنمُّ عن احتقاره لهم. أنفه الروماني وذقنه المسحوب يضفيان على شكله مزيدًا من المهابة. مؤلفاته في علم النفس وكتاباته الأدبية ملهمة لكل من قراءها. وأحاديثه لوسائل الإعلام تجلب المزيد من الإعلانات ما يدفع القنوات للتكالب على استضافته كل مساء.

ورغم هذه الشهرة الكبيرة تمكَّن من إبقاء حياته الشخصية "سرًّا" مبهمًا فلا يكاد أحد يعلم عن زوجته؛ يظن كثيرون أنه غير متزوج أصلاً، واهتمامه بمظهره يعطي انطباعًا غير دقيق عن عمره الحقيقي.

هل كان تاريخه الممتدُّ في الكتابة وشهرته الواسعة ومهابته مؤهلات كافية ليكون مستشارًا للنشر، بل رئيسًا لهيئة المستشارين، لدى عديد من مؤسسات النشر الحكومية والخاصة في أغلب بلدان المنطقة؟ أم السر في علاقاته النافذة بدوائر صنع القرار؟! لم ينشغل أحد بطرح هذه الأسئلة الوجودية.

ولكن الكثير من شباب الأدباء كانوا يجلسون متحيرين وتشغلهم أسئلة أخرى: كيف لا يتمكن ولا واحد منهم من الحصول على موافقة لنشره مجموعة قصصية أو ديوان شعر عبر لجنة يرأسها هذا الرجل؟! كيف له أن يسمح بنشر هذا الكمِّ من الغثاء؛ ويتجاهل إبداعات حقيقية؟! لقد تحول "اتحاد الكتاب" إلى وكر لأنصاف وأرباع المواهب، حتى أصبح مكانًا لا يشرف المرء أن ينتمي إليه.

قال أحد مدَّعي الخبرة منهم بأمور النشر: إنه الفساد والبيروقراطية التي تعشش في مؤسسات الثقافة يا شباب، الرجل يرأس هيئة استشارية وربما تصدر الهيئة حكمها – بكل صدق وأمانة – ثم يكون لجهة النشر تصرف آخر مغاير لرأي اللجنة. قاطعه آخر: أنت واهم، كلكم مخدوعون في هذا الرجل، أنا أعرف عددًا من تلامذته، وقد أكدوا لي أن كل كتاباته نتاج تعبهم وجهودهم وهذا الرجل المهيب "منفوخ ع الفاضي" ولا يستطيع أن يصوغ عبارة متزنة لها معنى!!.. إنه "أبو الفساد".

في إحدى الندوات، تصادف أن جلست فتاة شابة بجوار امرأة ثلاثينية. لم يكن الرجل المهيب هو المتحدث الأول. عندما جاء دوره تعمدت المرأة أن يرى الجميع أنها تغادر بسببه، سمعتها الفتاة تقول وهي تنصرف: "لقد آن لهذه البالونة أن تنفجر، هانت أيها الذئب وسيكتشف الجميع عندما يرون عورتك أنك مجرد قرد".

كادت الفتاة أن تلحق بها، لكنها جلست على جمر انتظار نهاية الندوة.

كيف لي أن أغادر عندما يبدأ حديثه وقد جئت معه؟! وكيف لي أن أجلس بعد ما سمعته من هذه السيدة؟ أين الحقيقة؟! في هذه اللحظات تحديدًا وقر في نفس الفتاة أنه حولها لامرأة "رخيصة" وأن كل كلامه عن العشق والغرام كذب وافتراء. حاولت الفتاة كثيرًا أن تطمئن نفسها، ركزت لدقائق فسحرها حديثه وتسرَّب بعض الأمان إلى روحها الحائرة، زاد اطمئنانها عندما التقت عيناها بعينيه وهو على منصة الندوة. قرأت فيهما حبًا حقيقيًا، أو هكذا حاولت أن توهم نفسها. كل محاولات تركيزها فيما يقول تبعثرت ككومة قش في يوم ريح صرر عاتية، فقد تزاحمت ذكرياتها معه وشغلت كل كيانها. مَثُلَ أمامها اللقاء الأول به وكيف بدا فظًا وغير مكترث لها، حتى أنه ألقى نصوصها بإهمال على حافة مكتبه ووعدها بالنظر فيها عندما تسنح له فرصة. تذكرت أنها هي التي ترددت على مكتبه وألحت على لقائه، حتى تحولت فظاظته شيئًا فشيئًا ثم بدا ودودًا. عندما راودها عن نفسها وامتنعت اعتذر لها: لقد فهمتِني خطأ، لم أقصد إهانة، أنا أحبك بل أعشقك، قالها فارتبكت وطبعت قبلة على خدِّه. زاد ارتباكها قبَّلت يديه، وخرجت من مكتبه مسرعة. خرجا معًا أولاً في أماكن عامة، ثم اصطحبها إلى مكان خاص به، تطورت العلاقة حتى رأت أن من المناسب أن يعطيها وعدًا صريحًا بنشر نصوصها التي قدمتها له منذ فترة. لم ينجز وعده إلا بعد أن حصل على مراده منها كأيِّ ذئب بشري.

كانت منهمكة في هذه الذكريات ولم تنتبه إلا على تصفيق الحضور إيذانًا بانتهاء الندوة، اقترب منها الرجل المهيب فتظاهرت بالتألم. سأل: ما بك يا حبيبتي؟! ردَّت: مغص شديد، يبدو أن المرض الشهري يداهمني.... آآه.

انقلب وجهه غضبًا وتأفف... هل هذا وقته؟ ألم يجد إلا هذه الليلة؟ إن شوقي لكِ يمزقني؟ هل يمكن أن تتناولي أي مسكن ونكمل ليلتنا... تظاهرت بمزيد من الألم فأجبره ذلك على توصيلها إلى بيت أهلها.

سيطرت على دموعها وقلبت في حقيبتها فأخرجت "كارت التعريف" الخاص بالمرأة التي غادرت الندوة.

-        ألوووو. مساء الخير يا افندم... أنا هيام التقيت بكِ في ندوة الليلة وتعجبت من خروجك وكلامك، هل يمكن أن توضحي لي حقيقة الأمر؟

-        .....

-        لن انتظر ليلة بكاملها لأعرف الحقيقة، ربما أموت من التفكير والحيرة.

-        ......

-        ضحاياه!! أنا لست إلا واحدة منهن؟! ماذا تقولين؟! ألهذا الرجل ضحايا؟!

-        ......

-        يا ويلي.... زير نساء، كيف تقولين عنه ذلك، لقد أحسست بكل كلمة حب قالها لي. صادقًا كان وعاشقًا حقيقيًا، كم بكى بين يدي، ونام كطفل وديع على كتفي، حتى عندما سلمته نفسي كان بمحض إرادتي، لم أشعر معه لحظة بأنني رخيصة!! كيف استطاع أن يخدعني؟!

على مواقع التواصل الاجتماعي تضافرت جهود تلاميذه وضحاياه من النساء ودشنوا عدة صفحات لفضحه بالصور والمستندات.

لم تحضر الفتاة حفل توقيع مجموعتها القصصية الأولى التي كتب في صفحتها الثانية اسم "المهيب" رئيسًا للهيئة الاستشارية التي أجازت المجموعة للنشر.

(2)

تحوَّل إلى بوق دعاية، كلما صادف أحد أصدقائه لم يحدثه إلا عنه: تعرف الشيخ فلان؟ إنه شيخي، وأنت وكل واحد يجب أن يكون له شيخًا، أرشحه لك شيخًا لن تجد أفضل منه... إنه عالم حقيقي... لماذا لا تصلِّي الجمعة خلفه وتستمع لخطبته حتى تتأكد مما أقول؟!

عندما يأتي الأصدقاء إلى المسجد ويرون الشيخ للمرة الأولى؛ لم يكن أحد يمنع نفسه من السؤال: ألست تبالغ يا إبراهيم؟ كيف تضفي على مثل هذا الشاب الصغير كل هذه الصفات من الحكمة والعلم؟ ولكنهم كانوا يستمعون بأنفسهم فيقرُّون بصدق الداعية والمدعي.

لم يكتف إبراهيم بأصدقاء قريته، بل نشر دعايته خارج القرية وفي العاصمة، كم دعا له من أصدقاء ومعارف ليستمعوا إلى مواعظه.

كانت دعايته طيبة وصادقة، وكان الشيخ مؤثرًا في الناس بكلامه أيما تأثير، عندما يتحشرج صوته بالبكاء مجرد حشرجة، كنت تسمع عويلاً في المسجد من كل المصلين. هل البكاء عدوى كالضحك؟ ربما...

صار إبراهيم رفيق "الداعية" ومنظم مواعيده. توالت الدعوات من القرى المجاورة للشيخ ليصلِّي فيها الجمعة، شهرة واسعة نالها الرجل وأصبح له مروجون آخرين.

انتقلت شهرته إلى وسائل الإعلام، وصار نجمًا في القنوات الفضائية، فانتقل للعيش في القاهرة.

توسط إبراهيم بينه وبين أهل قريته أكثر من مرة ليخصص لهم يومًا كل شهر يخطب فيهم الجمعة كالأيام الخوالي. مرات ومرات والشيخ يتحجج بالحجة تلي الأخرى.

كانت مشاغل الشيخ كثيرة في العاصمة وحقيقية، لم يكن لديه أي وقت خاصة بعد أن تعدت اهتماماته الدعوة والوعظ إلى السياسة وصار عضوًا بارزًا في الحزب الحاكم.

عندما اقترب موعد الانتخابات، وجد الشيخ أنه من المناسب أن يلبي الدعوات المتكررة من أهل قريته. خصَّص خطبته عن برِّ الوالدين... بكى وأبكى الحضور.

بعد انتهاء الخطبة وانفضاض الناس، سمع بعض المارة صراخًا وعويلاً مصدره منزل الشيخ.

استدعى أهل القرية إبراهيم لأنهم طرقوا باب الشيخ كثيرًا ولم يفتح لهم وما زال الصراخ والعويل مستمرًا. كان إبراهيم يحمل مفتاحًا للبيت لأن الشيخ كان يرسله للاطمئنان على والديه مرة كل شهر.

فتح إبراهيم الباب دون استئذان أو طرق. وقر في نفسه أن مكروهًا أصاب الشيخ وأن والديه يبكيانه. كانت المفاجأة عندما وجد الشيخ ممسكًا بحزام بنطاله وينهال به ضربًا على ظهر والديه... لم يفتح إبراهيم فمه من هول ما رأى.

تدافع الناس إلى البيت بينما الشيخ مازال يضرب والديه. أمسك أحدهم بالحزام قائلاً: مش كده يا شيخ دا أنت لسه نازل من ع المنبر وبتقول للناس ولا تقل لهما أف!!

نزع الشيخ الحزام من الرجل واستأنف الضرب وهو يرد: أنا ما بقلش أف... أنا بضرب على طوووول.

لم تطأ قدما إبراهيم من يومها أيَّ مسجد، وانتشرت أقاويل بين الناس عن إلحاده.

(3)

صحا أبكر من المعتاد. إنها المهمة الشهرية التي يجب عليه إنجازها، الحصول على الحصة التموينية من البقال التابع له في بني سويف. لم يتمكن حتى الآن من نقل بطاقته إلى بقال أقرب لأنه يسكن في شقة "إيجار جديد" بالعاصمة حيث إيصالات الكهرباء باسم المالك.

يركب أول مترو صباحًا من أول الخط بشبرا الخيمة حيث يسكن، ثم ينتقل إلى وسيلة مواصلات أخرى وثالثة ورابعة حتى يصل ظهرًا إلى بلدته، ويعود مساء محملاً بالأرز بعبوات والزيت والسكر.

كانت عربة المترو شبه خالية، جلس بجوار رجل مهمل الثياب أشعث الشعر كثَّ اللحية يتمتم بـ: "حسبي الله ونعم الوكيل"، وتبدو عليه ملامح مظلوم. سرعان ما أخرج "موبايل" من ثيابه وأجرى مكالمة:

-        حرام عليك كده... أنا بقالي أسبوع مش لاقي شغل وما فيش في جيبي ولا مليم.

-        ......

-        يعني ينفع كده كل يوم وعد جديد؟... أنا ذنبي إيه والعيال ولادي أأكلهم منين؟ هو أنا طالب منك صدقة؟ ده حقي ولازم أخده... أتصرف لي في أي فلوس أنا معنديش حتى أجرة المواصلات اللي أجيلك بها حرام عليك مش كده... ألو... ألو. يادي المصيبة الخط قطع حتى الرصيد خلص... حسبي الله ونعم الوكيل.

رقَّ قلب الرجل الذي في طريقه للحصول على تموينه الشهري لحال المسكين الجالس بجانبه. مدَّ يده في جيبه وقرر أن يعطيه مبلغًا يعينه على حاله المعوجِّ.

فوجئ بأنه نسي بطاقة التموين في المنزل، حمد الله كثيرًا ووقر في نفسه أن الله أرسل له هذا الرجل ليكتشف نسيانه للبطاقة ويوفر عليه وقته وجهده اللذان كانا سيضيعان هدرًا لو لم يمد يده في جيبه ويراجع ما فيه. أجزل للرجل العطاء، ونزل في أول محطة توقف فيها المترو.

هاتف زوجته: أنت فين؟

-        .....

-        طيب الحمد لله؟ كويس إنك لسه ما نزلتيش أنا في محطة روض الفرج وانت نازلة هاتي بطاقة التموين لأني نسيتها... أنا منتظرك... سلام... سلام.

حمولته الثقيلة لم تساعده على الجري، فركب أول عربة مترو أمامه تصادف أنها عربة السيدات، اعتذر لهن، وسمحن له بلا أي تذمر مراعاة لشيبته ولما يحمله.

تناهى إلى سمعه صوت سيدة من راكبات العربة:

-        حرام عليك كده ... أنا بقالي أسبوع مش لاقية شغل وما فيش في جيبي ولا مليم.

-        .....

-        يعني ينفع كده كل يوم وعد جديد؟... أنا ذنبي إيه والعيال ولادي أأكلهم منين؟ هو أنا طالبة منك صدقة؟ ده حقي ولازم أخده... أتصرف لي في أي فلوس أنا معنديش حتى أجرة المواصلات اللي أجيلك بها حرام عليك مش كده... ألو... ألو. يادي المصيبة الخط قطع حتى الرصيد خلص... حسبي الله ونعم الوكيل.

عقد الذهول لسان الرجل، إنه نفس نص الحوار الذي سمعه صباحًا من الرجل الذي أحسن إليه.

امتد الذهول إلى عقله، فلم يكتشف أن زجاجات الزيت مالت فخر على الأرز السائب في نفس الكيس وأن شيئًا ما معدنيًا اشتبك مع عبوات السكر فانساب على الأرض من خلفه محدثًا خطًا أبيض.

القاهرة، في 19 يناير 2015

*** *** ***

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني