"ربع قرن من النظر" لسكينة حبيب الله: تصفية حساب مع الوحشة

 

عارف حمزة

 

يأتي الكتاب الأوَّل للشعراء الجدد، خصوصًا منهم كتَّاب قصيدة النثر، مثل يافطات كبيرة وصلبة، لما سيُداومون فيما بعد، أي في الأعمال اللاحقة، على كتابة ما قاموا بحذفه والتخفيف منه في تلك اليافطات، كي تبدو مشدودة بأقلِّ قدر من الكلمات. سيجهدون لإعادة البحث عن الكلام الذي لم يقولوه في ذلك الكتاب الأوّل.

قد يبدو الأمر، من جهة أخرى، بأنَّه حصل بسبب الخوف من التجربة الأولى عند البعض. وهذا الخوف هو الحرص بكلام أدق. وهذا بالضبط ما يبدو هنا عند الشاعرة المغربيَّة الشابة سكينة حبيب الله (1989) حيث نجد الحرص بسبب حبِّها لنصِّها واهتمامها به. لإخلاصها لفكرة الشعر التي عثرت عليها ليس في قراءاتها فحسب؛ بل في الحياة القليلة التي كانت تقبض عليها، بينما كانت الحياة من حولها كثيرة لدرجة قد لا تعنيها تلك الكثرة. مثلما تقول في مقطع لها:

سعلتُ طيلة عشرين سنة
كي أغطِّي على صوت صرير الباب وأنا أهمُّ بالخروج.
لقد سعلت طيلة عشرين سنة
لأجل الباب الذي اهتمّوا طوال العمر لأمره.

لتكتب في مكان آخر:

كنتُ في هذا البيت كالنافذة على الجدار.

في هذا المكان الضيق يعيش الكتاب الشعري الأوَّل لحبيب الله، واختارت عنوانًا يدلُّ على ما يُمكن أن يذهب إلى أحشاء الحياة التي تدور في داخله مباشرة.

ربع قرن من النظر، الصادر حديثاً عن الدار العربية للعلوم (ناشرون)، هو عنوان إحدى القصائد والذي جاء عنوانًا للكتاب نفسه. وهو عنوان يدلُّ على عطالة الحياة في داخل الشخص بقدر نشاطها حوله، فينشغل بمراقبتها والكتابة عنها، وربَّما التحسُّر عليها، بدل الانشغال بعيشها! هو العيش بكتابة الحياة إذا صحَّ التعبير. كما تقول في هذه القطعة:

ربع قرن من النظر
هذا عمري،
وإذا سألتموني عن رأيي
سأقول
بأنَّني رأيت
بما فيه الكفاية.

ورغم جماليَّة هذه القطعة إلا أنَّها تأتي شرحًا زائدًا لعنوان الكتاب، ولما سيحويه الكتاب ككلٍّ.

ما يُضفي الجماليَّة على الكتاب، ضد الشرح القليل الموجود هنا وهناك، هو النظرة الصحيحة، والزاوية المحظوظة في الوقت الطويل لمراقبة ما يجري حولها وداخلها. ولكن يبدو الأمر، مع اختلاف أجواء النصوص، بأنَّ النصوص كتبت على مسافات متباعدة ولكن بالعين الصافية ذاتها. وأيضًا، هناك الهدوء الكبير في وصف الوحدة والوحشة وآلام العيش على هكذا أرض كبيرة لا تخصُّنا...

جمل شعريَّة كثيرة نعثر عليها ببهجة في هذا الكتاب، وهي تدلُّ على نضج مبكِّر لكتابة حبيب الله، وعلى طمع القارئ بانتظار جديدها الذي قد يكون رواية، خصوصًا أننا نعثر على تلك الدراما التي تقرِّبها إلى كتابة معيَّنة لمدرسة اشتهرت في شمال أفريقيا، وبخاصَّة في مصر، بقدر ما تقرِّبها من معرفة صوتها الجديد في «مغرب» صارت تصلنا منه أصوات جديرة بالقراءة، وقصيدة النثر على وجه الخصوص. ومن الجمل التي نختارها هنا لحبيب الله على سبيل المثال:

-        أدرنا ظهرنا
للعالم
كمايسترو.

-        هذا البياض في عينيّ بحيرة متجمّدة.

-        لقد كنَّا سعداء
قبل أن تأتي هذه الحروب.

-        كرسيّ عازف البيانو بلا ظهر:
الموسيقى
تقوم
باللازم.

-        الذي لم تفلح كلُّ هذه الطيور، التي تعشِّش داخله، في جعله يطير مثلها
ليس شجرة
إنَّه صدري.

-        من الأسفل ترنو عيناي نحوي
بنظرة الحبِّ التي لطالما
تمنَّيتُ لو أفنى لأجلها...

هناك نصوص كاملة تبدو مكتوبة بلا هوادة وبنفس واحد، هو نَفَس تصفية الحساب الباهظ مع الوحشة. مع وحشة الحياة والآخر. ولكنَّه نَفَس الشعر الخالص، كما في نص أبواب الذي تقول فيه:

كما يعبث الصغار بالأبواب الأوتوماتيكيَّة
يقتربون منها.. فتفتح لهم
لكنَّهم لا يدخلون
ويركضون بعيدًا
ثمَّ يقتربون
يُعيدون الكرَّة
وهكذا تظلُّ الأبواب تفتح على أمل وتغلق بخيبة
كأن أحدًا ما
يعبثُ
بباب
قلبك.

الوصف الكثير الذي تحتويه النصوص، مع كثرة أدوات التشبيه، والشرح الذي تحويه، مع كثرة أدوات الوصل، هو بسبب تلك الدراما من جهة. وأيضًا بسبب «خفَّة الدم» التي تحاول حبيب الله من خلالها إضفاء بهجة على نصوص ستبقى حزينة، عن أشياء وشخصيَّات ونباتات تواجه مصيرها الدمويِّ من دون انتباه من أحد. فحبيب الله تقوم «بأنسنة» كل شيء من حولها، كي تشرح الخواء الذي تعيشه في صور وحيوات متعدِّدة.

ما يجعل هذا الوصف وذلك الشرح خفيف الوطء على القارئ هو تلك النهايات التي تختارها حبيب الله بمهارة كي تدهش القارئ. لا يبدو الأمر نقصانًا بقدر ما هو استدراج. كأنَّ تقول مثلاً:

أيُّها اليوم الذي لا خسارة فيه
لمَ
لا
تأتي.

مع جمالية الكثير من عناوين النصوص، إلا أنَّ كلَّ الكتاب يبدو مناسبًا له العنوان الأصلي للمجموعة. إذا تبدو جميع النصوص تقريبًا مقروءة ومرتاحة، تحت ذلك العنوان الشعريِّ المناسب.

ستة أقسام تحويها هذه المجموعة الشعريَّة وهي: "مَن يُلبس الدمعتين الحافيتين حذاء؟". و"ربع قرن من النظر". و"مَن سحبَ من تحت الحياة كرسيَّها؟". و"مَن وضعني على كفِّ الحياة وانصرف؟". و"من أيَّة شجرة احتطبوا طيننا المُتعب؟". و"بما تحلم البيوت حين تُغمض النوافذ". وفي كلِّ قسم نعثر على حيوات مختلفة؛ وهذا ما يُعطي حيويَّة للكتاب بالنسبة لقرَّائه.

تجربة حبيب الله، في كتابها الأول هذا، جديرة بالاحتفاء. والأسئلة التي حملت عناوين نصوص الكتاب هي استدراج للقارئ إلى كمين الشعر. وما قلنا عن محو الكثير من الكتابة في هذا الكتاب الأوَّل تقوله حبيب الله في القسم الأخير من الكتاب؛ حين تكتب:

شموس كثيرة غربت لحدِّ الآن
لكنِّي لم أقل شيئًا بعد
بيديَّ هاتين
خنقتُ كلامًا كثيرًا
وأهلت عليه الكثير من الدموع.

*** *** ***

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني