ديانة أوزيريس

جورج آدوم

 

بعد دراسة ديانة ميترا، نتطرَّق الآن إلى دراسة واحدة أخرى تؤكد لنا بأن لكل الديانات أصل مشترك، وهو أنها تقوم أساسًا على قاعدة سر الجنس.

من وسط العماء وُلِدَ أوزيريس، وعند ولادته، سمع صوتًا كان يقول: "وُلِدَ حاكِمُ الأرض كلها". ومن الحضن أو الرحم نفسه وُلِدَت إيزيس، ملكة النور، وتيفون Tífon، ملك الظلمات. إذن، ها نحن أمام الثالوث الأساسي.

يقول كتاب الموتى: اعرف اليوم الذي يتوجب عليك أن تتخلى فيه عن أن تكون (توجَد). اعرف تضحيتَك. كما جاء في الكتاب المقدس "له السلطة على منح حياته واستعادتها. وقتله يتم طوعًا منه فهو الذي قد شاء ذلك". (أشعيا)

إن الله كائن في الألم. أوزيريس هو ابتسامة الذين يبكون. إن أوزيريس كائن في الأضحية التي تضحِّي بنفسِها، وكائن في حبة الحنطة التي تموت فتخرج منها سنبلة يتم حصادها، وفي النيل الذي يتناقص، وفي الربع الأخير من القمر المتناقِص، وفي كل ألم، ولكن فوق ذلك كله فهو كائن في الألم الإنساني.

كان أوزيريس إلهًا وإنسانًا في الوقت نفسه، فهو إله بالفعل، وإنسان بالفعل. جاء في رسائل بولس: "تواضع متخذًا صورة عبد".

عمَّن نحكي على هذا النحو؟ عن أوزيريس؟

كلا، فأوزيريس ليس أكثر من ظل الجسد غير المرئي. ولكن هذا التشابه بين الجسد والظل هو أكثر الأسرار غير القابلة للسبر في مصر.

في التخوم الرملية لصحراء ليبيا حتى عمق السهل الكبير نصف الدائري لـ آبيدوس Abidos، في مضيق صخري، پيهر Peher (Ulel – Hakab)، هناك حيث الشمس تغرب، تم العثور على قبور ملوك مصر الأكثر قدامة، وفيما بينها Sacórfago أوزيريس. وأسفرت حفريات العالِم الفرنسي آميلينو Amelineau في آبيدوس Abidos بين عامَي 1897 و1898 عن اكتشاف نقوش على هذه القبور تشكِّل شاهدًا غير قابل للرد يدفع للاعتقاد بالعثور فعلاً عن نعش الرجل – أوزيريس - كشخصية تاريخية. وهو الفرعون الثالث من السلالة الأولى.

تستريح مصر كلها في المُعتقَد بأن الرجل–أوزيريس أو الرجل–الله، قد عاش وتألم ومات على الأرض.

النصب التذكاري الوحيد المحفوظ يشير إلى تدوين حول أسرار أوزيريس يُحتفَل بها في معبد آبيدوس Abidus: "آلام أوزيريس" كان يجري تمثيلها في دراما كما هي آلام "الرب" في أسرار القرون الوسطى. وفي الصمت كان يتردَّد (كالصدى) صراخ فجائي، إنه نواح إيزيس على أوزيريس الميت.

مصر كلها، تدير ظهرها إلى أوزيريس الذي يموت وينظر إلى الله الذي يبعث، ولا يريد رؤية الموت ولا الألم، حتى وهو يعلم أن الألم والموت إلهيان.

أضافت حكاية مصرية قديمة منذ آلاف السنين القديمة حكاها بلوتاركو Plutarco، يوناني من القرن الأول والثاني، في حقبتنا هذه كان كاهنًا كبيرًا للإله أبولو في دلفي Delfos. ففي مقالته حول إيزيس وأوزيريس، يقول:

في أزمنة أخرى، كانت الآلهة تعيش على الأرض مع البشر، والإله الكبير را الذي كان يسكن في هيليوبوليس Heliópolis (مدينة الشمس) يحكم مصر.

آنذاك لم تكن بعد الأرض منفصلة عن السماء، وكان البشر كالآلِهَة. ولكن أخلاقهم فسدت، وتنكروا للإله الوحيد. وقالوا: "انظروا إليه فهو قد شاخ وهرم. عظامه كالفضة، ولحمه كالذهب، وشعر رأسه كأقلام لازوردية، وأعضاؤه ترتجف، ولعابه يندلِق من فمه". وهكذا أخذ البشر يسخرون من الإله. فاغتاظ الله وفوَّض إلهة الحب Hótor أن تُبيد النوع البشري. وأخذت Hótor تبيده، ولكن لم يكن ذلك بالكامل. فالإله مدفوعًا بالشفقة نحو البشر، غمر الأرض خلال الليل بمشروب مُثمِل. وحينما أتى الصباح دخلت الإلهة في ذلك البحر ورأت وجهها منعكِسًا على سطحه فابتهجَت بجمالها. وذاقَت المشروب الكحولي فثمُلَت وأوقفَت إبادة النوع البشري.

ولكن الوحدة القديمة للسماء والأرض قد عانت انفصامًا. وقال الله: "قلبي تعبان. ولا أريد أن أعيش مع البشر، ولا أريد محقهم بالكامل". وغادر الإله الأرض، وصعد إلى السماء. وقام بفصل الأرض عن السماء. فهكذا هم اليوم أيضًا، وسيظلون هكذا حتى نهاية الدهر. هكذا انتهى العالَم الأول وبدأ الثاني.

عندما صعد الإله إلى السماء، ترك البشر، وهؤلاء بدورهم أخذوا يفترِسون بعضهم بعضًا كالحيوانات الوحشية، وكادوا يبدون أنفسهم لو لم يعقب ذلك قدوم أوزيريس. فهو وُلِدَ كمائت مثله مثل الآخَرين، وبوصولِه إلى عرش الملك ليملك على مصر أبعد البشر عن وجودهم الوحشي، فعلَّمهم زراعة الحبوب، وسنَّ لهم القوانين، وأسَّسَ عبادة الإلهة. وفيما بعد جال العالَم، مُعلِنًا مُلكه، ومُخضِعًا الشعوب كلها، ليس بقوة السيف، وإنما بقوة الحب والغناء والموسيقا والرقص. وعندما رجع إلى مصر، قرر أخاه ست Tífon – Set أن يقوم بإهلاكه بالاشتراك مع اثنين وسبعين متآمِرًا. فاتخذ سرًا القياس الصحيح لجسمه، وعلى أساسه أنشأ صندوقًا مزينًا بعظمة، وقام بدعوة أخيه إلى مأدبة. وخلال المأدبة الاحتفالية، أحضر الخدَم الصندوق. واندهش المدعوون جميعهم وبينهم ست Tífon – Set بجمالية الصندوق. فوعد الأخير بتقديمه هدية لمن يكون ذا قامة تتوافق مع أبعاد الصندوق.

تمدَّد الاثنان وسبعون متواطئًا الواحد تلو الآخَر في داخل الصندوق الذي لم يكن بالواقع على قياس أي واحد منهم. وفي النهاية، تمدَّد أوزيريس نفسه في داخل الصندوق. وإذاك هجم الجميع على الصندوق، وقاموا بإغلاقه واضعين مساميرًا قاموا بتثبيتها بالرصاص الذائب، ثم أخذوا به إلى نهر النيل، وقذفوا به إلى الماء، فأخذ يطوف (منزلقًا بهدوء نحو البحر).

سارَت إيزيس زوجة أوزيريس تبحث عن جسد زوجها خلال وقت طويل تائهة في الأرض كلها. وفي النهاية عثرت عليه، وبصراخ وبكاء تركت نفسها تتهاوى فوقه وتضم رأسها إلى الميت، وتقبله وتسكب عليه دموعها. فيما بعد، انطلقت مجددًا في سعي إلى ابنها حورس Hórus، ضائعًا هو الآخر، تقوم بإخفاء الصندوق مع جثمان زوجها فيما بين أقصاب بردي النيل. ولكن ست Tífon – Set بينما كان يصطاد خلال ليل قمره بدر، لاحظ الصندوق تحت أشعة القمر وتعرف عليه. فقام بسحب الجثمان منه، وقام بتمزيقه أشلاء إلى أربعة عشر جزءًا ونثرهم في الرياح الأربعة.

تدرك إيزيس ما حصل، وتبدأ في البحث مجددًا. وتقوم بجمع الجزء الواحد بعد الآخَر، وبقايا الجسم المقطع، تجمعها وتقيم المائت.

"تأخذنا هذه الرموز إلى معرفة الله" وفقًا لـ"بلوتاركو" Plutarco، ولكنه هو نفسه غير قادر على فك شيفرة هذه الرموز.

الجسد هو نعش الروح المدفونة في هذا العالَم. وهكذا سقط "أوزيريس" في صندوق ست Set، في الجسد – النعش: وُلِدَ ومات طوعًا: "يعرف اليوم الذي يجب عليه إخلاء نفسه".

إن الولادة سقطة، والقيامة نهوض، أوزيريس يسقط لكي ينهض، ويُنهِض جميع الذين سقطوا، فهو يموت لكي يولد هو نفسه مجددًا ويُنهِض الآخَرين.

إن النعش المصري غطاء خشبي وحجري للمومياء. وبالضبط يعيد إنتاج لا هيئة الجسد فحسب، بل أيضًا فتحات وجه الميت نفسها. فالجسد يُعرَف من خلال النعش. إنه نعش المقاسات الدقيقة. فهذا هو مبدأ التمايز والاختلاف. فالإله المُقطَّع هو العالم المتعدِّد: "أنا واحد، مفعول اثنان، أربعة، ثمانية". ههنا السبب الذي جعل ست Tífon يقطع أوصال جسد أوزيريس بواسطة أربعة أحصنة.

ولكن إذا كان أوزيريس إله، فمن يكون ست Set؟ الشيطان؟ كلا.

"كمال الكائن هو أنني نكِرَة واللاشيء هو في داخلي: أنا ست Set، الصفر بين الآلهة. ومع ذلك يوقِفُ حورس Hórus! ست Set يُستقبَل في عدد الآلهة". هكذا يقول أوزيريس Osíris لابنِه والمنتقِم له حورس Hórus.

هذا يعني أن أوزيريس وست هما واحد، كلاهما وجهان نقيضان للإله الواحد. أوزيريس يدرك اليوم الذي عليه أن يتخلى فيه عن أن يكون. هذا "الإخلاء لنفسه" هو بالضبط اللاشيء في الله أي ست Tífon – Set.

هذه هي الرموز التي تقودنا إلى معرفة الله.

القديس كليمنصو من الإسكندرية، كان قبل اهتدائه للمسيحية، مسارَرًا في عدد كبير من الأسرار الوثنية، فيما بين الأخرى منها تلك التي لأوزيريس. تذكَّرَها عندما قال إن الحكمة اليونانية تنظر إلى الحقيقة الأبدية في "الصلب أو التقطيع الذي يقوم على تعليم لاهوت اللوغوس الأبدي".

عندما ماتت إيزيس، تم دفنها في حَرَج بالقرب من مِنفيس Mênfis وعلى جدثها تم تشييد تمثال مغطى بحجاب أسود من القدمين وحتى الرأس، وفي الأسفل كُتِبَت هذه العبارات الإلهية:

أنا كنت ذلك الذي كان، وأنا كل ما سأكون، وما من أحد بين الفانين يتجاسر على رفع الحجاب.

تختفي تحت هذا الحجاب الأسرار كلها، وعُرِفَ بعض منها من خلال الإنسان، حيث لم يعثر على حل لها. فقط استطاع الإنسان أن يرفع الحجاب الميترا والكريشنا والمسيح، وقد يكون بوسعه إذا ما أراد أن يتبع خطواتهم. وإذا ما ثابر الإنسان في شوقه للتأله، فإن النور سوف يلتمع من خلال الحجاب، وسوف يكون بإمكانِه أن يرى من ورائه.

لذلك يجب مواجهة الحقيقة من دون الأخذ بالحسبان كم تتعارض مع المعتقدات أو الآراء القديمة. إن عاشق الحقيقة يستطيع أن يرفع الحجاب.

إيزيس وأوزيريس هما أب وأم كل الأسرار. فالآلهة كلها هي بدائل عن هذين الاثنين وعن ابنهما حورس. إيزيس هي مايا، وماريا، والمادة Matéria، والأم Mãe، بقدر ما هي للإنسانية فهي كذلك للآلهة.

حورس Hórus هو الابن، اللوغوس، الفعل، المسيح، ابن مريم أم الله. إنه رمز النور الذي يقول: "أنا هو نور العالم فمن يأتي إليّ لا يمشي في الظلمات. أنا ما يكون الخالق عليه، وعلى الفور أكون هو وهو أنا".

فبالنسبة لإيزيس نحن فانون، ولكننا نكسب الخلود من خلالها أيضًا.

ففي إيزيس – المادة ينام النور الإلهي للروح، ولكن النار "الخالق الأبدي" (أو الشوق الجنسي الذي هو نار ونور) لا يمكن إطفاؤها إطلاقًا. وتتكرر في ديانات الأسرار كلها. ففي الديانة الهندوسية نرى أن شيڤا يبتر براهمان مثلما فعل Tífon مع أوزيريس والخنزير البري الذي قتل أدونيس.

أوزيريس الذي هو نار خالق إلهي في المادة، كان يُعبَد من خلال الشمس، ويُعرَف تحت أسماء مختلفة: فيما قبل كان يُدعَى ميترا، ثم براهما في الهند، وفيما بعد أدونيس فينيقيا، وأپولو في اليونان، وأودين Odin عند الاسكندنافيين، وهو Hu عند البريتانيين، ويسوع عند المسيحيين... إلخ.

فإذا اتخذ الشعب الشمس إلهًا عوضًا عن الشعور بالإله من خلال النار والنور الإلهي اللذين هما في كل كائن، لا يكن المسارِرون هم المسؤولون عن هذا الخطأ. أمَا قال نور العالم: "يا امرأة! سوف يأتي يوم حيث لا تعبدون الله لا في هذا الجبل ولا في أورشليم، ولكن في الروح والحق"؟ في حين أنه حتى اللحظة الحاضرة فما زال الشعب يعبد الله بوساطة صورة مطبوعة أو هيئة ما. علَّمَ المُسارِرون دائمًا أن الشمس مانحة الحياة لم تكن سوى رمز القوة الكونية الخلاَّقَة، والتي عُرِفَت وتم الشعور بها من خلال العظماء كالشعلة الداخلية والنور الذي لا يوصَف.

تلقَّت إيزيس أسماء، سيريس، إزلين، ڤينوس، ڤيستيا (إلهة النار المقدسة) حيث اتخذ كهنة الإلهة اسمها لهم. وهناك فيما بين الهنود اتخذت أسماء سيبيلس Cibiles ونيوبي Níobe، وماليس Mális، وأوسّي Óssi. وبين الصينيين پوسّا Pussa، وسيريديو Cerideu بين البريتانيين القدماء، وماريا بين المسيحييين.

العارِفون الكلدانيون كعلماء الفلك والمنجمين المشهورين، اكتشفوا قوانين ما زالت صحيحة إلى اليوم، وأعطوا اسمًا لكل نجمة، وعيَّنوا لكل يوم من السنة نجمة. وفيما بعد جسد اليونانيون هذه الأسماء في أساطير. وفي النهاية تمت شخصنتها على أنها أشخاص. وتأصَّلَت في هذه الأساطير الملائكة، والجن، والأبطال، والقديسون.

تحوي الميثولوجيا في ذاتها الحقيقة الدينية كما يقول شيلينغ Schiling. فالدين ليس ميثولوجيا، وإنما الميثولوجيا هي دين.

الأسطورة الكونية للإله الذي يتألم ويموت مقتولاً أو مصلوبًا، ليست صادرة لواقع أنها حصلت ذات مرة، بل في كونها تحدث دائمًا، وأنه يتم الشعور بها مجددًا في حياة كل كائن إنساني. لم تحدث مرة ولكنها تحدث دائمًا. فالمسيح، هو النور المتخفِّي في الوثنية يتجلَّى في المسيحية.

قيل آنفًا إن الإنسان قد وصل الأمر به أن جعل من الله المفهوم الذي يُتاح له في تربيته الفكرية والاجتماعية. ولهذا السبب فكثير من الناس الحاليين، عند رؤيتهم للمعابد القديمة لـ Serápis، وڤينوس، وأپولو، وآخرين، يسألون أنفسهم: "أي إله كانوا يعبدون هؤلاء الحمقى آنذاك؟" وبالنسبة لهم فإن بنائي هرم خوفو Queóps، الرائعة العلمية عبر العصور، ليسوا أكثر من حمقى. تفاهات أبدية قيلت عن الأمور الأزلية. وعندما تم اكتشاف مومياء للفرعون رمسيس فقد تم تغليفها بأوراق صحيفة الزمان Les temps وتم نقلها إلى القاهرة في عربة. وقام بوزنها مفتش الجمرك، وبما أنه لم يعثر في التسعيرة على التصنيف المناسِب، قام بتطبيق ضريبة السمك المجفف عليها. وهكذا، بالنسبة إلى علمائنا الأوفياء، فإن جسد الديانات القديمة ليس أكثر من سمك مجفف.

هل حاول مسيحي ما على سبيل الذكر، على الأقل أن يبحث عما تحت غطاء الأسطورة لكي يعثر على السر؟ كلا، لأنه ما من أحد اشتبه بأن حقيقة الأسطورة أيضًا تكمن في السر.

عمر Omar عند إحراقه لمكتبة الاسكندرية، قال: "إذا كانت الكتب جيدة، فلن نحتاجهم لأن كل الخير نملكه في القرآن الكريم، وإذا كانت الكتب سيئة فلا يجب لها أن توجد".

أوزيريس، وتموز، وأدونيس، وآتيس، وميترا، وديونيسيوس هم ظل الأمور المقبلة، ولكن لالتزامنا حدود المنطق فما علينا إلا الاستنباط بأن جسد المسيح لابد كان موجودًا منذ الأزل، لأنه من دون الجسد فلا يمكن للظل أن يوجد. لقد علم القديس أوغسطين أن المسيحية وُجِدَت قبل المسيح. ويقول هرمس مثلث العظمة إن كل شيء ليس بأبدي ليس بحقيقي. وأسرار أوزيريس أزلية، ولذلك فهي تتفتح في الأديان كلها التي تعاقبت بعدها، بالرغم من تشويه معانيها.

"الجلَبَة تُضجِر الله. صلوا في صمت أيها البشر!"، وفقًا لما هو مذكور في بيت شعر لنشيد موجَّه إلى الإله – الشمس – أمون – را. وبعد آلاف السنين يكرر يسوع: "اغلق باب غرفتك، وصلِّ بالسر إلى أبيك السماوي وهو يستجيب لك".

"بدأتُ كائنًا إلهًا واحدًا، ولكن كان هناك ثلاثة آلهة في داخلي"، وفقًا لما يذكره كتاب مصري قديم عن الإله نون Nun. وعلى سبيل الذكر، هل تكلم آباء مجمَع نيقيا بشكل أفضل؟! "المجد لك أنك تنزل في الظلمات" هذا ما يقوله بيت شعر من نشيد قديم. و"النور يضيء في الظلمات" هكذا يقول القديس يوحنا.

"الروح في المادة هي النور في الظلمات" هكذا يعلِّم السحرة. ويتساءل اسپينوزا: "لماذا على المادة أن تصبح لائقَة بالطبيعة الإلهية؟". ما من أحد أجاب عن هذا السؤال إلا مصر.

أسرار أوزيريس هي أسرار ديانة الجنس؛ ففي معبد Donderach في سرير جنائزي، ممدَّدَة، ومحاطة في كفن، مومياء أوزيريس القائم مع "فالوس" منتصِب، والإلهة إيزيس على هيئة صقر بجناحين ممدودين، تنزل فوقَه وتحيا، وتتحد بالميت وتستخلص من زوجها المني. فالجنس هو الحياة عبر الموت.

يُلفَظ اسم أوزيريس بالمصرية القديمة Usirit، أي ما تعنيه لفظة "أوزيريزس" في كلمة واحدة فقط، هي المعاني الذكورية والأنثوية: هو – هي، أندروجين (خنثوي)، رجل – امرأة. ففي كل رجل تختبئ امرأة، وفي كل امرأة يختبئ رجل. أوزيريس–روح يتحد مع أخته–المادة ويولدان حورس Hórus، الذي كانت به الأشياء كلها. الله، إلوهيم خلق الإنسان على صورته ومثاله، خلقه على صورة إلوهيم، ذكر وأنثى خلقهما (هذا فضلاً عن الأصل يذكُرُ ذكر–أنثى). أولاً مفرد، وفيما بعد اثنان (صورة الله كائنة في الإنسان، فالله في واحد، ليس آدم فحسب، بل آدم وحواء Ieva، لأن الله نفسه هو مزدوج هو وهي. رجل–امرأة).

سر الجنس (من الواحد) هو سر الاثنين. بذكر التلمود:

كان الرجل والمرأة في البداية جسدًا واحدًا بوجهين (قطبين)، ولكن على الفور قسمهما الرب إلى اثنين، ومنح كل نصف عمودًا فقريًا. والحياة في ثنائية جنسية هي السير نحو الموت...

ديانة مصر هي ديانة الجنس. ولكن الجنس الذي يُقيم، وليس الجنس الذي يقتل. ففي الجسد نفسه للإله أوزيريس المقطع، استَبدلَت إيزيس اختفاء "الفالوس" المقدس بآخر خشبي لأجل القيامة... إيزيس هي زوجة وأخت وأم. المادة هي ابنة وأخت وأم الله. والعذراء هي ابنة الآب، وزوجة الروح القدس، وأم الابن.

خلال الأيام التي كانوا يحتفِلون فيها بأعياد الإله الطليق، كانت صورة "الفالوس" توضَع على عربات، وتُعرَض عبر المدينة بإكرامات عظيمة.

هكذا يروي القديس أوغسطين وهو يتكلم عن أسرار الوثنيين.

إن الختان شاهد زفافي من دم ولحم. وحتى اليوم، لا أحد، بالفعل لا أحد اكتشف معنى سر الختان. خاتم الختان هو خاتم الخطبة. إنه الاتحاد الروحي بين الإنسان والله. "أي أمر فظيع كهذا فيه تجديف!" ولكن أوَليس أقل فظاعة أن نأكل الله؟ ونتغذَّى من لحمه ودمه؟ "من هو ذاك الذي بوسعه أن يسمع مثل هذا الكلام؟!"، صاحوا منذهلين تلاميذ الرب، عندما سمعوا لأول مرة تأكيدًا كهذا. فسر الختان هو التالي:

من خلال ختان هذا الخاتم المقصَّص في اللحم يستغرق الإنسان في الإله الأبدي وعلى نحو غير طوعي. لماذا؟ لأن منتهى العضو هو النقطة الأكثر توهجًا، ولذلك فهذه النقطة الأكثر توهجًا للذة الجنسية يجري تكريسها لله ويرتفع الكون نحوَ الله من خلال هذا الخاتم. (معهد السحرة)

حلقات السلسلة أو خواتم الختان – لحمية أو روحية – نعثر عليها في ديانة الآب في الوثنية القديمة كلها، وفي العهد مع الآب. عثر موسى على الختان في طريقه إلى مصر، لأن مصر هي منبع الجنس المقدس. عبادة الآب بالروح والحق تعني الوصول إليه من خلال الشعور والحب. وعبادة الآب تعني التواصل معه، والولوج إلى الداخل (المسكن). والتحدث معه يعني الشعور به سرًا. هذه كانت وتكون ديانة العارفين والمسارَرين.

"لكن الآب لم يره أحد قط" يقول المعلم الكبير. في حين أن الآب يولِد الابن ويقيمه، وعلى الفور فالفكرة الأولى للإيلاد والقيامة تتواحد مع فكرة الجنس. ولم تُقِم ديانات ميترا وأوزيريس إطلاقًا أي تمييز بين الفكرتين... تكمن قاعدة الديانة كلها في أن

الجنس يتجاوز حدود الطبيعة. فهو خارجها وفوقها... إنه الهاوية التي تقود إلى سكان الأجزاء الواقعة على الجهة المقابلة من الكون. إنه الصورة الوحيدة عن العالَم الآخر الذي يتمظهَر لنا في هذا العالم. (معهد السحرة)

الجنس هو الاتصال الوحيد للحمنا مع الماوراء. (معهد السحرة)

العطش الجنسي هو العطش للعلم، لشجرة معرفة الخير والشر. فالاثنان يصبحان جسدًا واحدًا. نعم، ولكنهما ليسا واحدًا بعد، إلا في الحب الفاني، ذلك أن كل ما يولَد يموت. شعرت مصر بالحب الخالد الذي يقيم.

لا يرمز "فالوس" أوزيريس إلى التكاثر والخصوبة والولادة والموت، وإنما يرمز للقيامة. "أيا آلهة خارجين من الطاقة الجنسية! مدّوا لي أيديكم" هكذا يتوسل مائت ناهض من النعش (كتاب الموتى). يعترف ناهض آخَر: "يا طاقة أوزيريس الجنسية التي تبيد الأعداء المتمردين (ضد الإله)! فمن أجلها إنني أكثر قوة من الأقوياء، وأكثر قدرة من القادرين".

الديانات القديمة لم تكن تعبد الجنس المُبتذَل، والأرضي، والحيواني، وإنما تلك النار الجنسية الرفيعة، والروحانية، والكوكبية، والكونية، تلك القوة الإلهية التي تقيم، ذلك أنه على الموتى أن يقوموا، وأن يلِدوا أنفسَهم في الأبدية. تقول عقيدة مجمَع نيقيا: "أومن في قيامة اللحم". بينما تعتقِد الديانات القديمة في قيامة اللحم بواسطة الجنس الإلهي. ولذلك، فالمصريون يقطعون في بعض الأحيان "فالوس" المائت، ويحنِّطونه على نحوٍ منفصل. وكانوا يودِعونه إلى جانب المومياء في مِسلَّة خشبية ذهبية، ممثلاً بشكل ضعيف الشعاع الشمسي أو "الفالوس" الإلهي الذي يحيي: هيئة أخرى لاتحاد المائت مع الشمس. لذلك تعثر إيزيس على أجزاء جسد أوزيريس المقطع كلها باستثناء "الفالوس" لأنه تم انتزاعه، وأُخِذَ إلى النقطة التي أتى منها، من هذا العالَم إلى الآخَر. واستبدلَته الإلهة بصورة خشبية من الجمِّيز.

أسرار إيزيس، وحجاب إيزيس! من يتجرأ على البوح بها من دون أن يُحرَقَ حيًا؟

ديانة أوزيريس هي ديانة الجنس الإلهي، التي يستطيع الإنسان من خلالها رؤية الله داخليًا وجهًا لوجه من دون أن يموت. أوزيريس هو النار–النور في الجسد كله، وفي كل خلية من خلاياه. وهذه النار الخلاَّقَة ليس مسكنها في الأجزاء الجنسية بل هي أكثر اتساعًا من الجسد. ليست النار في الجسد، ولكن الجسد يكمن في النار. قد يسبب الجنس الموت، ولكن من دون الجنس ليس ثمة قيامة.

ترجمة: نبيل سلامة

*** *** ***

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني