النصوص "الأدَبفلسفيَّة" بينَ المَسكوت عنه وغير المُفكَّر فيه

 

د. مازن أكثم سليمان

 

لعلَّ مقولة الدكتور خلدون نبواني الآتية، والواردة في أحد نصوصه الأدَبفلسفية: "كُلُّ ما أكتبه لا يزيد عن كونه هوامش، أما الصفحات فأتركُها للتعليق الاضطراري على الهوامش التي لا أجدُ نفسي ولغتي إلا بها" تُمثِّلُ باعتقادي عتبة مفتاحية مُكثَّفة الدلالات لتفسير استراتيجية عمله في هذه النصوص التي تقتحم بجرأة مناطقَ شديدة الوعورة، إن من ناحية أنها مناطق شبه منسية وغير مألوفة في الثقافة السائدة، أو من ناحية أنَّ هذا المنسيَّ وغير المألوف ينطوي على جدليات اصطلاحية ومفهومية يُمكِنُ وصفها بأنها حقول ألغام حقيقية نظريًا وتطبيقيًا!

ويبدو أنَّ الدكتور خلدون يُعوِّلُ كثيرًا في عمله هذا على القارئ المُتمعِّن الذي يمتلك العدَّة المعرفية الكافية ليمخرَ عباب هذه النصوص الرحبة، ويفضَّ قدر المُستطاع مجاهيلها ومرجعياتها الثرة، سواء أكان ذلك بما تكشفه كشفًا مُباشَرًا أو غير مُباشَر من قضايا مسكوتٍ عنها، أم كانَ ذلكَ بما تبسطه في سطحها البصري العميق من قضايا غير مُفكَّر فيها.

يصفُ الكاتب نصوصه "الأدَبفلسفية" بأنها تتولَّدُ وتنمو على "تخوم" الفلسفة والأدب، ولذلك يُشبِّه نفسه بِـ "الرّاقص"، ولا يقصد بهذه الاستعارة - كما يُبيِّنُ - أنه يضع رجلاً في الفلسفة وأُخرى في الأدب، إنما يقصد أنه يُنقِّلُ قدميه من دون أن يعبأ بحدود هذا وتخوم ذاك!

إن الكاتبَ/الرَّاقص يحتفظ في هذه النصوص - وفقَ تأويلي - بماهية الرقص حركيًا، لكنّه يعلِّق قواعد الرقص التقليدية بينَ قوسين. وهو الأمر الذي يُذكِّرُني على نحوٍ ما بموضوعة "رؤية الماهية" في فلسفة هسرل الظاهراتية؛ والتي تحققها قصدية الوعي القائمة على آلية "التأمُّل الانعكاسي"، حيث يتمٌّ بها إدراكُ المعطيات حدسيًا إدراكًا لا يفصلُ الماهيةَ عن الظهور. لهذا يُؤسِّسُ "الرَّاقصُ" تجربتهُ الكتابيةَ هنا بما هيَ لقاء أنطولوجي-لغوي شديد التكثيف والحساسية بين الوعي والعالم باكتناه ماهيات الظواهر كما تظهر للوعي، وذلكَ سيرًا على هدي صيحة هسرل الشهيرة: "إلى الأشياء نفسِها"، وهذا ما نراهُ مثلاً في نصه "مَنْ الذي كتبَ حكاية: ذات القبَّعة الحمراء المعروفة عندنا بقصة ليلى والذئب؟"؛ فهوَ لا يكتفي بالاتجاه على نحوٍ مُباشَر إلى عالم هذه الحكاية بسرد أحداثها كما تنفتح في الوعي فحسب، لكنَّهُ يستنطقُ حركيةَ هذا العالم اللغوي للقبض على ماهيته المعيشة، مُوحِّدًا في قراءته بين مساحة الفهم المنبثق عن البنية السردية الظاهرة، ومساحة التأويل المفتوح على دلالات ماهوية قد تنزاح مع كُلَّ قراءة جديدة.

وعلى هذا النحو، استطاعَ الكاتبُ/الرَّاقص أن يخوضَ تجربة الكتابة هذه بوصفها تجربة وجودية تؤوِّلُ نفسها بنفسها أولاً، وأن ينجوَ بالقصدية من المآل الذي انتهتْ إليه في ظاهراتية هسرل؛ أي باختزالها العالم في وعيٍ ترانسندنتالي يُبقِي الذات في النهاية حبيسة مركزيتها المطلقة. ولهذا يمكن القول بمعنىً ما إنه قد تمكَّنَ من الانتقال بقصدية الوعي إلى تعديلها الأنطولوجي المتمثِّل في قصدية الوجود الهيدغرية، والتي تجبُّ خطر الوعي المُتعالي بمُجاوَزة "الرّقصة" لسلطة الماهية المُسَبَّقة، والانفتاح على الوجود اللغوي بوصفه يسبقُ الماهية، مُحاورًا في حركيته التأويلية المجهولَ المنبسطَ بلا هوادة بين التحجُّب واللاتحجُّب، لا ليُمثِّلَ عالم النص "الأدَبفلسفيّ" الذي يُكتَبُ وجودًا بحد ذاته فحسب، وإنَّما أيضًا ليُمثِّلَ زيادةً في الوجود حسب تعبير غادامير، ولذلكَ نجد مثلاً في نص "المرأة التي كشفتْ عن الوجه الآخر للقديس أوغسطين" استجابةً لهذا الأفق الوجودي الزائد الذي تبسطه رسالة خليلة القديس أوغسطين "فلوريا إميليا" المُكتشَف مخطوطُها عام 1995، والمنسوب إليها؛ وبغضِّ النظر حول إذا ما كانَ هذا المخطوط صحيحَ النسبة أم مزورًا، لا يُمكِنُ بحال من الأحوال لصورة حياة أوغسطين ولشخصيته النمطية أن تحافظا على حالهما بعد قراءة هذه الرسالة مهما كان المرء مؤمنًا به على نحوٍ شخصي أو ديني، ذلكَ أن التأويلَ يحضرُ في هذه الحالة لا بوصفه تلك الزيادة الوجودية المُشار إليها فحسب، لكن بوصفه أيضًا انقلابًا جذريًا في رؤية الوجود وفي طريقة الإقامة فيه، وهو انقلابٌ يقتحمُ عالم الكاتب والمُتلقِّي على حدٍّ سواء. وبهذا المعنى أيضًا يفتح نص "امِّحاء" عالمَ الكتابة على شيء النص غير المحدود حسب تعبير ريكور، ففيه يتداخل العالم الوقائعي مع العالم الكتابي بلا فواصل، وتغدو حروف اسم الكاتب بؤرة رمزية وجودية لا يمكن تجريدها من وجود الكاتب نفسه لتجذُّرها في كينونته، ذلك أنه كلما حذفَ منها حرفًا فقدَ عضوًا من جسده، إلى أن يصل إلى الحرف الأخير الذي يؤدي حذفه من وجوده الكتابي إلى سيادة العتمة في دلالة على الفناء أو الموت أو العدم الذي ألمَّ بالكاتب نفسه إثرَ ذلك؛ وهوَ ترميزٌ يُشير إلى انتفاء وجود الكائن البشري، بمجرَّد انتفاء فعل الكتابة بوصفه فعلَ وجودٍ كيانيّ.

يعكس مصطلح النصوص "الأدَبفلسفية" الذي نحتَهُ الدكتور خلدون رغبته العارمة في تفتيت الفواصل الحدية البالية بين الثنائيات الميتافيزيقية بوجهٍ عام، وبين حقلي الأدب والفلسفة على نحوٍ خاص، وذلك عبر الانتقال من التركيب التقابلي لثنائية (الأدب - الفلسفة) الميتافيزيقية، إلى تركيبٍ مزجيٍّ يهدف إلى الالتحاق بركب المُشتغلِينَ القلائل على فكرة مُجاوَزة ميتافيزيقا الحضور، انطلاقًا من تقويض هذا التقابل المُصطنَع باقتحام كل حقل منهما للوَحدة المركزية المُتوَهَّمة للحقل الآخَر، وتمزيقها من الداخل. وهي الآلية التي نرى تطبيقها بجلاء في نصه فيزيقا الغياب الذي يتحدث فيه عن "الغياب الحاضر" أو "الغياب العيني"؛ حيث إنَّ الصورة الفوتوغرافية كما يقول:

لا تعكس فقط ذلك الإطار الذي علَّبَ سيَّالة الزمن وجمَّدَها في لحظة مُعطاة، إنَّما أيضًا - وقبلَ كل شيء - تعرض لك الحاضرَ الفيزيقي المُباشَر الذي سيظهر في واقع الغد بوصفه حيِّزًا فيزيقيًا ماديًا للغياب الذي كان حاضرًا يومًا ما؛ أي إنَّ الكاميرا قد التقطت معًا غياب الحاضر الفيزيقي والحاضر الفيزيقي في الوقت نفسه. هكذا سيغدو الحاضرُ بوصفه حاضرًا في الصورة غيابَ الحاضر غدًا في الصورة نفسها. لقد غاب الزمان والمكان الفيزيقيين بينما التقطت الكاميرا غيابهما وأبرزته، لقد التقطت الغياب الفيزيقيَّ.

إننا هنا إزاء تفتيت مزدوج للتقابل الثنائي الميتافيزيقي، أحدُهما على المستوى الوجودي للنص الذي يمزج الفلسفي بالأدبي بلا أية حدود ممكنة التعيين، والآخَر على مستوى الدلالة عندما يخترق الميتافيزيقيُّ عمق الفيزيقيِّ، والعكس أيضًا، فلا يبقى أي حدٍّ فاصل واضح المعالم بين الحضور والغياب في نصه هذا.

إن عمل الكاتب على مُجاوَزة ميتافيزيقا الحضور يقتضي أوَّلاً، وقبل أية خطوة أُخرى، مُجاوَزة ثنائية (الذات - الموضوع) الزائفة كما أظنُّ، حيث لا يوجد فاصلٌ حقيقي بين الكاتب وموضوع كتابته، ولا وجودَ لشيء اسمه (الذات) يُجاوره شيء اسمه (العالم)! وأعتقد أنَّ هذا الفهمَ المُضمَر قد دفع الدكتور خلدون إلى جعل وجود القارئ في نصه القارئ كاتبًا سابقًا على وجود الكاتب بالمعنى الحرفي لا المجازي كما يقول، ذلكَ أن الكاتبَ مُصابٌ برأيه بِـ "عدوى القارئ"، في اتِّكاءٍ واضح على مفهوم "منطق العدوى" عند دريدا، والذي يُشير إليه الكاتب في مقدِّمة كتابه؛ وهو مفهومٌ يعبِّر به دريدا عن مدى ارتباط كل حدٍّ بالآخَر الذي لا يَدين بوجوده له فحسب، إنَّما هو مُصاب بعدواه منذ الأصل، ذلك أن كل طرف يسكن الآخَر، وهما ليسا منفصلين عن بعضهما بشكل كامل، ولا يمكن لأحدهما أن يُقصي الآخَر منه إلا واهمًا، لتغدو الصلة الحركية بين الحدين بناءً على هذا التفسير، وبإسقاطها على علاقة (الكاتب والقارئ)، آليَّةً ذكية لتفتيت توضُّعات الطرفين المتقابلين، فيما يبدو تمزيقًا لوَحدة الذات الكاتبة بوصفها مُؤلِّفة مالكة لنصوصها، ومُتحكِّمة بها ميتافيزيقيًا عبر إحضارها، وإخضاعها لسلطتها، فيما يُعرَفُ بِـ "اللوغوس" التقليدي المُتمركز على الحقيقة.

ويبدو أن الدكتور خلدون حاسِم تمامًا في سعيه إلى مُجاوَزة ثنائية (الذات - الموضوع) مُتجليًا في عمله على تفكيك ثنائية (الكاتب - المكتوب عنه)، وهوَ ما نراه بعمق في نصه الكتابة عن صادق جلال العظم بين الـ biography والـ autobiography، إذ تركَّز الحديث في جوانبَ من هذا النص اللافت على صعوبة التمييز الموضوعي بين الأنا والهوَ في مثل هذه النوعية من النصوص المنتمية جنسيًا إلى كتابات السيرة، ولذلك من المستحيل كما يقول الكاتب أن يكتبَ عن أستاذه صادق جلال العظم من دون أن يكتبَ عن خلدون نبواني نفسه؛ حيث يصعبُ على كاتب السيرة أن يُحوِّل حياة الآخَر إلى حالة موضوعية بحثية ثابتة يُمكنُ ضبطها بتجريد هذا الآخَر من وجوده المتحرِّك والمتغيِّر، كما يصعبُ في الوقت نفسه أن يُحوِّلَ الكاتبُ أناه إلى موضوع حياتي نزيه تمامًا. وهوَ الفهم الذي قاده إلى تناول مسألة "البينذاتية" التي تدلُّ على عملية تفاعل أو صراع أو تبادل بين ذاتين تسيل بينهما الحدود كخيوط النسيج المتداخلة.

وربما يقودُني هذا الكلام إلى القول إنَّ موقف الكاتب - كما يبدو لي - من مسألة سلطة المُؤلِّف المُطلقة على نصه، أو موته التام كما يُنظِّر له رولان بارت، موقفٌ نسبي ومركَّب في هذا الإطار، وهذا ما يُمكن تلمُّسَهُ في نصه حول إمكانية تمرُّد المخلوقات على خالقها، حيث تتشابكُ في رأيه عوالم الخالِق/المؤلِّف والمخلوق/المُؤلَّف عنه، وهو ما يسمح له باعتقادي بتفتيت نصِّيٍّ استراتيجيٍّ لثنائية (متن - هامش) الميتافيزيقية، مُطيحًا وفقَ هذه الحركية بالتمركز المُسَبَّق على متنٍ مُتوَهَّم، وباسِطًا وجودَهُ اللغوي بوصفه الخالق والمخلوق، والكاتب والمكتوب في آنٍ معًا، في الهوامش. ولذلك يُوضَعُ قوله الاعترافيُّ الآتي بما ينطوي عليه من تمزيق لسلطة الذات الكاتبة أيضًا في هذا الإطار المُركَّب:

كم كنتُ ساذجًا عندما اعتقدتُ أنني أتوارى وراء كلماتي، وأنني أكتب بالسر عن نقيضي، وهأنذا الآنَ أقفُ عاريًا بعدَ أن أدركتُ أنَّ نقيضي هو من يكتبُني، وأن الكلمات التي أتوهَّمُ الاختباء خلفها هي الكلمات نفسها التي تفضَحُني.

لعلَّ ما سبق يقودُني إلى إشارةٍ أجدُها ضروريةً في هذا السِّياق، وتتعلَّق باقتراحي الذي قدّمتهُ في بَياني الشِّعري الأوَّل المُعنوَن بِـ "الإعلان التَّخارُجيِّ" (المنشور لأوَّل مرَّة في موقع ألِف الثقافي الإلكتروني في 13 حزيران 2015)، والذي دعوتُ فيه إلى مُجاوَزة فكرة "سلطة المُؤلِّف" بوصفه ذاتًا "سياقيَّة" وقائعيَّة واعية ومُتحكِّمة بعالَم النّص تحكُّمًا مُتعاليًا ومُسَبَّقًا، وفي الوقت نفسه مُجاوَزة فكرة "موت المُؤلِّف" بوصف النص بِنية "نسَقيَّة" لغوية مُغلقة، ومكتفية بذاتها، ومنفصلة عن المُؤلِّف، ومتعالية على الوجود في العالم؛ وذلكَ بنحتي مصطلحًا جديدًا هو مصطلح "النِّسْيَاق"، الذي ينطوي بزعمي على موقف جدلي تراكُبي بين مفهومي السِّياق الخارجي والنَّسق الداخلي، ويطمح إلى تجاوزهما بما هما ثنائيتان تقابليتان ميتافيزيقيتان أيضًا.

إن أيَّ سعيٍ إلى مُحاوَرة الوجود اللغوي بغية الاقتراب قدر المستطاع من إمكانية مُجاوَزة الميتافيزيقا، ومُحاولة اكتناه المنسيِّ وملامسة المسكوت عنه والخوض في فضاءات المجهول، يرتبط حتمًا بالطريقة المُغايرة التي ينبغي فهم الحقيقة بناءً عليها لمن يحمل مثل هذه الطموحات؛ ذلكَ أن الحقيقة كان يُنظَرُ إليها في ميتافيزيقا الحضور بوصفها يقينًا لم يكُنْ يعنيه مدى مُطابَقة التّمثُّل مع الموجود، مادامَ هذا التّمثُّل وعيًا وحضورًا مُؤتمَنًا بنفسه على صحَّة الحقيقة، التي كانت تعني مجرَّد قول يجب أن يُصاغَ خاليًا من أي تناقض منطقي عبرَ لغةٍ تُعبِّرُ عن منطق (عقل) هذا القول. لكنَّ هيدغر ينتقلُ بالحقيقة مُنطلِقًا من موضوعة "رؤية الماهية" عند أستاذه هسرل، من إدراك العالم بوصفه فعلَ مُطابَقة مُتصوَّر يُعيِّنُهُ اللوغوس/التعريف الميتافيزيقي، إلى إدراك العالم بوصفه فعلاً مَعيشًا يُعيِّنُهُ - إذا سلَّمنا بإمكانية ذلكَ التعيين جدلاً - اللوغوس/الكلام العياني. وهو الأمر الذي يُعدِّل جذريًا أو لنقل يقلُب طريقة فهم موضوعة الحقيقة التي أصبحَ إثبات صحَّتها لا يتمُّ وفقَ التأويل الجديد إلا عندما تنكشفُ علاقة التَّطابُق في سياق ظاهريٍّ للإثبات. وقد طوَّرَ دريدا هذه الرؤية بتفكيكه فكرة "العلامة" منذ سوسير بوصفها كانت تُوحِّدُ بين الدال والمدلول، والجمع بينهما برأيه يُفيدُ الوجودَ الحاضر بما هوَ وجودٌ لم يُخلِّص الدال من شحنته الميتافيزيقية بوصفه شيئًا مجرَّدًا، إنما أبقى المدلول تحت رحمة المُتصوَّر الفكري للذات المُتعالية؛ لذلك كانت الدلالة في فهم هيدغر إفسادًا للعلامة لاختبارها الموجود بناءً على ما يدلُّ عليه في الحضور والتَّمثُّل والمُطابَقة، وليس بالارتكاز على ما يُبيِّنُ ويُظهِرُ ويكشف. وفي هذا المنحى، يُحاول الكاتب أن ينقذ العلامات من مصير تطابقي فاسد بترك الدلالات مفتوحة على إمكانيات اختبار سياقها الظاهري انطلاقًا من تحرير الدال من ارتباطاته المُسَبَّقة، ولذلك يرفضُ الدلالة الأخلاقية المُستقرَّة في نصه عن قصة لافونتين عن النملة والصرصور، فالحكاية تتمركز على النملة التي أمضت الصيف كله في العمل لتؤمِّن مؤونة الشتاء في إعلاء واضح من قيمة العمل على حساب حياة اللهو والمتعة وإضاعة الوقت التي مارَسَها الصرصور. وفي السياق نفسه، يرفض الكاتب أيضًا قراءة فرانسواز ساغان لهذه الحكاية التي تتمركز أيضًا على النملة، لكنْ بتصويرها هذه المرة مُغرِقةً في الطمع والجشع، ومُحوِّلةً قيمة العمل من قيمة إيجابية إلى قيمة سلبية هيَ الاكتناز. بين القراءتين، ومنهما، تنبثق رؤية الكاتب التي تتجاوز هاتين القراءتين المتمركزتين على أخلاق النملة، مُجذرًا الحقيقة في وجودها العياني المفتوح على سياقات ظاهرية للاختبار والكشف، ومُتسائلاً: "ولكن ماذا عن الصرصور؟". الصرصور الذي برأيه يحمل أخلاق السادة، فهو يعيش أيامه حرًا غير عابئ بخطر، ويستثمر حياته القصيرة كما يليق بأخلاق السادة، لا كما يفعلُ العبيد باستسلامهم لمخاوف الفقر، أو بتحولهم إلى خدم تحت رحمة أطماعهم.

لعلَّ تجربة الكتابة في نصوص كثيرة في هذا الكتاب تقترب إلى حد ما من بلوغ مرحلة "الكشف"، ويبدو أن الكاتب يسعى في ضوء محاولته الحثيثة الانفكاك من قبضة ثنائية (أدب - فلسفة) إلى أن يتخلَّصَ أيضًا من التوضُّع التقليدي لثنائية (عقل - عاطفة)، وربما تقتربُ بعض نصوصه كما ألمس من التقاط روح ما يُعرَفُ بِـ "المعرفة الحدسية" التي لطالما تحدث عنها غادامير في تأويليته، وهذا ما يُمكن أن نؤوِّل بناءً عليه أفكار نصيه "حوار فيسبوكي حول الإيمان والإلحاد" و"أخوة"؛ حيث يرى الدكتور خلدون أن الإلحاد ليس سوى إيمان يقيني مقلوب، والحل لديه لمُجاوَزة ثنائية (الإيمان - الإلحاد) المتمركزة على التَّصوُّرات المُسَبَّقة يكمن بالبحث عن عالم الكشف والمعرفة الحدسية الكامنيْن في تجربة التصوُّف كما يذهب، ولا سيما بانفتاح هذه التجربة على فكرة "الصَّمت" التي تخلخل البِنية المُستقرّة للحقيقة اليقينية الثابتة، وتترك المجال واسعًا للتأويل بوصفها (أي فكرة الصمت) جزءًا مُؤسِّسًا بعُمق لغموض النَّص أو لعدم اكتماله، وهي المسألة التي تُغني المعنى وتُعدِّدُه، وتُنقذ الكتابة من الموت في "خزانة الإيديولوجيات الصدئة" كما يقول الكاتب في نصه عمق الغموض.

تلتقي الأفكار المختلفة التي ناقشتها حتى الآن، وتصبُّ جميعُها مُتشابكةً في بؤرة "اللغة" كما أعتقد! فإذا كانت اللغة "بيت الوجود" حسب هيدغر، فإن أهم خطوة لتقويض الفهم الميتافيزيقي لها تكون برأيي بمُجاوَزة فهم الوجود وكأنهُ قيمة مُضافة من الخارج إلى اللغة؛ أي بمُجاوَزة الفصل الحدي الزائف بين اللغة والوجود، وفتح أسئلة الذات الأصيلة على كينونتها اللغوية – في - العالم. وهو ما يعني فيما يعنيه أن ننتقل من عقل مركزه الذات إلى عقل مركزه اللغة، لكن ليس بوصف اللغة آلية تقنية وتجريدية مُتعالية، ولا بوصفها مجرد أداة اتصال لتبادل المعلومات الصحيحة، أو وسيلة تعبير عن الأفكار والحقائق، إنَّما بوصفها المكان الذي "يكشف" فيه العالم الوقائعي عن نفسه، وتتحرك ضمنه الحياة الإنسانية، لتكون الذاتية وفقَ هذا الائتلاف الوجودي مع اللغة وفيَّةً تمامًا لمقولة بارمنيدس: "الذاتي هو الفكر والوجود معًا"، لذلك نجد الدكتور خلدون يتحدث في نصه "اللغة بين وضوح المعنى واستحالته"، عن ميله إلى فكرة العمق والابتعاد عن السطح البسيط الواضح في فهم اللغة وفي استخدامها، ناقدًا موقف هابرماس التواصلي من لغة الخطاب الفلسفي، ومُشيرًا أيضًا إلى ما يبثُّه التصوُّف والصمت من قدرة مجازية كثيفة تحقق عبر وحدة (الذات - اللغة - الوجود) اقترابًا من الكشف، وانفتاحًا مُستمرًا على المجهول.

يُمثِّلُ مفهوم "دازَين Dasein" بوصفه يعني وجود الموجود البشري في العالم، مُنعرَجًا معرفيًا وحَّدَ عبره هيدغر الذات واللغة والوجود في بِنية تسعى إلى مُجاوَزة ميتافيزيقا الحضور، مُمهِّدًا الطريق بعدَهُ لفلاسفة الاختلاف للحديث عن ذات ما بعد حداثية ينخرها الخارجُ ويُشتِّتُها ويُباعدُها عن نفسِها؛ ذلك أن الأصل في الذاتية ليسَ التَّطابُق، إنَّما كما يقول دريدا:

الذاتية هي بالضبط حركة توليد الفوارق والاختلافات، كانتقالٍ مُلتوٍ ومُلتبِس من مُخالِف إلى الآخَر، انتقال من طرف التعارُض للطرف الآخَر.

وهكذا، يحلُّ في الفكر المُعاصِر التَّعدُّد غير المُتناهي مكان الوحدة والانسجام المُتناهي، وتسقط الهُويَّة المُتعالية، لتظهرَ الانفصالات التي تخترق الذات، وتقتحم فكرة الغيرية استقرارَها الزائف ويقينَها الهش، وهو الأمر الذي تنهضُ عليه فكرة تكرار التَّباعُد الذي قال عنه فوكو:

إن الذاتية التي تفصلها عن ذاتها مسافة تقطنُها بمعنىً ما، وتُشكِّلُها بمعنىً آخَر، والتكرار الذي يُولِّدُ الذاتي ولكن في صورة تباعُد، يكونان من دون أدنى شك، صميم الفكر المُعاصِر.

إن أي حديث عن تكرار التَّباعُد الذاتي يرتبط مُباشَرةً بمفهوم "الزمانية" ارتباطًا أصيلاً، ذلك أن كينونة الذات والزمانية يشكِّلان وَحدة غير قابلة للفصم، ولذلك يقدم الدكتور خلدون تحليله التأمُّلي للزمن في نصه قراءة في الأزمنة الدرويشية عبر بناء قصصي يتلاعب بزمن الحدث نفسه، والمُركَّب من لحظة وجود الكاتب في المحطة التي هي لحظة ماضية، كانت في حينها لحظة حاضرة تأمَّلَ خلالها قصيدةَ "شتاء ريتا الطويل"، ولحظات استحضار هذا التأمُّل في زمان القصِّ القائم على تذكُّر تفاصيل الحدث بما يُعدَّل فيه أو يُضاف إليه، فضلاً عن زمان المتلقي المفتوح على القراءات والمُستقبَل. ويبدو أن هذا البناء يُظهِر من ناحية حجم التباعُد والتشظي والاختلاف الذي يطرأ على زمانية وجود الذات الكاتبة نفسها في عالمها النصي، ويتقاطع مع تحليل الأزمنة في القصيدة المُتأمَّلة نفسها، والتي يرى الكاتب أنها أزمنة يتراكبُ فيها الماضي والحاضر والمُستقبَل، فيصعبُ فصلهُم عن بعضهم، ذلكَ أنهم يتبادلونَ الأدوارَ، فيصبح الماضي مُستقبلاً لحاضرٍ يُصبح ماضيًا ومُستقبَلاً في آن. وما من شك أن مرجعية هذا التفسير تتجاوز فهم الزمن بوصفه حركة تقدُّمية مُتتالية من الماضي إلى الحاضر فالمُستقبَل، وهو فهمٌ خطِّي - تاريخي ميتافيزيقي للزمان، كما تضَعُ في حسبانها فكرةَ "العود الأبدي" بوصفها عملية قلب هندسي دائري لخط الزمان، ولا سيما في نسختها النيتشوية، والتي يُشير إليها الكاتب من دون أن يتبنَّاها؛ إذ إنَّهُ يتبنَّى من جهته في نص بعنوان الزمن فهم آينشتاين الذي يرى أنَّهُ "التفافٌ حلزوني منحني نسبي وغير مطلق"؛ ولهذا فهو زمنٌ لا يقوم على التطابُق والثبات والهوية الذاتية المُستقرَّة، إنَّما على تجذُّر الذاتية في حركية الاستباق والعبور والتباعُد المُستمر نحو المجهول بوصف هذه الحركية تكرارًا دائمًا للاختلاف بما هو سيولة وانفصال وتبدُّل يستحيل معه القبض على تعيين نهائي للذات، وهي المسائل التي تنطوي عليها مقولة دولوز الشهيرة: "العودة إذن هي الذاتية الوحيدة"! على أن نفهم العودةَ الاختلافية هنا بوصفها إغناءً للذات الإنسانية الهشَّة لا إفقارًا لها كما قد يظنُّ البعض، وهو ما يُشير إليه الكاتب من زاوية أُخرى في نصه مُحادَثة ليلية، مُقارنًا بين الملائكة والشيطان بماهيتهم المُسَبَّقة والثابتة من ناحية، والإنسان بثرائه وتنوُّعه وتعدُّد خياراته واحتمالات حياته القلِقة بما هي حياةٌ فانية مُهدَّدة في كل لحظة بإمكانية الانغلاق والتَّعديم من ناحية ثانية. فوجود الإنسان وجودٌ ناقص وغير مكتمل بطبيعته، وحركية الاستباق – نحوَ - المجهول المُفترَض، ليست سوى حركية عُلُوّ مُستمرٍّ يُبدِّدُ قبضةَ التمركُز الميتافيزيقي الذي يُعيِّنُهُ بوصفه اتجاهًا ماهويًا مُسَبَّقًا نحو شيء أعلى بالمعنى القياسي الرياضي والدلالة التقويمية، ليعنيَ هذا العُلُوُّ في لغة تقويض الميتافيزيقا انفتاحًا حُرًّا في فجوة الوجود الزمكاني اللغوي للكائن على إمكانيات ماهوية جديدة ومُغايرة تنتهي بالموت، ولهذا يحتفي الكاتب في نصه توقيع بوجوده في عالم الكتابة المتنقِّل بين الآفاق المفتوحة على المجهول، وصولاً في نهاية المطاف إلى اللامعنى أو حقيقة الحقائق حسب تعبيره، وهي: العدم.

وعلى هذا النحو، يضمنُ العُلُوُّ بوصفه وجودًا - للموت، وبوصف الموت آلة العدمية الكبرى، أن يكون وجود الكائن مُتحرِّرًا من سطوة الحقائق النهائية المُغلَقة والثابتة. هذا ما نقع عليه في نص الكاتب أنتي زرادشت، إذ يقولُ منتقدًا فكرة وصول المرء إلى قمَّة ما في حياته:

مفهوم القمة مفهوم فوقيٌّ طبقيٌّ؛ ليس عليك أن تصعد إلى القمة لأنها منتهية. ليس عليك إذن أن تفكِّر تفكيرًا شاقوليًا بل تفكيرًا أُفقيًا. راهن نفسك على بلوغ آخِر أُفقٍ تراه عيناك. لا تخف، فالأفق لا ينتهي، وكل أفق يتلوه آخَر. إلى أين ستصل؟ لا تسأل عن الهدف، بل اجعل الطريق غايتك وهدفك وستكتشف نفسك في الرحيل وترافقها إلى أن تبلغ أفق الآفاق، فتُطل على الوجود من عرش العدم...

في الانتقال إلى المنحى التقني لنصوص هذا الكتاب، أقول إنها تذخرُ بمُناخات تحتفي بالسرد أحيانًا، وأحيانًا أُخرى تغريها الحبكة القصصية، تستعينُ تارةً بالحوار، وتتكئ تارةً أُخرى على روح الخاطرة أو السيرة. لكنَّ أكثر القضايا الفنية اللافتة في هذا الكتاب تتمثَّلُ بما سأدعوه بِـ (المُفارَقة-الاختلاف-الدَّهشة)؛ إذ تنهض نصوص غير قليلة هنا على بِنية تأمُّليّة تحاولُ أن تُفجِّرَ اللغةَ لا بوصفه تفجيرًا فوضويًا آليًا كما يظنُّ كثيرونَ من كُتَّاب ما بعدَ الحداثة خطًا، إنَّما بوصفه تفجيرًا معرفيًّا - مجازيًا يقلبُ الثوابتَ، وينزع أُلفة العالم اللغوي الاعتيادي، ويُطلِقُ فضاءات النصوص في بُؤَرٍ دلاليَّة تنمو وتعلو وصولاً إلى القفلة التي تُشَظِّي النص عبرَ مُفارَقةٍ ذكية وحاسِمة. فها هو ذا الكاتبُ يُقدِّم تأويلاً مختلفًا وغير مُفكَّرٍ فيه لقصة السباق الشهيرة بين الأرنب والسلحفاة في نصه تصحيح لواقعة تاريخية تمَّ تزويرُها، فالأرنب لم يُهزَم لغروره أو لاستهزائه بقدرة مُنافسته، والسلحفاة لم تنتصر لجِدِّها ومُثابرتها؛ إنَّما انسحبَ الأرنب بكامل إرادته حينَ رأى أن المنافَسة غير عادلة، والقوى غير مُتكافئة، وأن انتصارَهُ الحتمي في هذا السباق لن يُعتبَرَ نصرًا بأيِّ معنىً من المعاني، لينسفَ هذا الانسحابُ المُفاجئ ثوابتَ هذه الحكاية ودلالاتها اليقينية، وتفتحَ المُفارَقةُ المُدهشة هنا عالمَ النص والمتلقي في آنٍ معًا على أسئلة المجهول عبر حركية العُلُوّ الاختلافيّ.

كذلك نجد التقنية نفسها في نص كش مات، عندما تقضي الأنثى المُنافِسة على ملِك الكاتب لا في المُباراة الشطرنجية المُفترَض أن تجريَ بينهما، إنَّما حين تصلِحُ قعدَتَها على الكرسي، فترتطمُ رجلها بقائمة الطاولة التي تهزُّ باهتزازها الرقعةَ قليلاً، لتحافظَ كل القطع على توازنها، إلا ملِكُ الكاتب الذي يترنَّح ويدور حول نفسه قبل أن يسقط من عن الرقعة، ليختتمَ الكاتبُ قائلاً:

لقد كانَ ثمِلاً من لمستها على ما يبدو. نعم لقد سقط ملكي بلمسة واحدة، وكانت هذه أسرع خطة لقتل الملك...!

ولابدَّ لي أن أسجِّلُ في هذا الموضع احتفائي التأويلي بوصفي قارئًا ومؤوِّلاً في آنٍ معًا، بمدى غنى المحمولات المجازية الذي تبثُّها هذه المُفارَقة المُدهشة والمفتوحة على مستويات دلالية غنية تتراكَبُ فيها رمزية (الملِك - السلطة) أولاً، مع رمزية (الحرب - المجتمع البطريركي الذكوري) ثانيًا، مع الرمزية المُضادّة أخيرًا التي ينطوي عليها حضور (الأنوثة - الحرية).

لعلَّ الإدهاش يكمن في نصوصٍ كهذه بمُباغتة أفُق التوقُّع عند المُتلقِّي بالمُفاجئ غير المُنتظَر، وبتشويش منطق الأشياء لديه، وخلخلة العلاقات الاعتيادية في العالم. وهذا يدفعه مُجبَرًا بفعل الصدمة التي فرضتها الرؤية المُغايرة في النص، إلى إعادة التفكير ولَو جزئيًا في قضايا كانت محسومة الأجوبة عنده. ومثل هذا الأمر يحدث في نص ذات القُبَّعة الحمراء الذي سبق أن أشرتُ إليه، حيث يضَعُ الكاتبُ الصَّيادَ نفسَهُ الذي شقَّ بطن الذئب، وأنقذَ ليلى وجدَّتها منه، في موضعِ ارتيابٍ بوصفه يُمثِّلُ كذلك ذكَرًا آخَر يخرج بدوره من بيته ليبحثَ عن طريدةٍ أنثى، وقد ينصبُ لها الشراكَ مثله مثل الذئب! ونلتقطُ في هذا المنحى أيضًا مُفارَقةً في نص مَنْ يملكُ ماذا؟، عندما تشتعلُ معركة ضارية بين الكاتب وأهله من جانب، والدبابير المحتلِّين لعريشة العنب من جانبٍ ثانٍ، ليُفاجئهُ والدهُ ردًّا على تأفُّفِهِ من احتلال الدبابير لعريشتهم بالقول:

هُمْ أيضًا يظنونَ أننا نهاجم عريشتَهُم وعنبَهُم، وهُم بشكلٍ ما يُدافعونَ عن رزقهِم وموطنهِم!

تُظهِرُ مُقارَبتي هذهِ لنصوص الدكتور خلدون "الأدَبفلسفية" تقاطُعًا واسعًا بيننا في عددٍ من القضايا المعرفية الشائكة، ويُسعدُني أن أقول إننا قد التقينا فكريًا بمحضِ مُصادَفةٍ جميلة، وإننا تفاهمنا - من دون تخطيطٍ مُسَبَّق - على جُملة مفاهيم وآراء واتجاهات؛ ذلك أن جوهر بَياني الشِّعري (الإعلان التَّخارُجيّ) الذي أشرتُ إليه هنا من قبل، يكمنُ في دعوتي إلى مُجاوَزة ميتافيزيقا الحضور في الشِّعر، بوصف هذه المُجاوَزة عتبةً أُولى لمُجاوَزاتٍ وجودية كيانية شاملة. بمعنى أن هذا الإعلان/البَيان - وكما هوَ الحال في نصوص الدكتور خلدون أيضًا - يحاولُ أن يُمارِسَ تفكيرَهُ عبرَ اللغة وفي اللغة في الوقت نفسه بتجذير الوجود اللغوي للكائن في العالم من ناحية أُولى، وأن يمحوَ الفواصل التَّجنيسية المُتعالية بين الأدب والفلسفة من ناحية ثانية. وهو سعيٌ مُتعاكِس ومُتكامِل في آنٍ معًا بيني وبين الدكتور خلدون كما أعتقد من الجانب النظَريِّ على الأقل لا الفعليِّ؛ إذ يمكن القول إن الدكتور خلدون ينطلقُ في نصوصه التطبيقية من المجاز الشعري كي يقتحِمَ عالم اللغة الفلسفي، في حين أنني أنطلقُ في نصي التنظيري (أي البَيان) من المجاز الفلسفي كي أقتحِمَ عالم اللغة الشعري. لتلتقيَ الحركتان في ذلك السديم المعرفي المُلتبس والوعر جدًا؛ وسببُ هذه الوعورة يعودُ إلى أن مثل هذه النصوص ما زالت نادرة، ومحكومًا عليها بالغربة إلى حد بعيد، ولا سيما أنها لم تنتزع يومًا شرعيتها الرسمية، وقد لا تنتزعها في الأفق القريب، ليظلَّ هذا المروقُ الآسِرُ تحصينًا وحفظًا لها من الحيازة والإخضاع والاستهلاك المركزي للميتافيزيقا، وهي المسألة التي أزعم أنها تؤسِّسُ - إن حظيتْ بالأفق الذي تستحقه - لحوارٍ معرفيٍّ غنيٍّ يهدفُ إلى فتح سؤالَي الأدب والفلسفة بوصفهما سؤالين مُتشابكين ومُتعاضدين لا بوصفهما سؤالين مُتقابلين ومُتنافرين، على ثقافةٍ عربية جديدة وكينونة عربية مُغايرة لم ينقطع الحُلم بها يومًا، عسى أن نتجذَّرَ حضاريًا في قلب العصر الحاضر، وأن نطيحَ بالأوهام القديمة، والوجود البالي الزائف، فلرُبَّما يكتبُ المُهمَّشون اليومَ في عصر العولمة ما بعدَ ما بعدَ الحداثيِّ، تاريخَهُم خارجَ جميع التواريخ الرسمية التي لطالما انتصرتْ لسلطة المتون الطاغية على حساب هوامش الوجود اللغوي الطازجة والحية بما هي هوامش مُغيَّبة مرارًا وتكرارًا، ومكتوبة بالدم بالمعنى الحرفي للعبارة في أحيان كثيرة.

إن رغبة الدكتور خلدون في تأصيل إقامته الوجودية في قلب وعي جديد وثقافة مُختلفة، دفعته إلى العمل على تحطيم سلطة التابوهات من دون تردُّد أو وجل، وفتح الأبواب المُستغلِقة على المسكوت عنه وغير المُفكَّر فيه بلا هوادة، وهذا ما نلمسه في نصوص كثيرة تخلخل الوجودَ المُستقرَّ، وتستدرجُ المُحرَّمات إلى مرايا الكشف والتفكيك، فها هو ذا في نصه مُفارَقة جنسية يُحلِّلُ طريقةَ تلقِّي الرجل لمشهد عاطفي أو جنسي بين رجل وامرأة على التلفاز، وتماهيه أو حلوله في مشاعر المرأة لا في مشاعر الرجل؛ بمعنى أن "الرجل "الطبيعي" هنا يُستثارُ بالشهوة الأنثوية لا الذكرية. إنه يتقمَّصُ الأنثى بينما يختفي الرجل فيه". ليقولَ الكاتبُ بعدَ ذلك مُستنتجًا: "إذا كان ذلك صحيحًا فإن الرغبة التي تدعى "طبيعية" تصبح "شاذة" وفق المعايير المطروحة اجتماعيًا"، ويردف قائلاً أيضًا: "لو كان ذلك على هذا النحو، فإن من نسميهم شاذين أو مثليين هم من يمكن أن يمتلكوا ما نسميه "طبيعيًا"، حيث يظل الرجل محتفظًا برغبة الرجل لا تلك التي للمرأة، بينما قد تحتفظ المرأة برغبة المرأة من دون أن تتقمص رغبة الرجل"، ليَترُكَ أخيرًا الموضوع مفتوحًا بوصفه موضوعًا مثيرًا للبحث النفسي، ويستحق الدراسة.

في نصه اللافت نبي العصر، يعتذر النبي الجديد بعد أن كبرَ وخَبِرَ العالم عن قبول تكليف الإله له بنقل الرسالة الدينية الجديدة، حيث "توصَّلَ إلى نتيجة مفادُها أن أكبر الحروب وعمليات القتل والإبادة عبر التاريخ تمَّتْ باسم الأديان وتحت شعاراتها"، ليقتنعَ الإله بعد ذلك "بصواب رأي نبيِّه المُرسَل الذي أغلقَ صفحةَ التَّبشير على الفيس بوك، وراح يعمل في مجال حقوق الإنسان ليُنقذ ما يمكن إنقاذه من كوارث الحروب والأديان".

وفي نصه انعتاق يُشبِّهُ الكاتبُ المجتمعات الشمولية بِـ "آلة تصوير فوتوكوبي كبيرة تريد أن تجعل من الجميع نسخًا متشابهة، وأي نسخة تخرج عن الصورة التي يتم نسخ الجميع عنها، يتم تمزيقها أو عزلها أو رميها في سلة المهملات"، وعلى المبدع الحقيقي كما هو مفترَضٌ أن يُحطِّمَ هذه الآلة، وأن يُخالفَ النسخ التي تتحول إلى مجرد أعداد، مهما كان الثمن الذي سيدفعُه.

على هذا النحو، يثابر الدكتور خلدون في نصوصه على مُحاوَلة تفكيك المفاهيم المُستقرّة، والاعتقادات اليقينية الثابتة، والقوى المتعالية والمهيمنة في العالم، ويبدو لي جليًا أن هذا العمل الدؤوب لا ينفصل أبدًا لديه عن الانهمام بأسئلة الهُوِيَّة، أية هُوِيَّة، وفي أي مستوىً من مستويات وجودها أو البحث عنها، وهذا ما نراه بجلاءٍ مثلاً في نصه كهف أفلاطون والتعصُّب للهُوِيَّة، إذ يدعو فيه إلى الانفكاك من قيود "الهُوِيّات القاتلة" الزائفة، وتحرير الوعي من أوهامه، والانفتاح الحُرِّ على تجربة الحياة، وخوض مغامرة السفر في العالم الذاتي الداخلي والخارجي. والجميل في الأمر، أن الكاتب وهو منغمسٌ في العمل على تفكيك التمركزات الهُوِيَّاتيَّة الخانقة، لا ينسى أن يقوم في مواضعَ كثيرة بتفكيك ذاته أولاً، ونرى مثالاً على ذلك في نصه الرد على هذه المُشارَكة، إذ يعترف فيه اعترافًا صادمًا للوهلة الأُولى بأن سلوكه الشخصي لا يتطابق مع فكره، لكنه في الوقت نفسه ينفي أن يكون التناقض بين فكره وسلوكه تناقضًا تامًّا، ذلك أن ما يعنيه من هذا الاعتراف هو رفضه لفكرة التطابُق الميتافيزيقي الذي يُصادر حرِّية الخوض في تجربة الحياة وغناها، لصالح فكر هرميٍّ مُتعالٍ ومُسَبَّق يطوي واهِمًا السلوك على الفكر. وبالمثل، يرفض من ناحية ثانية أيضًا ارتداد السلوك نفسه ليتغوَّلَ على الفكر؛ ولذلكَ نجده يقول:

إن التعويل على السلوك لفضح مأزق وتناقض واستبداد الفكر المفارق والمتعالي لا يعني أبدًا قلبًا بسيطًا للهرمية بتحويل عاليها سافلها، أو جعلها تقف على "رجليها بعد أن كانت تقف على رأسها"؛ أي بالطلب من الفكر أن يقيس نفسه على الواقع كما فعل ماركس مع جدل هيغل. لا، لو فعلنا هذا لظللنا أسرى الميتافيزيقا التي تقوم على التقابل بين الحدود. إن المطلوب برأيي هنا هو العمل الدؤوب القائم على الشك والمراجعة الدائمة التي يقيس فيها السلوك نفسه على فكرٍ سائلٍ غير مُتحجِّر وغير متعالٍ لا يُكبِّل السلوك تمامًا بقدر ما يحفزه ويدفعه وينظمه من دون أن يُجبر قطاره على أن يسير على سكةٍ ثابتة إجبارية مرسومةٍ له سلفًا. لعل الأجدر بنا أن نتوقف عن مطابقة الفكر مع السلوك أو العكس بأن نشد كل منهما عنوةً إلى الآخر، بل إن الحري بنا ربما هو التفكير بمفهوم حوارية "محايثة" تسمح لكلٍ منهما بتفكيك الآخر وفتحه على آفاقٍ جديدة غير منتظرة أو غير متوقعة.

وفي المنحى نفسه، يعترفُ الكاتب في نصه هذا بأنه ليس شرقيًا حُرًّا، لكنه يُفكِّكُ أيضًا هذه المقولة القائمة على مرجعية ميتافيزيقية تطابقُ مُسَبَّقًا بين الرجل الشرقي وعبودية الذهنية الشرقية، قائلاً:

يوحي السؤال: "هل تخلصتَ من عبودية الذهنية الشرقية؟" كما لو أن الشرقيَّ هو عبدٌ بالضرورة، أو كأن الذهنية الشرقية هي ذهنية العبيد. مرَّةً أُخرى، ووفقًا لهذا المنطق الميتافيزيقيِّ تتحوَّل المفاهيم إلى حدودٍ أنطولوجيَّة ثابتة متطابقة أو ماهوية، في حين أن الحري بنا هو البحث عن فوارقها وتمايزاتها وتخارجاتها لا عن تأبيدها في مفاهيم ثابتة لا تتغير.

فالهُوِيَّة الحقة هي هُوِيَّة الفوارق والتمايُزات التي تخون كُلَّ تقابل مستقر بين الحدود، لا هُوِيَّة المفاهيم الساكنة المنتهية، والإنسان محكوم دائمًا بهذه التباعدات، ولذلكَ يقول الكاتب في خاتمة "اعترافاته" في هذا النص:

أنظر إلى العالمِ بعين السائح، وككل السياح أملأ عيني بأشياء يسرقها الزمن سريعًا من بين يديَّ، وأفتح رئتيَّ مليًّا لأعُبَّ الهواء العابر والمسافر. أنا إذن تلك اللحظة الهاربة جئتُ إلى هذا العالَم كي أُعلن اختلافي وأرحل...

وعلى هذا النحو، لا يرسم الكاتبُ لنفسه هُوِيَّة سوبرمانيَّة مُتفوِّقة في بنائه لصورته داخل عوالمه الكتابية، فها هو ذا في نصه هوَ أنا يبسط هُوِيَّة إنسان عادي تنخره الاختلافات، ويجمعُ في ذاته القوة والضعف، والشجاعة والجبن، والنزاهة والخبث... إلخ، وهذا ما يُصرِّحُ به أيضًا في نصه مُفارَقات:

ما أشدَّ تناقضي مع نفسي وإعجابي بما لستُ أنا! لقد سبقَ وانتصرتُ للأرنب على حساب السلحفاة، ومع أن لديَّ نزقُ الأرنب وقلة صبره، إلا أنني أسيرُ ببطء السلحفاة. وهأنذا أتغزَّلُ بحياة المرح واللهو، وأصفُها بأخلاق السادة، وأنا أعملُ في الواقع ليل نهار كالنملة، ولا أجدُ وقتًا كبيرًا للمرح ولإتلاف الوقت الذي أقدِّسُهُ.

وإذا كان الكاتب لم يتوانَ عن تفكيك نفسه، فإنَّ الأصالة التي اكتسبها هذا الفعل، اكتملَتْ بتفكيك مفهوم "الحرية" نفسه بما هو مفهوم عميق الصلة مع مفاهيم الهُوِيَّة المختلفة، وفي هذا المضمار يقول الكاتب:

أن أسعى لأن أكون حُرًّا لا يعني أن أقبل بمفهوم للحرية خارجًا عني يُلزمني بمعاييره ويحبسني في مقولاته. وبما أن الحُريَّة كما أفهمها ليست هدفًا يمكن الوصول إليه يومًا ما، وإنما هي فعلُ سلبٍ دائم وتجاوزٍ مُستمر وسيلان متحرِّك لا يهدأ، فعلينا إذن أن نواجه خدعة الحُرية المتعالية ذات المقولات الجاهزة والقَبْلية المُطلقة بفكرة التحرُّر والانعتاق. يقوم فعل التحرُّر الذي أقصده هنا في مقابل الحريَّة بما يقوم به السلوك إزاء الفكر فهو ليس في النهاية سوى فعل شكٍ وخيانة وفضحٍ وتجاوز. علينا أن نحذر دائمًا من أن نُأسر في "سجن الحرية" وأن نسعى دائمًا لتكسير أقفاله عبر فعل التحرُّر الدائم والمستمر.

إن الفيلسوف خلدون كما يُحبِّ ويستحق أن يوصف، يبقى في نصوصه "الأدَبفلسفية" وفيًا لوظيفة الفيلسوف الذي ينعتهُ بِـ "مسحراتي الفكر"، آخذًا على عاتقه أن يحتفظَ بحُرِّية التفكير والإرادة والعمل بوصفها خبرات تتأسَّسُ في قلب فجوة الوجود الهش في العالم، ولذلك يرى أنَّ على الفلسفة أن تكون قبل كل شيء ثورةً على نفسها؛ أي أن تفكِّكَ أصنامَها المُسَبَّقة أولاً "من أجل فتحها على ما أقصته كالمرأة والشِّعر والأدب والمُخيِّلة"، وهي المسألةُ التي يُؤمن بها بضراوة، وتحققها حُرِّية الكلمة والفكرة، لهذا يقول:

ما من شك أنهم لا يستطيعونَ إطلاق النار على الكلمات والأفكار، ذلك أن لها مقاومة ضد الرصاص وضد النيران، ولنتذكَّر أنهم مهما اغتالوا الأزهار، فإنهم لن يمنعوا الربيعَ من القدوم.

... أليسَ من حقِّنا أن نحلُمَ إذن..؟!!

ألَم يحِنْ الوقتُ كي نمتلكَ زمامَ حُرِّيتنا، وأن نعمل من أجل خلق وجودٍ مُختلف وتاريخٍ رحب..؟!! أليسَ لدينا اليوم ما يعضدُ هذا الحُلم..؟!!

ألا يُمكن أن نتلمَّسَ على نحوٍ ما بداية عصرٍ مُغاير ليس لنا نحنُ العرب فحسب، إنّما للعالم المكلوم كله..؟!!

ألا تمنحُنا ثوراتُ الربيع العربي أفقًا كونيًا استباقيًا يُغنيه التشظي القائم، وتكشفه كينونة الجديد المُحتمَل..؟!!

هل نهذي..؟!! ربّما.. لكن ريثما نَرى أو لا نَرى ما ينبغي أن نراه، سنظل نردد مقولة دونكيشوت بمنتهى التَّفرُّد والنّشوة: "راحتي معركة".

دمشق في 1 كانون الأول 2015

*** *** ***

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني