الجزء الثاني

آباءٌ شَكِسُون، بَنُونٌ يُقاسُون الساديَّة 1

فرانسواز دولتو[1]

 

أغنية بلا كلمات

إن عدم نطق الطفل الصغير للكلام لا يعني أنه لا يتلقفه: فإذا كانت الدقائقُ التي تتضمنها اللغةُ ما تزال تفوته إلا أنه يلتقط معناها بفضل حدسه المباشر للشخص الذي يكلِّمه، أيًّا كان اللسان الذي يستعمله هذا الشخص لمخاطبته. إنه يفهم الألسُن كونه يفهم لغةَ العلاقة الوجدانية بشخصه ويفهم علاقات الحياة أو الموت المحيطة به. وأحسب أن الأمر يتم بصورة رئيسية على هذا النحو: يدرك الطفل العلاقات التي تعضد الحياة أو التي تعوقها، العلاقات التي تُخِلُّ بالتناغم أو تكون تناغُمية. ولكن كيف لأصوات من نحو الابتسام أن يسجِّلها الوليد؟ لقد نُطِقَ بهذه الكلمة في أذنه للمرة الأولى عندما كشَّر قسرًا وهو يخرج من الرحم. إننا جميعًا نكشِّر على هذا النحو الذي يكون للوالد بمثابة اللغة، بما أن هذا الأخير يقول حينئذٍ، وصوتُه يترجم عن اللذة التي تجتاحه: "آه! يا للبسمة الجميلة!" وحسب المرء بعدئذٍ أن يطلب: "بسمة أخرى أيضًا"، حتى يبتسم الطفل من جديد، الأمر الذي يبرهن أن صوتًا قد تَقاطَع مع إحساس داخلي. إن واحدهما ينادي الآخر. والواقع أن الآخر (الوالد) يستدرُّ حنانَه الواحدُ، هذا الواحد، هذا الوليدُ الذي تحرِّك تكشيرةٌ منه الوالدَ الذي ألبس انفعالَه كلمةَ "بسمة".

هاهنا، أيضًا، يمكن لسيرورة الاستلاب aliénation كلِّها أن تتأصل. ففي التكرار القسري للإيماءة يغري الراشدُ الكائنَ بالتظاهر بدلاً من أن يكابد الأمرَ مكابدةً عميقة. التبسُّم للآخر، وليس التبسُّم اتكالاً على الآخر.

إننا نرى أطفالاً يقاسون الساديَّة sadisme (والناس لا يعلمون أنهم أطفال تمارَس عليهم السادية، إذ يقال إنهم خجلون ومهذبون)؛ إنهم من الجزع بحيث يبتسمون طوال الوقت ابتسامةً جامدةً، كأنهم بها يلتمسون رضا الآخر من فرط خوفهم أن يعتدي عليهم إذا لم يبدُ عليهم الرضا.

لو كان الأمر محسوبًا حسابًا واعيًا، لقلنا إنه واجهة للخداع. ففي الإمكان بالفعل تقريبُه مما يُدعى "الابتسامة التجارية"! ولئن قيل إن الطفل في هذه السنِّ لا يُعقَل أن يفعل ذلك، إلا أن الطفل قادر، في سنٍّ مبكرة جدًّا، أن يدرك الترويض التجاري بحسب الحاجات. وبما أنه يسعى إلى كسب رضا أمِّه، فإنه يرضخ لهذه الأم التي تُخِلُّ بإيقاعه لكي يكون طوع بنانها. وكل شيء منذئذٍ ينحو إلى الانحراف.

إن الاكتفاء بالطلب ليس كتكرار ظاهرة علمية؛ إذ ليس لشروط الوجدان affect أن تتكرر من شخص لآخر. فإنْ تكررت فهو إيذان بالاستلاب المعصِّب névrosant، وهو الاستعاضة عن علاقة خلاقة بافتعال عادات على مستوى الحاجة. وإننا لمتكلون على حاجاتنا: فما إن نوجِد رَجْعًا تكراريًّا، يندرج هذا الرَّجْع reaction في فئة الحاجات، أي في موت الروح. إذ ذاك فإن الرغبة في الكلام تُقطَع، تُكبَت، وتدخل في باب الحاجات. وبذا فإن حياتنا كلَّها تؤخذ في الدوامة. إنما الرغبة مفاجأة في الانتظار المتحرق إلى تلبيتها، تشي لكلِّ واحد بجانب مجهول من ذاته، ومن ذات الآخر، عندما يكتشف المرءُ مع هذا الآخر ضربًا جديدًا من العلاقة يتأسس على تلبية الرغبة. إن الرغبة هي التي تقود إلى الحب. ولكن إذا لم يعد في الإمكان الاستغناء عن تلبية هذه الرغبة دون الدخول في حالة اكتئاب dépression، فهذا يعني أن هذه الرغبة أمست حاجة. إن هذا يشاهَد دومًا لأن الكائن البشري برمَّته مبني على هذا النحو. يصير الكائن البشري مدفوعًا برغبة في الكلام، بينما لم يكن في السابق يعرف الكلام؛ وهو ما إن يشرع في الكلام حتى يحرِّض رغبةً فيه. الطفل يكتشف أنه قائم عندما يشرع في المشي للمرة الأولى؛ وبعد شيء من المراس، تصير الرغبةُ في الوقوف حاجةً إلى وضع الانتصاب.

* * *

القوم على حق في إيجادهم أماكن مجمِّعة للطفل، لكنْ يجب اجتناب إقحام الأطفال ذوي السنتين في إيقاعات دُور حضانة ليست مخصَّصة لهم على الإطلاق، ولا حتى لأطفال الثالثة، إذا لم يبلغوا بعدُ سنَّ الثالثة العاطفية والوجدانية. هناك أطفال لا يعرفون بعدُ، وهُم في الثانية، مَن هم، وما الفرق بين البنت والصبي، مَن هو أبوهم، مَن هي أمهم، مَن هم أقرباؤهم الآخرون، مَن هما الجدَّان من جهة الأم والجدَّان من جهة الأب. إن سنَّ الثالثة سنٌّ مبكرة جدًّا لبعضهم على الذهاب إلى الحضانة. فمَن لا يعرف كيف ينهض ويأوي إلى الفراش ويرتدي ثيابه ويغتسل – ماعدا حالات استثنائية؛ ويخطر ببالي عددٌ من المعوقين جسميًّا – ويأكل بمفرده؛ مَن لا يعرف، في الإطار الجغرافي الدارج لحياته عندما يكون في الخارج، كيف يجد بيته، أو على الأقل كيف يدل على عنوانه، ليس طفلاً في الثالثة من حيث السنِّ العاطفية.

بدلاً من أن نطلب من معظم الراشدين المؤهَّلين والراغبين أن يتوسَّطوا في الصلات بين الأطفال، أخشى أن يصل بنا الأمر إلى إيجاد "خدمة ذاتية" تربوية، أي إلى الخلط أكثر فأكثر بين العُدَّة والمنهج، بعدم التشديد إلا على رفع الاعتمادات المخصصة لدور الحضانة. إن نوعية الاستقبال لا تقل أهمية عن استطاعة الاستقبال. إن تقديمَ سنِّ الدخول إلى مدرسة الحضانة مجحف بتفتُّح الأطفال. وأخشى أن يخلط النظامُ الحالي بين الإناء ومحتواه، هاهنا أيضًا بدافع ديماغوجي بعض الشيء إلى تحرير الأم، إلى السماح لها بإنقاص عبوديتها للمنزل. وأخشى أن تُتناسى المشكلةُ الحقيقيةُ للتفرُّد البطيء للطفل، الغني بتأصُّل هويته في التثمين الوجداني والاجتماعي لانتمائه إلى خليَّته الأسرية. إن إخراجه منها قبل الأوان أو بسرعة يضرُّ به. إنما ينبغي مدُّ الخلية الأسرية بوضع بدائل متدرِّجة، الأمر الذي يتيح للطفل أن يظل دائمًا هو هو، أكثر فأكثر استقلاليةً بفضل المفردات الإيمائية والحركية واللفظية، وأن يستيقظ فيه حسٌّ نقدي حيال كلِّ ما يدرك.

ولا تقل عما سبق إقلاقًا اليوطوپيا العلموية utopie scientiste الجديدة التي تقوم على الاستعاضة عن المؤدِّب الروسُّوي[2] بطرفيَّة كمپيوتر يوضع الطفلُ أمامَها وتُترَك له مهمةُ تعليم نفسه بمفرده، بالبرامج نفسها للجميع بالطبع.

* * *

وبذا نصل إلى شكل آخر من أشكال هذه الرَوْبَطة robotisation [تحويل الإنسان إلى آلة] التي كنا نريد تفاديها، ظانِّين أننا نتفوق على الليبراليين المتقدمين الذين شددوا على العلوم العصبية، وكأن من شأنها أن تقلب سُنَنَ علم أصول التربية. ومن الصحيح أن علماء النفس الاجتماعيين غالوا في الدراسة الإحصائية لعوامل البيئة.

*

كان ذلك على جانب كبير من الأهمية، ويجب أخذه دومًا بالحسبان. إنما أظن أنه ليس في الإمكان إيجاد التعليل كلِّه فيه بالقيام بإحصاءات. فعلى سبيل المثال، إذا دُرِسَتْ مجموعةُ أطفال بلا أب ومجموعة أطفال ذوو أب، يتبين لنا أن في المجموعة الأولى جنوحًا délinquance أكثر لأن معيار عالِم النفس هو الجنوح أو الداء. والداء لا يستدعي الاستشفاء حتمًا، وليس قابلاً للحسابات بالضرورة. وليست الأدواء تقتصر على ذلك. ففي الاختبارات لا يمكن أخذ بالحسبان ما هو انطباع لدى طفل لا يُعرِب عن جواب. فالعديد من الأطفال الذين يبدون "معتوهين" في الاختبارات لأنهم لم يُعرِبوا عن جواب هم شديدو الذكاء، لكنهم مازالوا بعدُ في شوط التلقِّي، لا في شوط البثِّ الرجُعي. وبعض الأطفال لم يعامَلوا إلا كمفعولين بهم؛ وإنهم ليصيرون مع أول فعل جانح لهم "فاعلين" يومذاك، دون أن يحظوا أبدًا بقوانين أو بكرامة شخصية. إن كرامة الطفل وكرامة العلاقة أب/أم/طفل هي التي لا تؤخذ أبدًا بالحسبان، لا في الحضانة ولا في دار رعاية الأطفال ولا في أية مدرسة ابتدائية. إن أداة الإحصاءات والاختبارات لا تقيس هذا النقص حصرًا، هذا الاستلاب بعينه. أجل، إن من المهم دراسة الأدواء الخطيرة والانحرافات والجنوح الانتكاسي والتساؤل عن سُبُل الوقاية؛ لكن ما يقبل الرصد والاختبار ليس إلا الجزء المرئي من جبل الجليد. "اللاوعي، على حدِّ قول فرويد، هو كل ما هو غير مرئي من جبل الجليد، وليس المرئي منه." والإحصاءات لا تعوِّل إلا على المرئي، دون أن تبالي بالجزء المستتر.

إن علم النفس الاجتماعي تفوته رؤيةُ الأطفال الذين سوف يخترعون. وإنهم لسوف يستخدمون هامشيَّتهم في تصعيدات sublimations، أي بتعبئة طاقاتهم في نشاطات مطلوبة من أجل لذتهم، ولذة الآخرين ربما. إن المرغوب مفيد للمجتمع أحيانًا، بما هو الإبداع المجاني، تجاوُز المعلوم.

الأصالة مهمَّشة. وجميع هؤلاء الأطفال، عند أدنى حماقة أو عدم تفهُّم من قبل الراشد، يُزاحون، يصنَّفون إما كجانحين أو كمرضى. إنهم، وهم صغار، لا يقدرون البتة على التكيف مع مجموعة كبيرة عندما يخرجون من أسرتهم. وحتى في أسرة كبيرة، يبقون المفعول به، الصغير، لمجموعة كبيرة نسبيًّا. إنهم في حاجة إلى التعرف إليهم طفلاً أوحد لعلاقة واحدة بأبيهم وواحدة بأمهم؛ وهذه العلاقة بعينها هي التي يجب أن تكون المنطلق – بالكلام – لمساعدتهم، كما هم من حيث أصلُهم، على التكيف مع الآخرين. وبحرمانهم من هذه العلاقة، بانتزاعهم من حياتهم الوجدانية affective الخاصة لفرض سُنَّة تربوية واحدة على الجميع، يلقَّنون لغةَ الخطف، لغة الاغتصاب، واللغة التي ينتصر فيها الأقوى على الأضعف، لغات هي انتهاكات للأخلاق الإنسانية – لكنْ لأن الأمر دارج فهو مقبول كأخلاق. هو قبول هذه الأخلاق الكاذبة التي تجعل المرء يحكم في المدرسة على مبادئ تربوية منحرفة وحارفة بكونها "سوية"!

يقوم تفرُّد الأطفال على استعمال أفضل للحضور الوالدي، أيًّا كان أسلوبه، وليس على إلغائه. فبدلاً من استعاضة غير مشروطة، هناك توسُّط ممكن، في مناخ من الثقة، للراشدين الأوصياء الموظفين الواعين، بما يتيح لهم أن يكونوا في خدمة الراشدين الوالدين بإخطار أولادهم عن صعوبات هؤلاء الوالدين دون الحكم عليهم.

إن العلاقة اللغوية بين الراشد المربي أو المرشد وبين الطفل في المدرسة نادرة الارتباط. إن عدم المساواة بين المواطنين منذ الصغر متأتٍّ من عدم تثمين نوع اللغة التي تقوم بينهم وبين والديهم، التي هي لغة غنية جدًّا، حركية، عاطفية، لكنْ غير لفظية؛ وإنهم بوضع كلام على لغتهم الوجدانية مع أمِّهم حصرًا يُعلَّمون اللغة اللفظية. وإن القوم يمتنعون عن القيام بذلك في المدرسة، ويقال حتى للتلاميذ ألا يتواصلوا في الصف، في حين أن طفلاً منهمكًا يتكلم طوال الوقت حتى سنِّ السابعة، والثامنة حتى.

أوتعلمون أنه ليس في الوسع التمييز بين استراحة أطفال سامعين وبين استراحة أطفال صمٍّ من فرط ما يرتبط الصخبُ المزماري الذي لا يسمعونه بأفراحهم أو بأتراحهم: عندما يلهو طفل أصم فعلاً، أو عندما يحز في قلبه أسى، ليس هناك من فارق بينه وبين طفل سامع في باحة مدرسة الصم والبكم. إنهم لا يزعقون، كما يظن الناس في الأطفال السامعين، لكي ينادوا والديهم؛ إنهم لا يسمعون بعضهم بعضًا! المدرسون يثرثرون بعضهم مع بعض، تاركين الأطفال يمرحون بعضهم مع بعض، كما في باحة مدرسة عادية. من المفيد جدًّا رصدُ ما يحدث بين الأطفال في أثناء الاستراحات. بيد أن لا أحد يفعل ذلك أبدًا، أو لا يتحدث عنه.

في باحات الاستراحة هناك انحراف في الصلات الطبيعية بين الأطفال، يمكن لها أن تصل حدَّ طقوس الوحشية. إن فيلم جلالته ملك الذباب مثال مقلق: مجموعة من الأطفال الناجين من الغرق يلتقون وحدهم على جزيرة نائية، فيبتكرون مجتمعًا ذا طقوس شديدة الوحشية: مُسارَرة، استرقاق...

ذلكم ما عُلِّموه منذ الصغر؛ إنهم لا يفعلون سوى ما لقَّنتْهم إياه السلطةُ الراشدة منذ نعومة أظفارهم. إن الضغط في الصفوف هو من القوة بحيث إن باحة الاستراحة تصير فعلاً مسرحًا لتفجُّر بواعثهم "الحيوانية"، وأعني بواعثهم غير المنطوقة. والفرد الذي يراقبهم لا يتدخل إلا عندما تكون العاقبة وخيمة، بدلاً من أن يصوغ نشاطاتهم الحركية صياغة لغوية. وفي الصف، وحتى في غير مكان، يجب ألا يُحدِثوا "ضجيجًا أكثر مما ينبغي"، في حين أن هذا الضجيج يمكن أن يكون ضروريًّا وطبيعيًّا تمامًا. وفي حين لا يعود في وسعهم أن ينضبطوا، يقال لهم: "انضبطوا!" والماكرون الذين يمكن لهم أن يذهبوا حتى تعذيب حمَّال أذية في المراحيض لا يُحدِثون ضجيجًا، وهؤلاء لن يحاسبهم أحدٌ على شيء؛ إذ لا يُعاقَب إلا الذي يُسمَع ويقوم بردة فعل، ولا يُعاقَب أبدًا الذي استفزَّ ردة الفعل. المهرج يُقمَع بشدة أكبر من قمع الساديِّ الذي يتصرف تصرف المنافقين في الزوايا. ومن ثم فإن الذي يتمكن من السلوك كمفعول به، ويكف عن كونه محركًا، هذا ينظر إليه المعلمُ بعين الرضا. تصوروا أنه لا يشكو، ولا يزعج، ولديه نتائج على الورق. إنه ليس إلا إسقاطًا لضمير المدرِّس المرتاح. ولا همَّ إن كان ثمن هذا هو خضوعَ العبيد أو الحصولَ على صفقة مجزية: نوال رضا المعلم. رغبة للبيع لمن يدفع! وهذا ما أدعوه المدرسة الهضمية: التلميذ "الجيد"، في الواقع، هو الذي يقبل أن يجتثَّه الراشدُ من جذوره ويُجبِره على محاكاته.

هذا ما يسرُّ المجتمع الذي يخاف التجديد. التكرار هو المفضَّل. فمن يقبل القيام بالتكرار يقوَّم تلميذًا جيدًا. إنه لا يسعى عندئذٍ إلا إلى الظهور ونيل الإعجاب، بأن يسكب نفسه في القالب الذي يُفرَض عليه، بدلاً من أن يقيم علاقةَ فاعل بأن يعبِّر عن نفسه. الجبان هو الذي يُعظَّم. وقد يحدث أن يتمكن طفلٌ استثنائي، هامشي، مع كونه تلميذًا جيدًا، من المحافظة على الحركيَّة والابتكار والروح النقدية الحرة، وكذلك على العلاقة مع الآخرين، ويقول لنفسه: "طيب، في الصف أفعل ذلك، لكني فيما تبقى من الوقت أتملص تمامًا من سلطة الراشد..." ذاك سيصير فذًّا؛ لكن نسبة أمثاله لا تتعدى 1 من 20000. سأورد قصة كامي فلاماريون[3]، فلاماريون الذي صار الفلكي الشهير: كان الطفل الخامس عشر أو الثالث عشر في أسرة، ومنذ أن كان في الثالثة كان كامي ذاك الذي كان الجميع يدعونه "فلاماريون". الآخرون كانت لهم أسماء شخصية؛ أما هو فكان يُدعى فلاماريون، حتى في أسرته، لأنه كان الطفل الألمعي في الصف. لكنه كان أيضًا راصدًا فضوليًّا لكلِّ شيء خارج الصف، ذكيًّا، حاذقًا، مبادرًا، صاحب حياة شخصية؛ لكنه كان طفلاً استثنائيًّا. كم من طفل قيِّم جدًّا يقبع بين المعتوهين! هناك الذين ينامون، يصيرون "أشياء" لكي ينعموا بالسلام، ويُحسَبون معتوهين حقًّا. مثال ساطع: أينشتاين. كان أينشتاين محبوبًا من أسرته، ولم يكن أحد يبالي بعلاماته السيئة في المدرسة. كان يقال: "سيبقى هناك دومًا العم فلان، الجوَّاخ، الذي سيتَّخذه صانعًا." أما اليوم فلم يعد في الوسع أن يكون المرء مثل التلميذ أينشتاين، حتى إذا كانت أسرته تقبله؛ إذ سرعان ما سوف "يُفرَغ" ويُعاد توجيهُه. ويكاد الأمر لا يستغرق سنتين. فالاصطفاء يبدأ من الصف الخامس؛ ويكاد يُعرَف منذ نهاية الفصل الدرسي الأول – بكلِّ أسف! – مَن الذي سيرسب ومَن سيُحرم الحق في الدراسة الثانوية، في حين أنها قد تكون رغبته الشخصية حقًّا.

ما كان الأمرُ بالأمر السيئ لو كان التخلي عن الدرس رغبته هو، لو لم يكن الأمر مستشعَرًا كنبذ، بل كتوجُّه يجعل الطفل سعيدًا ويهنَّأ بمناسبته على المضيِّ في الدرب الذي هو موهوب له فعلاً.

على أن هناك كلمات لا تخدع. الصفوف الانتقالية مقدِّمة للطفل بحيث إنه يقول: "لا أريد أن أذهب عند المجانين."[4] عند منطلق الحياة، ليس ثمة اصطفاء يتم من تلقاء ذاته إذا عُلِّمتْ الموسيقى والرسم واللمسية والرقص والرياضة بالطريقة التي تُعلَّم بها القراءةُ والكلامُ والكتابة.

لقد بُخِسَ العملُ اليدوي حقَّه في فرنسا بخسًا غبيًّا. المهارة البدنية، المهارة اليدوية، الحساسية اللمسية والسمعية والذوقية والشمِّية غائبة عن التعليم. ويقول الوالدان في حال الفشل المدرسي: "حذارِ، إذا لم تحصِّل علاماتٍ جيدةً في الصفَّين الخامس والرابع[5] ستصير يدويًّا." هذا الأمر فشل للطفل، وللوالدين إذلال! الراشدون يعلِّمون مهدِّدين كما لو بعِقاب. عندما أسمعهم يستعملون كلمة "يدوي" استعمالاً تحقيريًّا، أقول لهم أمام الطفل عن قصد: "إذا كنتما تريدان المقابلة بين اليدوي والفكري، فهناك يدويون أذكى من فكريين كثيرين؛ هناك عمل يدويٍّ ذكي ومبدع." يمكن ليدويٍّ ذكي أن يكون أسعد بكثير من فكريٍّ أخرق لا يجيد القيام بشيء بيديه. خريجو المدرسة الپوليتكنيكية École Polytechnique لا يعرفون إصلاح قاطع تيار، عديمو الأيدي؛ إنهم يتلاعبون في رؤوسهم بمجردات، يقرؤون، لكنهم عاجزون عن سلق بيضة! أعرف مهندسًا كتب كتبًا تبسيطية في العلوم الفيزيائية تتصف بوضوح خارق، كان رفاقه المهندسون "يتعالون" عليه لأنه كان يصرف أوقات فراغه في العمل اليدوي في مشغله. لقد عُهِدَ إليه في شركة كبيرة باصطفاء المهندسين، ولقد كانت خدماته تحوز على الرضا؛ لكن المرشحين المستبعَدين – وبعضهم كان من خريجي المدرسة الپوليتكنيكية أو المدرسة المركزية École Centrale – كانوا يجابهونه، مع أنه كان يناصرهم. كان منهجه يقوم على استقبال المهندسين النازلين في التصفية أولاً بحسب شهاداتهم وألقابهم. كانوا يتكلمون في أمور معقدة، تقع في دائرة تقنياتهم، وعلى حين غرة يسألهم: "ما هو سعر كيلو الخبز؟ ما هو سعر عود الخبز؟ ما هو سعر قطع البقر السفلية؟ ما هو سعر البفتيك؟ هل تشغِّل الغسَّالة في البيت؟" فيعترض المرشح قائلاً: "ولكن زوجتي هي التي تقوم بذلك!" "ما هو نصف قطر القاطع الذي نضعه عندما يكون التيار 10 أمپير؟" فكان الپوليتكنيكي يبحر في حسابات معقدة ويجانب الجواب الصحيح: الأبسط – وبذلك يرسب. كان قريبي يبرِّر منهجه على النحو التالي: هؤلاء المهندسون سيكونون في المعمل على احتكاك بالعمال، ولن يستطيعوا أبدًا أن يُفهِموا أناسًا ذوي أيدٍ العملَ الذي ينبغي عليهم أن يقوموا به. على المهندس أن يكون قادرًا على تمرير المعرفة الفكرية من خلال العمل اليدوي. مَن لا يستطيعون جعل العمال يفهمونهم لا مكان لهم في إدارة المشاغل. الفكريون الذين لا يستطيعون التفوُّه بكلمة عن أمور الحياة الجارية ليسوا أناسًا أذكياء، متفطِّنين لمعنى الحياة؛ ولا عبرة في أن يكونوا خريجي مدرسة ذات اعتبار بمرتبة امتياز إذا كانوا غير مؤهَّلين لوظيفة المهندس التي يطمحون إلى الحصول عليها هنا. فليذهبوا إلى غير مكان، لكنْ ليس إلى المشاغل. لقد كان على حق تمامًا. ولكن كانت هناك شكاوى عديدة ضده من أناس يريدون الدخول في هذه الشركة، في حين كانت هناك شواغر وكانوا ذوي ألقاب. أما هو فكان يؤثِر اختيار مهندس درس في مدرسة أساسية صغيرة، إنما يتحلَّى بالحس العملي. ثم كان يكلمهم عن زوجاتهم وأولادهم: "ابنك ذو الثلاثة أعوام، أية مفردات هي مفرداته فيما تظن؟ ما هي الأشياء التي تستهويه؟" من أجل الدخول في هذه الشركة الكبيرة كان يرى أن على المرء، أيًّا كان مستواه، أن يعرف أمورًا بسيطة جدًّا، من تلك الأمور التي يُتحصَّل عليها بالتماس مع الحياة. وإذن، فهذا النوع من الاصطفاء عند التوظيف كان محلَّ استياء الذين كانوا يخفقون. ألم يكن هؤلاء المردودون ممثلي نخبة الدراسة الناجحة؟!

الأغلاط التربوية

النساء ذوات النشاطات الفكرية، الأمهات ذوات "الياقة البيضاء"، غالبًا أكثر من الأمهات القليلات التعليم، هن اللواتي لا يفهمن أن موقفهن حيال طفلهن موقف مغالٍ في الحماية. إنهن تؤخِّرن الخبرات التي يفوز بها بالدفاع الذاتي عن أمنه. إنهن مغاليات في التطفيل infantilisation. وفي نمطهن التوجيهي يُرِحن ضمائرهن: "لكني لم أكلِّمه قط كما يكلَّم الطفلُ الصغير، لم أتبالَه قط، إلخ." إنهن يحسبن أن المسألة تنحصر في المفردات؛ ولكنهن، في حين يكون ابنهن أو بنتهن في الرابعة عشرة – ولقد اعتمدن هذه اللغة بعينها منذ الشهور الأولى من حياته –، مافتئن يقلن: "افعل ذلك كرمى للماما"، أو "كرمى للبابا"، دون أن يدركن أن هذه الطريقة في الإشارة إلى النفس أو إلى أبِ ولدهنَّ هي المخبِّلة والمرسِّخة للطفولة، وليس تشويه الكلمات. وعلاوة على ذلك، فإن ناموسهن الأخلاقي يُختصَر إلى: "برضاي عليك"، في حين أنه من قبيل الانحراف أن يفعل المرء من أجل رضا أمِّه أو أبيه وهو في الرابعة عشرة، وحتى من قبيل التطفيل بعد سنِّ الثامنة أو التاسعة. كلمة أخرى ببغاوية تطلقها أولئك الأمهات على مراهقين في الخامسة عشرة: "أنت تقتلني!" على شابٍّ في هذه السن، فتى كان أم فتاة، ألا يتورع عن إجابتها: "من حسن الحظ أني أقتلك كأم لأن الأمر قد انتهى: كوني امرأة، امرأة من أجل أبي أو من أجل رَجُلكِ، وعندئذٍ أستطيع، أنا، أن أصير رجلاً (أو "امرأة")."

إن كتابًا ملفتًا للنظر تمامًا: الموجز للأطفال ذوي الآباء الشَكِسين[6]، يقلب الوضع باقتراحه على الأطفال أن يكونوا من الرشاد بحيث يقبلون آباءهم كما هم، أطفالاً كبارًا سيئي النية ورديئي الطبع – الأمر الذي لا يعني أن يصير الأبناءُ آباءَ آبائهم، بل أن "يكرِّموهم" حقًّا بتحمل مسؤولية ذواتهم وعدم التفسخ في علاقة طفل محبٍّ وخاضع لراشدَين طفليَين لا ينفكان، حتى بأحسن النوايا، يواصلان أعصبةً أسرية. وبحسٍّ فكاهي نافذ، يقترح المؤلِّف عدم مناوئة هذه الحيوانات العجيبة! حتى تنعموا بالسلام، امنحوا الآباء ما يحتاجون إليه حتى يستطيعوا مواصلة حياتهم: أن يكون ولدهم لعبتهم؛ موضع رغباتهم المتناقضة.

إذا شئنا أن تكون للطفل فرصٌ أكثر لصون كموناته، يجب أن تكون التربيةُ على أخف ما يمكن أن تكون عليه في توجيهيَّتها. بدلاً من أن نصرَّ على فهم كلِّ شيء، فلنحترم جميع ردود فعل الطفل التي لا نفهمها. يأتي الآباء للاستشارة عندما تظهر على طفلهم أعراضٌ تزعجهم. كم مرة سُئلت: "أود أن أفهم لماذا يفعل ذلك." – "لكن هذا لا يعنيك." إنه يفعله؛ وهذا يزعجك أو لا يزعجك... إذا كان يزعجك قل له: "هذا يزعجني"، لكن لا تلح على الفهم. وإذا كان ثَمَّ اضطراب خطير، وكان هذا الطفل يتعذب، عندئذٍ يمكن لك أن تقتاده إلى أحد يمتهن مساعدته على فهم نفسه وتجاوُز ما يعذِّبه. إذا كان ما يفعل هو ما يزعجك وليس هو، لن أقول لكم لماذا، لأن الأمر لا يعنيكم ولا يهمني.

أتذكر صغيرًا كان يبول في فراشه. كانت الأم تشكو: "رائحة البيت نتنة!" – "وهو، هل يضيره ذلك؟" – "لا." ألتفت نحو ابنها: "هل يضير ذلك أمك؟" – "نعم." – "وفي الحياة، هل من شيء يضيرك؟" عندئذٍ قال لي: "نعم، إنها أختي الصغيرة؛ ليتها لم تولد!" – "ولكن لعلك إذا كنت نفسك يمكن لك، ربما، ألا تبالي بأختك بعض الشيء وتفلح في أن تكون أقل تعاسة بوجودها. سنحاول، إذا شئت، أن نعمل سوية." لقد عملنا سوية، ولم يلبث سلسُ بوله أن انقطع. ماذا جرى؟ بأثر ثانويٍّ وجد فَخارًا في جسمه كصبي، وبالتالي ضبط معصراته. كل الثدييات تتمالك سلس بولها؛ وليس إلا البشر، بدافع وظيفة رمزية، ليسوا متمالكين سلسهم فيما يتعدى نموًّا فسيولوجيًّا معينًا؛ إن عدم تمالكهم سلس بولهم لغة: لغة رغبة. "لا أريد أن أكبر. لماذا؟ لأني أود أن أكون أختي، أو أتمنى لو أنها لم تولد. لا أريد أن يحتاج والداي إلى كائن بشري آخر. أريد أن أعيش كما لو أنها لم تكن موجودة." جميع الرغبات التي تجعل هذا الصبي ينكر سنَّه وجنسَه ويرفضهما. لا يمكن لنا أن ننطلق إلا مما يعذِّب الطفل، لكن أبدًا مما يعذِّب الأم. وفهم الأمور على هذا النحو مفيد جدًّا. يجب تحليل هذا الكرب مع الطفل، لا مع الوالدين. ماذا عنهما؟ الشأن دائمًا شأن فضول وسيطرة وانتصار سلطتهما؛ إنه شأن جزئي من نفسيهما أو من صلتهما كزوجين ينبغي أن يستفيدا منه.

منذ أن بات لوسائل الإعلام "اختصاصيُّها النفساني الموظف"، ومنذ ازدهار مرشدي طبِّ الأطفال من الأنواع كلِّها، يؤخذ على التربية الحديثة تأثيمُ الأمهات اللواتي لم يعدن يدرين لمَن يلجأن ويخفن الوقوع في الخطأ. هناك تيار نسوي يستنكر أخطاء التربية المغالية في التوجيه، مثلما يستنكر اللبرالية المغالية في التسيُّب، محاولاً عكس اتجاه الريح بإحالة تحليله إلى تحقيق تاريخي. بذا فإن تاريخ الأمهات "يبيِّن" في نجاح أنه ليس من غريزة أمومة غير التي يمليها المجتمعُ والأنماطُ الفلسفيةُ أو الاجتماعية، وأنه، بالتالي، ليس على الأمهات من مأخذ، مهما فعلن. فبدلاً من تحميلهن المسؤولية يُنحى نحوُ رفعها عنهن.

بيد أن المسألة الأساسية تغيَّب هاهنا أيضًا: فالراحة الفكرية للأمهات شيء، وقضية الأطفال شيء آخر. إن دراسة مشكلة نشأتهم وتفتحهم من وجهة نظرهن وحدها لا يمت بصلة إلى خطاب "علوم التربية". ومن المحال التقدم في هذا المضمار دون تغيير سلَّم القياس وأداة الرصد. فهن الكاشفات، من حيث لا يدرين، والراصدات للظاهرة الراشدة. إنهن "يرين" ما يكابدنه، من حيث لا يعلمن، ويكشف مسارُهن عنه.

تربية مشذِّذة نتيجة المغالاة في الحماية، عبادة المعيار الواحد، الخضوع لموضات اليوم، فرض النموذج الوالدي. لماذا يتشبث الآباءُ والأمهاتُ في إصرار بهذه الطوافات؟ لماذا يتيه هؤلاء الآباء إذا لم يقتفوا أثر مرشد؟ إنهم يفرزون الكثير من الجزع angoisse. وكلما ازداد جزعُهم ازدادوا إصرارًا على الحصول مسبقًا على إجابات في خصوص مستقبل أولادهم. إن ما تُعلِّمنا إياه التجربةُ هو أن هذا الموقف يزيد من احتمالات تثبيط الأبناء إلى حدٍّ خطير.

تعليمٌ حارفٌ، هو تعليمٌ عبارة عن جعل التلميذ يتجشأ معلوماتِ الأستاذ المنقولةَ إليه عِبْرَ نظرائه. "إنه ليَحسُن الحصولُ على علامة جيدة بأن يقال لي ما أنا أعرف." ذلك غلط الأغلاط التربوية. إن ما فيه فائدة لطفل، يُعهَد به إلى راشد يريد أن يلقِّنه مبادئ استخدام ذكائه، هو مرافقته في التفتيش عن شيء. إن الراشد يغالي في الميل إلى فرض "الطريقة"، دون أن يتساءل فيما إذا كانت تُناسِب هذا الطفل بعينه. إذا كانت لهذا الأخير طريقةٌ أخرى يتوصل بها إلى نتيجة تبعث فيه الرضا فمن حقِّه أن يتبناها. بيد أننا نشاهد أساتذة رياضيات يعطون علامة سيئة للغاية لتلميذ لأنه توصل إلى النتيجة، لكنْ بطريقة أخرى غير التي أشاروا عليه بها. كان على الأستاذ أن يهنِّئه، أو على الأقل، أن يقول له: "بهذه الطريقة بعينها، في هذه الحالة الخاصة، استطعتَ أن تحلَّه؛ سنرى في مرة أخرى إن كانت هذه الطريقة قابلة للتطبيق..." ولربما اكتشف الطفلُ طريقةً أكثر ملاءمة. هناك أطفال مبتكرو طرائق ملائمة، الأمر الذي يثير سخط الأستاذ: "لقد أفلح فلان، أجل، لكني أريد أن يطبِّق هذه الطريقة لأنه في حالة أخرى قد لا يفلح." عند الاقتضاء، إذا كان يتذرع بهذا السبب بعينه على الأقل، فهو ما يزال مربيًا. لكن قد يكون من الخير له أن ينتظر اصطدام الطفل بعدم إيجاد حلٍّ للمسألة باستخدام طريقته، ولحظتئذٍ يكون مستعدًّا لسماع: "أترى، بطريقة أخرى، يمكن لي أن أشير عليك بها، ستصل إلى النتيجة." كل كائن بشري يفتش عن "طريقته"...

أمام الإخفاقات المدرسية، يطرح أساتذةُ التربية الوطنية السؤال الكمِّي السيئ: "ماذا نفعل لكي نحدَّ من العدد؟" السؤال الحقيقي هو التالي: "لماذا هذا العدد من الإخفاقات؟" يقال إن التلاميذ غير "متحمِّسين"، إنهم لا يبدون أيَّ ميل نحو ما يُعرَض عليهم. هذا لا يعني أنهم يعدمون كلَّ فضول. ينبغي أن نعرف أين يغفو هذا الفضول بانتظار تحريضه.

الكائن البشري لا يعدم أبدًا شيئًا يهتم له – أبدًا. أحيانًا يظهر بمظهر سلبي. في الصفوف التي يقال عنها إنها فاعلة، كم من أطفال شوهدوا لا يهتمون إلا لمشاهدة الآخرين. ثم، بعد انقضاء ستة أشهر، ذات يوم، يؤدون أداءً من الجودة كما لو أنهم قاموا بالتمارين كلِّها... من فرط ما شاهدوا الآخرين، بانتباه، متماهين معهم. لقد كانوا في الواقع منتبهين، لكنهم، إذ وفَّروا جهودهم لما بعد، بدا عليهم الكللُ والسهو. لكن الأمر لا يزيد إدهاشًا عن وجود أطفال يتعلمون الكلام بأطراف لغة تُصحَّح رويدًا رويدًا، وعن وجود آخرين يتكلَّمون دفعةً واحدةً بجمل سليمة، دون أن يكونوا تكلموا حتى ثمانية عشر شهرًا، عشرين شهرًا، وحتى ثلاثين شهرًا. الأمر متوقف على ما إذا كانوا منخرطين في التواصل وإذا كانوا مهتمين بما يقوله الراشدون بعضهم لبعض ولهم وبما يعرضونه عليهم. إنهم على تواصل إيمائي، كامن، وجداني. كذا، أيها السادة المربون، لا تقلقوا ولا تمارسوا إعادة تقويم للكلام. لكن تكلموا أنتم أمامه عن أمور تهمُّكم، بدلاً من أن تحاولوا جعله يتكلَّم عما يهمُّه، زعمًا.

وأخيرًا، التربية الأقل انحرافًا هي دومًا التربية التي تتأسس، قبل كلِّ شيء، على المثال، وقليلاً جدًّا على تعليمات المعلِّم – إلا حين تكون استجابةً لطلبٍ من المتعلِّم نفسه وحين تكون هذه التعليمات المعطاة: "لك أن تأخذها أو تتركها، لقد أعطيتك إياها لأنك طلبتها مني، ليس إلا!"

* * *

بعض الأطفال، إذ يعون محاكاة الآخرين، يرغبون في القيام بشيء غير التقليد، ولعله يصدمهم أو يدهشهم أن يروا كل هذه الببغاوات، كل هذه القرود العالمة، إلخ. "التلاميذ النجباء" عندئذٍ هم التلاميذ الذين استوعبوا سريعًا أن الأمر لم يكن إلا دورًا في تمثيلية اجتماعية طُلِبَ منهم أن يؤدوه؛ أنه كان لا بدَّ من المرور بذلك. إنهم لا ينخدعون بذلك، لكنهم يفعلونه. غير أن الوعي، عند غيرهم من الأطفال، أكثر انفكاكًا؛ أي أنه اعتبارًا من اللحظة التي يرصدون فيها قواعد اللعبة، لا يقدرون أن يطبِّقوها في الوقت نفسه. ولن يتمكنوا من لعب دور يصفَّق لهم عليه دون أن يتماهوا مع هذا الدور، بل بالبقاء هم هم حقًّا، إلا بعد انقضاء وقت طويل.

*

تحقيق حول طلاب جورج بومپيدو القدامى في ثانوية هنري الرابع: الأقوياء في الإنشاء صاروا موظفين حكوميين مرتاحين، و"الكسالى" تفتَّقوا عن رؤساء شركات نشيطين. وطلاب خلفية الصفوف، الذين كان يُطلَق عليهم قبل أيار 1968 اسم "السرطانات"، لا يقلون معرفة، في الحياة العملية، عن "رؤوس الصف" القدامى، إنْ لم يتفوقوا عليهم في الألمعية عندما ينبغي، وفي عرض المعلومات، وإذهال المحادِث، أو التكلم بلغته عينها. لقد تعلَّموا ذلك بعد أقرانهم بوقت طويل، لكنهم يجيدونه لأنهم لم يخنقوا ما كان في دواخل نفوسهم. لقد رفضوا، وهم بعدُ تلامذة، اعتبار معادلات العلم النظري أدوات. لقد حصَّلوا سُبُل السلطة ميدانيًّا.[7]

*

من المقلق تفحُّص النتائج الاجتماعية للتمييز المدرسي على جيل كامل. وإن المرء ليُذهله أن يرى ما صاره كلُّ واحد: الذين كانوا تلامذة نجباء دخلوا في المدارس الكبيرة وأمسوا أناسًا العملُ في نظرهم رتابة؛ والذين كانوا "سرطانات" أصبحوا جميعًا اليوم إما هامشيين (إنما يتدبرون أمورهم في الحياة)، وإما، على العكس، موجِدي وظائف، محرِّكين للحياة الاقتصادية، بينما صرفوا شبابهم يظهرون في أعين رفاقهم بمظهر غير المكترثين. فبمقدار ما ساءت الشيخوخةُ باللامعين نجح "السرطانات" في حياتهم، وهم يفعلون أشياء غير متوقَّعة على الإطلاق، لا تقع ضمن التوجُّهات المهنية المرصودة. إنهم كائنات بشرية حافظوا على أصالتهم، بتحمُّلهم احتقارَ رفاقهم بعض الشيء.

في المستطاع إعطاءُ الأطفال وسائل الاهتمام بأمور بمنحهم الوقت والحرية، إما بأن يفعلوا وإما بأن يشاهدوا الذين يفعلون، وبالفوز ببادْج badge عندما يريدون ذلك: "آه، كم أود النجاح في الامتحان الفلاني." – "إنك تستطيع ذلك عندما تريد في منهاجك المدرسي." لكن القوم يمعنون في خطأ تعريض الجميع للإهانات، في الوقت نفسه وفي السنِّ نفسها.

الراشد المرجعي

يميل المربي، أغلب الأحيان، إلى عدم رؤية إلا ما هو سلبي – بالضبط كما حين نقرأ سيرة حياة مهجوس بالإتقان perfectionniste: كل شيء ينقلب ضده. إنه يفتش عما يمكن له أن يتموضع في كائن بشري، بينما المهم هو ما يستشعره كل أحد في دخيلة نفسه. عندما يكون المربي في وضع إخفاق مؤقت، ما أدرانا أن الفاعل، الذي يتملَّص من تلصُّصيَّةٍ voyeurisme يريد المربي أن يمارسها عليه باسم الامتحانات، لا يغتني، فيتفتح عندما ينفصل عن هذا المربي بعينه؟ كثيرًا ما يشاهَد في الأسر متبلِّدون، خاملون – هؤلاء يدعون "المياه الغافية"؛ ثم، حين يخرجون من أوساطهم، يستيقظون. إن إقامة الأولاد في كنف أسرة أجنبية منصوح به كلَّ النصح، إذ تتفتح في هؤلاء دفعةً واحدةً طُرُقٌ في التفكير والكينونة لم يعرفوها في أنفسهم من جراء كونهم راقبوا أناسًا آخرين واتَّخذوا في غير مكان نماذج للقيمة. ولسوف يتغيرون، وهم هم، بما هم فاعلون: تتعدَّل فيهم، من حيث لا يعون، طريقتُهم في ربط العلاقات بين الناس... والفهم. ولسوف ينسِّبون relativiser كلَّ ما حسبوه حتى ذلك الوقت مطلقًا. المهم، فيما أظن، هو تنمية استقلالية الطفل في وقت مبكر جدًّا بأن تُقترَح عليه، بلا إكراه، ضروب النشاط كلها، كما والأشخاص والمجموعات التي يمكن له أن يكتشفها، وحتى يمارسها معهم، إن أمكن. إن "الراشد المرجعي"، الذي تكون لنمط حياته قيمةُ القدوة، لا يزعم تلقين منهج، الـمنهج – فذلك ضد التربية –، إنما الذي يبدي اهتمامًا للعمل الذي يؤديه بنفسه كل يوم. إذا كانت الأم مهتمةً لما تفعل وتدع طفلها يهتم لشيء آخر، دون أن تراقبه لتدفعه إلى المضي في اتجاه أو آخر، فهذا الطفل بعينه يقتدي بأناس أعطوا معنًى لحياتهم، ويتبيَّن له أنهم سعداء، ويفتش عن سعادته هو، فتتَّسم حياتُه بدورها بالمعنى. كذا فإن أستاذًا يهتم لفرع من الفروع لن يحاصر أطفالاً غير مكترثين به – لن يفعل ذلك أبدًا. إن فرعه يستهويه، فيعرضه، ويرغب في نقل فيروس استهواء فرعه؛ بعضهم ينخرط في اللعبة، لكنه لا يحتقر العُصاة مطلقًا؛ إنه يدعهم وشأنهم... يقرؤون القصص المصوَّرة. "لا أجبرك على الاهتمام بما أفعل، لكنه يهم العديد من رفاقك. فلا تزعجهم إذن." وأخيرًا فإن القابلين للعدوى يصابون بها، في غضون عام على الأقل، والذين يظلون غير مكترثين ينشغلون بأمر آخر، لكنهم لا يُنبَذون. إنما، لسوء الحظ، بدلاً من أن تتساءل غالبيةُ المدرِّسين: "هل أنا ممتع؟ هل أنا آسر؟"، يطردون الغافلين والساهين من الصف أو ينحون باللائمة عليهم: "أنت تزعجني، تنازعني... لا تجدني ممتعًا... أنت لا تستحق إلا الاحتقار!" إن مما يُرثى له أن يرى المرءُ في بيت سيزان[8] فروضَ صفِّ الرسم لهذا الفنان العظيم، عندما كان لا يزال في الثانوية، وعلاماتها وتقديراتها المحقِّرة من جانب أستاذه! أي همِّ التعساء كان يراود هذا التلميذ الذي كان يوجِّه مذ ذاك حياتَه نحو فرع قيل له إنه غير موهوب فيه على الإطلاق! هذا ما قاله له أساتذةُ الرسم الذين تعاقبوا على تعليمه.

الآباء الجُدُد

للوالدين طريقة عجيبة في مفاقمة صعوبات سلوك ولدهما، مع أنهما يزعمان أنهما يفعلان كلَّ ما في وسعهما لإخراجه منها. كم من أمهات لهن بنت أو ابن في العاشرة يكلِّمنه أو يكلِّمنها عنهن بصيغة الغائب: "لماذا تفعل ذلك بماما؟" وإني لا أتورع عن توبيخهن على هذا الأمر. يتبع ذلك حديث من النمط التالي:

-       أهكذا تكلمين ابنتك؟!

-       لماذا، أي ضير في ذلك؟!

-       تقولين لها: "يجب على الماما أن تتسوق"! كيف تريدين أن تشعر ابنتُك بأنها بنت في العاشرة وأنتِ تكلِّمينها بصيغة الغائب، وكأن لها من العمر سنة واحدة... وحتى، في هذه السن، يقول المرء منذئذٍ "أنا" للطفل عندما يتحدث عن نفسه. أنتِ مَن يجب أن تطلب مشورةَ أحدهم لأنك ترغمين ابنتكِ التي لها من العمر عشر سنين على البقاء في قالب طفل رضيع.

-       نعم، هذا صحيح، أنا شديدة العصبية... أستشير الأطباء طوال الوقت، وهم يعطونني أدوية.

-       لا تستعملي الأدوية، بل اطلبي مشورةَ أحدهم لكي تفهمي لماذا أبقيتِ طفلتكِ في قالب رضيع كنتِ أغلب الظن في حاجة إليه؛ والآن هذه الطفلة تخرج من القالب وتعذِّبكِ لأنكِ أنت القالب وأنت تتفجرين... هيا تكلَّمي!

منذ سلسلة برامجي على راديو France-Inter "عندما يظهر الطفل" والآباء يتوجهون إليَّ، مع كونهم قد سبقوا واستشاروا محلِّلين نفسيين – آباء قد بدؤوا يكتشفون أنفسهم... آباءً! لقد اتصل بي مؤخرًا رجلٌ في خصوص "صغيرته"[9] التي ليست على ما يرام: "حقًّا ليس من أحد سواكِ يقدر أن يساعدنا." سألتُه: "هل أنت الجد؟" – "آه! طبعًا لا!" – "كم لها من العمر، ابنتُك؟" – "22 سنة..." "صغيرتي"! عندئذٍ قلت له: "لكن كيف، سيدي، تعتبر ابنتك، المولودة منك، وأنت تتكلم عنها وكأنها بنت صغيرة؟ إنها في الواقع راشدة منذ أربع سنين!" – "نعم، هي قصة طويلة كما ترين... هذه الصغيرة كانت كلَّ شيء في نظري." سألتُه: "منذ متى وجدتَ أن ابنتكَ ليست على ما يرام؟" – "منذ أن بلغتْ سنَّ الذهاب إلى الثانوية: لم تستطع أن تفعل شيئًا فيها." لم يكن ليدرك على الإطلاق أنها كانت ذُهانية psychotique. إذن ففي بيته مجنونة؛ إنها لا تتحرك، تبقى مختلية بنفسها، تنتابها نوبات. ولكن لماذا؟ لأن علاقة الأب بها كانت، وما تزال، علاقة امتلاكية خيالية، علاقة الجدِّ الحاني ببنت صغيرة يتعذر عليها التخلص منها. "رجلُها" الأول لم يستطع أن يجعل منها امرأةً لأسباب مرضية. وإني أقع أكثر فأكثر على حالات من هذا النوع.

* * *

إذا لم يتم اجتياز الأشواط الرمزية قط، يجب، أيًّا كان العمر، قطع هذه الأشواط من جديد. ألا يجد المرءُ نفسه، من حيث الوجدان، في الوضع الذي وصفه پياجيه[10] حول تشكُّل الذكاء، حتى إذا بلغ الطفلُ سنَّ الخامسة عشرة، وفي الحدِّ الأقصى، حتى إذا بلغ سنَّ العشرين؟

إذا لم يستطع أبٌ، على سبيل المثال، أن يكون حاضرًا في أول العمر، لم يفت الأوانُ بعد: إنه يستطيع، مع ولده ذي السبع أو الثماني سنوات، أن يحاول إيجاد العلاقة اللغوية، إنما شريطة أن يقول لهذا الطفل إنه لم يفهمه على الإطلاق حتى هذه السن. وحتى يتمكن من ذلك، لا غنى له عن مساعدة ولده له، ذلك لأن الولد هو الذي سيصير والدَ الرجل؛ إنه سيجعل أباه أبًا، بالعذاب الذي يكبِّده الولدُ لوالده الذي ليس ولدَه. كلٌّ من جانبه يمكن له أن يُعضَد، شريطة ألا يتكفل الشخصُ نفسُه بذلك. وهذا الأمر أساسي، لأن التحويل transfert، إذا تم على الشخص نفسه، فإن الوالد يجد نفسه توأمًا لولده، والولد يتثبط أيضًا في علاقته بالمحلِّل النفسي. على الأب أن يقطع الدرب مع شخص آخر، في خصوص قصَّته، بينما يساعد الطفلُ محلِّلٌ آخر ييسِّر له أن يحيا حياةَ اليُتْم وأن يكلِّم هذا الأب الذي كان هو نفسه يتيمًا مادام لم يكن، بسبب هذا الولد المشكلة، قد قابَل محللاً نفسيًّا. ذلك عمل صعب جدًّا، ولا أدري على الإطلاق إن كان في الإمكان تعميمُه. أيًّا ما كان الأمر، لا يمكن للأب والابن أن يتفاهما إلا في علاقة كلام بوصفهما تائهين كليهما. إذا شاء الوالدُ والولدُ أن يتلاقيا، يجب أن تكون المبادرةُ من الطرفين. وهذا التقارب يتم إذا سوعد كلٌّ منهما على فهم أن الأب للابن، والابن للأب، كائنٌ روحي مساوٍ للآخر قيمة.

المتعذر، في سنِّ العاشرة، هو العودة إلى قارورة الرضاع. كذا الأمر إذا كان الطفل مصابًا بالكساح: فلأنه لم يحصل على التغذية اللازمة له، ولأنه يبدي العلامات العظمية للكساح، من المتعذر إعادة صنع هيكله العظمي في العاشرة بإعطائه حليبًا كاملاً لم يحصل عليه وهو صغير. هذا ثابت. بيد أن الجسم ليس هو الأهم عند الكائن البشري؛ إذ إن ما يهبه الحياةَ هو التواصل النفساني المتساوي في القيمة بين الذي يكلِّمه والذي يخاطبه هو. هذا ما توصل إليه التحليلُ النفسي عندما يكون المحلِّلون الذين يستقبلون الطفل أو الحبيس والمكروب الشاب محلِّلين حقيقيين. الأمر عبارة عن طنين على مستويات الاستقبال والإنصات كلِّها، في اللغة المنطوقة واللغة ما قبل المنطوقة، كلغات الإيماء والحركة وإيقاعات الموسيقى والرسم والنحت. اللغة المنطوقة، لا نعرف البتة كيف ينصت إليها الآخرُ، ولا ماهية التمثُّل الذي يحمله في بنية النفس. إذا كلَّمتكم بلغة تصوُّرية، إذا قلت لكم "كلب"، فهذا صوت ليس إلا، كلب، مادمنا لا نقول: "ولكن من أيِّ عرق تراه، بينما أن أكلِّمك؟" ما هو الخيال l’imaginaire الذي يستدعيه هذا التصورُ في ذهن المخاطَب وفي ذهن المتكلِّم؟ لعلَّهما لا يلتقيان مطلقًا في هذا التصور. هذا ما يحدث طوال الوقت. إذا قلت لكائن بشري: "أسرتك"، فهذا عنده قد يساوي قولك "جهنم". أما المتكلم فهذا يعني عنده: "أنت صاحب أسرة حقًّا." "الأسرة" عند الشخص الذي يتكلم مكانُ عون ممكن، مكان تدفُّق جديد وأفراح وأعياد. أما إذا كانت الأسرة في نظر المخاطب جهنم، فكلمة "أسرة" تحاصره بالعداوة. إن الذي يختنق في الغُلِّ الأسري يقول: "أيتها الأسرة، أكرهكِ."[11] أما الابن الضال، فالعودة إلى الأسرة هي التي يمكن لها أن تعيد إليه كرامتَه. الأمر متوقف على ما تمثِّله الجماعةُ الأسرية في تاريخ المرء. إنه يهرب منها أو يسعى إليها.

* * *

لقد أعلت وسائلُ الإعلام والتلفزيون والمجلات من شأن "الآباء الحاضنين"، الآباء العُزَّب، الآباء الذين يدللون أولادهم[12]. ولم يلبث هذا التيار أن أثَّر في بعض الآباء ممَّن اشتهروا، من جانبهم، بغيابهم عن البيت إبان سنوات طويلة. وأسف كثيرون على أنهم لم يقيموا مع ولدهم المراهق كل المبادلات التي كانت مرغوبة في الوقت الذي كانت الأم فيه تعتني به الاعتناء كله. إن فيهم نقصًا وضميرًا غير مرتاح. لذا فهم يحاولون التعويض ويتصرفون تمامًا كما كان ينبغي عليهم أن يفعلوا والطفل في الثالثة من عمره. إنهم يقبِّلونه، يلاطفونه، إلخ، في حين لم يفعلوا ذلك من قبل.[13]

*

ليس عندما يكون الولدُ في السابعة أو العاشرة ينبغي فعل ذلك. فهو قطعًا في حاجة إلى الأب، لكن ليس على هذا المستوى من اللغة. هذا السلوك بمثابة جعل الأب الولدَ محلَّ عشق جنسيٍّ مِثْلي homosexuel، وهو أخطر أشكاله. وإنه ليَحسُن أن يجعله أيٌّ كان محلَّ مثل هذا العشق، وليس هذا الرجل بالذات. وبالفعل فإن هذا الرجل، من حيث كونُه والده، يعكس هو نفسه الزمنَ ويتقهقر بالعلاقة بين الاثنين إلى تاريخها، بينما الأب يحسب أنه يساعد ولدَه ويجعله يتقدم. إنهم شديدو الخطر، هؤلاء الآباء المعصوبون névrosés الذين يكتشفون دفعةً واحدةً أن ولدهم، ابنهم أو ابنتهم، الذي يجهلونه سوف "يموت"، وهو على وشك التفتُّح شابًا أو فتاة؛ إنهم يريدون إحياءَ الولد فيهم، في حين سبق لهم أن عاملوه معاملة الكلب! إنهم يحسبون أنهم إذا لعبوا لعبة "الرفيق" سوف يساعدونه على هذا العبور بردم الهوَّة. إنما في الواقع، هم الذين يريدون أن يعرفوا ما حَرَموا أنفسهم منه وأن يديموا علاقةَ وصايةٍ خائبةً وُضِعَ حدٌّ لها.

أشك في أن هؤلاء الآباء الجُدُد، الذين ليسوا راغبين وحسب في مساعدة زوجاتهم، بل في اتخاذ مكانة الأم عند ولدهم، في "الحَبَل" بهذا النمط من الرغبة المبهمة في الأمومة، في أن يكونوا "أميين" بعض الشيء. إنهم يتكلمون على صغيرهم على نحو يذكِّر بالحب–الامتصاص؛ وهذه ليست علاقة بينذاتية intersubjective بين كائنين إنسانيين متساويين في القيمة. إنه حينئذٍ لا يدخل في تماسٍ مع رجل مستقبليٍّ أو امرأة مستقبلية، في حين أنه يتحمل مسؤولية هذا الجسم الضعيف، لكنْ ذي الذهن المساوي له من الآن. للأطفال ذهنٌ مساوٍ من حيث القيمة لذهن الراشدين. والأمر الجوهري هو في عدم عرقلة يقظة هذا الطفل، وفي الوقت نفسه، في الدخول في تواصل حقيقي معه. إذا تشبثنا بهذا الولد كما نتشبث بغصن أو بطوق نجاة، نعرِّضه لخطر الشعور بنفسه غرضًا جزئيًّا من الراشد. صحيح أن بعض الأولاد يعزِّزون آباءهم، لكن ليس في الإمكان الدخولُ في علاقةٍ مع ولد صحيةٍ له ما لم نكن أنفسنا على علاقة تبادلية مع آخرين، وما لم يكن هو نفسه على علاقة مع الآخرين (راشدين ومن سنِّه)، وليس معنا (الراشد أو الوالد الوصي المحب) وحسب.

فلنرصد علاقة راشد مع ولد يكون أباه. إنها متوقفة على ما كان أبوه هو في نظره أو لم يكن. فإذا كان قد فقده قبل الأوان، أو إذا لم يعرف أباه، يتصرف الراشدُ مع ابنه تصرفًا زائغًا تمامًا لأنه يعدم كلَّ مرجعية. فإذا كان في حالة تماهي identification، فإنه يمعن في الهذيان لأنه يربي ابنه وكأنه هو عندما كان صغيرًا؛ وإذا كان على تناقُض مع أبيه، فهذا إمعان أشد في الزيغ، لأن نقطة العلام الوحيدة عنده هي أن يفعل عكس ما فُعِلَ من أجله؛ لكنه، في الأحوال كافة، يربي نفسه، وكأنه هو الواقع في أولاده – إنه يهذِّب نفسه. هذا ما تقوم عليه علاقة الراشد مع الطفل: إنها منحرفة مادام الأبُ لا يفهم أنه ليس لنا أن نربي أنفسنا في ولدنا كما رُبِّينا أو كما أردنا أن نُربَّى، بما أن هذا الولد ليس له أن يكوننا، ولا أن يكون مثلنا، بل هو مختلف عنا كلَّ الاختلاف.

الموضات تنوس دومًا من تطرُّف إلى آخر. وهي فيما يختص بالتربية خطيرة. إن الأب يعود بقوة بعد أن استبعده طويلاً أطباءُ الثنائي أم/طفل؛ وفي اللحظة التي تبدأ النسوةُ باكتشاف طفلهن ككائن لغة، هو ذا الأب الحاضن يضفي لمصلحته صفةً عشقيةً على علاقته بولده ويرتكب الإفراط في الملامسة والملاطفة اللذين تتصف بهما الأمَّهات المستبدات.

فلنقرِّب بين هاتين الحالتين المتعارضتين اللتين ينوف الفاصلُ بينهما على ثلاثة عقود. في الخمسينيات تقدِّم مدرِّسةٌ طفلَها ذا الستة أشهر الذي تسوء صحتُه لطبيب أطفال. استعلم الطبيب: "هل تكلِّمينه كثيرًا وأنت تطعمينه؟" – "أبدًا. ففي هذه السن لا يستطيع أن يفقه شيئًا."

ولم تكن لتتواصل أكثر من ذلك هذه المرأةُ المدرِّسة التي كتبت إليَّ في العام 1984 تقول إنها، إذ عادت إلى بيتها تعانى طورًا اكتئابيًّا بعد الوضع، كانت ترغم نفسها على الكلام مع طفلها في حين لم تكن راغبةً في ذلك البتة. كانت تتكلم لا لتقول شيئًا، لأنها كانت سمعتْني أنصح بالعلاقة الكلامية للأمِّ مع طفلها! لقد كان طفلها، وهي تلقي الكلام جزافًا، يشيح عنها برأسه. لم يبتسم لها إلا وعمره ثلاثة أشهر، عندما عبِّرتْ له أخيرًا عما تفكر فيه في صدق، "لغة داخلية صادقة". ليس ممكنًا خداعُ الطفل فيما يخص نوعية الكلمة.

للدكتور توماس پيري بريزلتون، ذي الخمسة وستين سنة، الفضل في الولايات المتحدة، مثله في فرنسا كمثل فرانتس فيلدمان، صاحب الهاپتونوميا Haptonomie (من اليونانية التي تعني "اللمس")، بأنهما وعَّيا أبَ المستقبل بهول الدور الفاعل الذي ينبغي له أن يضطلع به لتعزيز التفتح الصحي للولد في طور النشأة. لكني سأعرب عن تحفُّظ حول التقديم الذي رأيناه للهاپتونوميا في التلفزيون: فمن شأنها أن تولِّد سوءَ فهم من جانب أتباعها الذين قد يرون في هذا النمط من الأطباء بديلاً عن الأب أو الجد (إن فنَّ أن تكون جدًّا باسمًا ليس من اختصاص طبيب الأطفال!). حذارِ من إضفاء صفة عشقية أو ملائكية على علاقة الأب بولده! الهاپتونوميا ليست تقنية تلاعُب خاصة تُطبَّق على الأطفال، بل هي وسيلة لإيقاظ الآباء وأطباء الأطفال على علاقة شاملة صحية، ذات آثار جسمانية، كما ورمزية، على اكتساب الطفل الصغير أمان الوجود.

* * *

ترجمة: ديمتري أفييرينوس


[1] فرانسواز دولتو Françoise Dolto (1908-1988) طبيبة نفسية عصبية ومحلِّلة نفسية فرنسية، اهتمت اهتمامًا خاصًّا بالتحليل النفسي للأطفال (التحليل النفسي وطب الأطفال، 1939؛ حالة دومينيك، 1971) وأسهمت في التعريف به على نطاق واسع. (المحرِّر)

[2] نسبةً إلى الفيلسوف السويسري الأصل جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau (1712-1778)، الذي عمل في شبابه "مؤدبًا" ووضع كتابًا في التربية بعنوان إميل. (المحرِّر)

[3] كامي فلاماريون Camille Flammarion (1842-1925) عالم فلك فرنسي، مؤلِّف العديد من كتب التبسيط العلمي، من بينها كتابه الشهير علم الفلك الشعبي (1879)، ومؤسِّس الجمعية الفلكية الفرنسية" (1887). (المحرِّر)

[4] ذلك أن "المجنون" يعني الهامشي.

[5] أي في مرحلة التعليم الإعدادي، بحسب النظام التعليمي الفرنسي. (المترجم)

[6] Manuel à l’usage des enfants qui ont des parents difficiles, Jeanne Van den Brouck, Jean-Pierre Delarge, éd.

[7] « La dernière classe de Georges Pompidou », Lectures pour tous, nº 198, juillet 1970.

[8] پول سيزان Paul Cézanne (1839-1906) رسام فرنسي من المدرسة الانطباعية، مارس الرسم في الهواء الطلق، لكنه تميز باجتهاده في تحويل الإحساس البصري إلى بناء تشكيلي محض. (المحرِّر)

[9] عبارة petite fille بالفرنسية قد تشير إلى صغرى البنات في أسرة، مثلما تشير إلى "الحفيدة". (المترجم)

[10] جان پياجيه Jean Piaget (1896-1980) عالم نفس سويسري ميَّز في دقة أشواطَ النمو العقلي والنفسي–الحركي للطفل ووضع أسُس الإپستمولوجيا الوراثية. (المحرِّر)

[11] العبارة لجان پول سارتر (1905-1980) بعد تحريف طفيف. (م)

[12] Papa poule, Daniel Goldenberg, Jean-Claude Lattès.

[13] En attendant la bombe, Guy Bedos, Calmann-Lévy.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود