الأنوثة المستنفرة في "نازك خانم"
لينا هويان الحسن بين الوردة... والمسدس

 

أحمد زين الدين

 

بعد سلطانات الرمل وسواها من متون أدبية وروائية حملت معها أصوات البادية وترجيعاتها التي أصغت إليها لينا هويان الحسن، ونقلت ايقاعاتها ومناخاتها المكانية والسكانية، كان من المتوقع أن تواصل الكاتبة هذا الخط الروائي المتميز والمختلف عما هو معهود في الكتابة الروائية العربية. فهي أجادت في تصويره وتظهيره، إلا أنها آثرت الخروج من مدارات الحياة الصحراوية وفضاء البوادي، إلى عالم المدن في روايتها الجديدة نازك خانم (منشورات ضفاف - الاختلاف)، ولكن من دون أن تتخلى عن قضية المرأة حيثما كانت. المرأة التي تشغل حيزًا وسيعًا في رواياتها السابقة، تعاود حضورها هنا بكل ما تمتلك من إحساس بالتمرد على مكانتها الدونية، والقدرة على المراوغة والغواية، والجسارة على إثبات الذات. المرأة التي تمثِّلها نازك خانم في الرواية التي تحمل اسمها، تشبه المهرة الصحراوية الجامحة، رغم أنها تعيش في عالم الأضواء والشهرة، في قلب باريس، مدينة النور، وكأن الكاتبة بما تسبغه على بطلتها، ما فتئت تنهل من معينها البدوي.

عاشت نازك خانم في العاصمة الفرنسية، في العقود الأولى من القرن العشرين، لتلقِّي علومها الجامعية في السوربون، والتجوُّل في أحيائها، والاختلاف إلى مقاهيها، ومجالسة مثقفيها، وارتياد معارضها ودور ازيائها. وقيل، وفق ما تواتر على ألسنة أهل مدينتها دمشق، إنها وقفت كموديل، عارية أمام الرسام الشهير بيكاسو. وكما كانت التجربة الحاسمة عند بطلاتها الصحراويات الانتقال من أخلاق البادية إلى أخلاق المدينة، كان أمر انتقال نازك من أحضان البيئة الشرقية إلى أحضان الغرب، أو من مدينة الآلام إلى مدينة الأحلام. انتقال دفعت ثمنه غاليًا من حياتها، حين أرداها زوجها بعدما عادت إلى مدينتها دمشق، المدينة التي ارتدَّت إلى حالة من النكوص والتقهقر الحضاري، وقد تجلببت بأثواب الماضي الرثَّة، وطغت عليها بوادر التطرُّف الديني الذي بلغ مداه، حينما سدَّد كمال بيك رصاصته القاتلة باتجاه نازك، بعدما تمنَّعت عن ارتداء الحجاب. وعقب ذلك غادر للانضواء في صفوف جماعة دينية متطرفة.

مثَّلت نازك الأنوثة المستنفرة للمنازلة والمناورة والمخاتلة، وكرَّست نفسها وحياتها للغواية والتألق والعشق. وهي إذ حاولت أن تفك الأغلال والأقفال عن أنوثتها، إنما حاولت الخروج على صورتها الرتيبة والمتحجِّرة التي صاغها العقل الذكوري، والتعالي على منطقه التمييزي النمطي، وعلى املاءاته واشتراطاته. أرادت أن تكون هي بفرادتها وفي مرآة ذاتها، مستشهدة بعبارة المصممة الفرنسية كوكو شانيل: «كوني التي لا يمكن استبدالها، بأن تكوني مختلفة». لذلك اختبرت الحياة بحلوها ومرِّها، ومارست كل أشكال التكوُّر والاعوجاج والتثني، لتستطيع أن تنهض بقامتها كاملة، وفق عبارة الساردة.

أسطورة المرأة

تكونت صورة نازك الفتاة الدمشقية البورجوازية المثقفة، كما تجلَّت في الرواية، من خلال مسار حكائي طويل متعدد العناصر، تضافرت فيه الإشاعات مع الحقائق، والأحداث التاريخية مع الأساطير الدينية والميتولوجية. وتواشجت فيه التداعيات والانطباعات والخواطر والاستشهادات لتشكِّل بنية روائية ذات انتشار أفقي، يشبه البقع اللونية المتناثرة على صفحة اللوحة التشكيلية، إذ لا يُمكن اختزال الأحداث فيها، أو اجتماعها حول بؤرة سردية واحدة، بل هي تشتتها في اتجاهات وخطوط عدة.

تستغل الكاتبة روايتها لتبدي رأيها في صورة المرأة، وما دار حولها من آراء لفلاسفة وفنانين، ونظرة الشعوب والحضارات الإنسانية إلى شخصيتها ودورها في الحياة. وتستحضر صُنَّاع العطور والأزياء والأتيكيت والصاغة والمزينين الفرنسيين الذين صنعوا جميعهم أسطورة المرأة المعاصرة ومواصفاتها الجمالية والجسدية. تستهوينا صورة نازك المرأة اللعوب بمفاتنها وغوايتها. وتداعب مخيلتنا، وهي تتشكَّل في باريس بين يدي صنَّاع الموضة، غير أنها في كل أحوالها، تحاول أن تتمرد على وضعيتها الدونية، وعلى السنن الثقافية التقليدية التي تحدُّ من حركتها واندفاعها.

تستعيد الرواية التاريخ الأدبي والموسيقي والفني لباريس في الستينات، والأحداث والطفرات السياسية والاجتماعية: من تظاهرات الطلاب الفرنسيين عام 1968 إلى دعوات التحرر النسوي، وصرعة البيتلز، وتقليعة الميكروجيب والميني جوب، إلى جلسات جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، وروايات فرنسواز ساغان، وقراءة عوليس لجيمس جويس، وبروز ظاهرة أبطال السينما الوسيمين، وأشكال الرقص...

تقف الساردة طويلاً عند العطور وروائحها وأسمائها وأشكالها، بحيث تلعب الأسماء دورًا مباشرًا في الإيحاء بنوع العطر. وكانت اليزابيت آردن تمنح الاسم أهمية كبرى، على ما تذكر «مارييت جوليان» في دراستها: «تذكروا الاسم، فلن تنسوا أبدًا أريج العطور». وتستعرض القاصة الأطياف اللونية ودلالتها وأبعادها النفسية على المرأة، وتذكر أنواع الأقمشة وموديلات الأحذية وأصناف القلائد والأقراط وماركات السجائر الفاخرة.

الحبيبان

في الرواية نرى امرأة هي نازك، يتجاذبها نموذجان من الرجال: مجيب شان في باريس، وكمال بيك في دمشق. عقليتان متنافرتان. يمثل الأولى مجيب شان الإيراني الأصل، الذي عاش حياة العوز والفقر في طفولته، قبل أن يصبح من أصحاب الملايين، ومن المثقفين الذين يتذوقون الحياة والأدب، ويتفهمون مكامن الجمال عند المرأة. وهو ما استهوى نازك ودعاها لأن تقترن به. أما العقلية الثانية فعقلية كمال بيك الذي يشكل انعطافة في حياة البطلة، ويكشف وجهًا آخر من وجوه القصة، فهو يخالفها بفكرها وطبعها، ويحاول أن يلجم اندفاعتها نحو التحرر. وهو لا يستسيغ الفنون بمجملها، ويعمل على القضاء على كل ما يمت إلى ماضي زوجته بصلة، حيث يشعل النار في صورها، على ما تضفي الصور على الماضي والذاكرة من قيمة وبريق وإثارة للخيال. ولا يدري القارئ ما هي المبررات التي جعلتها تتزوجه، سوى التعبير بكلمات غامضة غير مقنعة بجاذبيته، وبدافع خفي من قدر مجهول. على أن بين الاثنين بونًا ثقافيًا شاسعًا. وعليه تظل نازك خانم أقرب إلى زوجها الأول مجيب شان الذي ارتبطت به أعوامًا طويلة، فهما متماثلان في ثقافتهما ورؤيتهما. ولربما شاكلت علاقتهما علاقة بيكاسو بعشيقته وملهمته الأثيرة دورامار التي لعبت دورًا حاسمًا في حياة هذا الرسام العظيم، مثلما لعبت نازك أمام مجيب شان الدور عينه. وما في العودة الملحَّة والمتكررة في الرواية إلى اللوحة التي رسمها بيكاسو لعشيقته المسماة باسمها دورامار إلا استدعاء لهذه العلاقة الثنائية الخالدة، والتي تعمِّق عملية المماهاة بين بيكاسو ومجيب شان، وبين نازك ودورامار.

ومثلما شُغف بيكاسو بعشيقته المثقفة ذات الأصول المتشابكة، وذات البذخ العاطفي والحسي، والتي أوحت له بلوحة غيرنيكا المدينة التي دمرها القصف الألماني والإيطالي اثناء الحرب الأهلية الإسبانية، فإن نازك الأنثى القوية والصارمة والمغرية والملغزة تمثل نسخة عنها، كما تمثِّل مدينتها دمشق التي تتعرض للقصف والتدمير بديلاً لمدينة غيرنيكا. دمشق المدينة التي

تطفح بالبوابات والأنهر والأضرحة والمقدسات، وتفتح لنا بواباتها وتمتحن قدرتنا على العبور.

ولعلنا إنْ حملنا الرواية على محمل المجاز، لأتيح لنا ان نكشف في وجه نازك خانم وحياتها انعكاسًا لوجه دمشق وحياتها المتأرجحة بين تاريخها الشرقي الأصيل، والتاريخ الغربي الحديث. بين أصالة تأخذ سمت الدعوة الدينية المتطرفة، وحداثة تنحسر عنها تاركة إياها تنتظر مصيرها بين الوردة والمسدس، على ما رمزت إليه حركة كمال بيك، في المقاطع الأخيرة، قبل أن يطلق الرصاص على زوجته نازك.

*** *** ***

الحياة

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني