دوامـــــة

 

عبد الغني عبده

 

بعيدًا عن الغابة، بعيدًا جدًا عنها؛ يظهر الجبل مهيبًا. يبدو من بعيد كإله قديم. شامخ رغم أن ارتفاعه ليس شاهقًا. في الليالي المقمرة تتلألأ بعض صخوره كعيون قطط سوداء لامعة. للحظات؛ يمكن أن يتوارد إلى الذهن أنه في صراع مع الغابة!! لكن أي صراع ولماذا هو متحفز لها وعيونه "تطق شرار"؟! ربما ليس صراعًا. قد يكون فرضًا للسطوة والسلطة، وربما كان الأمر بلا أي دلالة ولا معنى.

المثير أن الحيوانات المفترسة لم تكن تطارد فرائسها باتجاه الجبل خاصة في ضوء القمر. أتخشاه؟! لكن الفرائس تهرع إليه!! أيخافه المفترس وتحتمي به الفريسة؟!

في النهار تنكشف حقيقة غريبة: الجبل يبدو كرجل أحدب يعطي ظهره للغابة؛ غير آبه لوجودها. كأنه يتجاهلها أو في حالة خصام معها أو راحل إلى بعيد. لكن هذا الانطباع لا يدوم على مر الأيام، فعندما تهب الرياح العاتية؛ تلك الرياح السنوية المعتادة على الهبوب في هذا المكان يتصدى لها الجبل بكل عنفوانه ويمنعها من تجاوزه. لو لم يمنعها فليس هناك من شك أنها سوف تدمر الغابة مقتلعة أشجارها من الجذور وقاضية على كل ما بها من حيوانات وطيور. يواجه الجبل الرياح بجسارة الأبطال. يقف في وجهها؛ وحيدًا كبطل إغريقي أو كرجل بدوي شديد البنية يلبس عباءة ترفرف أطرافها في الهواء (أو هكذا تبدو الرمال المتناثرة بفعل الرياح على جانبي الجبل).

ما يزيد من الشعور بأن حياة ما تدب؛ في هذا الصخر الأصم والجبل الأشم؛ تعانق نخلة مع شجرة تين فوق قمته؛ كعاشقين نسيهما الزمان وغوائله، ونسيا المكان وشواغله. تقرب بين هامتيهما رياح خفيفة فيشتبكان في قبلات حارة حارقة تكشف عن محبة تبلغ حد الولع! وأحيانًا تبدو شجرة التين ممسكة بجزع النخلة كطفلة متعلقة بذيل رداء أمها.

المشهد لا يبدو بهذه الرومانسية من الجانب المقابل، حيث يحجب الجبل بحضوره الضخم أي طرف من أطراف الغابة. يقف وحده وحيدًا لا شيء يجاوره إلا الرمال الممتدة حتى تلتقي السماء بالأرض!

وعلى قمته المنحدرة كجرف انحدارًا رأسيًا عميقًا، تقف النخلة التي تتدلى نصف جذورها في الهواء؛ ربما بسبب النخر المستمر التي تصنعه السيول الغامرة في قمة الجبل المنحدرة؛ أو لعلها بسبب أسراب النمل التي تأتي دائمًا من العدم أو مكان مجهول تحمل بقايا التمر والتين (المتناثر تحت الشجرتين بعد أن طابت ولم تجد من يقطفها) وتنقلها إلى جحور لا يعلم أحد مكانها. هل تنهش جيوش النمل الصغير جسد الجبل الساكن المستكين، بهذه الوحشية؟! تقف النخلة على القمة كـ "سيزيف" تدفع شجرة التين بعيدًا عن الهاوية!! أو ربما تتشبث بها خوفًا من الانزلاق إلى قعر الوادي!

الغريب، ألا أثر لفتات النخر عند قاعدة الجبل! على العكس هنا هوة عميقة في الأسفل يحيط بها نتوء صخري يجعل الجبل يبدو كـــــ "كنغر"، تتجمع في "بطنه" مياه السيول فتبنت فيها أشجار الشوك وفسائل النخيل حيث تتساقط التمرات من علٍ؛ غير أن هجمات الرياح التي تأتي مفاجئة تنثر كل هذا في الهواء وتبدده، ليتجدد في دورات متتالية مع هطول الأمطار. لماذا تتمكن الرياح من الفسائل الصغيرة ولا تستطيع هزيمة تعانق النخلة وشجرة التين؟! ربما ما يقال عن "الحب" الذي لا يغلبه غلاب"!

عندما أَنَّتْ فروع شجرة التين وناءت بحملها الوفير من الثمار، مال فرعها على النخلة ليتخذها سندًا، فمالت به النخلة وكادت أن تنخلع من مكانها لولا الرياح التي أبعدت فرع التينة فانهار وانخلع من شجرته ووقع في بطن الجبل ليصادفه حمار بري نجا بنفسه من مطاردة لبؤة.

قطع الحمار مسافة كبيرة من الغابة حتى وصل إلى هذا المكان منهكًا يسيل الدم من فخذه الأيسر. وجد بعض الماء في الوادي الذي تحت الجبل لكن المكان عميق ولياقته لا تساعد على القفز.

ظل الحمار ساعات طويلة – وربما يومًا – ينظر إلى الماء ولا يستطيع الوصول إليه حتى بلغ به العطش مبلغه. هل يغامر بالعودة إلى الغابة ما دام الموت مصيره هنا وهناك؟! أم يقامر بالقفز في الهوة فيروي ظمأه؟!  لكنه قد يفقد القدرة على المشي بعدها أو يفقد أية فرصة للخروج منها!

هل وقع فرع شجرة التين عندما استسلم الحمار لمصيره؛ وفقد كل أمل في النجاة؟! هل يمكن الحصول على إجابة "موضوعية" على سؤال كهذا، خاصة أن الفرع استقر جزعه على حافة الهوة بينما غمرت المياه أوراقه والثمار!

كانت محاولة ناجحة – مع خسائر مقبولة – عندما وضع الحمار قدمه على جزع الفرع وخطا خطوتين أو ثلاثة متجهًا إلى قعر الهوة قبل أن تزل ساقه المصابة ويتكوم – راضيًا – وسط المياه المختلطة بأوراق وثمار التين.

بعد ليلتين وحيدًا في البركة، فتح الحمار عينيه ذات صبيحة مشمسة، فتراءى له خيال حيوان يحاول اقتحام المكان الذي اتخذه مسكنًا. ارتعب الحمار وتخبط في البركة، لكنه سرعان ما هدأ عندما أدرك أن من يحاول النزول إليه حمارة برية.

بعد شهور؛ كان معهما؛ في الحفرة التي أشرفت على الجفاف؛ جحش صغير. ربما استطاع الحمار؛ رغم آلامه المبرحة؛ وجرحه الذي يلتئم بصعوبة؛ أن يحافظ على النسل. وربما جاءت الآتان إلى الحفرة وفي بطنها جنين من حمار آخر.

تحول المكان إلى ما يشبه حظيرة؛ خاصة بعد أن جاءت الريح لأول مرة من اتجاه الغابة فأطاحت بالنخلة وشجرة التوت من قمة الجبل ليستقرا في بطن الجبل ويشكلان سقيفة؛ رُدِمَتْ بما تداعى من صخور صغيرة هوت بعد الشجرتين واستقرت فوقهما.

في هذه الليلة تحديدًا سمعت الحمير أصوات حيوانات الغابة تقترب، وتلاحظ أن أضواء متوهجة تتلألأ خلف الجبل. إنه حريق ضخم يلتهم الغابة!

في الصباح لم تجد الحمارة والجحش أثرًا للحمار الكبير في الحفرة. ولا سمعت مجددًا أصوات الحيوانات المفترسة الهاربة من الحريق. مع مجيء الصيف الحارق جفت المياه تمامًا وتحولت النبات إلى حطب جاف.

حتى محاولات شجرة التين في إنبات بعض الفروع بعدما انطمر معظم الشجرة في مياه البركة باءت بالفشل، كلما ظهر برعم من الأرض التهمه الجحش الصغير.

دفع الجفاف الحمارة إلى هجران المكان مع صغيرها. ذهبت أولاً في اتجاه الغابة المحترقة لكنها بعد أن تأكدت من أن النار أكلتها تمامًا عادت في الاتجاه المقابل.

ذهبت بعيدًا؛ بعيد جدًا عن الجبل حتى صادفت غابة أخرى. وجدت على أطرافها بقايا هيكل عظمي لحمار! التفتت، فإذا الجبل هناك بعيد، بعيد يبدو كرجل مهزوم مطأطأ الرأس. ظلت عيناها شاخصتان إليه حتى انعكس نور القمر على صخوره فلمعت كدمعات ساخنة تسيل على وجنتي امرأة فقدت حبيبها.

تمت-القاهرة في 19/12/2018

*** *** ***

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني