الجزء الأول

آباءٌ شَكِسُون، بَنُونٌ يُقاسُون السَّاديَّة 2

فرانسواز دولتو[1]

 

فئة السن: الآباء مع الآباء، الأبناء مع الأبناء

يأمل الأزواجُ المتأزِّمون في أنْ يلحَم مجيءُ طفل صلتَهما، أو بالحري بأن يعوِّض عن تفككها. والواقع أن الطفل "كاشف": إذا كان الزوجان يجتازان صحراء قاحلة، ستبقى الحياةُ الأسرية صحراء – ولأيٍّ من الزوجين أن ينحو باللائمة على هذا "المعكِّر"! ليس هو، بطرس أو حنَّة، – شخصُه بوصفه فاعلاً، – هو المسبِّبَ للخلاف؛ فالأمر كان سيبقى على حاله مع بولس أو لورا أو أيِّ شخص ثالث مكانه. لكن القوم لا ينفكون يقنعونه بذلك حتى يصدِّقه، ويدعونه إلى لعب دور المستفزِّ المتاح دومًا، الأمر الذي لا يستطيع إلا أن يفعله. إن الطفل، على حدِّ قول الوالدين، هو الذي يفرِّق بينهما، يفصل بينهما، يتَّكئ على أحدهما ضد الآخر، ويبدو فارضًا للقانون. ردة الفعل: يتشبث الواحدُ بالآخر أكثر بدعوى أن الزواج سوف ينجح بعد أن يغادر الولد أو يعدِّل موقفَه حيال الوالدَين عندما يبلغ المراهقة. لكن هذه ضلالة، لأنه بالدقة ما إن يغادر الولد، أو يكف عن التلاعب بخيوط والديه الدميتين، فتكون له حياتُه الخاصة خارج الأسرة، يجد الأبُ والأم نفسيهما الواحدَ أمام الآخر، فيعاود الخواءُ الظهورَ غير مسبور الغور. وفي أغلب الأحيان، ينجم هذا الإسنادُ إلى الولد، الذي يُنتظَر كمسيح ثم يُصلَب، عن كون الراشدَين لم يستمرا في مصادقة أشخاص من فئة عمرهم نفسها، من أجل التعاضُد وأوقات الفراغ ومشاركتهم اهتماماتِ سنِّهم. لقد أوغلا في اختزال نفسيهما إلى حياتهما كزوجين، مبتعدَين عن أصدقائهما ونشاطاتهما وهما عازبان، وانكفآ على حياة الأسرة المزعومة، أي على أولادهما والبيت، وفقدا أصدقاءهما وعلاقات الشباب، كما يفقدان أيضًا سُبُل الاندماج الاجتماعي غير الذي توفِّره لهما مهنتُهما في الساعات المخصصة للعمل.

لقد خَلَفَ "جمهوريةَ المدرِّسين" زمانُ المربِّين، تنتظمُه وسائلُ الإعلام التي تروِّج للنصائح مثل وصفات التجميل. هذا الهَمْر يحافظ، في أُسَر الطبقات الوسطى، على نوع من التعتيم على دور الوالد. أيها الآباء، أعيدوا تأهيلكم! فالوالدية مهنة ثانية. ويوجِدُ القومُ الإلزامَ الكاذب بالتضحية بحياة الزوجين (وهي تضحية لا جدوى منها، كمعظم التضحيات). وهذا الإفراطُ في التربية مرصودٌ منذ انخفاض نسبة المواليد مع نهاية الحرب العالمية الثانية؛ وهو استجابة لازدهار الخطابات عن الطفل.

لقد ذُنِّبَ الوالدون عندما قيل لهم إنهم ينبغي أن يكونوا أكثر حضورًا بكثير، وإنهم ينبغي أن يهتموا أكثر بأولادهم، إلخ. وأحسب أن هذا قد جعل ضمائرهم تؤنِّبهم، فأفرزوا جَزَعًا أكثر بكثير على أولادهم اعتبارًا من تلك اللحظة. وبدلاً من مساعدتهم على التحرر من الشرنقة، أثقلوا الغُلَّ الأُسَري أكثر.

ينبغي للطفل، حتى يتفتَّح تفتحًا سويًّا، أن يكون على محيط دائرة الوالدين، لا أن يكون المركز منه. على الوالدين أن يفتشا عن أناس من سنِّهم، ذوي أولاد أو لا ولد لهم. ولا يفوت الأوانُ أبدًا للشروع في ذلك.

في الأسرة النووية الحالية، قد يكون وضعُ "طفل المركز" في مأوى شافيًا. ففي الستينيات، كان في آنٍ معًا "الطفل–الملك" و"الطفل–السجين". ففي الوقت الذي شغل فيه مركزَ المناقشات كان مختلَسًا: يتكلم القوم عنه ولا يكلِّمونه! إن وضعه في مركز حياته هو لا يعني وضعه في مركز الأسرة. الأسرة تحافظ على وظيفتها: "مشتل الراشدين" – لكن شريطة تربية الأولاد على الفعل بأنفسهم. هذا ما أدعوه اكتساب استقلاليتهم يومًا بيوم، مع بقاء الوالدين مستقلَّين هما أيضًا. إن الشرط الأول هو وضع الطفل ضمن فئة سنِّه، مع بقاء الوالدين ضمن فئة سنِّهما. وإذ ذاك فإن لنشاطهما وحيويتهما أن يرغِّب الأولادَ في أن يكبروا: فبما أن الآباء يستمتعون إلى هذا الحد، لِمَ لا يصير المرءُ كالراشدين، أي كالوالدين واحدهما مع الآخر ومع أصدقائهما. لذا يجب على الوالدين أن يدَعوهم وشأنهم، دون أن يتركوهم للشارع، ممارِسين أخفَّ ضبط ممكن، لكنْ بحيث يكون الوصول للطفل سهلاً. إن بيت الأولاد هو المكان الواجب إيجاده. وإلا، في الوضع الحالي، ماذا بقي على البنين؟ بقي عليهم أن يصيروا مربِّي آبائهم، إذا كانوا يتعاملون مع أبوين ليسا مستقلين.

الوالدان المعاوَنان

ما هي النظرة التحليلية إلى هذا الانقلاب الذي يجعل المرء، في لحظة من عمره، يصير والد والديه؟

*

هذا الانقلاب يمكن أن يأتي من الجانبين، لكنْ يمكن له ألا يأتي إلا من طرف الشاب، دون أن يحظى بموافقة "شيخيه". ويمكن له أن يأتي بطلب ضمنيٍّ من الشيخ الذي لم يعد يشعر بالاستعداد لتحمل المسؤولية الكاملة عن أفعاله وظروف حياته؛ وهو يطلب المساعدة في الضغوط التي يتكبَّدها. وذلك عند الشاب جزءٌ من نيل استقلاله بوصفه راشدًا. إنه لم يعد متكلاً على والديه إذ يتكفل بهما؛ وهذا يعضده في القيام بهذه الخطوة. إن منح المرء الشيخوخةَ لوالديه أو رؤيتهما مسنَّين يبرِّئه من ذنب دوام حبِّهما بحنان بينما هو يشعر بأنه يصير ذاتَه راشدًا. قد يكون هذا بديلٌ في حال فشله في بدايات حياته الاجتماعية؛ لكنه قد يكون فخًّا أيضًا، حيلةً لحلِّ [عقدة] أوديپ غير مفكوكة. تشاهَد بناتٌ في الخمسين لم يقطعن بعدُ الحبل السري – كانت أمهن متسلِّطة ومستبدة للغاية – يأخذن فجأة في تدليل أمِّهم التي تتشنج، وتريد أن تبقى المستبدة دائمًا، ولا تقبل عرض الوصاية هذا، مراكِمةً البراهين على أنها لا تنقص، وأنها ما تزال على حدة ذهنها واستقلاليتها الاقتصادية، إلخ. فحتى يتم الانقلاب، يجب ألا يبقى الوالدُ على ملء قدرته كراشد؛ يجب أن يعود طفلاً، أو على الأقل، أن يقبل بالسماح بحمايته، وباختصار أن يلعب اللعبة. هناك مسنون متروكون؛ ولكن هناك شباب لا حاجة لآبائهم للحماية مطلقًا ويسخط أولادُهم إذا قدَّروا أن الساعة لم تَحِنْ بعدُ للانخراط في صفوف العجزة المحتاجين للمعونة. إن الشخص المسنَّ الذي يصير محبَطًا حيال الشاب هو الذي ينحو إلى حرمانه حريتَه. إن لعبات السلطة بين البشر مولِّدة للكثير من العذابات، وهي مجرِّدة للإنسان من إنسانيته بمقدار ما يتعذَّر التعبيرُ عنها.

الطلاق في الثانوية

يتزايد قلق السلطات العليا وهي تكتشف كَمْ مِنَ الأطفال ينتحرون بعد بضعة أشهر من تطبيق قرارات الحضانة، وبخاصة منذ أن بدأ الطلاق يتم "حبيًّا". أمسى الطلاق الآن ترتيبًا بين الوالدين اللذين يقرران الانفصال، والأطفال هم الذين يتلقون الصدمة كلَّها. لقد ابتُكر تقسيم أوقات حياة الطفل وأمكنتها؛ والقاضي يصادق على القرار الذي اتَّخذه الوالدان. لا أحد ينظر أبدًا إلى الطلاق باسم الأولاد، من حيث العواقب القابلة مع ذلك للتوقع للقرارات التي يتخذها والدان غير ناضجين فيما يختص بالحضانة وحقوق الزيارة، بضرب عرض الحائط بعمر الطفل وجنسه، وبانخراطه في وسطه المدرسي والصداقي والاجتماعي والشخصي، المستقل الآن منذ بلوغه الخامسة أو السادسة عن الوسط الاجتماعي للوالدين.

*

هناك عدد من المحامين يهتمون لاستشارة الطفل ولمحاولة إقناع معاوِدهم بأن يُقلع عن حضانته أو، أمام اضطرابات الطفل، بأن يستشير طبيبًا أو اختصاصيًّا نفسيًّا. كذا فقد رأيتُ عددًا من الآباء، معًا أو كلاًّ على حدة، جاؤوا، قبل أن يطلِّقوا، للاستشارة حتى يفعلوا أحسن ما يمكن لأطفالهم، لكلٍّ منهم.

ولقد فكرت، مع محلِّلين آخرين، أنه لو أجيز لنا القيامُ بتحقيق في المدارس الثانوية، في الصفين الثاني والأول، لاستطعنا أن نفهم من أولاد الزوجين المطلَّقين رأيَهم في حضانة الواحد من الوالدين أو الآخر، وكيف عاشوا، مع تتابُع نموِّهم، قصتَهم كأولاد والدَين مطلَّقَين. لقد كان هذا صعبًا جدًّا: فالإجازة المطلوبة في تشرين الأول أُعطيَت في أيار، ولصفٍّ واحد في مدرستين. ولقد ذهبنا ثلاثة: رجل، عالم اجتماع، وامرأتان: أنا، محلِّلة ذات تأهيل طبي، وأخرى ذات تأهيل علميٍّ نفسيٍّ تعمل في قسم الپروفسور جان برنار. كنت أشعر مسبقًا بما كان سيقوله لنا الشباب. وبالفعل، فقد كانت الشقة، مكان المعيشة، والصف والرفاق أهم في نظرهم من الوالدَين. انتابني شعور، بعد كلِّ ما كنت رصدتُه حتى ذلك الوقت، بأن الأولاد أصابهم رضٌّ نتيجة فصلهم، من جراء الطلاق، عن رفاقهم من فئة سنِّهم نفسها، عن شقتهم، وعن فضاء حياتهم مع الوالدين... ولكنْ ليس بالمقدار نفسه من جراء فصلهم عن الوالد. إن قصص التنافس بين الوالدين، بين الأُسَر الكبيرة، كانت تزيد الوضعَ تعقيدًا؛ ولكن، عند كلٍّ منهم، كان الأساس هو عدم فقدان إطاره. ما يبحثون عنه كان الوضع الراهن، البقاء في وهم أنه لم يتغير شيء. وبالتقاء مراهقين مروا بهذه التجربة تعلَّمنا ربما شيئًا آخر.

كان إطار المبنَيَين اللذين أجيز لنا دخولُهما وأسلوبُه شديدَي الاختلاف. الأول، في منتروي، هو ث.ت.ت.، أي ثانوية للتعليم التطبيقي؛ وهو في الواقع مدرسة للتعليم المهني. كانت القاعات التي زيَّنها المدرسون بلوحات ورسوم قاعاتٍ لطيفة، وكانت الأبنية متقنةَ الصيانة، حسنةَ التنظيف. أما ثانوية مونجورون، فهي قائمة في حديقة مساحتها 30 هكتارًا، قصر صغير وأماكن خدمية معدَّة. موقع جميل، لكنه نصف خَرِب وقذر. وبمقدار ما كانت الثانوية الفنية أنيقة ومرحِّبة، كانت الأخرى، المفترَضة للتعليم الثانوي، لا تتنفس لذةَ العيش والعمل، مع أنها تقع في مساحة خضراء، إنما غير مؤنْسَنَة. كان تلاميذ مونجورون أولاد موظفين إداريين، بينما لم يكن تلاميذ مونتروي كذلك.

في مونتروي، كان شباب الصف الانتهائي، بين سنِّ السادسة عشرة والثامنة عشرة، مهيأين إلى حدٍّ ما لزيارتنا. فقد حصلت المديرةُ على موافقة الأهالي – بما أن موافقتهم كانت ضرورية – وقالت لهم: "سوف تتناقشون في الطلاق." ولكن بما أنه لم يُقَلْ لهم: "هذا الفريق آتٍ لسؤالكم عن رأيكم"، فقد كانوا يظنون أننا سوف نلقِّنهم درسًا في القانون يُسمَح لهم بعده قليلاً بالكلام. لقد نبَّهتْنا المديرة: "تعلمون أنهم أولاد ليست لديهم المفردات الكافية للتعبير عن أنفسهم." بيد أن نقص مفرداتهم لم يَحُلْ بينهم وبين التحمس للأمر. وعندما قلنا لهم: "نحن الطالبون"، فهموا عندئذٍ خلال عشر دقائق، وأخذ كل منهم يتكلم في حرية عن نفسه. لقد كانت الشروط المادية للطلاق لتلاميذ هذه الثانوية رهيبة. فواحد فقط من بين الشباب الخمسة عشر الذين رأيناهم كان ذا أب، إذ حصل على حقِّ الحضانة، يسلك مسلكًا مسؤولاً؛ أما الآخرون فقد غادر أبوهم، إما وهُم بعدُ صغار، وإما وهُم أكبر، وإما بعد أن صاروا أربعة أو خمسة أولاد، تاركًا الأم لا تملك شروى نقير، دون أن يصرف لها النفقةَ المطلوبة. عندئذٍ كانت الأم تحاول أن تعترض على نفقته، لكن هذا الأب غير المسؤول كان عندئذٍ يختفي. لم يكن الأمر كذلك على الإطلاق في خصوص تلاميذ ثانوية مونجورون، المنتمين بصورة رئيسية إلى الوسط البرجوازي المتوسط، إداريين أو برجوازيين صغارًا: اضطرت الأم المطلَّقة التي لم تكن عملت منذ خمسة عشر عامًا إلى إيجاد عمل، لكن لم يكن ثمة عسر مادي، ولا مانع من الذهاب في العطلة. كانت الصعوبات التي عانوا منها صعوباتٍ وجدانية affectives، وكانوا جميعًا أكثر جَزَعًا بكثير من تلاميذ مونتروي. هاهنا أيضًا، في مونجورون كما في مونتروي، كان أب واحد من أصل خمسة عشر طالبًا يتمتع بحقِّ الحضانة ويمارسه. ولم يتكلم الأهلون قط، لا هؤلاء ولا أولئك، عن طلاقهم، لا قبل ولا بعد، ما عدا حالتَي الأبوين المسؤولين.

في ثانوية مونجورون، أتت فتاةٌ لم تكن تمت بصلة إلى الطلاق، لكن، بما أن أمَّها ماتت وهي صغيرة، تزوج والدُها من جديد، وكانت تحسب أننا سوف نلقِّنها حقوقَها ضد زوجة أبيها. كانت تعتبر نفسها "ابنة طلاق" لأن أباها تزوج من جديد ولأنها لم تكن على وفاق مع زوجته. والواقع أن الطلاق في نظرهم هو عدم التفاهم مع أحد الأبوين، أو التفاهم مع أحدهما فقط، إنما لا يمت بصلة إلى مسؤولياتهم هم، ويكاد ألا يمت بصلة إلى القانون.

سألتْ عالمةُ النفس في مجموعتنا أولادَ مونتروي: "وبعد، فماذا تنوون أن تفعلوا بعد خروجكم من الثانوية؟ أيمكن لكم الذهاب إلى معهد جامعي مهني؟" وعندئذٍ كانوا ينظرون بعضهم إلى بعض ضاحكين: "نعم، ربما كان يمكن لنا ذلك، لكن هذا لا يهمنا. ما نريد، نحن، هو العمل بعد خروجنا من هنا." لقد كانوا في السلك المهني ويأملون أن يعملوا بعد خروجهم من الثانوية في غضون عام أو اثنين.

أما أولاد مونجورون، فكان مستقبلهم ما يزال بعيدًا: الحياة مع شريك، عدم الزواج. في ثانوية مونجورون، لا أحد، بحسب فكرتهم، سوف يتزوج فيما بعد. لقد بدا عليهم أن الحديث معهم عن "مشروع للمستقبل" هو من قبيل المبالغة. كانوا مثل الأطفال في الثانية عشرة، بينما كانوا في مثل سنِّ أولاد مونتروي: بين السادسة عشرة والثامنة عشرة. عندهم أن ما ينبغي هو التحابُّ مدة من الزمن ثم الافتراق عند السأم.

-       وإذن هل تظنون أنكم سوف تنجبون أطفالاً؟

-       أجل، ربما.

-       وإذن؟

-       "آه! نعم"، قالت الفتيات، "بالطبع سوف أربِّي أولادي."

-       نعم، ولكن قرينك، ماذا عنه؟

-       "واأسفي عليه!" – والفتيان: "بالتأكيد، سأربِّي أولادي."

-       وإذن، ماذا ستفعل إذا أنجبتَهم مع فتاة لم تعد تحبها؟ ألا تفكر في الأطفال؟

-       آه! بلى... عندئذٍ ينبغي ربما الزواج حتى نستطيع الطلاق... آه، ولكن هذا بعيد...

هو مسلك طفلي سوف يكرِّر، مع أطفال هؤلاء الشباب، ما عاشوه هم من عذاب. إنهم من الآن يعدون العدة للطلاق!

أولاد مونجورون لم يجرِّموا آباءَهم المطلَّقين ولم يبرؤوا ساحتهم. لا يُعجِبُ الواحدُ الآخرَ فيفترقان. إنها الحياة! في الثانوية الأولى، في مونتروي، في المقابل، كان الأبوان على خطأ أو على حق. كان الأب الذي غادر على خطأ، والأم التي حضنت الأولاد واعتنت بهم كانت على حق. في مونجورون، جميع البنات تكلَّمْنَ عن آبائهن في توتر وعذاب، والفتيان، عن أمهاتهم.

الزواج في نظرهم ضد الحب. في الثانويتين، قالوا إن الزواج يحول دون الحب: "مادام الاثنان غير متزوجين، إذا لم يكونا على اتفاق في الرأي، بما أنهما يخافان ألا يبقيا معًا، فإن أحدهما يتنازل لكي يبقيا معًا؛ بينما عندما يتزوجان، تسوء الأمور، إذ يكف المرءُ عن بذل جهد لمحاولة إيجاد حل." الزواج يمنع العاطفة: بما أنه يوجد رباط مادي، قانوني، يصير وسيلةَ ابتزاز؛ بينما إذا لم يكن هناك رباط مادي أو قانوني تفعل العاطفةُ فعلها لكي يبقيا معًا. "نعم... البقاء بعض الوقت معًا..." أجابت فتاة: "نعم، ربما حتى سنِّ الأربعين أو الخامسة والأربعين عندما يجب على كلِّ حال إنجاب طفل، لأنه من دون ذلك تصير الحياةُ غير مسلِّية، من دون أولاد."

في الثانوية الأولى، كانوا قد أُعِدوا نسبيًّا لهذا النقاش معنا، فاهمين أننا كنا طالبين. أما في الثانوية الثانية، فقد كانت الإدارةُ قد بلبلت الأمور. كان من الواضح أن المدير لم يكن على صلة مع الشباب. لقد رتَّبَ الأمر بحيث يتم النقاش إبان "يوم المِهَن": اليوم الذي يُدعى فيه الآباءُ ليكلِّموا التلاميذَ عن المهنة التي يمارسونها. وبذا فقد ظنَّنا التلاميذُ آباء يأتون ويطلبون قاعة. على أبواب الصفوف كُتِبَ: "مهندس"، "مؤمِّن"، إلخ، باختصار المهن كلها، وفي غالبية القاعات لم يكن هناك أحد سوى الراشد الحاضر الذي كان ينتظر. لم يكن من ولد يأتي لرؤيتهم ليستعلم عن المهنة المقصودة. لقد قيل لهم إن النشاط "اختياري". وفي الواقع، فهمنا الأمر: لم يكن الدخول في حياة الاحتراف يروق لهم. ولقد ظن التلاميذ أننا كنا "أطباء نفسيين" سوف نحكي لهم عن عملنا، بينما كان الأمر عبارة عن تحقيق يمكن لخبرتهم فيها أن تفيد شبابًا آخرين في المستقبل. لم يكونوا مستعدين إذن.

عندما سألْنا التلاميذ: "هل كلَّموكم في درس التعليم المُواطني عن قوانين الزواج، عن قوانين الطلاق؟" الجواب: لا، مطلقًا. وفيما بينهم، قال هؤلاء الأولاد جميعًا إنهم لم يصارحوا أيَّ رفيق أو أيَّ مدرس بوضعهم كأبناء آباء مطلَّقين. هذا مختلف كلَّ الاختلاف عن عصرنا، يوم كنَّا في الثانوية، زميلتي في ڤكتور دوروي، وأنا في الصفوف الانتهائية في ثانوية موليير، فكنَّا نتحدث مع المدرِّسين. وعند ذاك قال الأولاد كلهم إن من المتعذر الكلام مع المدرِّسين، مبيِّنين أن مثل هذا الأمر قد يسيء فهمَه بقيةُ التلاميذ، وكذلك المدرسون، بحيث إنهم لا يتكلمون أبدًا عن حياتهم الشخصية.

"ولكن، في دروس الفرنسية، ألا تدرسون رواياتٍ فيها قوى وغراميات مشبوبة لا تدوم ويتمزق الأولادُ بعدها؟" الجواب: لا، مطلقًا. في دروس الفرنسية لم يُتَحْ لهم أن يناقشوا مثل هذه الأمور، ولا في التعليم المُواطني. وإذن فماذا يبقى؟

يبدو لي أنه، حتى عندما يتعلم المرءُ التاريخ والقانون، ينبغي دومًا التشديدُ على تاريخ الأولاد وعلى الحقوق والقوانين في الأسرة. إنهم في سنٍّ يمكن فيها أن يُلفَت نظرُهم إلى هذا الأمر... أي إلى أنفسهم. لكنه دومًا نسق راشدين، شديد التجريد ونظري. أبدًا لا تُلفَتُ أنظارُهم إلى ما يعنيهم شخصيًّا، لأنه من الخير جدًّا تكليمهم عن المستقبل... ولكن إعطاء هذه النماذج يتم دون تكليمهم عن أنفسهم؛ لا يكلِّمهم أحدٌ عن هذه الصيرورة؛ لا يقال لهم ماذا سيجدون على عبَّارة المراهقة المُجِدَّة، الطويلة جدًّا، هذه التي سوف تقودهم إلى سنِّ الرشد. والحال أن خير وسيلة للوصول إلى نهاية العبَّارة هي الرصد والكلام معًا عما يوجد على العبَّارة. بيد أن هذا مستبعَد من المدارس الثانوية. لا يجري الكلامُ أبدًا عن الأولاد، لا في الأدب، ولا في التاريخ، ولا في التعليم المُواطني.

في البلدان الأخرى، ولاسيما في البلدان الأنغلوسكسونية، العلاقات الوجدانية مع المدرِّسين أكثر نموًّا، ولعبُ الأولاد أكثر وجودًا في المدرسة. ثم إن "الانضباطية" غير مستشرية كما في فرنسا، حيث تُترجَم إلى بيروقراطية معرقِلة ومثبِّطة. كل نشاط خارج ساعات الصف يصطدم بمسألة التأمين. مَن يدفع إذا وقع طارئ أو حادث؟

واحدة من التلميذات نقلت هذه العبارة عن إحدى رفيقاتها: "من حسن حظك أن والديك مطلَّقان"، وقالت لنا: "يدهشني أن تقول ذلك لأني سأكون مجبرة على البقاء مع أمي؛ لن أستطيع، مثلها وهي في الثامنة عشرة، مغادرةَ المنزل لأن أمِّي وحدها. لقد ربَّتْني، وهي لا تستحق أن أتخلَّى عنها." البنت هي التي سيُضيَّق عليها مع أمِّها. كلا البنتين اللتين يحضنهما وحدهما أبٌ قالتا لنا: "أما أنا، عندما أبلغ الثامنة عشرة سأكتري غرفة." وحدهما سوف تتمكنان، قبل أن تتزوجا، من أن تعيشا شيئًا تتحملان فيه المسؤوليةَ الكاملة عن نفسيهما. وعن سؤال: "هل كانت أمكم تعمل قبل الزواج؟" أجاب شباب مونتروي: "نعم، كانت تعمل، لكنها ما إن أنجبت حتى كفَّتْ عن العمل لكي تعتني بهم؛ وعندما تركَنا أبي وجب عليها أن تعمل." أما الآخرون فلا. لقد تم الطلاق، ولم يكن الجدان راضيين جدًّا عن زواج الأم التي عادت إلى والديها. وقام الجدان بتربية الأولاد، وبما أنها لم تعمل، مثلها كمثل ابنة الثامنة عشرة التي تعيش مع والديها قبل أن تتزوج، لم يكن أولادُها يحسونها قادرةً على الحياة بمفردها، ولم يكونوا راغبين مطلقًا بأن تتزوج أمهم من جديد.

لم نستطع استجواب غير خمسة عشر ولدًا لمطلَّقين في واحدة من الثانويتين حيث يوجد منهم عددٌ أكبر بكثير، وذلك لأن آباء الأولاد الآخرين منعوا أولادهم من المجيء والاستماع إلى النقاش أو الحديث عن حالتهم. وعلى كلِّ حال، فإنه من المقلق نوعًا ما أن يُقدِمَ آباءٌ على منع أولاد، باتوا قاب قوسين أو أدنى من رشادهم المدني، من المجيء إلى ندوة والتحدث في أمور مقيتة في نظرهم كآباء. وإذن فأية مصاعب سوف يواجهها طفلٌ تحت سنِّ العاشرة ليقول ما يفكر فيه! هل سيُشاوَر، بما أنه وقد تجاوز العاشرة، وبلغ الثامنة عشرة حتى، وحتى أكثر أحيانًا، لا يُلتمَس، وليس هذا وحسب، بل ويمكن منعه من الكلام في موضوع يؤرق حياته.

لم يُبلَّغ أيٌّ من التلاميذ الأربعين المستجوَبين في الثانويتين من قبل والديه بقرارهما في الطلاق. كانوا يلحظون أنهما يتشاجران، ثم ذات يوم وجدوا أنفسهم وحدهم مع الأم أو مضطرين إلى الانتقال إلى مسكن الجدين، ورأوا أنها عانت عقابيل الأمر لأنها كانت مضطرة إلى "استشارة المحامين". كان الأمر صعبًا على بعضهنَّ لأنه كان في أوقات العمل، ولم يكن ربُّ عملها يأذن لها وكانت تعاني مشكلاتٍ مالية، وأخيرًا، لأنها لم تكن تعرف كيف تذود عن نفسها عند تعقُّد الإجراءات.

جميع هؤلاء الأولاد قالوا إنهم تمنوا لو أن أحدًا كلَّمهم في خصوص طلاق آبائهم... بدلاً من أن يكتشفوا الأمر ببطء. فمَن ذا يقوم بذلك عندئذٍ؟ ينبغي أن يتم الأمر عفوًا، لا أن يقوم به شخصٌ يضطلع قصدًا بالدور؛ ينبغي ألا يكون قاضيًا.

-       أوكنتَ تود أن يستدعيك القاضي ويسألك رأيك؟

-       حتمًا لا!

أولاد مونتروي ما كانوا ليريدوا أن يتعاملوا مع القاضي، بل تمنوا أن يعرض عليهم الوضعَ شخصٌ محايد. والذين كانوا يجدون يُسْرًا أكثر في التعبير عن نفسهم – أولاد مونجورون – قالوا: "نعم، لعله من المفيد أن يستدعي القاضي الأولادَ قائلاً لهم: "والداك يشرعان في الطلاق، فهاتِ رأيك." ربما ليس القاضي نفسه: فهذا أقسى من أن يُحتمَل، إنما شخص لا تجمعنا به معرفة، يكلِّمنا في هذه الأمور، في التغييرات المقرَّرة، ونكون متأكدين من أنه لن يخبر الآباء عما قلنا له. ينبغي أن يقال لنا: "هناك شخص لديه ما يقوله لك.""

وعندما سُئلوا عن السنِّ الذي اعتبارًا منها كانوا يودون أن يؤخذ رأيُهم، أجمعوا كلهم على الإجابة: أحد عشر عامًا. أما السن التي ودوا لو أُخطِروا فيها فلم يكن لها حدٌّ أدنى: "فورًا بعد أن يقرِّروا [الطلاق]."

* * *

في مائدة مستديرة ضمن "ملفات الشاشة"[2]، دُعِيَ ولدٌ في الرابعة عشرة عاش هذا التمزق إلى البرنامج. كان محامٍ وقاضٍ جالسَين قبالته. وكان الجميع منخرطين في مناقشة حول الحضانة، فأعلن القاضي: "لكن في وسع ولد أن يقابل قاضي الأولاد ليقول له إنه يود، في خصوص الحضانة، أن يكون مع أحد الوالدين، دون الآخر." فأردف الولد: "إن هذا يتطلب شجاعة كبيرة!"

*

في مجتمع يتمجمع، يحصل فيه المرءُ على معونات، حيث للدولة دورُ قائد، لعله يجب البدء بوضع لوائح. وأعتقد أن هذا الأمر سوف يصح على الطلاق. وإذ ذاك، يُخشى أن يوكل إلى وسيط لن يكون قاضي الأولاد، بل يكون ربما أقل تنفيرًا من القاضي، لكن هذا المحكِّم الموظف لن يكون المحادِث الأكثر تطلُّبًا حيال ولد الوالدَين المتطلِّقين، لكن الأمر في النهاية سيكون أفضل من عدمه، وسيكون خطوةً جيدةً إذا أُخطِرَ الولد، عندما يحين الطلاق، عما يجري بين والديه، وسَمِعَه طرفٌ ثالث لا ينتمي إلى جهاز العدالة. وفي رأيي، يفضَّل أن يكون هذا منتميًا إلى الجهاز الطبي الاجتماعي، لعله اختصاصي نفسي على صلة بطبيب الأسرة إنْ أمكن، أو حتى الاختصاصي النفسي المدرَسي، أو أولاً مدير المنشأة، ولاسيما أنه، بحُكم دوره، سيُعهَد إليه بإرسال التقارير المدرسية إلى كلٍّ من الوالدين، على حدة.

الدولة-الأب

سواء تعلق الأمر باشتراكية على الطريقة السويدية، أو بديموقراطية اجتماعية، أو باشتراكية على الطريقة الفرنسية، تتدخل الدولة أكثر فأكثر في "شؤون الأسرة"[3]. ولعله في السويد، وبخاصة فيما يختص بحضانة الولد، تصير المعونة الاجتماعية "أكثر اجتياحًا" و"تمسك بزمام السلطة". يأتي العمال الاجتماعيون وينتزعون من والديه ولدًا تتعرض "سلامتُه البدنية أو توازُنُه النفسي" للخطر. تكفي لذلك شكوى من أحد الجيران أو وشاية. عندئذٍ يُحضَن الولدُ تحت المراقبة مدة أربعة أسابيع. فإذا أثبت التحقيقُ أن القضية لا أساس لها، يعاد الولدُ إلى أسرته. وفي الحالة المعاكسة، يُعهَد به إلى والدين معيلين تختارهما الدولة. وبعض المحامين السكنديناڤ لا يتورعون عن الكلام على "خطف مشرَّع"، عن اختطاف دستوري.

*

هناك غلوٌّ، ما في ذلك ريب. لكن هذا "الخطف" يمكن له أن يكون في مصلحة الولد الحقيقية ومفيدًا له. تلك كانت حالة سويديٍّ شاب قُصَّتْ عليَّ حكايتُه. كان ذلك في العام 1930. نلحظ أن هذا الاقتحام للدولة في الحياة الأسرية وحلولَها محلَّ الإرادة الأبوية ليس جديدًا، في بلاد الشمال على الأقل. كان الولد، البالغ سنَّ الثانية عشرة، ينفر من الواجبات المدرسية ضمن تعليم تقليدي؛ والوالدان الحائزان على ألقاب جامعية كانا أعجز من أن يتصوراه لا يصير بدوره صاحب ياقة بيضاء. وذات يوم، انتزعتْه إدارةُ التوجيه المدرسي من أسرته عنوةً وقررتْ تعيينَه بحارًا مبتدئًا على ظهر سفينة بحيث لا يستطيع الوالدان رؤيته إلا مرة في السنة. احتجَّ هذان على الخطف، ووشيا بنخاسِّي الأطفال، من غير جدوى. "مسكين صغيرنا، لا بدَّ أنه بائس"، كرَّر الوالدان. مفاجأة! لا شيء من هذا على الإطلاق. إنه سعيد، استمتع بحياة البحار على متن السفينة وقرر العودة إلى الدراسة بالمراسلة. وعندما بلغ التاسعة عشرة أصبح نقيبًا بحريًّا، ونضج أكثر من شقيقه الأكبر الذي بقي في القمقم الأسري. الأولاد في هذه السنِّ أقل هشاشة من آبائهم، ولديهم حظوظٌ أكثر في إعالة أنفسهم بالإبحار حول العالم، متحمِّلين مسؤوليات، بدلاً من يبقوا "راسين" في والديهم.

في المقابل، فإن فصل الطفل الصغير جدًّا عن أمِّه قانونيًّا ينبغي ألا يكون إلا إجراءً عاجلاً، مؤقتًا وقابلاً للعكس ومترافقًا بمحادثات معها ومع الطفل إذا عاملت (أو عامل رفيقُها) ضحيتَها/ضحيتَه معاملةً سيئة. وحتى أمام مَن يضربن أولادهنَّ الضربَ المبرح فإن الإجراء المتخَذ لا ينبغي أن تفرضه دومًا جهةٌ واحدة. أجل، لقد اتفق لي أن أحمي الطفل من مخاطر بدنية. عندما كنت مستشارةً في مستشفى تروسو، جاءت امرأة تتوسل إلى الطبيب المناوب أن يوقِّع وثيقةً لكي تعاد إليها طفلتُها البالغة من العمر سنتين ونصف السنة، بعد تخريجها. فالطفلة التي ضُرِبَت في البيت أُدخِلَتْ إلى المستشفى مصابةً بعدة كسور، لكنها كانت تطلب أمَّها. كانت الممرضات تقلن: "إذا كانت الطفلة تطلب أمَّها فلأنها في حاجة إليها." استقبلتُ الأمَّ التي بدأت تَعِدُ وتقسم أنها لن تعود إلى ضرب ابنتها.

لقد كانت أيضًا قد أساءت معاملة بكرها. فقد تلقَّى الصبي من الضربات حتى بلغ سنَّ الهرب من النافذة – ومن حسن الحظ أن الأم كانت تقيم في الطابق الأرضي! كانت تبدِّل رجلاً بعد آخر. بعض عشاقها كانوا لطيفين مع الصبي، وبعضهم الآخر كان يضيف ضربات إلى سوء معاملة الأم.

-       "أختي الصغيرة تستفز أمي"، قال لي وقتئذٍ...

شرعتُ في الحديث مع الأم الضاربة التي أتت تحتج بقراراتها الطيبة: سوف تكفِّر عن سيئاتها، إلخ.

-       مع ابنتك تجري الأمور كما كانت تجري مع ابنك عندما كان صغيرًا. لكن ليس لها بعدُ من السنِّ ما يجعلها تقفز من النافذة للإفلات من سورات غضبك.

جعلتُها تعاود عيشَ السياق.

-       آه! تجري الأمور جريًا حسنًا في الساعات الأولى، ثم تثير أعصابي، وعندما أبدأ بلمسها، أترين هاتين اليدين [يديها]، هِهْ، لا أستطيع التوقف...

جعلتُها تعترف بأنها إذا استعادتْ حضانةَ الطفلة سوف تعود إلى ضربها؛ ولم أوقِّع قسيمةَ الخروج وتسليم الطفلة.

الأمَّهات الضاربات غالبًا ما ربَّين أنفسهن من غير حب، أو حتى فُرِّقَ بينهن وبين ولدهن وهو في سنيه الأولى في أعقاب مرض أو حادث وقع للوليد أو محنة شخصية. والطفل ليس بريئًا في هذه المعاملات السيئة: فمن عادته استفزاز أمه.

أما وقد قيل هذا، لست من أنصار انتزاع الولد انتزاعًا تامًّا من الأم التي تُنزِل به معاملةً سيئة: يحتاج الأمرُ إلى أُطُرِ إيواء أخف من الأُطُر الموجودة في فرنسا لكي يستطيع الولدُ العودةَ لرؤية أمه في العطلة الأسبوعية، أو لكي تستطيع رؤيته بعد عملها وفي أيام العطل، من دون أن يعني ذلك بقاءه تحت رحمتها تحت سقفها على الدوام.

* * *

سوف أُبدي تحفظاتٍ كثيرةً حيال الوضع التلقائي للطفل عند أُسَر استقبالٍ أو تبنٍّ. إن "مصلحة حماية الطفولة" تتصرف من منطلق العسف الذي يخوِّلها إياه المحامي المنتدَب. فإذا أُلغِيَ حقُّ زيارة الوالد "المعاقَب" فإن الحماية تصير قسرية. أما عن حضانة أولاد الطلاق فهي تخضع لقرارات تكون غالبًا انتهاكًا صرفًا لحقوق الكائن البشري. وفي أحسن الحالات تبقى يدُ الدولة ثقيلة الوطأة للغاية.

* * *

إن السلطة القضائية هي في حالة اختزال الأسرة النووية إلى الثنائي أم–طفل، وبصورة استثنائية أب–طفل، جدة–طفل. والحركة النسوية le movement féministe لا تفعل إلا الترجمة عن التيار الذي يحمل المواطنين على أن يصيروا معانين وأن يتكلوا على الدولة. على الأولاد، كما تطالب مناضِلاتُ حركة تحرير المرأة، ألا يغيروا في المصير الفردي للمرأة. إن "تربيتهم" من شأن الآخرين: تجمعات تعاونية، معيلين، طوعيين أو معيَّنين، قرى أطفال أو التحرر المبكر للطفل – كلها حلول بديلة لكي تحتفظ الأم بحريتها في المناورة كاملة.

أما الأب فيخوض معركة. إنه يسعى للدفاع عن حقوقه ولاستعادتها[4]. إنه يستفيد من الرفض النسوي أمام الأمومية لكنه، في الوقت نفسه، يصير الحليف الموضوعي للنسويين. فإذا كان الأمرُ أمر مقاسمة الأم العنايةَ الضرورية للوليد فإعادة الموازنة هذه للأسرة النووية قد تكون في مصلحة الطفل. لكنما يُخشى أن تكون ردة الفعل هذه مشبَعة بروح المنافسة والثأر من المرأة والمحاكاة. المتكامِلان لا يتم تبادل الأدوار بينهما بلا عواقب، وينبغي ألا يستبعد أي منهما الآخر. ولكن هل يجب حقًّا الدفاعُ عن بنيان الأسرة النووية التي يُظَن – وهذه كذبة قرننا – أنها "تقليدية"، مع أنها ابتكار حديث ينوف على قرن واحد وحسب. هل تدينها حدودُها وعدم تلاؤمها الحالي؟ وهل زُيِّفت، وتطفلت عليها وقائع سياسية: الأزمة الاقتصادية، الحروب، المدنية، الاتصالات الجماهيرية، إلخ؟ أم أنها ضلالة في حدِّ ذاتها؟

*

مازال ثنائي الأب–الأم يمثِّل للوساطة القاعدية، للخلِّية المرجعية الرمزية لأطفال العالم كلِّهم، بما أن وظيفته الأصلية هي الاضطلاع بالتثليث. فمن دون التثليث يتعذر على اللغة الرمزية أن تعبِّر عن نفسها وتنجز بَنْيَنة structuration الفاعل. لكن العلاقة المثلثة يمكن لها أن تتم في غياب الوالدين البيولوجيين. إن من شأن المعيلين أو المتبنِّين أن يؤمِّنوا البديل، شريطة أن يسمُّوا للطفل والديه ويعرِّفوه بقصة أصوله الفعليين.

وعلى العكس من التوجهات التي اعتُقِدَ بضرورة الأخذ بها، ينبغي ألا يسري التبنِّي عند الولادة، لكنْ بعدها بمدة طويلة، في سنِّ العاشرة أو الحادية عشرة. والمعيلون، المتبنون المستقبليون لهذا الطفل، يمكن أن يكافَئوا. والأم، على فراش وضعها، يمكن أن تقول للوليد إنها تعهد به إلى أشخاص سيعتنون به خير الاعتناء.

ولا يجوز، في أية حال، أن يُخفى عن الولد وجودُ والديه. إن المسكوت عنه يتحكم في الجنس كلِّه. فما الطفل إلا جملة من البواعث الأولية، وليس في وسعه أن يصعِّد ليبيدوه إذا جهل ابنَ/بنتَ مَن هو/هي. إن فهم ما يجري في العلاقة المثلَّثة هو أساسًا ما ينبغي أن ينكبَّ التحليلُ النفسي للغد على دراسته.

ليس للولد الحقوق كلها، إنما ليس له إلا حقوقًا. ليس للوالدين أي حقٍّ على شخصه: ليس لهم إلا واجبات. فمنذ الحياة الرحمية، ليس الكائن البشري جزءًا من جسم الأم، إنه منذئذٍ فريد. إنه الذي، عِبْرَ توسُّط الأب والأم، ينبض حياةً ويولد. إنه الحياة نفسها! إنه يداوم على تفتُّحه واكتماله برغبته في الولادة. وبالمعنى التحليلي النفسي، ليست الأم إلا وسيطًا، بيولوجيًّا أولاً ثم رمزيًّا. وهذا ليس شأنًا ثانويًّا، بل هو أساسي.

* * *

إن تشريع الإجهاض لا يأخذ هذه المعطيات بالحسبان. إنه أيضًا سمة من سمات تدخل الدولة–الأب.

*

إنه واحد من أخطر التدخلات، يتاخم الغلوَّ في السلطة. عندما تحبل فتاةٌ قاصر، يضغط المجتمعُ (الوالدان، المربون، الأطباء) لكي لا يرى طفلُها النور. فإذا أصرت على رغبتها في الوضع فإنها تُرغَم على القبول بالعيش حبيسة "مأوى أمومي". والتدخل على الجنين بحجة أنه طفل شديد الخطر، فهو التلاعب باللعبة الفعلية للحياة والموت. فإذا كان من شأن بنية الأم أن تؤذيه، يجب تدارُك هذا النقص والاعتناء بالأم. لكن ليس للتكالب الدوائي أن يعوِّض عن إرادة الحياة للجنين أو عدمها.

إن من قبيل الخداع، على كلِّ حال، الزعمَ بإمكان برمجة الإنهاء الإرادي للحمل [الإجهاض] interruption volontaire de la grossesse بناءً على طلب الأم. فالأمومة تغيِّر مناضلاتٍ دعَونَ طوال سنوات إلى رفض الحمل. فعندما يَهَبُ المرءُ الحياةَ لا يقتات بالأوهام.

وفي رأيي أن الإجهاض يجب ألا يعاقَب عليه؛ لكني أعتقد أن تشريعَه خطأ. وفي صورة عامة، فإن اضطلاع الدولة بالأطفال نتيجته (وهدفه!) إنتاجُ أولاد عديمي الشخصية لأن الفاعلين مقطوعون عن قصتهم.

المثلث... الرباعي (الأم وصاحبها، أكان أبًا أم لا، والحضانة الاجتماعية ذات الدوام الجزئي المنتظم أو غير المنتظم.)

*

وأخيرًا فإن أحسن خدمة يمكن تقديمها للآباء والأمهات هي محاولة تحجيم الحقوق والأدوار المنسوبة إلى الأبوين الوالدين، بتجريدها من صفتها الأسطورية، وبالكلام عن دورهما كوالدين وعن المساعدة التي يحتاجان إليها للقيام بواجباتهما التنشئوية والتربوية حيال ولدهما، أو حقهما في إيكال هذا الدور، وتكليمهم أقل ما يمكن عن "حقوق الوالدين".

*

الراشدون الأبويون ضروريون حتمًا، آباءَ والدِين كانوا أو آباءَ أوصياء، أو كليهما. وأخيرًا فكل ما من شأنه في الجماعة الاجتماعية إذهابُ الكرب عن هذا التواكل مفيد للصغير: فكلما ازداد انحباسًا في المثلث، في العلاقة أب–أم، ازداد اختناقًا وقلت حظوظُه في أن يكون نفسه. على هذه الخلية أن تنفتح، لكن من غير أن يمرَّ الانفتاح مرورًا عنيفًا من هذه النواة إلى نواة استبدادية أخرى. ذلك أن الطفل هو ابن أمِّه وابن الرجل الذي حبلت به منه، عازبًا كانت أم لم تكن. فقبل أن تضعه في الحضانة، يجب أن يعرف أنه ابن هذه المرأة بعينها، أنه رغب أن يولد منها ومن الرجل الذي حبلت به منه؛ أن هذه المرأة رغبت فيه، لكن أيضًا أنها في حاجة إلى المجتمع، مثلما هو في حاجة إليها؛ وأنه لن يتعدل في كيانه العميق إذا ظلَّ في وصاية أشخاص آخرين تعهَد به أمُّه إليهم على التوالي. يجب توطيد هذا التعويض تدريجيًّا، بالكلام وبالوساطة الحواسية، حتى يعرف الطفلُ أنه في الحضانة عينُه الذي يكون مع أمِّه مساءً في المنزل، في حين يتعدل العديدُ من إدراكاته. وحتى لا يحدث انقطاع، ينبغي أن يُشرَح ذلك كله للطفل في حضور والديه. هذا التثليث الأول يتعقَّد عندما يوضع الطفلُ بين ذراعي شخص آخر، وعندئذٍ لا مناص من إخباره بِمَن هو: إن من شأن كلام الأم والأب ألا يقطعا حبل الأمان. إن الأصوات الأمِّية والأبوية وحدها يمكن أن تضفي على الأشخاص الذين يُعهَد إليهم بحضانة الأطفال صفةَ الأمومة والأبوة. وعندئذٍ فإن أجسام هؤلاء الأشخاص تصير رمزًا للأمان وللممثلين المؤقتين للأب والأم. ومن جراء ذلك، يبقى الطفل هو هو في البيت، ويمكن له الاحتفاظ بكموناته الحواسية كلِّها، من دون أن يترك أيًّا منها للهجوع. وبذا يتحلَّى بالقوة على تحمل مماطلات اللقيا. إنه يحتفظ بزخمه، دون أن يتقوقع على نفسه كالبزاقة، لأنه مطمئن إلى أن هذه القوقعة (والديه اللذين يُكلَّم عنهما) لا تتركه بالفكر أبدًا. بهذا الشرط وحده يكون كائنًا اجتماعيًّا. إن مقدرة الطفل هذه هي التي تُذهِلُ القائمين على الحضانات عندما يستقبلون، وله من العمر شهران، صغيرًا آتيًا من هذا "البيت الأخضر"، مكان التأهيل الاجتماعي للرضَّع في أمان الحضور الأبوي المتواصل، المكان الذي قيل له فيه كلُّ شيء بالكلام، وقُصَّ عليه فيه الحَبَلُ به، كما ومصيره. فعلى سبيل المثال، الطفل الصغير أو الطفلة الذي ليس له أب شرعي والذي تقول عنه أمه إنه "لا أب له"، نتحداها هازلين على طول الخط: "وكيف ذلك؟ هل أنت استثناء في الطبيعة!" ونقول للطفل:

-       أمك حبلت بك، ككلِّ الأطفال، مع رجل.

-       نعم... لكنه لا يُعَدُّ بشيء يُذكَر!

-       كيف لا يُعَدُّ بشيء يُذكر، وهو الذي اختاره هذا الطفلُ أبًا، لكي يولد منك. هل أنتِ سعيدة به!

-       قطعًا، بما أني كنت أريده!

وعندئذٍ نكلِّم هذا الطفل:

-       أترى، لقد كنت مرادًا، ومع أنك لا تعرف أباك، لكن لك، ككلِّ الكائنات، أبًا. وأمك كان لها أب؛ إن لك جدًّا إذن. وأبوك، الوالد الذي أعطاك لأمك، كان له أب لن تعرفه، بما أن أمك لم تعرفه ولا تستطيع أن تخبرك عنه... لكنه فيك، وأنت تعرفه على نحو لا نعرفه نحن.

عندما يصل هؤلاء الأطفال من "الدار الخضراء" إلى الحضانة، أولاً، لا يُبدُون "تناذُرَ التكيف" syndrome dʼadaptation، أي خسارةً في زخمهم واضطراب في وظائفهم الهضمية أو التهابات في الأنف والبلعوم؛ إنهم سعداء سعادتَهم في البيت وفي "الدار الخضراء" مع أمِّهم التي لا تتركهم فيها؛ وهم بخاصة يسمعون ما يقال لهم. وكثيرًا ما تصلنا أنباءٌ عن "القدماء": لهم اليوم من العمر أربع أو خمس سنوات، وقد تكيفوا في المدرسة أحسن التكيف؛ يتحملون المستشفى والمرض؛ يتحملون المحن بشبكة لغوية كافية لكي يتشبثوا بما أدعوه "نرجسية أساسية" narcissisme de base. أعتقد أنها كانت أشياء تحدث من حيث لا ندري في الحياة القَبَلية، وفي الحياة الفلاحية، وفي الحياة الأسرية لزمان الغرفة الواحدة المدفَّأة، عندما كانت ثمة تقاليد، لقاءات، آحادٌ عائلية؛ هذا كله كان، عند الصغار، تأصيلاً، طمأنينةَ الوجود في مجتمع متمفصل مع أسرتهم، عندما كانوا ينجون من أمراض ناجمة عن نقص في شروط الصحة والتعاطي المبكر للكحول. وإننا لنتبيَّن أن الآباء كثيرًا ما يجلبون على تفتح أبنائهم عراقيل أكثر مما يقدِّمون من الدعم. حبهم دائمًا استبدادي، يسهُل على الجزع التسرب إليه، بدلاً من أن يكون محرِّرًا. ذلكم هو الأمر: عندنا حبٌّ تتطفل عليه طوال الوقت الحاجةُ إلى الافتراس. الوالد، في أغلب الأحيان في أيامنا، هو الطفيلي بامتياز بالنسبة إلى الإنسان الصغير.

ليس ينبغي "وضع الراشدين عند حدِّهم"، بل تأييدُهم في الوقوف عند الحدِّ الذي كانوا فيه قبل الحبل بالطفل، وفي أن يُذْكوا رغبتهم في عِشرة الراشدين؛ أن يقفوا عند حدِّهم كراغبين. لكنْ قد يحدث أن يستنفرَ مولودُهم التكافؤاتِ الحرَّة من الرغبة التي كانت تعاش بين الراشدين والتي أمست واقعةً في فخ الأمومة أو الأبوة، ويعاد تثبيتُها على هذا الطفل الذي يأخذ لكلٍّ جزءًا من المكان المخصص للقرين، فيفقد القرينُ شيئًا من قيمته بالنسبة إلى هذا الكشف أيضًا للقدرة الليبيدية الجاذبة والمغوية للطفل. فإما أن يكون مُغوِيًا، أو أن يكون منبوذًا؛ إما أن يراد افتراسُه، وإما أن يراد التحكم فيه، ترويضه، دائمًا مع حبٍّ مشتقٍّ من نرجسيتنا، لأنه جسد جسدنا.

إن مكمن عبقرية فرويد في أنه فهم ذلك مع مصطلح "مركَّب أوديپ" Complexe dʼŒdipe.

*** *** ***

ترجمة: ديمتري أڤييرينوس


[1] فرانسواز دولتو Françoise Dolto (1908-1988) طبيبة نفسية عصبية ومحلِّلة نفسية فرنسية، اهتمت اهتمامًا خاصًّا بالتحليل النفسي للأطفال (التحليل النفسي وطب الأطفال، 1939؛ حالة دومينيك، 1971) وأسهمت في التعريف به على نطاق واسع. (المحرِّر)

[2] Les dossiers de l’écran.

[3] LEnfant et la raison dÉtat, Philippe Meyer, Points, Le Seuil.

[4] راجع الندوة الدولية: "الآباء اليوم، تطور مواقف الرجل وأدواره في دول الجماعة الأوروبية" (باريس، 1982).

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود