الشاهدات رأسًا على عقب: الحياة في سأمها

 

دارين أحمد

 

يشبِّه راهيم حساوي الشاهدات بالبطاقات الشخصية "الهويات" التي لا تضم إلا أرقامًا وتواريخ في حين يتم إهمال أفعال حامليها، موطِّنًا روايته في الخط الفاصل بين الحياة والموت، في الطريق الذي يفصل بين المقبرة بشواهدها الثابتة والبيوت بشواهدها المتحركة حيث يمثل بطل الرواية (جابر) أحد هذه الشواهد الواعية إنما غير القادرة على الفعل أو الخروج من القبر الذي اختبَرَتْهُ عبر بطل الرواية الآخر المسمى بديع الزاهر. ومن هذا الموقع، أو في هذا المكان الذي اختاره الكاتب أن يكون وطنًا لروايته يصبح كون الشاهدات رأسًا على عقب أو لا أمرًا ثانويًا، إذ لن يُحدث هذا العكس خللاً في عالم الرواية إذ هو عالم مطهري يحاول فيه البطل الدخول إلى الموت أو الحياة إلا أنه لا يفلح في ذلك.

سنعرف الكثير عن جابر من خلال ما يرويه عن نفسه، مثلاً كيف يعنى بالتفاصيل ويرهف لأي استدعاء شعري تفرضه هذه التفاصيل عليه، نقرأ في الرواية مثلاً:

بعد مرور أسبوع على تعرفي على منار التقينا مصادفةً أنا ورشاد تحت شجرة هرمة، ارتسمتْ على وجوهنا بعض ظلال أوراق الشجرة، ولا أعرف ماذا يَحِلُّ بهذه الأوراق حين ينهض الليل بعصاه التي لا يظهر منها إلا رأسها المضيء في بطن السماء، لكني شعرتُ بأنَّ جذع الشجرة غير معنيٍّ بأيِّ شيءٍ خارج تلك الدوائر التي تسكن داخله. (ص 16)

[....]

دفعتُ باب غرفتي فاصطدمتُ بظلامٍ خرج دفعةً إثر دفعة، تسلَّل بعض الضوء من جبين القمر وهو يسترق النظر إليَّ؛ وأنا واقفٌ على باب غرفتي أنظر نحو فراشي وغطائه ذي اللون الترابي الذي عليه بعض الرسومات الخضراء المصفرَّة التي تشبه نبات الحرمل المُتناثِر بين ممرَّات القبور... (ص 19)

وقد اخترت هذين المثالين من بين أمثلة تملأ الرواية لأنهما إلى جانب توضيحهما للحضور الشعري في رواية راهيم، يوضحان أيضًا مطهرية مكان بطله (جابر)، فهو إنسان حيٌّ مشغول بكليته بالموت الذي يسكنه كما تسكن الدوائر جذع الشجرة ويشكِّله كما تفعل تلك الدوائر بالجذع، منذ أن أُغلق عليه للحظات في تابوتٍ خلال الاختبار الذي يمثل الحدث الأساس في الرواية، والذي سنعرض له لاحقًا.

تحضر الشخصيات الأخرى في الرواية على مستويات عدة: أولها الشخصيات الظلية الموضوعة فقط لخدمة الأفكار التي يطرحها بطل الرواية. ومن هذه الشخصيات شخصية رشاد، صديق الطفولة الذي عاصر "الحدث الأساس" إنما دون أن يعرف عنه شيئًا ربما، والذي يحضر ويموت في الرواية ليطرح إمكانية استعادة هذا الحدث مرة أخرى في الحاضر أو لتبرير وجود بديع الزاهر (بطل القصة الثاني) في المدينة في حاضر الرواية؛ وشخصية منار "شبيه كنانة"، وكذلك شخصية أخته نينار، بل وشخصية كنانة ذاتها رغم محاولات الكاتب إضفاء طابع صوفي عليها. فهذه الشخصيات وإن مُنحت أسماء إلا أن حضورها في عالم الرواية شبيه بحضور سائق التكسي أو الحلاق أو المرأة في المتجر. على المستوى الثاني تحضر شخصيات على مستوى أعمق ومن هذه الشخصيات شخصية رضوان اليوسف، لاعب الشطرنج الذي يحاول إخراج جابر من قوقعته إلى عالم الأرقام والقوانين الرياضية الخالد وفقًا للفلسفة الفيثاغورثية، حيث أنه ورغم الحالات الوجدانية التي تبدو في الظاهر وكأن جابر هو المتحكم بها بمعنى أنه الفاعل ورضوان هو الشخص المنفعل الذي يحتاج إلى هذه الوجدانيات، فإن هناك مستوى آخر يبدو فيه العكس تمامًا، حيث أن تخبط جابر في وجدانياته الخاصة بعلاقته برضوان هو تخبط خاص بجابر الذي يحتاج إلى الركون إلى هذا المكان للتهرب من الخلود البارد الذي يدفعه إليه رضوان. يقول رضوان لجابر:

-        لا تسألني كيف عرفتُ بيتك، هذا هين على لاعب شطرنج مثلي. (ص 91)

وهذا ما يبقي الرواية في موطنها الذي اختاره لها المؤلف منذ البداية، رواية عالقة في حدثٍ أساسٍ يشبه تمثيلاً رمزيًا للموت إنما بتقاطع كبير مع قصة الخلق الديني، حيث يقوم بديع الزاهر بالقبض على المراهق جابر بعد رؤيته له يسرق من شجرة المشمش الخاصة به، ويجره إلى بيته جرًا ليضعه في صندوق أشبه بتابوت ويلقمه من فتحةٍ فيه حبات مشمش عفنة وملوثة بمخاطه وعرقه بالتوازي مع مقولات غرائبية تجعل الحدث يبدو أشبه بكابوس منفلت من الواقع إذ لا يجد هذا العقاب تبريره في فعل شديد البساطة كمثل سرقة بضع ثمرات من المشمش. يقول بديع الزاهر لضحيته بعد أن يرجوه أن يبكي:

-        سترى كم أحبك، وكم أملك من الحب، فأنا سارق دهن العقول.

ثم يغادر مطمِّئنًا جابر لعودته قريبًا. تحضر كنانة هنا وهي زوجة بديع الزاهر كمنقذ أنثوي غير مكتمل، فهي غير قادرة على إنقاذ نفسها أساسًا رغم قيامها بتحرير جابر من تجربته الصغيرة، وهي أسيرة بالكامل لمقولات بديع إنما آخذة إياها إلى الحد الأقصى. تقول كنانة لجابر بعد لقائه لاحقًا وتحذيره من سطوة بديع وقدرته على رؤية كل شيء:

-        سيرى كم أحبه، وكم أملك من الحب، سأكتب اليوم قصيدة جديدة.

لنعلم أنها انتحرت في الليلة نفسها وعلى شجرة المشمش نفسها أيضًا. بعد انتحار كنانة يقول راهيم على لسان بطله جابر:

بعد انتحار كنانة شعرتُ أن نموّي يزداد أسرعَ من غيري، وأنّ صفحات الحياة متشابهة رغم اختلاف الكلمات المكتوبة عليها، ولا شيء في الحياة سوى انتظار مرور الوقت للوصول لتلك الرعشة التي تصيبنا أثناء قلب الصفحة الأخيرة من صفحات الحياة ذات الغلاف السميك والورق الرقيق والكثيف بين قسوة هذا الغلاف.

إذًا، لقد حكم المؤلف على بطله بالسأم الذي هو وفق تعريف مورافيا في روايته التي تحمل العنوان ذاته: انقطاع العلاقة مع الأشياء، هذا السأم الذي يشبه كثيرًا وطن الرواية، الطريق بين المقبرة والكائنات الأسيرة لها بعماء أو بيقظة كما هو حال جابر في عجزه عن انقاذ نفسه حتى على طريقة كنانة إن كان يمكن تسمية ما فعلته كنانة انقاذًا.

ولكن، ماذا عن بديع الزاهر؟ من هو سارق دهن العقول؟ لن نعرف الكثير عن بديع رغم أنه المحرك الأساسي للرواية ودعامة وجودها، كما لن نعرف عن كيفية تأثيره في الآخرين ولماذا يبلغ هذا الأثر من القوة حدَّ دفع امرأة جميلة ككنانة إلى الانتحار، أو رجل كجابر إلى العيش تحت سطوة خبرة مرت وانقضت منذ سنوات طويلة. وفي الواقع يتبدى بديع كرمز ذكوري مُشتهى له سطوة إله وقدرته ومجهوليته أيضًا، وهذا ما يتعارض مع عجز المقولات التي نُقلت عنه في الرواية عن اقناع القارئ بهذه السطوة أو تفسيرها، وفي هذا مأخذ على الرواية التي تركت شخصية خصبة كهذه الشخصية دون اهتمام كاف.

أخيرًا لا بد من ملاحظة إضافية عن تلازم ضروري فرض نفسه على الرواية بين السأم ودوران أفكار الموت من جهة وبين الزمن الذي ألمح إليه راهيم بقوله:

جاء المساء وكان شعوري يزداد قلقاً ناجماً عن شدة التفكير ببطء الزمن، واستغرب قدرة الزمن في محافظته على استقامته دون أن يميل ليشكل دائرة ذات نقاط متشابهة في منح شعور ثابتٍ. ص112

لأقول إن الزمن في الرواية لا يحافظ على استقامته بل يميل ليشكل دائرة تبدأ وتنتهي في المشهد ذاته بعد القيام بدورة كبيرة هي الرواية كاملة بكل أبعادها الفكرية والوجودية. تبدأ الرواية بـ:

إن للبول فلسفة وحكمة...

والتبوُّل عزاء الحزانى ونشوة السعداء...

فكلَّما كنتُ أشعر بالحزن، أخرج إلى البعيد حيثُ العراء، فأجلس على تلك الصخرة المزروعة فوق مرتفعٍ بسيطٍ، وأبول حتى آخر قطرةٍ، وأعود خفيفاً كأني تخلصت من بعض حزني.

لتُختم بهذا المقطع:

شعرت برغبة جامحة في الذهاب إلى تلك الصخرة المزروعة فوق ذلك المرتفع البسيط كي أجلس عليها وأبول وأنا أفكر بالتبرع بكليتي!

حيث يبدو ختام الرواية وكأنه امتداد لانسكاب روحي أكثر مادية، فالتبول كفلسفة وحكمة هو فعل يقوم على إثبات الحياة في الجسد، في عزلته تحديدًا، وهو فعل ينتقل لأن يكون انسكابًا لهذا الجسد في الآخرين من خلال مشاركتهم إياه فعليًا، هذه المشاركة التي تُرك باب حدوثها مفتوحًا لرواية أخرى ربما.

*** *** ***

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني