French Arabic

هل بوسع الإنسان أن يعيش سعيدًا من دون روحانية؟[1]

 

بسراب نيكوليسكو

 

هل بوسع العلم أن يصبح دينًا؟

إن غرائزنا، وثقافتنا، وحتى حسنا السليم ستقول لنا أن الإجابة بنعم على هذا السؤال هو بكل بساطة جواب سخيف. فهذا السؤال إذًا سؤال خاطىء. ولكن، من بوسعه أن ينكر واقع أن العلم الحديث قد قوض الأساطير واكتسح والمعتقدات التي أثّرت لقرون في حياة البشر؟ ومن بوسعه أن ينفي واقع أن العلم، وبالتالي نتاجه الأكثر وضوحًا – التكنولوجيا – هو في طريقه لأن يغير حياتنا، تاركًا إيانا عزّلاً أمام معضلة رفاه ظاهر، يرافقه نضوب (قد يصل إلى حد الفناء) في حياتنا الداخلية؟

ما نشهده اليوم هو بروز إلحاد جديد، لا علاقة له بالإلحاد القديم، سواء أكان وضعيًا أو ماديًا جدليًا. وهذا الإلحاد الجديد يأتي من منظومة العلوم الحديثة التي، على أرض الواقع، تقدم العلم كدين جديد.

تمتد جذور العلوم الأساسية في أعماق الأرض الخصبة للتساؤلات المشتركة بين جميع مجالات المعرفة الإنسانية: ما هو معنى الحياة؟ وما دور الإنسان في العملية الكونية؟ وما دور الطبيعة في عملية المعرفة؟ وهذا يعني أن للعلوم الأساسية نفس جذور الدين أو الفن أو الأساطير. ولكن تدريجياً بدأ يُنظر إلى هذه التساؤلات على أنها غير علمية، مما أدى إلى إلقائها في جحيم اللاعقلانية التي هي مجال الشاعر والصوفي والفيلسوف. وكان السبب الأساسي، لهذا التحول النمطي، الانتصار الذي لا يرقى إليه الشك، من المنظور المادي المباشر، للتفكير التحليلي الإختزالي والآلوي. فقد كان يكفي تطبيق قوانين لا ندري من أين أتت. ثم، بموجب هذه القوانين، هذه المعادلات الحركية، يصبح بوسعنا التنبؤ بكل شيء بدقة، طالما أننا نستطيع تحديد الشروط الأولية الأساسية لهذا الشيء. وهكذا أصبحت كل الأشياء محددة لا بل محددة مسبقًا. مما جعل فرضية الألوهة غير ضرورية. كما أصبح من غير الممكن تجاوز المسافة القائمة بين "السيد الإله"، الذي يمكن في أحسن الأحوال قبوله كمنطلق، وبين شؤون عالمنا. ما جعل من الصعب حدوث أي جديد في هذا العالم حيث الحرية كاذبة (فكل شيء مقدر مسبقًا). وأصبح العالم الذي كان في الماضي شاهدًا على نظام مطلق ثابت لا يتغير، ملزمًا لأن يتحول إلى تقني يقيس الكم.

لكن، مع ظهور الفيزياء الكوانتية في مطلع القرن العشرين، تبينت هشاشة هذا النموذج. فقد أظهرت فيزياء القسيمات ضعف الأسس التي يستند إليها الإيمان الأعمى في الاستمرارية، وفي سببيتها الموضعية، وحتميتها الميكانيكية. ودخل الانقطاع من الباب الملكي للتجربة العلمية. فحل مكان السببية الموضعية مفهوم أكثر نعومةً هو السببية الشاملة. مما ولد هلعًا لدى التبسيطيين من إمكانية عودة إحياء المفهوم القديم للغائية. واستبدال الشيء بالعلاقة وبالتفاعل والتواصل المتبادل للظواهر الطبيعية. وأخيرًا، استبدل الفهم الكلاسيكي للمادة بالمفهوم الأكثر رهافة للجوهر – الطاقة – الزمكان – المعلومة. مما أدى إلى تدمير مفهوم الجوهر الكلي القدرة الذي كان يستند إليه دائمًا التبسيطيون. فقد أضحى الجوهر، بكل بساطة، وجهًا من وجوه المادة.

ومع بلانك وآينشتاين بدأت ثورة لا مثيل لها في المفاهيم سرعان ما أدت إلى ظهور منظومة جديدة من القيم التي أصبحت تتحكم في حياتنا اليومية، حياتنا في المدينة [2]. إلاّ أن ما نلاحظه الآن، وقد مضى قرن على ظهور التصور الكوانتي للعالم، هو أن شيئًا لم يتغير. فنحن ما زلنا نتصرف، سواء عن وعي أو عن غير وعي، وفق المفاهيم القديمة للقرون الماضية. ونتساءل عن سبب هذا الانفصام بين كون كوانتي وبين إنسان ما زال يرزح تحت وطأة تصور بالٍ للعالم؟ ما هو يا ترى سبب تجاهل التساؤلات الأساسية التي ما زالت تعتبر وكأنها ترف لا فائدة منه؟ لماذا ما زلنا نشاهد عاجزين ذلك المشهد المقلق لتجزيء يزداد تسارعًا، لتدمير ذاتي لا يتجرأ على الإفصاح عن اسمه؟ لماذا يجري تجاهل حكمة المنظومات الطبيعية وتغييبها؟ أترانا أصبحنا مهرّجين للمستحيل تسيرنا قوة غير منطقية أطلقناها بأنفسنا؟

وأصبح العلم يريد تقليد الدين كما أصبح الدين يريد تقليد العلم. حيث تسرِّع المواجهة بين الإمبريالية العلمية والإمبريالية الروحانية في تشظية حياتنا. ونتساءل هل أن التقارب الحالي بين العلم والدين هو دلالة قوة أم دلالة ضعف؟ طبعًا، نحن لا ننكر هنا، إطلاقًا، القيمة الجوهرية غير القابلة للنقاش للتقنية العلمية التي بوسعها أن تفعل فعلها في التطور المتناغم للإنسان. لكن الذي نتساءل عنه هو التوالد العشوائي (لهذه التقنية) الذي بلغ ذروته في الوسائل التدميرية الموجودة في عالمنا، والتي أصبحت تكفي لتدميره بالكامل عدة مرات. وما نتساءل عنه أيضًا هو الخلط، الشائع جدًا، بين التكنولوجيا والعلوم الأساسية.

ونتبين في كل مكان مؤشرات هذه البربرية الجديدة كما وصفها ميشيل هنري[3]. ومنبعها، كما يبدو لنا، هو هذا الخليط المتفجر الذي يجمع بين التفكير الثنائي، بين تقنية الثالث المرفوع كنتاج عقلي صاف، وتعارضه مع المعطيات الأساسية للعلم المعاصر وتقنية تفتقد لأي أفق أنساني.

ونتساءل هل بوسع الطبيعة أن تخبرنا شيئًا عن أنفسنا؟ هل صحيح أني حين أعرف الكون أعرف نفسي بشكل أفضل؟ أم أن هذين المستويين، من معرفة تتوافق مع طبيعتنا المزدوجة، منفصلين تمامًا لأن الانتقال من مستوى إلى آخر منقطع بشكل كامل؟ ونتساءل، من أين أتى يا ترى هذا اليقين، الذي يؤكده كل يوم تقدم دراسة قوانين الفيزياء، المتعلق بتماثل مختلف مستويات المعرفة؟ ثم ماذا تعني في الحقيقة معرفة الذات، كشكل ملح، ومؤرق، وغير منطقي، للمنطق العادي؟ وكيف بوسع منظومة تتمتع بشيء من التعقيد، أن تحل بالكامل شيفرة منظومة أخرى ذات تعقيد مماثل؟

وأخيرًا، هل لكل هذه التساؤلات، من منظور العلم السائد في أيامنا، معنى من الناحية العلمية؟ أتراه لا يتوجب علينا الاكتفاء بالنظر إلى العلم كمجموعة وصفات فاعلة على صعيد ماديتنا المباشرة، ولا معنى لها على صعيد الكائن؟ هل بوسعنا قبول التساؤل حول الكيف؟ ونسيان التساؤل حول اللماذا؟ هل بوسعنا التعامل مع الكائن وكأنه خارج نطاق العلم. ما يعني بالتالي الوقوع في عالم فارغ ومنفصل تنعدم فيه جميع الإشارات. ونجد أنفسنا أمام انهيار جارف من التساؤلات.

ما هي الموضوعية في مقابل الذاتية المتبادلة؟ وماذا تعني الموضوعية وفق منطق الثالث المشمول؟ ألا يعني هذا أن العالم الخارجي قد أصبح المرجعية الوحيدة الممكنة للموضوعية؟ وفي هذه الحال، كيف لا نضيع في متاهة الحياة الداخلية؟ كيف يمكن أن لا نغوص من جديد في النفسانية، وفي السوقية؟ ثم ما هو مؤشر الحدث الموضوعي؟ وهل بوسع الحياة الداخلية أن تكون مقياسًا لتفاعل متبادل بين عوالم مختلفة، وبين منظومات مختلفة؟ وكيف لا نقع في النفي المطلق؟ كيف نميز بين الموضوعية وبين اليقين، اللذين لم يعد أساسهما النفسي بحاجة إلى برهان؟ وهل ترتبط الموضوعية بالتحول الفاعل، في نفس الوقت، في العالم الداخلي والعالم الخارجي؟ وكيف نتجنب، في آن واحد، رومانسية الصوفية وخيلاء العلموية؟

ونلاحظ في جميع الأحوال، ظهور موضوعية جديدة من قلب العلم الحديث. موضوعية لم تعد فقط مرتبطة بالشيء بحد ذاته، إنما أصبحت مرتبطة بتفاعل الفاعل مع الشيء. ما يعني أنه بات يتوجب خلق مفاهيم جديدة. بحيث يصبح بوسعنا التحدث عن موضوعية فاعلية للعلم مقابل ذاتية موضوعية للمنقول. ونتفكر كم محظوظ هو هذا الإنسان الحديث الذي أصبح بوسعه الجمع في داخله، وفي آن واحد، بين قطبي ذلك التناقض الخصب.

الطبيعة اليوم

للحداثة تحديدًا وجه مموِّت mortifère، فلقد ابتكرت أنواعًا شتى من "الموت" و"النهاية": موت الله، موت الإنسان، نهاية الإيديولوجيات، نهاية التاريخ. بيد أن ثمة موتًا قلّما يجري الكلام عليه، خجلًا أو جهلًا، ألا وهو موت الطبيعة. وبرأيي بالمناسبة أن موت الطبيعة هذا في أصل كل التصورات المموِّتة الأخرى التي ذكرناها لتوِّنا. وعلى كل حال فإن كلمة "طبيعة" نفسها آلت إلى الاختفاء من المفردات العلمية.

لم يكفّ الإنسان منذ فجر الزمان عن تعديل نظرته إلى الطبيعة. ويجمع مؤرِّخو العلوم على القول بعدم وجود طبيعة واحدة ظلت هي هي عبر الأزمنة، على الرغم من المظاهر. فبمَ عساها تشترك طبيعة الإنسان المسمى "بدائيًا" مع طبيعة الإغريق وطبيعة عصر غاليليه وطبيعة المركيز دو ساد وطبيعة لابلاس أو طبيعة نوفاليس؟ بلاشيء، ماعدا الإنسان نفسه. إن النظرة إلى الطبيعة في عصر ما تتوقف على الخيال l’imaginaire السائد في هذا العصر الذي يتوقف بدوره على حشد من الثوابت: درجة تطور العلوم والتقنيات، التنظيم الاجتماعي، الفن، الدين، إلخ. ومتى تشكلت صورة الطبيعة فإنها تفعل في كل مجالات المعرفة. والعبور من نظرة إلى أخرى ليس متدرِّجًا وموصولًا، بل يتم بالحري بانقطاعات مباغتة وجذرية وغير موصولة، حتى إن من الممكن لعدة نظرات متناقضة أن تتعايش. إن التنوع المذهل للنظرات إلى الطبيعة يفسر لماذا لا يمكننا الكلام على الطبيعة، إنما فقط على طبيعة معينة متوافقة مع الخيال في العصر المعتبَر.

لابد من التشديد على أن العلاقة المتميزة، إن لم نقل المانعة، بين الطبيعة والعلم ليست إلا حكمًا مسبقًا مؤخرًا تأسس على الإيديولوجيا العلموية scientiste للقرن التاسع عشر. أما الواقع التاريخي فهو أعقد منها بكثير. فلقد كان لصورة الطبيعة دومًا فعل متعدد الأشكال، إذ لم يؤثر على العلم وحسب، بل وعلى الفن والدين والحياة الاجتماعية أيضًا. وهذا الأمر قد يفسّر العديد من التزامنات العجيبة. حسبي هنا أن أورد مثالين: ظهور الفن التجريدي والميكانيكا الكوانتية في آن واحد في مطلع هذا القرن، وظهور نظرية نهاية التاريخ ونظريات التوحيد في فيزياء القسيمات معًا في نهايته. المثال الأول معروف نسبيًا بينما لم يُشَر إلى المثال الثاني حتى الآن. لأن نظريات التوحيد في الفيزياء تطمح إلى صوغ مقترب تام، قائم على تفاعل أوحد من شأنه أن يتنبأ بكل ما يمكن أن نرغب في معرفته (من هنا اسم "نظرية كل شيء" a  theory of everything). ومن البيِّن للغاية أنه إذا رأت نظرية كهذه النور في المستقبل لكان معنى ذلك نهاية الفيزياء، لأنه لن يبقى شيء يُبحث عنه. ومن الطريف أن نلحظ أن فكرتي نهاية التاريخ ونهاية الفيزياء قد اتفق لهما أن تنبثقا في الوقت نفسه من "النهاية - المتخيَّلة - لقرننا". فهل هذا محض مصادفة؟

بيد أنه، على الرغم من التنوع الغزير الفاتن لصور الطبيعة، ما زال بالإمكان التمييز بين ثلاث مراحل كبرى: الطبيعة السحرية والطبيعة-الآويلة وموت الطبيعة.

لأن للطبيعة من منظور الفكر السحري بنية organisme حيّة تتحلّى بالفطنة وبالوعي. والمسلَّمة الأساسية للفكر السحري هي مسلَّمة التواكل الكلّي: l’interdépendance universelle. فمن غير الممكن تصور الطبيعة بمعزل عن علاقاتها مع الإنسان. كل شيء إشارة وأثر وسمة ورمز، والعلم بالمؤدّى الحديث لهذه الكلمة عديم الجدوى.

وفي المقابل يتصور الفكر الآلوي mécaniste للقرن الثامن عشر، وبالأخص للقرن التاسع عشر (الذي مازال سائدًا إلى اليوم)، الطبيعة ليس كبنية بل كآلة يكفي تفكيكها قطعة قطعة لامتلاك ناصيتها بالكلية. فالمسلّمة الأساسية للفكر الآلوي هي أنه يمكن معرفة الطبيعة والظفر بها عن طريق المنهجية العلمية المعرَّف بأنها مستقلًة بالكامل عن ماهية الإنسان. وهذه الرؤية الانتصارية لـ"فتح الطبيعة" تضرب بجذورها في الفعالية efficacité التقنية والتكنولوجية المرعبة لهذه المسلَّمة.

والنهاية المنطقية للنظرة الآلوية التي اكتسحت فلسفة الطبيعة بوصفها استطرادًا ضالاً هو موت الطبيعة واختفاء مفهومها من الحقل العلمي. لقد تجزأ مفهوم الطبيعة - الآلة لبداية النظرة الآلوية، مع إله كالساعة أو بدونه، إلى جملة من القطع المفكَّكة. ومنذئذٍ انعدمت الحاجة إلى كلٍّ متلاحم، إلى بنية حيّة أو حتى إلى آلة تحتفظ رغم من كل شيء، ببعض من الغائية. لقد ماتت الطبيعة وبقي التعقيد. وهو تعقيد complexité مذهل يجتاح إلى كل مجالات المعرفة، من اللامتناهية في الصغر إلى اللامتناهية في الكبر. بيد أن هذا التعقيد يُنظر إليه كشيء طارئ، لأنه يُعتبر الإنسان نفسه طارئًا من طوارئ التعقيد. وهي نظرة مخيفة تعيدنا إلى عالمنا كما نعيشه اليوم.

إن موت الطبيعة لا يتفق مع التفسير المتجانس لنتائج العلم المعاصر. وذلك رغم إصرار الموقف الاختزالي الجديد الذي يعطي أهمية الكبرى للمركبات الأساسية للمادة ولتفاعلاتها الفيزيائية المتبادلة والمعروفة.

كما لم تعد مقبولة في العالم الكوانتي الموضوعية الصارمة للفكر الكلاسيكي. فالفصل الكامل بين المراقب وبين الواقع الذي نفترضه مستقلاً عنه بالكامل يؤدي إلى تناقضات لا يمكن تجاوزها. إن مفهومًا، أكثر نعومة بموضوعيته، يميز العالم الكوانتي. فـ"الموضوعية" تتعلق بمستوى الواقع الذي ننظر إليه.

ويحل الفراغ الفارغ للفيزياء الكلاسيكية مكان الفراغ المملتئ للفيزياء الكوانتية. حيث أصغر جزيء من الفراغ مفعم بنشاط غير عادي، كدليل على حركة دائمة. وتحدد التموجات الكوانتية للفراغ الظهور المفاجىء لمزدوجات افتراضية من الجزيئات – والجزيئات المضادة التي تبدد بعضها بعضًا خلال فترات زمنية متناهية في الصغر. وكأن جسيمات المادة تخلق من لاشيء. وبوسع الماورائي هنا أن يدّعي بأن الفراغ الكوانتي هو وجه من وجوه الألوهة. الله وحده. وفي كل الأحوال يبقى كل شيء في الفراغ الكوانتي اهتزاز، إن لم نقل تموج بين الكائن واللا-كائن. فالفراغ الكوانتي، من الجزيئة إلى الكون، مليء بكل الاحتمالات. لذلك، فإنه حين نزود هذا الفراغ بالطاقة فإننا نساعده على تجسيد كمونياته. وهذا بالضبط ما نفعل حين نبني مسرعات للجزيئات.

وأيضًا، لم يعد مفهوم الفراغ-الزمن نفسه مفهومًا ثابتًا. فالفراغ-الزمن الرباعي الأبعاد الذي نعرف لم يعد الوحيد الذي بوسعنا تصوره، فهو يبدو كمجرد تقريب، كـ"مقطع" لفراغ-زمني أغنى بكثير، ويولد ظواهر ممكنة ليست أبعادها الإضافية نتيجة تخمين عقلي. فهذه الأبعاد ضرورية لتأمين التماسك الذاتي للنظرية ولاستبعاد بعض الجوانب غير المرغوبة من جهة؛ ومن جهة أخرى، هي لبست شكليًة صرفًة – إنما لها، على صعيدنا، نتائج فيزيائية.

وتختلف درجة المادية الكوانتية حتمًا، عن درجة المادية التي تعتمدها الفيزياء الكلاسيكية. والفكرة المفتاح لمادية الكون هي مفهوم مستويات الواقع.

لقد تغير مفهوم قوانين الطبيعة بالكامل مقارنة بما كان يعرفه المنظور الكلاسيكي. فقد تطورت تراتبية القوانين مع تطور الكون نفسه. أي بمعنى آخر، نحن نشهد ولادة قوانين مترافقةً مع تطور الكون. وهي قوانين كانت موجودة بالقوة منذ البداية. لكن تطور الكون أدى إلى تطورها وتراتبيتها.

إن النموذج عبرالمناهجي للطبيعة[4]، الذي يجمع كل الخواص الجديدة للعالم الفيزيائي، يميز بين ثلاث مظاهر أساسية للطبيعة هي:

1)    الطبيعة الموضوعية، الخاضعة لموضوعية فاعلة. وهي فاعلة بمقدار ما ترتبط مستويات الواقع فيها بمستويات الإدراك. مع التأكيد هنا على الموضوعية، المترافقة مع منهجيتها العلمية.

2)    الطبيعة الفاعلية، الخاضعة لذاتية موضوعية. وهذه الفاعلية موضوعية بمقدار ما ترتبط مستويات الإدراك فيها بمستويات الواقع. مع التأكيد هنا على أن ذاتيتها مشروطة بكون منهجيتها هي المنهجية القديمة للكائن، تلك التي تخرق جميع المنقولات والأديان في عالمنا.

3)    العبر- طبيعة التي تؤمن وحدة الطبيعة الموضوعية والطبيعة الفاعلية. وهي تدخل في نطاق المقدس.

وهكذا، بوسعنا الحديث عن الطبيعة المزدوجة للطبيعة: الطبيعة الطبيعية التي تشمل الطبيعة الموضوعية والطبيعة الذاتية، والطبيعة فوق- الطبيعية، ونسميها بـ"العبر طبيعة". لأنه يوجد ازدواجية في طبيعة الطبيعة، كما يوجد ازدواجية في طبيعة الإنسان.

أما الطبيعة عبرالمناهجية فهي ذات بنية ثلاثية (الطبيعة الموضوعية، والطبيعة الذاتية، والعبر طبيعة) تعرَّف الطبيعة الحية. وهذه الطبيعة حية لأن الحياة موجودة في مختلف درجاتها ولأن دراستها تفترض تكامل تجربة معاشة. كما أنه يجب النظر بآن واحد إلى الأوجه الثلاث للطبيعة، من خلال علاقاتها المتبادلة وصلتها بحميع مظاهر الطبيعة الحية. وتتطلب دراسة الطبيعة الحية ميتودولوجيا جديدة – هي الميتودولوجيا عبر المناهجية – التي تختلف عن ميتودولوجيا العلم الحديث وميتودولوجيا العلم القديم للكائن.

إن أولى مهام العبرمناهجية كوسيط مميز للحوار بين مختلف ميادين المعرفة هو وضع فلسفة جديدة للطبيعة.

لهذا، فإن التعريف الذي أقترحه للطبيعة لا يعني العودة إلى الطبيعة السحرية، ولا إلى الطبيعة الآلوية، إنما هو يستند إلى تعريف مزدوج يقول أنه 1) بوسع الكائن الإنساني دراسة الطبيعة عن طريق العلم؛ 2) لا يمكن تصور الطبيعة بمعزل عن علاقتها بالكائن الإنساني.

والحقيقة أن تعبير الطبيعة الحية هو حشو كلامي. لأن كلمة "طبيعة" ترتبط بشكل لا ينفصم بكلمة "ولادة". فالجذر اللاتيني لـ natura(الطبيعة) الذي هو nasci يعني ولد وهو يدل على فعل الولادة كما على أعضاؤها الأنثوية. ما يعني بأن الطبيعة الحية هي منشأ الولادة الذاتية للإنسان.

لقد تخيل غاليليو الطبيعة كنص رياضي يكفي أن نفك رموزه لكي نتمكن من قرأته. وهو منظور، استمر لقرون، وكان بمنتهى الفعالية. لكننا نعرف اليوم أن الوضع أكثر تعقيدًا بكثير. حيث تبدو لنا كتاب الطبيعة كنص أولي: أي كنص يتوجب علينا كتابته وليس فقط قراءته.

والمفارقة هي أن الإلحاد المعاصر قد ولد من هذا المنظور الذي غير نظرتنا إلى العالم.

الإلحاد المعاصر

ظهر الإلحاد المعاصر إلى الجمهور من خلال قضية شهيرة عرفت حينئذ بـ" قضية سوكال". وقد بدأت هذه القضية بخديعة. حين أرسل، فيزيائي وأستاذ رياضيات من جامعة نيويورك لا يعرفه إلاّ القليل من الفيزيائين، عام 1994، مقالة تحمل عنوانًا ملفتًا للنظر هو انتهاك الحدود: نحو تفسير تحويلي للجاذبية الكوانتية[5] إلى مجلة "النص الاجتماعي" المعروفة بأنها أحد المواقع المتقدمة لما بعد الحداثة. وكان المقال محشوًا باستشهادات صحيحة لفيزيائيين كبور وهايزنبغ و لفلاسفة، ولعلماء اجتماع، ومؤرخي علوم، أو محللين نفسيين، ككوهن وفيربيند ولاتور ولاكان ودولوز وغاتاري وديريدا وليوتار وسيريس أو فيريلو. وهي استشهادات كانت تعليقات سوكال عليها شبيهة بالتأكيدات الهاذية. مما أعطى الانطباع أنه يتبنى بالكامل مفاهيم ما بعد الحداثة، وخاصة منها مفاهيم ذلك التيار الذي يؤمن بالنسبية والذي كانت تتبناه مجلة "الدراسات الثقافية". مما أدخل السرور إلى قلب محرري المجلة بسبب تبني فيزيائي لقضيتهم ما جعلهم ينشرون نصه مباشرة ودون أي تدقيق.

ثم بعد فترة وجيزة، كشفت الخديعة من قبل سوكال نفسه، الذي أضحى شهيرًا عن طريق الانترنت. حين وضّح سوكال حوافزه الفكرية والسياسية. وخاصة على الصعيد السياسي حين أراد أن يبرهن لأصدقائه من اليسار الأمريكي أنه لا يمكن تحقيق أي تحول اجتماعي أو ثورة بالاستناد إلى مفهوم الحقيقة كما تتبناه الفلسفة النسبية. لأنها فقط الفيزياء كما يتصورها سوكال، بوسعها لعب هذا الدور كأساس فلسفي.

وكانت كتابات متدفقة على الانترنت، وكان عدد كبير من الكتب والعديد من المقالات التي بينت حقيقة المشكلة. فالبعض اعتبر سوكال كرسول أنوار الذي يواجه ظلاميي ما قبل الحداثة. بينما اعتبره البعض االآخر، مجرد شرطي يتعاطى الفكر، إن لم نقل مجرد دجال وجاهل.

لكن قضية سوكال كان لها الفضل في تسليط الأضواء على ظاهرة يزداد وجودها أكثر فأكثر في الثقافة المعاصرة، ألا وهي ظاهرة تحويل النسبي إلى مطلق. حيث يختبيء التطرف النسبي وراء سمعة لغة العلوم الدقيقة من خلال تسريب مبالغ ومشوه. فتنفصل اللغة عن سياقها، ويصبح بالإمكان التعامل معها للتعبير عن أي شيء ولـ"برهنة" تساوي كل الأشياء . والضحية الأولى لهذا التشويه هو العلوم الدقيقة نفسها، والتي تصبح كغيرها مجرد واضعة لبنيان اجتماعي، وتوضع بين أهلّتين إلزامية التدقيق عن طريق التجربة. لهذا، ليس من الغريب أن يتحول سوكال خلال بضعة أشهر إلى بطل لجماعة تشعر كل يوم بالتناقض الصارخ بين ممارساتها العملية وتصوراتها الاجتماعية والثقافية.

لكن المفارقة، هي أن قضية سوكال قد بينت بشكل ملحوظ تطرف جديد هو – التطرف العلموي، كوجه آخر للتطرف الديني. وقد لقي موقف سوكال في الواقع دعمًا ذو وزن – من الفيزيائي ستيفن فاينبرغ الحائز على جائزة نوبل للفيزياء، الذي تحدث، في مقالة طويلة نشرتها له مجلة نيويورك لمراجعة الكتب[6]، عن وجود "هوة من عدم التفهم" بين العلماء وبين المثقفين الآخرين. فحسب فاينبرغ، كانت إحدى الاشتراطات الأساسية التي أدت إلى ولادة وتطور العلم الحديث هو الفصل بين عالم الفيزياء وعالم الطبيعة. وبضربة واحدة، يكنس فاينبرغ، كتداخلات غير صالحة، الاعتبارات الفلسفية للآباء المؤسسين للميكانيكا الكوانتية، كفرنر هايزنبرغ على سبيل المثال.

ونتفاجأ من حجج فاينبرغ التي تبدو وكأنها انعكاس لعلموية قرن آخر: حيث يعود الحس السليم ليعلن واقعية القوانين الفيزيائية، واكتشاف الفيزياء للعالم "كما هو"، أي كتناظر ثنائي الوجه بين القوانين الفيزيائية و"الواقع الموضوعي"، ما يؤكد على الصعيد الفكري هيمنة العلوم الطبيعية. لكن فاينبرغ لم يكن لا وضعيًا ولا ميكانيكيًا. إنما هو أحد ألمع فيزيائي القرن العشرين، كما أنه في نفس الوقت صاحب ثقافة قوية. ما يجعل من المناسب دراسة ما يقدمه من حجج.

تستند الفكرة الأساسية لفاينبرغ، والتي يرددها كالتعويذة في كتاباته، إلى وجود قوانين غير شخصانية اكتشفتها الفيزياء. قوانين غير شخصاية وأزلية معًا تضمن "التقدم الموضوعي" للعلم وتفسر الهوة التي لا يمكن تجاوزها بينه وبين الثقافة. ونغمة هذه الحجة ذو طابع نبوي واضح، وكأنها ينطق بلسان دين من دون إله. ما يغري بالاعتقاد أننا أصبحنا أمام مفهوم علمي أضحى كالحبل بلا دنس (عند الكنيسة). ما يجعلنا، من هذا المنطلق، نتفهم بأن قضية سوكال بالنسبة لفاينبرغ هي قضية حال الحقيقة وحال الواقع. فبالنسبة له من غير الممكن أن تكون الحقيقة تابعة للبيئة الاجتماعية للعالم. فالعلم يملك الحقيقة، وقطيعته من هذا المنطلق كاملة ونهائية مع الثقافة. لأنه هناك واقع واحد – هو الواقع الموضوعي للفيزياء. وهذا ما يجعله يؤكد بلا مواربة، أنه بالنسبة للثقافة أو الفلسفة، فإن الفرق بين الميكانيكا الجسيمية والميكانيكا الكلاسيكية أو بين ثقالة آينشتاين وثقالة نيوتن أمر بلا معنى.

ويأتي استنتاج فاينبرغ حادًا كالسكين حين يقول:

إنه يمكننا ربط اكتشافات الفيزياء بالفلسفة وبالثقافة حين يصبح بمقدورنا معرفة منشأ الكون والقوانين النهائية للطبيعة

ما يعني بأن هذا لن يكون ممكنًا على الإطلاق!

في عام 1997، قرر سوكال إعادة كتابة مقالته الشهيرة التي نشرها في "النص الاجتماعي" ولكن بالمقلوب. أي بمعنى آخر، قرر التعبير عما يعتقده حقيقة. لهذا نراه ككاتب يتخذ كمساعد له، الفيزيائي البلجيكي، جان بريمون. وهكذا كان نشر "الخدع الفكرية". التي فاجأت الجميع بضحالتها والتي كان صداها أقل بكثير من النجاح الطنان لـ"مقالة" سوكال الأولى. وكان جميع المخادعون الذين جرى التطرق إليهم فرنسيون أو يعيشون في فرنسا. ومن الممل أن نحلل هنا ماهية هذه "الخديعة". فطريقة الفيزيائيين الأمريكان والبلجيكيين سهلة: نأخذ جملة، ونفصلها عن سياقها لنبين من ثم لماذا هي سخيفة وغير دقيقة على الصعيد الفيزيائي أو الرياضي. إن الطريقة المستعملة من قبل الكتاب قد أقصته إلى حد جعلنا نعتقد أن قضية سوكال قد طويت.

ويرتد سوكال. فقد نشر قبل ثلاث سنوات، كتابًا جديدًا (كتبه بالتعاون مع جان بريكمون) يحمل عنواناً جذاباً هو العلوم الزائفة وما بعد الحداثة: خصومة أم وفاق طريق[7].

وهنا يجب الاعتراف بأن المقاربة بين ما بعد الحداثة والعلوم الزائفة هو أمر جذاب. أما الجديد حقًا في هذا الكتاب فنجده في مكان آخر ألا وهو التذييل (الملحق آ) للكتاب، تحت عنوان "الدين كعلم زائف". موضحين أنه في هذا السياق، لا يتعرض الكتاب إلى الدين للإشارة إلى الطوائف والحركات الدينية الجديدة، إنما للدلالة على الديانات القائمة – كالمسيحية واليهودية والإسلام والهندوسية. وهذا ما جعل من غير المستغرب أن يشير بأصابع الاتهام إلى البابا حنا بولس الثاني – أي إلى الكتلكة - على أنه "أكبر رئيس علموي زائف"[8].

وهذا البيان الأخير هو بكل بساطة من باب التشهير. ورغم كل شيء، يبقى من المهم أن نعرف لماذا يعتبر سوكال وبريكمون الدين علمًا زائفًا، كالتنجيم؟

ويبين الكتاب ببراءة حججهم الرئيسية: فالدين يتعاطى مع "ظواهر حقيقية أو مفترضة، أو مع علاقات حقيقية أو مفترضة، غير محتملة من منظور العلم الحديث". فهو "يحاول دعم بياناته بحجج أو ببراهين لا تلبي متطلبات العلم الحديث من حيث المنطق والمصداقية"[9]. وهنا تحديدًا يكمن الخطأ الإبيستيمولوجي (المعرفي) الواضح لسوكال ولبريكمون، فهما يعتمدان واقعية العلم الحديث كحكم وحيد للحقيقة. ولا يعتبران، في أية لحظة، أنه من الممكن وجود مستويات متعددة للواقع، مستويات يرتبط العلم الحديث ببعضها بينما يرتبط الدين ببعضها الآخر؟ فبالنسبة لهم، لا يوجد سوى مستوى واحد من الواقع، وهذه فرضية معرفية لا يمكن الدفاع عنها استنادًا إلى ما علمتنا إياه العلوم الحديثة.

ويذكرنا موقف سوكال وبريكمون بشكل غريب بموقف لينين الذي عبر عنه عام 1908، في كتابه المادية والنقد التجريبي، والذي هاجم فيه النظريات الفيزيائية المتعلقة بالمسافة – الزمن المتعدد الأبعاد، وأعلن أنه ليس بوسعنا القيام بالثورة إلاّ في نطاق الأبعاد الأربعة. فلينين كسوكال كان يؤمن بوجود مستوى واحد للواقع. أو لنقل أنه اعتمد هذا الاعتقاد لكي يبرر ثورته.

ونتابع قضية سوكال بشكل ملفت في كتاب ريتشارد داوكينز بعنوان وهم الإيمان بالله God Delusion [10]. وهو كتاب أصبح من أفضل الكتب مبيعًا على الصعيد العالمي. وتكفي بعض جمل من داوكينز لكي نفهم ما يصبو إليه الإلحاد الجديد المعاصر. حيث يقول:

لنتخيل عالمًا بلا دين وبلا عمليات انتحارية، عالم بلا 11 إيلول (...)، وبلا حروب صليبية، بلا ملاحقات للسحرة، بلا حروب ولا انفصال، بلا حرب إسرائيلية-فلسطينية، وبلا مجازر بين الصرب والقرواط والإسلام (...) عالم بلا طالبان يفجرون التماثيل القديمة وبلا إعدامات في الساحات العامة لمن ينطقون كفرًا (...) عالم متسامح بوسعه إن يستوعب عدم وجود الإله بأي شكل كان وبالنسبة لجميع الديانات.

لأنه مهما كان الحذر الخطابي ومهما كانت البهلوانيات الجدلية للملحدين الجدد المعاصرين، فإن حججهم تقودنا إلى الاستنتاج بأن العالم سخيف، وهو حكم أيديولوجي مسبق وغير علمي.

استنتاجات

تعلمنا تجربة العلوم أهمية التساؤل المستمر، كما تعلمنا أهمية الإعادة الدائمة للتساؤل حول أجوبتنا نفسها. (تعلمنا) إمكانية الخيار بين كفاية العلم وفقر التساؤل المستمر من أجل التفهم. أهمية السير في هذا العالم كالبهلوان السائر على حبل، رافضًا كل نظرية نهائية، وكل بنيان يوطوبي، وكل منظومة حصرية ومنغلقة للفكر. (تعلمنا) أن نصبح تساؤلاً بحد ذاتنا فنشعر بعلاقتنا مع أنفسنا و(بعلاقتنا) مع الآخرين. إنه تمرين روحي خطر ربما، لكنه يفتح أمامنا فضاءً رحبًا من الحرية ومن التسامح.

إن كلمات منطقي وغير منطقي، مادة ووعي، مادة وروح، غائية ولاغائية، صدفة وضرورة، إلخ، إلخ، هي كلمات مستعملة، ذابلة، فقدت قيمتها وأصبحت عاهرة. فهي تستند إلى منظور كلاسيكي للواقع، وهو منظور يتناقض مع الوقائع. (فهي كلمات) تخلق ثنائياتها المتناقضة عبر خلافات لا تنتهي، وتفجر العواطف الحشوية. وبوسعنا حول هذا الموضوع كتابة أطنان من الكتب التي لا تقدم إلى المعرفة شيئًا.

أمّا خلق مفاهيم جديدة، فإنه يقودنا دائمًا إلى دروب مليئة بالعثرات. وهذا ما يعرِّضها لأبشع التشوهات ولأسوأ الهجمات الفارغة (السياسية، والعلموية، وحتى الباطنية).

وأتفكر كم من المفكرين المتسرعين جدًا أو المهتمين جدًا، سيعلنون بأن العقلانية الجديدة ستقودنا إلى سيطرة اللاعقلانية، إلى الخلط بين الرائع واللاعقلاني، وإلى النقاش غير المحدد حول ما إذا كانت الروح يمينية أم يسارية؟ (وأتفكر) كم من المفكرين المتسرعين جدًا أو المهتمين جدًا، سيعلنون بأن العقلانية الجديدة إنما تستبدل الديني بالعبر ديني، وتخلط بين المتعالي وما يمكن الوصول إليه عن طريق تصوراتنا الإنسانية الجزئية حتمًا، ثم بحجة الحفاظ على هويتنا الدينية تستبعد ما هو كوني في الإنسان؟ أي الإله نفسه. الله الواحد الذي هو الطبيعة الواحدة. إن العقلانية الجديدة تسمح بتعايش الوحدة والتنوع. بينما العقلانية القديمة، التي ما زالت سائدة في كوكبنا، تدمر كل واحدة الأخرى.

ويبدو لي أن الطريقة الوحيدة لتجنب هذه التشوهات إنما هي في البحث عبر المناهجي الحقيقي، البحث الصبور والمنفتح والمتسامح وطويل النفس، البحث المنفتح على أفضل الاختصاصات والمستند إلى الصرامة العلمية والروحية[11].

لأني، كهايزنبرغ، أحمل القناعة العميقة التي تقول بأن

... الانفتاح على العالم الذي هو في نفس الوقت "عالم الله" يكمن في أن أقصى سعادة يمكن أن يقدمها لنا هذا العالم هو الشعور بأننا في بيتنا[12].

حتمًا ستكون صعبة ولادة العقلانية والروحانية الجديدة اللتان تحاوران سر كون لا يمكن إنتقاصه.

ترجمة: أكرم أنطاكي

*** *** ***

الفهرس

 

  1. Richard Dawkins, The God Delusion, Bantam Press, London - Toronto- Sydney – Auckland – Johannesburg, 2007.
  2. Werner Heisenberg, Philosophie - Le manuscrit de 1942, Paris, Seuil, 1998, traduit de l’allemand et introduction par Catherine Chevalley.
  3. Michel Henry, La Barbarie, Grasset, Paris, 1987.
  4. Basarab Nicolescu, La transdisciplinarité, manifeste, Le Rocher, collection "Transdisciplinarité", Monaco, 1996 ; traduction en anglais : Manifesto of Transdisciplinarity, State University of New York (SUNY) Press, New York, translated from the French by Karen-Claire Voss, 2002; traductions en portugais : O Manifesto da Transdisciplinaridade, Triom, São Paulo, traduction par Lucia Pereira de Souza; 3e édition: 2005, Manifesto da Transdisciplinaridade, Hugin, Lisbonne, 2000, traduction par Bardus ; traduction en arabe : Le Manifeste de la Transdisciplinarité (en arabe), Isis, Damas, 2000, traduction par Dimitri Avghérinos, préface d'Adonis ; traduction en roumain : Transdisciplinaritatea, manifest, Junimea, Iasi, 2007, 2e édition, traduction par Horia Vasilescu.
  5. Basarab Nicolescu, Nous, la particule et le monde, Le Rocher, collection "Transdisciplinarité", Monaco, 2002, 2e édition ; traduction en portugais: Nós, a partícula e o universo, Colecção "Ciência e Consciência", Esquilo, Lisabona, 2005, traduction par Isabel Debot ; traduction en roumain: Noi, particula si lumea, Junimea, Iasi, Roumanie, 2007, 2e édition, traduction par Vasile Sporici.
  6. Basarab Nicolescu, Scientisme – l’autre Affaire Sokal, Esprit, no 326, juillet 2006, pp. 194-198.
  7. Alan D. Sokal, Transgressing the Boundaries: Toward a Transformative Hermeneutics of Quantum Gravity, Social Text 46/47, Spring/Summer 1996, pp. 336-361.

8.       Alan Sokal et Jean Bricmont, Impostures intellectuelles, Paris, Odile Jacob, 1997, p. 27.

  1. Alan Sokal, Pseudosciences et postmodernisme : Adversaires ou compagnons de route ?, Paris, Odile Jacob, 2005, traduit de l’anglais par Barbara Hochstedt, préface de Jean Bricmont.
  2. Steven Weinberg, Sokal’s Hoax, New York Review of Books 43(13), August 8, 1996.

 

horizontal rule

[1] Palais du Grand Large, le 1er mars 2008, Saint Malo, France, conférence-débat avec Jean-Michel Oughourlian, organisée par la Grande Loge Nationale Française (GLNF). Texte publié avec l’aimable permission de la GLNF.

[2] Nicolescu, 2002.

[3] Henry, 1987.

[4] Nicolescu, 1996.

[5]  سوكال، 1996، الصفحات 336 – 361.

[6]  فاينبرغ 1996.

[7]  سوكال 2005

[8]  نفس المرجع، ص 51 و155

[9]  نفس المرجع ص 158.

[10]  داوكينز، 2005، ص 1 و2.

[11]  نكوليسكو، 2006

[12]  هايزنبرغ 1998، ص 387.

 

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود