شعرية الميتافيزيقي منظورًا إليه من عالم سفلي
سمر دياب في "متحف الأشياء والكائنات"

عبدالله السمطي

 

لا تترك سمر دياب الكلمات في حالها، إنها تجترح تجلياتها وسياقاتها، وتدخل إلى طاقاتها القصوى بحيث تتحول الكلمات إلى كائنات تتحرك وتتنفس وتعيش.

لا تكتب سمر دياب القصيدة من أجل أن تعبر أو تبوح، ولكن من أجل أن تخلق، وتبتكر، وتستقصي. القصيدة عند الشاعرة ليست مجرد حالة جمالية فحسب ولكنها حالة مخاض مأساوية ورائعة في الآن معًا، حيث تتوق إلى أن تصنع عوالم جديدة، تصيب بالأذى الجمالي بالقبح الجمالي، بالدهشة والحراك. عوالم توقظ وتثور لا عوالم تسكِّن وتهدِّىء.

إن الشاعرة كما يتبدى من نصوصها مجنونة بالشعر برؤاه الشريرة الملعونة التي تطارد الأشياء والكائنات بل والأشباح، تطارد القيم المعنوية ودلالاتها كونية كانت أم صغيرة، عابرة أم مقيمة، محسوسة أم معقولة.

والقصد يتجلى في التحليل الأخير في إحداث صحوة جمالية صادمة، تغير بها من المفاهيم المأثورة للشعر والقصيدة وما ينطويان عليه من أجواء، حيث إن كل شيء يصلح لأن يكون أفقًا للخلق الشعري.

ثمة رؤية واعية تنطلق منها الشاعرة في ديوانها متحف الكائنات والأشياء، ففي كتابتها تصبو إلى ملامسة الخفي واللامرئي، أو الطرف الميتافيزيقي من العالم. الشاعرة قدمت لديوانها بفقرة تبدي فيها رؤيتها لتوجه كتابتها ودلالة هذا التوجه، الذي تذهب فيه إلى قتل الموت، استشعارًا لحياة أخرى تتجلى في خلود الكتابة، معتبرة أن هذا الكون بمثابة "متحف مزدحم بالأشياء والكائنات" (التصدير ص 7). وبذا تقودنا الشاعرة إلى نمط من الكتابة يهجِّن ما بين الشعري والنثري والغنائي والسردي والدرامي، في قطع شعرية تأخذ شكل النثر حينًا، أو يتم توزيعًا بطريقة أسطر الشعر الحر أحيانًا أخرى، فيما إنها قد تقدم نصوصًا كثيفة جدًا في سطر أو سطرين كأنها قصيدة برقية تقول الأكثر دلالة في كلمات قليلة جدًا.

إن الكتابة المفتوحة التي تأخذ شكل القطعة النثرية التي يوحدها السرد، وتوحدها البنى السياقية هي ما تركز عليه الشاعرة في ديوانها، وكأننا نقرأ نصًّا يحتوي على كثافة الشعر وقيم السرد، وجلاء المعنى.

في نص بعنوان "بسرعة" نلمح هذا السرد الشعري الذي لم يتخل في داخله عن عبق الصورة وحرفة السياق:

إبرة وخيط.. سريعًا.. هناك أشياء غريبة تخرج من رأسي وتمشي باتجاه الشارع.. سيعتقلونها ويعذبونها ويدفنونها في مقابر جماعية.
آه يا أشيائي الغريبة
ماذا سأفعل بعدك؟ (ص 13)

ويتشكل الديوان من (78) نصًّا قصيرًا ، فيما عدا نص "سلفادور" الذي يقع في 7 صفحات، وهو نص يلوذ بالسردي والسوريالي ويستثمر تقنية الرسائل مقدمًا رؤيته في العالم السفلي، ومخاطبة الغائب بشكل تتوتر فيه العبارات، وتحلق في مكنونها الواعي.

ويحيل الديوان على تجارب وأصوات ومأثور ما يستلهم منه جملة من الرؤى التي تتضامن ورؤية الشاعرة في رصد هذا المتحف الوجودي المترع بالأشياء والكائنات. في نص "أرخميدس" تقودنا لكلمته الأشهر "وجدتها":

أنا أيضًا وجدتُها... قبلك، لكني لم أزعق كالمجانين وأُزعج الشعراء وقاطعي الطرق.
وجدتُها ودفنتها قرب جدي
وتركتُ الناس تطيرُ في الفضاء. (ص 21)

دوران آخر:

تقدم سمر دياب نصًّا رائقًأ يستشرف فكرة دوران الأرض التي جاء بها غاليلو لإدخال الأماكن بعضها ببعض، بل وإدخال الأزمنة نفسها، على اعتبار أن المكان، أي مكان يشير إلى زمنه بشكل ضمني عبر ما يحتويه من أبعاد حضارية أو غير حضارية أو ما ينطوي عليه من طرز معمارية جديدة أم عتيقة.

وترتهن تجليات السياق التصويري في نص "غاليلو/لي" (ص. ص 22-23) إلى رؤية شرطية، تحددها أداة الشرط "لو" وهي كما في النحو حرف امتناع لوجوب أو امتناع لامتناع.

وتأخذ الشاعرة هذه الفكرة لتعبر بمشاهد متتالية يشكل السياق السردي صورها ودلالاتها، في تكرار متتال من أول النص لنهايته يبلغ عشر مرات حتى تختتم النص برؤية شعرية دالة تشكل الصدمة المفارقة لما جاء بالنص كله، ومن أفق التكرار تقول:

لو أنها تدور، لرأيت بجع إنكلترا في حضن طفل يحتضر في الصومال يضع رأسه في فمه ويتوسل إليه أن يقضمه.
لو أنها تدور لكانت دخلت نجمة حذائي، وأنا أدوس بحقد على السماء وأنظر إلى جحور النمل فوق رأسي تدور بسعادة...
لو أنها تدور لكان البحر الآن في عش طائر، فاتحًا فمه ليدخل منقار أمه إلى جوفه بحشرة صغيرة، تسد جوع السفينة التي ترفسه في بطنه كل يوم.

لو أنها تدور لارتدى الدراويش ثيابهم النظيفة، وماتوا واقفين.
لو أنها تدور لاكتشفنا القارات قبل أن نكتشفها:
على الأقل كانت مشت أميركا إلى كولومبوس وهو رضيع ووضعت وسادة على وجهه لخمس دقائق.

...
لو أنها تدور أيضًا، لفعل الله شيئًا ليوقف هذا الحشد المترنِّح من الكائنات، كان دق مسمارين في يديها، كعادته، وأنهى هذه الفانتازيا المضحكة.

وقبل أن تطلق الشاعرة رؤيتها: "هكذا أفهم الدوران" تختتم نصها بمشهد صادم:

غاليلو/لي
الأمر ليس كما تظن يا عزيزي
سلامة نظرك
إنها بيضة طائر خائف ليس إلا...

هل الأرض مجرد بيضة طائر خائف؟ الشعر يصور ذلك. فالأرض بالنهاية هي نقطة في المحيط الكوني، وهي معرضة للفناء بأية لحظة، هنا يذهب الشعر للأبعد، ويستجلي حكمته فيما تؤول له الأشياء بالنهاية.

ومن المتحف الأرضي تستدعي شخصيات متعددة مثل: بروتون، مارلين مونرو، كليوباترا، رامبو، لوركا، أفلاطون، راسبوتين، دراكولا، كافكا، سلفادور دالي، فوكو ياما، بريجيت باردو، غادة السمان، تروتسكي، جان دارك، ابن الرواندي، سامية جمال، جنكيز خان. عبر الإشارة إليهم أحيانًا حيث الإشارة تقلنا إلى حياتهم وتجاربهم، أو تتوسع أحيانًا بقدر من الاستقصاء الشفيف كما في نص لوركا، ونص رامبو.

فهي تتأمل بشكل كثيف حياة الشاعر رامبو فتلتقط واقعة ساقه التي تخثرت ومرضت، فتضع هذا النص المكثف:

اسمعني أيها الولد
أنت خائف من الموت
وساقك خائفة من الحياة
ومن الجهة الأخرى الحياة خائفة من الموت
والموت بدوره خائف من الحياة
بحسبة بسيطة ستجد أن الحياة خائفة منك
والموت خائف من تلك الساق
وبحسبة أكثر تعقيدًا
ستجد أنك وتلك الأخيرة بالضرورة خائفين من بعضكما البعض
لذلك
لم تنم ساقك إلى جوارك تلك الليلة. (ص 28)

مستجلية في هذا النص العلاقة بين الموت والحياة، وموقف الشاعر من العالم حيال ما يعترضه من سفر واغترابات، ومرض، وهي لا تتناص هنا مع شعرية رامبو بل مع مشهد من سيرته لتحوله إلى مشهد جدلي ما بين الموت والحياة.

ما بين رؤيتين:

ثمة نصوص تنتهك شعريتها نثريًّا عبر السرد، أعني أن النص قد يتحول من أفقه الشكلي الذي يلقي بأنسجته السياقية في إطار قصيدة النثر، إلى الاقتراب من القصة القصيرة والقصة القصيرة جدًا، كما في نصوص: العين، والأجنحة، وأرنب، والعتمة مثلاً.

فالطابع السردي هو الذي يشكل هذه النصوص، على الرغم مما تتشح به من شعرية وتكثيف ومزج بين الفيزيقي والميتافيزيقي، واقتران ما بين الوعي واللاوعي أو ما أسميه هنا بـ"الوعي الكامل". لو قرأنا مثلاً نص العين لن نستطيع التوقف عن مساءلته في إطار القصة القصيرة، حيث تستهل الشاعرة النص بالقول:

ولدتْ في عام الله من أم عمياء وأب يعمل حارسًا لباب النار...

كما نرى تأثير الرؤية السردية القصصية في نصوص أخرى منها نص الظل:

كل ليلة نعود سويًا إلى البيت ليبدأ بالصراخ والشتائم، يقف أمام المرآة، ينظر إلى كدماته ونزيفه ويتحسس أورامه، ثم يلتفت ساخطًا ليسألني إن كان الأمر يعجبني، وضعي محرج أمامه ولا أعرف ماذا أفعل. (ص 64)

كما نرى المشهد يقع في إطار ما هو قصصي تمامًا حيث الجمل الفعلية التي تشير إلى ما هو حدثي بشكل متتابع، واللغة الخبرية الناقلة للحدث لا اللغة التشكيلية التي تنطوي على أداء تصويري مركب، بشكل أعمق وأبعد.

وتهيمن رؤى ودلالات الفناء والعدم واللاجدوى وعبثية الأشياء في مشاهد كثيرة لدى الشاعرة، فنجد الموتى، والقتلى المأجورين، والعاشق المنتحر، إلى جانب توصيف الكائنات والحيوانات والطيور والأسماك والحشرات من جانب فيما تتبصر ببعض المعاني والقيم والمسميات الإنسانية كالضجر والصمت والعتمة والظل، والندم، والبكاء، والأنا، والحرية، والثورة، والعاشق، والقاتل، والأحمق، والناجية، والحبلى، والطاغية، والمجانين، ليتمدد ذلك كله إلى توصيف حالات الكتابة والقصيدة كما في: "شاعرة" و"زيتا" و"الشعراء" و"الناقد" و"القارئ" تمثيلاً.

أكتب لأقتص من الحدوث، هذا هو الأمر، حين تريدون قتل أحد تبتسمون له مرغمين، أو سحل أحداث يومكم التافه أو الرائع أو العادي، افعلوا هكذا... استلوا الوحش الذي في داخلكم واكتبوا، ولا يبحث أحدكم عن قارئ هذا الأخير مجرد خرافة لا وجود لها... كالشعر تمامًا. (ص 71)

إن توجه الشاعرة يتبدى من رفض الواقع وتمثيلاته المقنعة، ورفض التفسيرات والتأويلات الحادثة فيه. الشاعرة تبحث عن عالمها الخاص، عن أكوانها الصغيرة التي تتمدد شعريًا وتنبسط ما بين رؤية ورؤيا، وهي لذلك ترفض التسميات المسبقة حتى على نطاق الكتابة الشعرية، تقول في نص بعنوان شاعرة:

أنظر إلى الأمر هكذا، أنا حيوان حين أكتب، ورائحتي تلتصق على جدران حجري الذي وضعتني اللغة فيه، لا أفهم في التنظيرات ولا أفقه شيئًا من حديث الآخرين عن الشعر، أنا فقط أتبع الرائحة، أنا فقط أريد رائحتي. الشعر هو الرائحة، الرائحة هي خارطة الطريق. (ص 59)

وتخاصم الشاعرة واقعها، واضعة إياه في مستوى بسيط من مستويات التعقل أو مستويات الرؤية الشعرية التي تنظر إلى نماذج أعلى وأرقى مما يبديه الكوكب التافه:

كم طائر رخ نقر ظهورنا ونحن نحاول أن نتقيأ كوكبهم التافه، وسلطتهم التافهة، ومنابرهم التافهة. (ص 59)

مع أنها تتناقض أحيانًا مع هذه الرؤية لأنها تجعل من هذه الأشياء السامية أو التافهة مناطًا للتعبير الشعري على اعتبار أن "كل شيء يصلح للشعر" - كما تذكر في ص 63.

ومن الأساليب الجلية بديوان متحف الأشياء والكائنات أن الشاعرة تقوم بتشخيص الشيء وتشخيص الكائن، حتى القبلة يتم تشخيصها في نصوص سمر دياب:

ما تلك الهالات السوداء حول عينيك أيتها القبلة
صمتكِ يشي بالفضيحة
رأوك في العتمة تحفرين خندقًا تحت فم الموت
وفي الصباح تتثاءبين
...
بشعرك الحليق
وفخذك المتورمة
هل أنتِ سعيدة الآن؟ (ص 96)

إن هذا التشخيص لبعض الدوال يعطي مساحة ترميزية أكثر للنصوص، وإذا كان الغالب على شعرية رواد الشعر الحر هو توظيف الأسماء والشخصيات التراثية وغير التراثية كإسقاط على الواقع المعاصر، فإن من سمات القصيدة الراهنة كما يبدو من ديوان سمر دياب هو تشخيص المفردات نفسها وترميزها، أو الإشارة أحيانًا إلى الشخصيات من دون الولوج بالضرورة إلى حياتها ودورها التاريخي أو الشخصي.

وتتعدد الأزمنة في شعرية سمر دياب، وهي أزمنة تلوذ بالمطلق دائمًا، وتكسر إيقاع اللحظة، فالزمن ليس ذا نسق ثلاثي بالضرورة. الزمن له أزمنة أخرى خارجة عن التراتب المنطقي للحظاته: ماض، حاضر، مستقبل، زمن خاص بالشاعرة نفسها، بكلماته ومخيلتها الطليقة، من هنا فإنها تلهو شعريًا بعناصر الزمن، تعيد ترتيبها وتأليفها وفق ما تراه هي لا وفق ما يراه منطق الأشياء.

ومع هذا الزمن المعهود، تدخل إلى أزمنة أخرى: زمن الحلم، زمن الوعي، زمن الحضور، زمن الغياب، الزمن الخفي القادم من فضاء القيامة.

إن أكثر ما يميز شعرية سمر دياب أنها تأخذ من الممكن وتحوله إلى عمل تخييلي مفارق، إنها تحمل الدال إلى دلالة أخرى قصية غير متوقعة أو مألوفة، فضلاً على ذلك تشكل لنا دائرة من التشبيهات والمجازات والأخيلة تكسر منطق الأشياء ومنطق التوقع، وهي دائرة أكثر صدامًا لا مع ديكتاتورية الدوال وتقليديتها فحسب، ولكن مع الواقع والحياة أيضًا.

20 – 11 - 2017

*** *** ***

إيلاف

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني