القطار

 

حسن شوتام

 

جمعت أغراضي ذات صباح بهيٍّ، واتجهت صوب القطار. كان أملي وأنا أجوب شوارع المدينة الصامتة الوصول في الموعد المحدَّد هذه المرة! نعم، فكلما حاولت تخطي زمننا المترنح على متن قطاري الغاضب السريع، يفاجئني هذا الأخير بغيابه ورحيله المبكر، مع أني لست بذلك المتراخي فأحيانًا أستيقظ قبل استيقاظ سائق حلمي "القطار".

كان أملي إذن الوصول في الوقت المحدَّد، لكم تمنيت أن أحققه ولو لمرة واحدة في حياتي. كان أملي عاليًا، أسلمتُ قلبي وعقلي ونفسي له ولم ألبسه قط بباقيات آمالي الغالية! لكن ذاكرتي تنتصب أمامي حصنًا هلاميًا يحول دون دخولي أزمنة التحقق، تعالجني بضربة مفاجئة فتبقيني رهين أزمنة التهيئة وأخطائها.

أجل... وأنا في طريقي تتقدَّمني ذاكرتي النشيطة الجامحة في اندفاع وحشي مثيرة بقايا إخفاقاتي ومستمطرة سهام محاولاتي الفاشلة، فأسقط كعادتي في دوامة الاستصراخ.

من يُصعدني من جُبِّ الهلاك؟ من يحلَّني من رباطات القلق وينتشلني من مياه التهديدات الهادرة؟ كنت أستصرخ وحيدًا وكان صدى وهني يتردد، كنت أقاوم وأقاوم ولكن وحيدًا وحيدًا!

جنَّ عليَّ الليل وأنا أحثُّ الخطى في اتجاه المحطة. لم أكترث بالصمت الذي حاق بي من كل أوب، ولا بالسواد الذي امتصَّ بريق عينيَّ، كنت أسرع وكان أملي يقترب، أسرع وهو يقترب وفجأة توقفت! لم أبلغ هدفي بعد، ولكن توقفت أو بالحريِّ تعثرت ولم أستطع تجنب ذلك، ولم تبذل هي أدنى مجهود لاستبقائي.

إنها قطتي الممشوقة "عادة"، وبنوع من التدقيق الحلقة الأضعف في السلسلة، أقصد سلسلتي أنا أما سلسلتها هي فمحكمة حول عنقي، تدافع عن حقها الطبيعي في الظهور متى صرفتني عنها أهداف كبرى، تقاوم التفاصيل باستماتة وتتمنَّع أكثر أمام أي استمالة رقيقة تبغي رقعة أو قطعة أو لقطة من ملء المشهد، فهي تدرك تمامًا أن عضة خفيفة من قطتي الصغيرة الناعمة تكفي لشقِّ جرح لذيذ أنزلق فيه وخلفي كل غاياتي وأهدافي وأسئلتي الكبرى.

هي العادة، الحلقة، اللسعة، الصفر الذي ندخله آمنين متحفزين ثم نخرج منه بعد برهة وأحيانًا بعد هربة متعبين وبالخزي ورائحة الندم مضرَّجين! هي ذي الآن تراودني عن نفسي، تتمسَّح بأعتاب جسدي وكأنها تستعطي المفتاح، مفتاحي الذي تعرفه جيدًا لا يتحرَّج من فتح كل الأبواب، أمامية كانت أم خلفية. ولأن عادتي الجميلة تعشق الحرية فلا بأس أن نجرِّبه في كل الثقوب ونسوِّي به كل التضاريس ما علا منها وما انخفض، فمتى وقع المفتاح لا قدَّر الله بين مخالبها، تُسقِط كل السقوف والحواجز والجدران فلا تُبقي لي غير حُوَيط أهتدي به بعد أن أعمي إلى قبس مِنِّي!

كانت هي العثرة تلك الليلة فيما كنت أسرع لبلوغ المحطة وكنت أنا المفتاح الذي أدخلني لعبة الكرِّ والفرِّ لأنتهي للنطحة التي تنشدها قطتي "عادة". المضحك/المبكي يا أحبائي... بعضكم ربما يشكُّ في نقاوة هذه المحبة لكن ثقوا "عادة" واحدة تكفيني، أنها فور حصولها على الحصة الكافية من اهتمامي ينبت لها على حين غرَّة ذيل خرافي متين تُحكمه حول عنقي بلا هوادة وتبدأ في جلدي بذيلها الطبيعي الذي لا أخطئ أبدًا رسائله الأصيلة، على ظهري ووجهي ومؤخرتي، ومع كل جلدة ينفلق ضميري ويكبر هو الآخر في لمح البصر، الأشياء... الأصوات... الروائح... الخواطر... كلُّ شيء من حولي ينمو ويكبر ويرتقي، يُنتخب في طرفة عين، إلا أنا، وحدي فقط أنغرز في كبد الطريق حائرا خائرًا باحثًا عن ورقة مهملة أو رقعة بسيطة منسية على "كلاينكس" لأواري بها ردم النطحة.

شيئًا فشيئًا أصغر فأفزع من هول هذا الضمور إلى كدسة من "كراتين" متهالكة على رصيف العطفة الأولى بالشارع الرئيس، أدفن رأسي كلَّه في أول خوذة دونكيشوتية متاحة لأفصل وجودي عن كومة الأشياء والروائح والأصوات والخواطر والأمواج التي كانت تنمو وتكبر وتنتفخ في اطراد وتهيئ السبيل لمرور قطاري السريع الغاضب.

في زحمة الأشياء الرخيصة أضيع أكثر مشتهيًا تحلُّل عناصري الدقيقة وجزيئاتي الساكنة. أفتح صفحة الـ "كلاينكس" على بقايا نوعي وسلالتي الافتراضية، أبني من ردم النطحة الهلامي قبة كبيرة وأسيجها ملكية خاصة لتصير قِبلة وقضية، أستعجل التطبيل والتزمير لهذا الحدث الجديد، أنا الآن مندمج بالتمام في لعبة التحول، غارق في ردم النطحة، سعيد بهذا التأمل والتوحُّد، منفصل بالكمال عن كل الهواجس والأفكار والأحلام والقيم التي تسمو، عن صفير القطار الواثق الماكر الذي يعلو الآن ويعلو ويعلو.

صه! إني أختنق... نعم أختنق... ابعدي عني يا بروق، وارحل يا شبح الدماء الممقوت.

لا أريد جرعة ثانية من ذاكرة عليلة، لا أريد.. لا..لا..لا.. من يُصعدني من جبِّ الهلاك؟ من يحلُّني من رباطات القلق وينتشلني من مياه التهديدات الهادرة؟ من؟ من؟ من؟

تكاثفت أسئلتي على سطح المرآة فيما كنت أتحقق من هندامي قبل مغادرة الشقة. حاولت إنهاض نفسي ببعض الابتسام، بيد أن أسئلتي راكمت في بذخ سريالي سحابة جريئة طمست ملامح وجهي وكأنها تمارس الاعتراض. استفزتني ضبابيتها فلوَّحت بسبابتي محذرًا في البداية ثم رشمت علامة استفهام عريضة راقصة على أديمها الباكي لأنسلَّ من الحمام إلى غرفة النوم حيث مرآة الدولاب الصافية.

في وسعي الآن مصارحتك يا "أنا"، مصاحبتك ومصالحتك، أليس اثنان خير من واحد؟ تحالفنا إذن سيثمر نجاحات لافتة وسيعلم كثيرون أنك الوحيد الذي كنت في صفي أبدًا ولم تقاوم تحركاتي قط.

ماذا؟ ما زال أمامنا متسع من الوقت؟ حسنًا سأغير ربطة عنقي، القطار بني داكن ومحفظتي الجلدية سوداء لامعة، جيد.. هذه إذن توافق البذلة ومتناغمة مع الأجواء على متن القطار، تعرف يا صديقي رمزية هذه التفاصيل وما تخلقه في نفوسنا من اعتداد وثقة، تسعدني مصادقتك على وجهات نظري الأثيلة، وأيضًا أظنك أسعد بطاعتي لكل التعديلات التي تشير لها مرآتك النقيَّة، أستطيع الآن تفهُّم غضب القادة ومن هم في منصب من أي مقاومة ذاتية تقف في وجه رسائلهم الجبرية، طيب.. سأغادر الآن هذا المكان وأنت بدورك ستعانق في الخارج أديم الأرض وتضحي ظلي الأنيس والشاهد الأمين الوحيد على تفاصيل الرحلة. من ابتدع فكرة اليد الواحدة التي لا تصفق؟ حسنًا.. أنا مصمم هذه المرة على بلوغ قطاري بل قياديته ولن تشغلني عنه أسئلة جانبية!

وقفت بباب الشقة ثم دفعت يدي برفق في جيب البنطلون الأيمن لألتقط المفتاح فلم أجده، تحسست الأيسر براحة يدي فقط ثم جميع جيوب قطعتَي البذلة فتبيَّنت عدم وجوده، حاولت تهدئة نفسي القلقة بكذا عبارات وأقوال مأثورة لعلَّ ذاكرتي تنجح في ترتيب الأحداث والخروج من متاهة حركاتي القصدية والعفوية بشيء يوصلني إلى مفتاحي المفقود، هيا.. بالهدوء والطمأنينة تكون قوتك! ركِّز أكثر.. ركِّز.. يا إلهي من سدَّ الباب أصلاً؟ من أدار مفتاح القفل؟ هل دخلتُ الشقة وأغلقت الباب خلفي دونه؟ لكن من له مصلحة في حبسي بهذه الطريقة؟

-       هل أضعت شيئًا يا عمي؟

جاءني الصوت من وراء الباب متبوعًا بضحكات مكتومة وأدركت عندئذ أن القصة محبوكة وبفعلة فاعل مستتر تقديره "هو"! ومن غيره، "ابن كريمة" السخية في إطلاق دفعات متتابعة من الأطفال، الحريصة على إرضاعهم لبن الرصيف وتدريبهم على قطع مسافات قصيرة وطويلة بالشارع الرئيس. لكن لم أتوقع هذه الطفرة المُجنَّحة. كيف تمكنوا من الصعود في غفلة من البوَّاب؟

-       اسمع يا ابن... إن تفتح الباب أصفح عنك!

-       وإن لم أفعل؟

-       تعقَّل يا "ابن اللئيمة" وإلا خابرت قسم الشرطة!

تردَّدت كركراتهم المخنوقة مثل الشخير المتقطِّع في فسحة الدور الرابع من المبنى، ولولا قلقي الطبيعي الذي أبقاني داخل نظام أولوياتي ولائحة أعمالي الأساسية، لانبثقت من وسط نزقهم كائنًا فانطاستيكيًا يُدير في نشاط خالص أغصانهم المكشوطة فتفرخ في لحظة خلق عجيبة، نعم تُفرخ جميعها في غفلة من الإله ودون اصطفاء أو انتخاب كهنوتي، دمى وأحصنة وكرات ممجَّدة لا تتفكك أو تنحلُّ عناصرها بفعل الزمن.. أجل تُثمر لهم الأغصان عناقيد لعب!

-       اسمعوا يا صغاري! سأكون كريمًا معكم وأشتري لكل واحد منكم لعبته المفضلة. فقط افتحوا لي الباب. أمامي فسحة قصيرة من الوقت لبلوغ محطة القطار. افتحوا الباب الله يفتحها عليكم!

-       لا نريد لعبًا يا عمي!

-       أظنك "سلمى" الشطورة. أعرف أنك طويلة القامة (طويلة اللسان أيضًا) وفي إمكانك إدارة المفتاح. أعدك بأنني سأشتري لك مع اللعبة فستانًا جميلاً.

-       عندي الكثير منها. لعب وفساتين.. فساتين ولعب.. ومن كل محلات المدينة وطبعًا شطارتي في خفَّتي!

-       لكن السرقة حرام يا بنتي! وإدارة المفاتيح المنسية بالأقفال حرام. القطار سيرحل بعد دقائق. حرام عليكم يا صغاري! أنا رهن إشارتكم جميعًا اطلبوا ما تشاءون.

-       نريد.. نريد.. نعمممممم.. نريد أبًا وأمًا!

-       الأغصان لا تثمر آباء وأمهات يا أولاد الـ.....! اسمع يا "ابن كريمة"، ربما نجحت في استغفال بواب عمارتنا العجوز لكنك لن تفلت من قبضة بواب المبنى المجاور.. لدي رقم هاتفه المحمول وسأخبره الآن بما فعلته وعصابتك!

استعمر الصمت قلب الشلة لبرهة قصيرة وكأنني استحضرت غولاً في وسطهم، تنحنح أحدهم بصعوبة فتخيَّلت وجوههم شاحبة مصفرة لكأن بواب المبنى المجاور رفع عليهم غضب طلعته فنضجوا قبل الأوان، وكطلقة مدفع متهالك اندفعت المجموعة بلهوجة في سباق مجنون عبر سلالم العمارة. كانوا يتدحرجون على الدرجات مثل حبات سبحة انسلَّت من خيطها وسمعت صوت ارتطامهم ببعضهم البعض وتكدسهم في صدر فسحة الدور الثالث قبل أن يستأنفوا انحدارهم إلى الثاني.

بكَّتني ضميري على الورقة الحمراء البغيضة التي أشهرتها في وجوههم، إذ ليس من رجل عاقل يستنجد ببوَّاب مشكوك في ميولاته الجنسية، وفوَّحت قصص تحرشاته بالأطفال في أرجاء الحي، لكن حاجتي الملحَّة للخروج من شبكة شقاوتهم أوقعتني في المحظور دون تقدير للنتائج.

من ابتدع فكرة اليد الواحدة التي لا تصفق؟ انبثق هذا السؤال من جديد من رغوة أفكاري المتلاطمة وعلى سطح فقاعاتها الرقيقة تراءت لي عشرات الأيادي المرتعشة وهي تستنجد وتستعطي اليد الثانية التي بها وحدها ستصفق. أي هدير كان سيحدث لو استنجد غريق بغريق؟ وفي زحمة الأيادي واختلاطها عنَّت لي يدي الآثمة المتواطئة وهي تقبِّل باطن يد بواب المبنى المجاور مصفقة لسقوط "سلمى" وجرح "ابن كريمة" وانكسار القلوب البريئة، كم يتيمًا دُحرج من علٍ أيتها الأيادي المرتعشة المتواطئة؟

صدى انحدار الشلَّة ما زال يرتطم بحافة قحف رأسي وأنا خلف باب الشقة أقف مذهولاً من الأحداث التي انهالت عليَّ في لحظة. صفعتني حقيقة فشلي في بلوغ المحطة واستقلال القطار، أرخيت ربطة عنقي ووضعت محفظتي على منضدة قريبة. حاولت تجاهل المجموعة الهاربة لكن أنفاسهم اللاهثة كانت تطرق باب شقتي بقوة كمن يطلب اللجوء والحماية. ابتسمت في سخرية ثم دندنت في سرِّي: خذني معك خذني معك يا سائق القطار.. خذني إلى سهولنا ومرَّ حول بيتنا.. يا سائق القطار.. يا سائق القطار..

صه! إني أختنق.. نعم أختنق.. ابعدي عني يا بروق وارحل يا شبح الدماء الممقوت.

لا أريد جرعة ثالثة من ذاكرة عليلة، لا أريد.. لا.. لا.. لا.. من يُصعدني من جُبِّ الهلاك؟ من يحلُّني من رباطات القلق وينتشلني من مياه التهديدات الهادرة؟ من؟ من؟ من؟

*** *** ***

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني