الصفحة التالية                  الصفحة السابقة 

الفصل الثالث

بلاد الشام، ولاية رومانية

سمير عنحوري

فإذا كنتُ سوريًا فلماذا تتعجب؟

أيها الغريبُ! إننا نعيش في بلد واحد هو العالم

ميليغر (شاعر سوري – القرن الثاني ق. م.)

 

في بداية القرن الأول قبل الميلاد، لم يكن وضعُ روما باهرًا في الشرق. فالسياسة البحرية للجمهورية كانت من الضعف بحيث كان من المستحيل عليها التحكم بالبحر والسيطرة على آسيا الصغرى. من جهة أخرى، كانت السياسة الداخلية تشغل النفوس وتعميها عن معرفة ما كان يجري في الولايات البعيدة أو لدى الشعوب التابعة. ولهذا، فرضتْ روما، عن ضعفٍ منها، على نفسها سياسةَ عدم التدخل عندما كانت حقوقها تتعرض للخطر.

كانت سنة 75 ق. م عندما اتخذ مجلسُ الشيوخ سياسةً فعالة في آسيا؛ فتغلَّب الرومانُ على الملك مثريدات واستولوا على مدن بلاد الـ"ﭙونت" (شمال شرق آسيا الصغرى). فلجأ مثريداتُ إلى أرمينيا. لكنَّ روما التي كانت قد سمحَتْ لتيغران ملك أرمينيا بالسيطرة على كبادوكيا وسورية قامت بالهجوم، وتغلب الوالي الروماني لوكولوس Lucullus على تيغران سنة 69 ق. م. بعد عدة سنوات، تولى ﭙومـﭙـيوس [ﭙومـﭙـاي] Pompée قيادةَ جنود الشرق ولم يلبث مصيرُ سورية أنْ تَحدَّد.

كان الوقت مناسبًا لكي يُفرَضَ بالقوة على بلاد الشام حُكْمٌ كانت هي عاجزةً عن تقديمه لنفسها. كانت الحروبُ المتواصلة والفوضى قد أنهكتِ البلادَ. وقد استفاد البدوُ من هذا الوضع لكي يتقدموا إلى الأمام نحو الغرب. كانت القطعانُ تتقدم فتُتلِف الزرعَ في طريقها وكانت القُرى نُهْبةً للبدو. وأصبحت الأراضي الممتدة من الصحراء حتى نهر العاصي خرابًا وتحولَتْ حقولُ الشعير والقمح إلى سُهوب وانحسر سكانُ الأرياف تحت وطأة البطالة والجوع نحو المدن التي لم تكن أحسنَ حالاً إلا ما ندر.

في أنطاكية، لم يفتأوا يقضون وقتهم في التسلية وحياكة المؤامرات والثورات في الأسرة الحاكمة، مما أدى إلى إبطاء حركة التجارة وأصبحت قوافلُ الشرق أقلَّ ترددًا. وكان الأنباطُ يحتلون دمشقَ تارةً وينسحبون منها تارةً أخرى: بسطَ الحارثُ Arérath سيطرتَه من الخليج العربي إلى البحر الأحمر وأخضعَ مؤقتًا منطقة دمشق la Damascène وحوران. وانحطَّتْ شيئًا فشيئًا دمشقُ عاصمةُ بني حدد Benhadad السابقة والتي كانت على مر العصور مركزًا تجاريًا من الطراز الأول. لم يدَّخِرْ سكانُها جهدًا لكي يحموا أنفسَهم من ضراوة وأطماع البطالمة. وانعدم الأمنُ في البحار فتضاءلتْ أهميةُ المدن الساحلية التي كانت الملاحة فيها تشكل ثروتَها الأساسية.

لقد زعزعَ قُطّاع الطرق أخيرًا العلاقات بين المدن. كان هناك عصابات تتربص في ممرات جبل لبنان وشِعاب الزبداني التي تؤدي إلى دمشق. كان سكان جبال الأنصارية في شمال غرب سورية يعيثون فسادًا في مناطق الساحل وبلغ بهم الأمرُ أنْ قاموا بغارات باتجاه الداخل. كانت القلاع تغطي المرتفعات، ولم يكن بإمكان أية قافلة أن تمرَّ على مقربة منها دون أنْ تُخيَّر بين السلب أو الفدية. لقد أصبح قطعُ الطريق المهنةَ الأكثر ربحًا والأقلَّ خطورة[1].

أدى الفسادُ الاجتماعي إلى ظهور مستبدِّين محلّيّين في هيليوبوليس (بعلبك) وإميسا Emèse (حمْص) وطرابلس. حتى المملكة اليهودية نفسها والتي كانت تبدو في البداية في منأى عن هذه الأزمة قد مزَّقتْها الصراعاتُ الداخلية. ففي عهد يوحنا هيركانوس Jean Hyrcan (134-104 ق. م) مؤسس الأُسْرة الحشمونية [الأَسمونية]، نشبَ النزاعُ بين الفَرِّيسيين والصَّدُوقيين؛ وكانت التأثيراتُ الهلنستية وراء هذه المنافسة. فالفريسيون يُظهِرون تعلقًا شديدًا بالتوراة وتفسيرات الكتب المقدسة ويتفاخرون بالتطبيق الحرفي لجميع الوصايا بالغًا بهم الأمرُ إلى التشدد فيها والتقيد الحرفي وكراهية كل عادة غريبة؛ بينما يلتزم الصَّدوقيون بالشريعة المكتوبة مُعادين المسيحانية التي كانوا يعتبرونها فكرةً تتنافى مع سيادة وسموِّ المعبد اليهودي، مُنكرين خلودَ الروح والبعث؛ إذْ كان معظمُ هؤلاء من الأغنياء وكبار الكهنة والسياسيين على وجه الخصوص، إذْ كانوا يولون اهتمامًا بالمسائل السياسية أكثر من الدينية.

عندما توفي "ألكسندر يوناثان" Alexandre Jannée، ملكُ اليهود منذ عام 103 ولغاية 79 ق. م، اندلعتِ الحربُ الأهلية وازدادت الفتن الداخلية، حتى أنَّ الفريسيين طلبوا تدخُّلَ أرمينيا في شؤون اليهودية. وفقدَ الشعبُ اليهودي استقلالَه بعد عدة سنوات.

في الواقع، لم يكن بإمكان ﭙومـﭙـيوس [ﭙومـﭙـاي] أنْ يتحملَ هذه الفوضى في بلد يقع على حدود ولايات الجمهورية. فأرسلَ منذ عام 65 ق. م ضُباطَه إلى حيث ارتأى ضرورةً لنشر النظام. وجاء أَولوس غابينيوس Aulus Gabinius من بلاد الرافدين إلى سورية، بينما احتل كلٌ من ليلّيوس Lellius وميتيلّوس Metellus دمشقَ. وذهبَ "موروس سيوروس" Moreus Seaurus إلى القدس.

كان ﭙومـﭙـيوس يتأهب لدخول سورية في عام 64 ق. م. فاحتلَّتْ جحافلُه واديَ العاصي، وأصبحَتِ البلادُ من طوروس إلى المضيق ومن البحر إلى الصحراء ولايةً رومانية جديدة، وبذلك ابتدأ عهد ﭙومـﭙـيوس بنهاية عهد الملوك السوريين.

لقد تعاملَ ﭙومـﭙـيوسُ بطريقة مختلفة مع مختلف أجزاء الأقاليم التي سيطر عليها مؤخَّرًا. وما كان من أنطاكيةَ، على وجه الخصوص، إلا أنْ أبدتِ ارتياحَها من تصرُّف ﭙومـﭙـيوس تجاهها. لكنه، بالمقابل، كان شديدَ القسوة مع كل من اغتصبوا ولو جزءًا من السلطات الخاصة بأية حكومة قانونية. فتم تدميرُ جميع القلاع التي كان يمكن استخدامها كملاجئ أو كنقاط ارتكاز لقُطّاع الطرق، كما دُمِّرَتْ أفاميا مدينةُ السلوقيين الكبرى.

عندما قام الجيشُ الذي أُرسِلَ لإخضاع الأنباط بالدخول إلى "اليهودية"، قدَّمَ اليهودُ ولاءهم باستثناء عدد من المتشددين الذين لجأوا إلى المعبد، مما أوجبَ محاصرتَه بآلات الحرب التي استجلبَها الرومانُ من صُوْر. سقط اثنا عشر ألف قتيل من اليهود، بحسب ف. يوسيفيوس، بينما مُنيَ الرومانُ بخسارات بسيطة.

لقد أعاد ﭙومـﭙـيوسُ النظامَ إلى سورية وانطلقَ إلى آسيا الصغرى مكلِّفاً سكاوروسَ Scaurus بإدارة الولاية والقيام بحملة ضد الحارث Arérath النبطي. وبذلك غرُبَتْ شمسُ السلوقيين ولم يعدْ للحشمونيين [الأسمونيين] سوى سلطة شكلية، بينما عاد الأمراءُ العرب أدراجَهم إلى الصحراء وأيَّدَتِ المدنُ إعدامَ طُغاتها وطُرِدَ قُطّاعُ الطرق من مخابئهم.

لقد أعادت الجحافلُ الرومانية السِّلْمَ إلى البلاد ووضعَتْ حدًا للفوضى الطويلة التي أنهكَتْ سورية. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا ارتبط تاريخُ سورية ارتباطًا وثيقًا بتاريخ روما ولعدة قرون من الزمن. لقد تركتْ صراعاتُ نظام حُكّام روما الثلاثة triumvirs والأباطرة الرومان منذ ذلك الحين أثرَها على أنطاكية والقدس. كما أنَّ تمرُّدَ اليهودية والحربَ على الأنباط وقيامَ الإمبراطورية التدمرية، كلُّ هذا حدَّدَ جزئيًا أفعالَ كلٍّ من الأباطرة تيطوس وتراجان وأورليانوس.

أرادتْ كلَيوﭙـاترة، سليلةُ اللاجيديين [البطالمة] التي كانت تحكم الإسكندرية، أنْ توفِّرَ على شعبها تسلُّطَ الأجنبي، فاستخدمَتْ لذلك كلَّ ما أوتيَتْ من قوة وإغواء. جرَّبَتْ، في البداية، حظَّها لدى يوليوسَ قيصر فأبقى لها، بالمقابل، عرشَ مصر. وبعد اغتيال القيصر في روما عام 44 ق. م من قبل ابنه بالتبني بروتوس Brutus، وجَّهَتْ طموحاتِها نحو أنطونيو الذي كان هناك منافسةٌ غيرُ معلَنة بينه وبين أوكتاﭭيوس[2] [أغسطس] Octave، وهو شريكه مع ليـﭙـيدوس Lépide في الحكومة الثلاثية في روما triumvirat (43 ق. م)، والذي كان يسيطر على إيطاليا والغرب.

في سنة 40 ق. م، غزا الـﭙَـرثيون [الفَرثيون] Parthes سوريةَ؛ إذِ اتَّحدَ المستاؤون ودعَوِا الفرثيين لغزو الولاية الرومانية. وما إنْ مرَّت عدةُ أشهر حتى أصبح الفرثيون سادةَ سورية وفينيقية؛ وبقيَتْ مدينةُ صُوْر المدينةَ الوحيدة التي احتفظَتْ بها روما، حيث لجأ إليها موظفو الجمهورية. إلا أنَّ الوضعَ تحسَّنَ في سورية لأنَّ "ﭭنتيدوس باسوس" Ventidus Bassus قد كبَّدَ الفرثيين سلسلةً من الخسارات، مما أدى إلى تراجعهم إلى الشرق. فقط في "اليهودية" لم تهدأ الفتنُ. وقد تكفل بإخضاعها هيرودوس Hérode الذي نصَّبَه أنطونيو ملكًا على "اليهودية". فاستولى على القدس سنة 37 ق. م ووطَّدَ الأمنَ في المنطقة.

في خريف سنة 37 من العام نفسِه، احتفل أنطونيو وكلَيوﭙـاترة بزواجهما في أنطاكية. ومنذ ذلك الحين، تأكدتْ تلك المصريةُ من عدم خضوع بلادها للسيطرة الرومانية، بينما وجدَ ذلك الرومانيُّ المصادرَ المالية اللازمة لتحقيق أطماعه في غزو بلاد فارس. بالمقابل، فقد خصَّصَ تعويضًا ماديًا لزوجته: لقد أصبحَتْ أريحا ومدنُ فينيقيَّةَ الجنوبيةِ وقبرصُ ممتلكاتٍ مصريةً؛ بينما بقيَتْ صوْرُ وصيدا كما كانتا من ذي قبلُ حُرَّتانِ [من دفع الضرائب].

عادت سياسةُ البطالمةِ [اللاجيديين] القديمةُ إلى الظهور. فكان لا بد للملكة التي تسيطر على وادي النيل من أنْ تَضمَّ سوريةَ بكاملها إلى ممتلكاتها. ولم تأْلُ كلَيوﭙـاترةُ جهدًا في تحويل زوجها عن غزو فارس وبذلَتْ كلَّ ما في وسعها لمحاولة ضم القدس وصوْر وصيدا أيضًا لها.

لو أنَّ أنطونيو قبِلَ بهذا التنازل لأثَّرَ ذلك على سيادة وعظَمة روما ولانقسمَتْ ممتلكاتُ الجمهورية إلى قسمين ولكانت روما حكمَتِ الغربَ بينما حكمَتِ الإسكندريةُ الشرقَ. ولذا رفضَ أنطونيو. لكنَّ الرغبةَ في أنْ يظلَّ قنصلاً وحاكمًا رومانيًا والخشيةَ المُهينةَ بنظره من أنْ يظهرَ فقط ملكًا على مصرَ دفعانِه إلى اتخاذ سياسة مليئة بالتناقضات.

غيرَ أنَّ كلَيوﭙـاترةَ كانت تقترب من غايتها. وفي سنة 34 ق. م قبِلَ أنطونيو وأعلنها ملكةَ الملوك ووضع تحت سلطتها منطقة سورية المجوَّفة [القلمون] بكاملها la Cœlé-Syrie، بينما جعل من ابنها بطليموس ملِكًا على فينيقية وسورية وسلوقية. وهكذا كانت سياسةُ الفراعنة تتحقق من جديد مع كلَيوﭙـاترة. لقد أصبحَتِ الحربُ بين أوكتاﭭيوس وأنطونيو محتومة.

حقق فرارُ السفن المصرية، في 2 أيلول/سـﭙتمبر 31 ق. م في معركة أكتيوم Actium البحرية (في اليونان)، انتصارَ أوكتاﭭيوس وسيطرتَه على العالم الروماني ووحدةَ روما. وفي طريق عودته إلى روما، حصلَ أوكتاﭭيوس المنتصر على لقب أُغسطس. بينما فرَّ المهزومان أنطونيو وكلَيوﭙاترة إلى مصرَ حيث انتحرا هناك. ومع موت كلَيوﭙاترة تنتهي سلالةُ اللاجيديين [البطالمة] واستقلالُ مصر الهلنستية.

أعادَ أُغسطس تنظيمَ الإمبراطورية وقسَّمها إلى ولايات مشْيَخيَّة [متعلقة بمجلس الشيوخ] sénatoriales وولايات إمبراطورية impériales. وكانت مصرُ وسورية، باعتبارهما ولايتينِ غيرِ سِلْميتَينِ، في عِداد الولايات الإمبراطورية. وقد تم إرسالُ أربع فرق عسكرية بهدف حماية حدود هاتين الولايتين من تهديد الفرثيين. واختار الرومانُ الذين خلفوا السلوقيين أنطاكيةَ مقرًا لهم.

في روما، تعاقَبَ على حكم الإمبراطورية كلٌّ من تيبيروس Tibère بن أُغسطس بالتبني ثم كاليغولا Caligula وكلاوديوس Claude ونيرون Néron. لكنَّ جرائمَ تيبيروس وكاليغولا ونيرون وحماقاتِهم أثارت استياءَ الإمبراطورية، مما أدى إلى اغتيالهم. وبعد موت نيرون عام 68 م، اغتصبَ "غَلْبا" Galba السلطةَ وأصبحَ إمبراطورًا رومانيًا لمدة سبعة أشهر: إذْ قامت فرقةُ الحرس الشخصي للإمبراطور باغتياله عام 69 م. ثم جاء في السنة نفسها إمبراطوران هما "أوثون" Othon و"ﭭيتيلّيوس" Vitellius: الأول انتحر والثاني قتلَه الشعبُ.

لم يُبالِ سكانُ سوريةَ بهذه الأحداث حتى مجيء ذلك اليوم الذي قرر فيه ﭭيسباسيانوس Vespasien، قائد فيالق الشرق، أنْ يستوليَ على الإمبراطورية بمساعدة ابنه تيطوس. وقد نادى به إمبراطورًا كلٌّ من حاكم أنطاكية "ليسينيوس موسيانوس" والجيش. فأرسلَ في الحال نجلَه لقمع ثورة اليهود.

كان هيرودوس حاكمًا على القدس. بعد وفاته، وتنفيذًا لوصيته، قُسِّمَتِ المملكةُ بين أبنائه الثلاثة: "فيليـﭙوس" و"هيرودوس أنتيـﭙـاس" و"أخيلاوس" Achélaüs. حملَ هذا الأخيرُ لقبَ ملك وتسلَّم السامرةَ و"اليهودية" و"عيدوم" l'Idumée. وعندما اندلعت الاضطراباتُ، تدخَّلَ ﭭاروسُ Varus وضمَّ السامرةَ و"اليهودية" إلى ولاية سورية.

كانت مملكةُ هيرودوس الأكبر آيلةً إلى الزوال عندما حاول "هيرودوسُ أغريـﭙـا" Hérode Agrippa إحياءها لها بدعم من الإمبراطورَينِ كاليغولا وكلاوديوس. وعند موته، حصلَتْ اضطراباتٌ وازدادت الفتنُ والقلاقل. وفي عام 65 م، تم طردُ اليهود من قيصرية [في شمال فلسطين] وقُتِلَ إخوانُهم في دمشق[3]. وكانت هذه إشارة حرب.

قام المتمردون بطرد الرومان من القدس وهَزَموا جنودَ القائد "غالوس". كان من شأن ﭭيسباسيانوس، معزَّزًا بستين ألف رجل، أنْ يقضيَ على مقاومة يوسيفيوس[4] الذي كان يدافع عن الجليل.

خلفَ تيطوسُ أباه على قيادة الجيش. وعندما عادَ "ﭭيسـﭙـاسيانوسُ" Vespasien (مؤسس سلالة الفلاﭭيين Flaviens) إلى روما سنة 69 م، قام تيطوس بمحاصرة القدس. كان الخلافُ في المدينة يَقْسم المدافعين؛ فالأغنياءُ والفرِّيسيون كانوا يريدون التفاوض وحماية ممتلكاتهم، أما الفقراءُ والوطنيون "المتحمسون" فكانوا مستعدين للتضحية بكل شيء وعدم الاستسلام. لقد أبادتِ الحربُ الأهلية والأمراضُ والمجاعةُ القسمَ الأكبر من السكان. ومع ذلك، واجهَ تيطوسُ مقاومةً عنيفة جدًا دامت أربعة أشهر من 7 أيار/مايو حتى 7 أيلول/سـﭙتمبر، واحتلَّ المعبدَ عنوةً في 10 آب/أغسطس، ولم يسيطرْ على المدينة بالكامل إلا في 7 أيلول/سـﭙتمبر بسبب العناد والإصرار في الدفاع عن كل حي في المدينة. دُمِّرَتِ المدينةُ سنةَ (70 م)، ولاقى عدد كبير جدًا من اليهود مصرعَهم خلال أحداثها المأساوية. إحياءً لذكرى هذا النصر، أمرَ تيطوسُ الذي أصبحَ فيما بعدُ إمبراطورًا ببناء قوسٍ للنصر في روما والذي مازال موجودًا حتى يومنا هذا.

فيما بعد، ثار اليهودُ من جديد في عهد أدريانوس Adrien، حاكم سورية السابق وخليفة تراجان، وذلك عندما أراد الإمبراطورُ تشييدَ معبد لجوبيتر في موقع معبد يَـهْـوَه Jahveh. لقد أظهر سيـﭭـيروسُ Sévérus المكلَّفُ بقمع الثورة قساوةً شديدة وطرد اليهودَ المقيمين في ضواحي القدس وأعطى المدينةَ المقدسة اسمَ إيلياء كابيتولين AELIA Capitoline.

كانت التجارةُ في سورية تعاني من الحروب الأهلية التي سجَّلَتْ نهايةَ السلوقيين. وما إنْ أعاد ﭙومـﭙيوسُ النظامَ إليها (64 ق. م) حتى أصبحَ فيها نهضةٌ اقتصادية. وبغزو سورية سيطرَتْ روما على جميع البلاد المحاذية للبحر المتوسط باستثناء مصر التي حكَمَها البطالمةُ. كانت فترة السلام الروماني Pax Romana تُسهِّل عملياتِ التبادل، وكانت عمليةُ هَلْينة الشرق والغرب تنشر في كل مكان الميلََ نحو الترف. كانت هناك حركةُ نقل مستمرة للبضائع التي يتم استلامها عند معابر الفرات أو على حدود الصحراء ثم يعاد شحنها إلى إيطاليا عن طريق مرافئ فينيقيا. لقد وطَّدتْ الحملةُ (105 م) ضد الأنباط الأمنَ وأتاحت للبتراء وبصرى أنْ تصبحا مستودعاتٍ تَحمل إليها القوافلُ المنتوجاتِ من فارسَ والهند.

كانت التجارة سببًا في ازدهار البلاد أكثر من الزراعة. وقد ازداد الازدهار أكثر عندما انفتحَتْ روما الإمبراطورية على بلدان الشرق، وعرف المنتصرون في آسيا طعمَ الرفاهية والملذات. كانوا يريدون أنْ يتمتعوا في ديارهم بهذه الأقمشة والتوابل والعبيد والتي تجعل حياتهم عذبةً ولطيفة.

كانوا يصدِّرون إلى روما القمحَ والخمور والثمار، وخصوصًا سِلعَ الترف. في المرتبة الأولى يأتي الأرجوانُ الذي كان يباع في روما بألف درهم للّيبرة الواحدة [500 غرام]؛ والراتِنْجُ الذي يتم تحويله إلى طلاء البرنيق كان يحمي المخطوطات؛ وبلسم "اليهودية" وتوابل الهند التي كانوا يدعونها "عطورات شامية"؛ وطرود الحرير وصناديق الأحجار الكريمة كانت تجتاز الجبالَ والأنهار ليتمَّ تخزينُها في مدن الشاطئ ثم يتم توجيهها إلى جميع أنحاء الإمبراطورية، كما كانت السفن المحملة بخشب الأرز المخصص لزخرفة المعابد والقصور تغادر مرافئَ فينيقية.

إلا أنَّ التجارةَ الأكثر ربحًا بالنسبة للسوريين كانت على ما يبدو تجارةَ العبيد. كانوا يتوجهون إلى الشرق للحصول على عبيد وإماء بغرض الخدمة والتسلية والإغراء في نفس الوقت. كان هؤلاء العبيدُ يَعرِفون فنَّ الدسائس وإغواء سيدهم ولم يكونوا يتوانون في الحصول على حريتهم؛ فساهَموا في نقل أذواق الشرق وعاداتِه إلى المجتمع الروماني.

أثناء الاحتلال الروماني، وعلى الرغم من تأثير الوسط الشرقي المُذَوِّب dissolvante، ظلَّتْ أنطاكيَّةُ المدينةَ الأكثرَ تأثُّرًا بالروح اليونانية. كانت تلك المدينةُ التي تضمُّ، حسب الأقوال، حتى سبعمئة ألف نسمة تزداد جمالاً. فقد شَيَّد فيها يوليوسُ قيصر مسرحًا وبنى فيها هيرودوسُ "الأكبر" شارعًا على طرفيه أعمدة وقام كلٌّ من كاليغولا وتراجان وأدريانوس وأنطونيو وكومودوس بتجهيزها بالحمّامات والمنتزهات العامة وبنى فيها ديوقليتيانوس Dioclétien قصرًا.

كانت الأبنية الخاصة تختلف عن الأبنية التي كانت تُشيَّد في الغرب في العصر نفسه. كانت تُبنى تبعًا لأحوال الطقس والمواد المتوفرة. وتشكلَتْ مدارسُ للعمارة في سورية الجنوبية واحتفظَتِ المباني المدنيَّةُ والدينية في أنطاكية وأفاميا بالمخططات والأشكال المألوفة في قلب الإمبراطورية. بالمقابل، نشأ وتطوَّر طرازٌ خاص وأصيل في البتراء أثَّر على وادي الأردنّ وتلال "اليهودية".

يميِّز الطريقُ المستقيمُ الكبيرُ المدنَ في سورية. في الغرب، تجتمع الأبنيةُ حول الساحة المركزية للمدينة Forum، بينما تنتصب في الشرق على جانبي الشوارع المحاطة غالبًا بأعمدة. كان شارعُ أنطاكيةَ الكبيرُ مرصوفًا بحجر الغرانيت المصري، وكان شارع أفاميا يقطع المدينةَ من الشمال إلى الجنوب؛ ويضارع شارعُ دمشقَ شارعَ الإسكندرية؛ وكانت تَدْمرُ ترصف أعمدتَها على مسافة ميل واحد تقريبًا.

كان معماريو سورية ذائعو الصيت. كان أحدُهم أبولودوروس الدمشقي (القرن الأول والثاني الميلادي) والذي توجَّه إليه تراجانُ لتجميل روما (ساحة تراجان). كانت الطرقُ التي شقَّ أغلبَها الجيشُ تربط المراكزَ المدنيَّةَ فيما بينها؛ كان تخطيطُها المستقيم بأكبر قدر ممكن قد تم وضعه دون أدنى اهتمام للمنحدرات. من جهة أخرى، كان المزارعون والتجار يتجنبون استخدامَ الطريق المعبَّدة ويأخذون دروبًا عبر الحقول؛ كانت الفِرَقُ العسكرية والبريدُ الإمبراطوري هم وحدَهم من يستخدمون هذه الطريقَ باستمرار[5].

في بعض الأحيان، كانت الأبنيةُ مجمَّعةً وكنا نرى مجموعةً متكاملة مثل مجموعة هيليوبوليس (بعلبك). بدأ الإمبراطورُ "أنطونينوسُ الورِع" Antonin le Pieux ببناء هذا المعبد الضخم المكرَّس لعبادة الشمس "هيليوس" وانتهى بناؤه في عهد كاراكَلاّ. برعَ النحاتون والمعماريون بأعمال فنية رائعة لتزيين المعابد والقصور. وكان يظهر في أعمالهم هذه أسلوبُ الفخامة والبحث عن الزخرفة الغنية التي غالبًا ما كانت تُنفَّذ بأناقة. لقد حافظَتْ أحواضُ التطهير[6] في هيليوبوليسَ على زخارفَ تمَّتْ معالجتُها بعناية فائقة بالتضاد مع التيجان الضخمة التي تتوِّج أعمدة المعبد ذي الجذوع التي يتجاوز ارتفاعها 13 مترًا. كانت هذه الزخارف الأنيقة والمشغولة بمهارة تتميز عن الفن التقليدي الكلاسيكي. لقد تجاهلَتْ السُّعَيفاتِ[7] وأوراق نبات الأَقَنْثة لتُعطيَ الحجرَ نموذجًا مجسَّمًا عن الكرمة واللبلاب.

خير مثال على ذلك هو معبد باخوس الذي شُيِّد في بداية القرن الثالث قرب معبد هيليوبوليس الكبير. هناك على إطار البوابة تصويراتٌ رمزية عن الحب [كطفل بيده قوس] ورسوماتُ "سَتير" satyres [8] تتناوب مع سنبلات ونبات الخشخاش وأغصان الكرمة[9]. كما نجد الروحَ نفسَها في نحت التوابيت الحجرية، فهناك أقنعة بشكل رأس أسد أو "مِدُوس" méduses [10] تصلُ بينها زخارفُ بشكل أشرطة تزين واجهتَها. "أظهرَتِ التنقيباتُ الأثرية في فينيقية وخصوصًا التنقيبات في منطقة صيدا عِدةَ عيّنات من الرسومات من العصر اليوناني-الروماني تعود جميعُها إلى الفن الجنائزي. كانت جدرانُ المدافن الأرضية [النواويس] les hypogées [11] مزينةً بشرائط زهور وزخارف شريطية وطيور وحيوانات وحتى شخصيات أحيانًا. كان هناك مدْرسة أخرى لفن الرسم مركزها تدْمر."كونتونو Contenau: الحضارة الفينيقية (الفن الجنائزي).

يشير الازدهار المادي وحب الفنون إلى حياة أنيقة وثرية. لكنَّ الاكتفاء بهذا الجانب قد يعني أخْذُ فكرة خاطئة عن حياة السكان السوريين.

فهذا الشعب هو شعب متدين بالضرورة. ويهتم بالمسائل الميتافيزيقية [الغيبية] وتستهويه أسرارُ الروح والبقاء.

لم يعودوا يؤمنوا بالأساطير [والخرافات] اليونانية التي تروي مآثرَ الآلهة والإلهات وأهواءهم. لقد كان لعبادة أغسطس، التي كانت تقام بأبهة في سورية كما في جميع أنحاء الإمبراطورية، سحرٌ خاص لدى عامة الناس بسبب الأعياد الرسمية التي كان كهنةُ أُغسطسَ les augustules يقيمونها لتمجيد روما. إلا أنَّ هذه العبادةَ الرسمية لم تكن لتُرضيَ تطلعات النفوس الدينية لكون العبادة الرسمية طقوسيةً عملية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالحياة السياسية. ومن هنا جاء هذا التطوير لديانات الأسرار.

يعود الاعتقاد بالنجاسة إلى أقدم العصور. هذه الحالة من النَّجَس سببُها الموتُ أو الحب أو كل ما يرتبط بهما. (لا تنطبق صفة النجاسة على الكائن النجِس نفسِه فحسب، بل وأيضًا على كل ما يمسُّه. لاويين 15، 26). لهذا، كان قانونُ التطهير أحدَ أوائل القوانين التي فرَضَتْ نفسَها على البشرية، بما فيها المحرَّمات من الحيوانات المسماة نجسة والتي تكمل قوانين التطهير (دوتيرونوم 14)؛ ويرتكز على شعائر [طقوس] يكون فيها للماء عادةً دورٌ رئيسي. فالإنسان كان يغتسل من نجاسته بالمعنى المادي للكلمة: كانت اللاوية تفرض غسلَ ثيابه حتى. (لاويين 15، 5، 13). وعلى مر العصور أخذ التطهيرُ معنىً أخلاقيًا. احتفظوا باستخدام المياه المطهِّرة eaux lustrales [12]، لكنهم أعطَوها معنىً رمزيًا. وبما أنهم اعتادوا على اعتبار النجاسة على أنها نتيجة لدنس أخلاقي، فقد اعتادوا كذلك على إعطاء التطهير معنى المغفرة التي تُمنَح للنفس الخاطئة. (أسطورة أوريست[13] هي إحدى أولى المظاهر على هذا التطور).

بالتوازي مع هذه الفكرة، تطورَتْ فكرةُ أنَّ المرءَ بإمكانه أنْ يتبرَّأَ من خطاياه عن طريق شخص ثالث (كبش فداء). يمكن لشيء أو حيوان أو إنسان، وحتى ملِك أحيانًا، أنْ يتحملَ خطايا قبيلة أو شعب ويُكفِّر عن خطايا الجميع.

ما يشير إلى إحدى مراحل هذا التطور هو الطقس الديني اليهودي الخاص بكبش الفداء الذي كان يتحمل خطايا إسرائيل ويُطرَد إلى الصحراء.

كان قلقُ التطهير ورجاءُ الاتحاد بالألوهة يسيطران على العقول والقلوب. فالفلسفة مجرَّدة تمامًا من الشعور لكي تحقِّقَ هذه التطلعات. على العكس من ذلك، فقد كانت دياناتُ الشرق تقدِّم للنفوس حالاتِ عزاءٍ ورجاء كانت تلك النفوسُ متعطِّشةً إليها. لم يشهدْ أيُّ عصر تطوُّرًا كهذا للتصوف الذي سعى إلى الاكتفاء من التقشف تارة ومن التمتع تارةً أخرى.

لم تحتفظْ سوريةُ بتقاليدها الدينية فحسب، بل احتضنَتْ أيضًا، وبكل معروف، عباداتِ مصر وفريجيا وبلاد فارس.

كانت عبادةُ الإلهة "سيبيل" [كيبيلي] Cybèle [14] منتشرةً في سورية. كانوا يقيمون أسرارَها المأساوية في الربيع. "كان الطوافُ بالأواني الجنائزية [خوابي الأموات] Cannophores [15] يجري على ذكرى الإله آتيس Attis [16] الذي وُجِدَ طافيًا على المياه وسط قصب نهر "السنغاريوس" Sangarius (säkäryä). كان هذا الإله الشاب يمثَّل على هيئة فتى وسيم كان يعيش في جبال فريجيا ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بدورة الفصول من خلال تجسيده لطاقات الطبيعة. كان الخيال الشعبي يراه على هيئة راعٍ صالح منهمك في رعي ماشيته. حدثَتْ في ذلك الحين مأساةٌ دفعَتْ آتيس للتضحية برجولته ومن ثم للموت. يقوم فيما بعد من بين الأموات حتى لا ينفصلَ عن "سيبيل" أمِّ الآلهة التي أشركَتْه في مجدها[17].

كان قطعُ أعضاء آتيس وجنازته وقيامته هي المظاهر الاحتفالية الثلاثة الكبرى للعبادة؛ إذْ كانت تقام بفاصلِ عدة أيام فيما بينها، وتقوم بإحياء آلام الإله وانتصاره فصلاً فصلاً. كان تصوُّفُ المؤمنين يجد فيها مادةً تشفي غليلَهم وتحمُّسَهم. ونظرًا لاستحالة تقديم حفلة المأتم إلى جسد الإله، فإنهم كانوا يتوجهون بها إلى شجرة الصنوبر، الشجرة التي ضحَّى تحتها آتيسُ برجولته. كانوا يأخذون الخشبَ المقدَّس ويلفونه بشرائط صغيرة ويزينونه بالبنفسج. ونظرًا لرغبتهم وإرادتهم في الاتحاد بالألوهة، يقوم "الغالوسيون" les galles*، وهم كهنة عبادة سيبيل، بضرب وتشطيب أنفسهم، وحتى غالبًا ما يقومون بقطع بعض أعضائهم.

شيئًا فشيئًا حصل هناك مذهب توفيقي. فقد تم دمج عدة مذاهب ومعتقدات. لقد تحوَّلَتْ احتفالاتُ أعياد الآلهة المتعلقة بالإله "بعل" في بلاد الشام les Baalaths إلى عيد أمِّ الآلهة، نظرًا لشعبية "سيبيل" الكبيرة. واتخذَتْ الإلهاتُ المحلياتُ هيئاتِ رحيَّا Rhéa [18] "سيبيل"؛ فلبسَتْ تاجًا وأحاطت عرشَها بأُسُود.

كما أُدخِلَتْ إلى سورية عبادةُ "ميثرا" أو الشمس. حقق هذا الدينُ الذي نشأ من اللاهوت الزرادشتي (إيران، القرن 7-6 ق. م) انتشارًا كبيرًا في الإمبراطورية الرومانية خصوصًا بين الجنود في الفيالق، وخاصةً في عهد الأباطرة الأنطونيين Antonins [19]. وبالاحتكاك بالشعوب المُتَهَلْينة، تكتسي العبادةُ الفارسية القديمة السحرَ والأناقةَ التي كانت تقدمها الحضارةُ اليونانية لكل ما هو قريب منها.

يفسِّر كلٌّ من عِلْمَي نشأة الكون cosmogonie [20] وأنسابِ الآلهة théogonie [21] تشكُّلَ العالم وظهورَ الآلهة[22]. في الأصل كان الزمنُ الذي أنجبَ سلسلةً طويلة من الكائنات الإلهية التي يقابلها أرواحُ الشر التي أوجدَها أهريمان[23]. كانت البشريةُ ضحيةَ هذه الأرواح: يظهَر ميثرا ويقوم بالوساطة فيعمل على خلاص البشر. كان الفصل الرئيسي في حياته يتمثل في صراع الثور، وهو الكائن الأول المخلوق والحيوان المقدس، ثم قتْلِه. يعيد هذا القربانُ الحياةَ إلى العالم. ويحمي دمُ الأضحية العالمَ من هجمات الأرواح الشريرة، فيحتفل ميثرا، من خلال وليمة مقدسة، بتبريك جميع الكائنات. وهكذا فإنَّ "ميثرا هو الإله المُعِيْنُ الذي لا يتضرعون إليه عبثًا والمرفأُ المضمون ومرساةُ النجاة للبشر في مصائبهم والرفيقُ القوي الذي يساند ضعفَهم أثناء المِحَن[24].

يغادر الأرضَ محمولاً إلى السماء على عربة من نار تقودها الشمسُ. وسيظهر في نهاية العالم ليقتل الثورَ من جديد. عند ذلك، تلتهم النيرانُ السماوية الكائناتِ الشريرةَ وتُزيل مبدأَ الشر.

تمرُّ مسارَرةُ المؤمنين بسبع درجات. الطقسُ الديني الذي يَدخل المريدُ من خلاله إلى المرتبة الثالثة هو طقس أساسي: يلتزم بحفظ السر حول الأسرار والحقائق التي سيتعرف عليها زاهدًا بالملذات الدنيوية ملتزمًا حياةَ تقشُّف واستقامة. كان من المفضَّل أنْ تجريَ طقوسُ العبادة يوم الأحد، يوم الشمس. وكان العيد الرئيسي في السنة هو "عيد ميلاد الشمس التي لا تُقهَر" "Natalis Solis Invictis" يقام فجرَ يومِ 25 كانون الأول.

مع ذلك، لم يُعلِّقِ الشعبُ أهميةً تُذكَر على صفاء التقاليد الدينية. فالعباداتُ الشرقية كانت ممزوجةً بعضها ببعض. أهورامازدا كان يُعرَف بِـ "زيوس"، وأخذَتْ أناكيتا هيئةَ ﭭـينوس أو سيبيل. الميثرائية Mithriadisme تمثلَتْ في العبادة الرسمية القديمة للأمِّ الكبرى [أُمّ الآلهة] Magna Mater، وهلمَّ جرا... المهم هو إنعاش التصوف من خلال طقوس سرانية تغذِّي حاجةَ الرجال والنساء إلى التطهير المطلق.

كان التصوف يتجلى بعدة أشكال. فمرَّةً يكون هناك تعطيل كامل للأخلاق، ومرةً أخرى يكون هناك عطش للتصوف يبلغ حدَّ الجنون. في بيبلوس، وخلال الاحتفال بموت أدونيس، تؤجِّرُ كثيرٌ من النساء أنفسهنَّ للغرباء ويدفعْنَ الأجرةَ إلى صندوق المعبد. في هييرابوليس Hiérapolis [ﭙـاموكال Pamukkale] [25]، كان هناك تماثيلُ لقضبان ذكرية منتصبة في حرم المعبد. كتبَ أحدُ الرحالة في ذلك العصر: كنا نجد فيه "رجلاً صغيرًا مصنوعًا من البرونز جالسًا عضوُه الذكري ضخم ومنتصب"[26]. كان يجب على كل امرأة متزوجة في هيليوبوليس أنْ تقدِّمَ نفسَها، على الأقل مرةً واحدة في حياتها، لأول عابر سبيل. وكان هذا العرف ساريًا أيضًا في كل من ليديا وأرمينيا: "يتم، في الواقع، فهمُ القوة الإنباتية للأرض من خلال علاقتها مع قوة الخصوبة الحيوانية والبشرية. إنَّ طقوسَ القضيبية [التناسلية الذكرية] وتشكيلَ البغايا المقدَّسات ترتبط بالفكرة القائلة بأنَّ قوى التوليد génération تمارِس فِعلَها مباشرةً على خصوبة الأرض"[27].

كما كان التصوفُ يدعو إلى التقشف الصارم جدًا. كانوا يقمعون الجسد ويقومون بإسكات شهواته؛ فكانت ممارساتُ الصيام والحرمان كثيرةً جدًا. كانوا يوصون بالتعفف وكانت حالاتُ الخِصاء الإرادي متعددة؛ كانوا يقطعون بعضَ أعضائهم تضحيةً في سبيل كمالِهم الأخلاقي.

كان هناك دِين جديد ينتشر في سورية، وكان أتباعُه في أنطاكية يتَسَمَّون بـ"المسيحيين".

في القرن الثاني الميلادي، كانت المسيحيةُ تمتلك أعمالاً مكتوبة ضخمة. لقد انبثقَتْ من وسط يهودي وأخذَتْ، على وجه الخصوص، تنتشر بين الشعوب المتهَلْيِنة. كانت الجماعاتُ اليهودية التي دخلَتْها الروحُ اليونانية هي أول من تقبَّلَ الدينَ الجديد برحابة. فبينما كانت هناك كنيسةٌ تتأسس في القدس على يد بطرس، كانت هناك كنيسة أخرى تولَد في أنطاكية على يد بولس. تميزَتِ الأولى بارتباطها بشريعة موسى: ألم يقلْ يسوعُ المسيح أنه لا يريد أنْ يغيِّرَ شيئًا مما هو قائم؟ بالمقابل، انفصلَتِ الكنيسةُ الثانية عن الأعراف القديمة ورفضَتِ الممارساتِ التي من شأنها إقصاء العقول اليونانية والرومانية. غالبًا ما كانت العلاقات بين الجماعتين متوترة جدًا، حتى إنَّ مسألةَ الختان قد سببتْ صراعًا جديًا.

انتهى الأمر إلى سيادة أفكار بولس، الأكثر عالمية، في بنية المجتمعات المسيحية، وكان ذلك أمرًا محتومًا. كان اليهود المتحولون، ماعدا الذين في فلسطين، يجدون أنفسَهم أكثر فأكثر في وضع الأقلية. كان التوسع المسيحي الذي نشأ منهم يتم خارجًا عنهم.

من المحتمل أنْ يكون الذي هيَّأ لتلَقّي كلام الإنجيل هو النزعات الصوفية التي كانت تظهَر بين جموع الوثنيين والفضولُ التواق إلى كل جديد والذي كانت تبديه الطبقاتُ المثقفة. من جهة أخرى، كان جميع الذين يتألمون يتقبلون بفرح المبدأَ المزدوج للحب تجاه الله والقريب. كان البِرُّ والغفران هما أكبر رسالة جاء بها الإنجيل. كان البائسُ يشعر في الأوساط المسيحية بالمساواة مع أثرى الأثرياء وكان هناك بعضُ الأمثال في الإنجيل تقوم على تفضيل الفقر على الثراء. كانت الحياة في الكنيسة الأصلية على وجه الخصوص جذابةً وباعثة على التقوى. كان كل شيء مشتركًا وكان الموجهون يحرصون على التوزيع المتكافئ كلٌّ بحسب حاجته.

رفضَتِ العقيدةُ جميعَ الآلهة وفرضَتْ توحيدًا خالصًا لا تشوبه شائبة. ومن هنا ارتبطَتْ مباشرةً بالموروث الموسوي. في الوقت نفسه، جسَّدَتِ التطلعات اليونانية التي ظهرتْ في المدارس الفلسفية كما في البدع الدينية، حيث كانوا يعتقدون بوجود قوة إلهية تسود العالم. أعلنَتِ العقيدةُ المسيحية أيضًا مجيءَ عالم العدالة حيث يثاب كلُّ امرئ على أعماله. ففي الحياة الآخرة، تحصل النفسُ الخالدة على الفرح والغبطة السماوية أو يُحكَم عليها بعذاب الجحيم، بحسب استخدامها لحريتها على الأرض (مثل الغني الطالح).

جاءت المسيحيةُ بِدِينِ العقل والقلب. كانت الممارساتُ الدينية والصلوات تُذَكِّر المؤمنين، باستمرار، بواجباتهم وبالرجاء الذي يجب أنْ يكونَ لديهم بالنسبة للحياة الآخرة. فمن خلال مثاليته الفكرية وسموه الأخلاقي، انتشر المذهبُ الجديد بسرعة وأصبح له أتباع متزايدون سواءً بين النخبة أم بين العوام.

إنَّ ما ميَّزَ تاريخَ المسيحية في سورية هو زوال كنيسة القدس إثرَ حملة تيطوس عام 70 م. وابتدأت الهرطقاتُ؛ إذْ أراد المسيحيون أنْ يُشبِعوا فضولَهم الديني على حساب العقيدة، فأهمَلوا قولَ المسيح: "طوبى للمساكين بالروح"، وتفرغوا إلى التأمل الفكري، وتسرَّبَتِ النزعاتُ الغنوصية[28] في كل مكان تقريبًا فقسمَتِ المؤمنين وأفسدَتِ الإنجيلَ ونزعَت إلى تحويله إلى شكل من أشكال تبرير الضعف الإنساني. كان هناك النقولاويون Nicolaïtes في القرن الأول الميلادي. فيما بعد، في القرن العاشر والحادي عشر، رَفضَ مذهبُهم العزوبة الكهنوتية.

تجادلَ عدد كبير من العلماء في طبيعة المسيح، بينما مزجَ اليهودُ - المسيحيون بين الشريعة القديمة والمبادئ الجديدة. لقد زَرعتْ هذه الصراعاتُ المذهبية الاضطرابَ وخرَّبَتِ التفاهمَ الذي كان سائدًا في الجماعات الأولى. من هنا كانت الحاجة إلى درجات كهنوتية تحكم المؤمنين وتشرف عليهم. وأُوكلت هذه المهمةُ إلى الأسقفية. فبسط أُسقفُ أنطاكية سلطتَه على جميع المناطق الخاضعة للنفوذ اليوناني وأخذَ لقبَ أُسقف سورية في عهد تراجان.

وعلى الرغم من الرقابة التي كانت تمارسها الأسقفية، فقد كثرتْ المذاهبُ المنشقة [الهرطقية]. وظهرَتِ الغنوصيةُ في السامرة. وكان سمعان (الساحر) معلِّمَ الغنوصية الأول. وفي بدايات القرن الثاني الميلادي، أنزل "ساتورنيل الأنطاكي" Saturnil d'Antioche يَهْوَه إلى مرتبة الملاك الخالق وهدد المجتمعَ من خلال استهانته بالزواج والإنجاب. هناك بدع أخرى أعطت دورًا خاصًا للحية في الكتاب المقدس.

انتشرت مذاهب غنوصية كثيرة في سورية متأثرةً جزئيًا بالمدارس المصرية. وصل البعضُ، من خلال احتقار كامل للجسد، إلى تقشُّف أضرَّ بالجسد؛ بينما وصل الآخرون إلى إباحية libertinisme أشبعَتْ رغباتِ الجسد بالكامل. مع ذلك، بقيَتْ هذه التعاليمُ محدودةً في العالم. بالمقابل، سبَّبَ مارسيون Marcion (حوالي 85-حوالي 160)، والذي يعود أصله إلى آسيا الصغرى، قلَقًا جديًا لرؤساء الكنيسة؛ وقد اعتُبِر هرطوقيًا محرومًا سنة 144 م. وترك مذهبُه أثرًا في سورية حتى القرن الخامس.

في القرن الثالث الميلادي، أخذ الصراعُ ضد المسيحية منحىً دمويًا ومنهجيًا؛ وعانى مسيحيو سورية من الاضطهادات؛ وسال دمُ الشهداء في دمشق وأنطاكية وبعلبك؛ وشعرَتْ روما بضرورة إيقاف تطور المذهب المسيحي الذي يهدد ليس فقط العبادةَ الإمبراطورية بل والذي يقوِّض دعائمَ المجتمع القديم أيضًا من خلال فكرة المساواة التي كان ينشرها في العالم. "طوبى للمساكين بالروح... طوبى للجياع والعِطاش إلى البِرّ لأنهم يُشبَعون... طوبى للرُّحماء لأنهم يُرحَمون... طوبى للوُدَعاء لأنهم يرِثون الأرض" (متى 5، 3)

وهكذا جرتْ محاولةٌ أخيرة ضد المسيح لصالح الشِّرك اليوناني - الروماني.

في عام 193 م، تم الاعترافُ بـ "سـﭙتيموس سيـﭭـيروس" Septime Sévère [29]، والذي أصله من مدينة "ليـﭙـتيس ماغنا" [لِـبْـدة] Leptis Magna [Lpqy/Neapolis] في ليبيا، كإمبراطور على روما. أثناء إقامته في سورية، أسَّسَ مدرسةً للحقوق في بيروت حيث درَّس فيها أولـﭙـيانوس [أولـﭙـيان] Ulpien وﭙـاﭙـينيانوس [ﭙـاﭙـينيان] Papinien اللذان فقدا الحظوةَ وجُرِّدا من منصبهما وأُعدِما، الأولُ بأمر من هيليوغابال Héliogabale والثاني بأمر من كراكلا.

قبلَ أنْ يتقلدَ سيـﭭـيروسُ رداءه الأرجوانيَّ الخاص بالأباطرة الرومان، قاد فيلقًا إلى سورية حوالي 180 م. في ذلك الوقت، تزوج من جوليا دومنا الحمصية. ووُلِدَ من هذا الزواج كراكلا ثم جيتا. خلال فترة حكمه، أمرَ سيـﭭـيروسُ باضطهادات قصيرة لكنها عنيفة ضد المسيحيين. وبعد موته عام 211 م، قام كراكلا باغتيال أخيه ليتفرَّد بالحكم. لقد جعلَتِ القسوةُ ذلك الإمبراطورَ، وهو أول إمبراطور روماني سوري الأصل، ذا شهرة يؤسَف عليها في العالم الروماني. ومن خلال مرسوم شهير، نَشَرَ في جميع أنحاء الإمبراطورية حقَّ المواطَنة الروماني وأمَرَ ببناء الحمّامات الشهيرة والتي تحمل اسمَه في روما. اغتاله ماكرينوسُ Macrin رئيسُ الحرس الإمبراطوري عام 217 م أثناء حملة ضد الفرثيين [البرثيين].

اقتادَتْ "جوليا مويسا" Julia Moesa، وهي أختُ زوجةِ "سيـﭭـيروسَ"، حفيدَه "هيليوغابال" إلى وسط الجنود المعسكِرينَ قرب إميسا [حمص]. ونودي بهذا الطفل البالغ ثلاث عشرة سنة بلقب أغسطس. وهربَ ماكرينوسُ، بعد أنْ هُزِم على مشارف أنطاكية، إلى آسيا الصغرى حيث اعتُقِلَ وقُطِعَ رأسُه.

توجَّهَ الإمبراطورُ الثاني السوري "هيليوغابال" إلى روما في السنة التالية. و"هليوغابالُ" هذا هو الحفيدُ الأخير لـ "باسانيوس" Bassanius كاهنِ الشمس في حمص، والذي ورِث عنه الوظائفَ الكهنوتية، فأدخَلَ إلى إيطاليا العباداتِ التي كان يقيْمها على ضفاف العاصي. إنَّ التوفيقيةَ الدينية التي مهَّدَتْ لها جوليا دومنا وأكملها الإمبراطورُ الجديد لا تخص تاريخَ سورية وحده بل تاريخ الإمبراطورية. نفس الشيء بالنسبة للانحرافات وطقوس الجنس الجماعي والخلاعات الطقسية التي أصبحَتْ تجري في العاصمة. كانت هذه التوفيقية بنظر الرومان، وحتى بالنسبة لأكثرهم انفتاحًا على الأفكار الجديدة، تُعتبَر ذلك الخطأ الفادح الذي لا يُغتفَر وهو إخضاع "جوبيتر كاﭙـيتولينوس" Jupiter Capitolin القديم لإله غريب يُعلِنه إلهًا أسمى للإمبراطورية. بالإضافة إلى إهانة إلههم "جوبيتر" بسبب سلوك الإمبراطور الشائن، لأنَّ الإمبراطور كان يدنس، عمدًا حسب أهوائه، عظَمةَ روما. فقُتِل سنة 222 م في ثورة شعبية وأُلقيَتْ جثتُه في نهر التيبر.

كان إيلاغابال فتىً وسيمًا أفسَده حتى العظم فجورُ العبادات السورية الذي لا حد له. فهو المتدين على طريقته والذي بقي كاهنًا وفيًا لإلهه "بعل شمس" Le Baal Solaire ولحجره الأسْود الحمصي، كان يسيء استعمالَ سلطته تحت غطاء ردائه الأرجواني فيمارِس باستمرار وعن قناعة طقوسَ الفجور الغريبة المستوردة من بلاده.

خلَفَه ابنُ عمه ألكسندر سيـﭭـيروس، حفيدُ "جوليا مويسا" (222-235 م). كان أميرًا حكيمًا وذكيًا وصالحًا، وكان عهدُه ردةَ فعل على عهد سلَفه. فبدأ بإعادة الآلهة التي جاءت من سورية إليها. من جهة أخرى، لم يحملْ سكانُ حمص أيةَ ضغينة من جرَّاء هذه الإهانة. كان هناك هموم أخرى تشغل بالَ الناس. كان الساسانيون[30] قد أطاحوا بالأرشاكيين Arsacides [31] وأسسوا إمبراطوريةً فارسية جديدة. وقاموا بتهديد أرمينيا ثم وجهوا قواتِهم إلى بلاد الرافدين.

سارع ألكسندر سيـﭭـيروس إلى سورية وأعاد تنظيمَ الجيش الذي وهنَتْ عزيمتُه نتيجةَ احتكاكه بسكان البلاد وأوقَف زحْفَ "أرتحْتِشتا" Artaxersés. وبعد زمن قليل، اغتيل وهو يقاتل الجرمانَ على نهر الراين.

لم تُعِرْ سوريةُ اهتمامًا كبيرًا لِما كان يجري في الإمبراطورية. فالتجارة كانت مزدهرة: كان الغنى والترف يُرضي سكانَ المدن. والمؤامراتُ والدسائس التي كانت تؤدي إلى تنصيب الأباطرة أو إقالتهم لم يعد لها أية أهمية بالنسبة لهم؛ فالخوفُ من الفُرس قد غطى على كل همٍّ آخر. لكنَّ الإمبراطورَ فيليـﭖَ العربيَّ (244-249) الذي احتفل بألفية روما (248) تركهم يحتلون بلادَ الرافدين، مما جعل حدودَ الفرات مكشوفة. إلا أنَّ ديسيوسَ Decius هزمه وقتله وأصبح إمبراطورًا (249-251) واضطهد المسيحيين عام 250 م.

بلغ "صابور" الأول Sapor 1er  ملِكُ الفُرس الساساني (241-272 م) واديَ العاصي ودخل أنطاكيةَ وأباحَها للنهب (258). ثم توجَّه الإمبراطورُ ﭭـاليريانوسُ [ﭭـاليريان] Valérien (253-260) إلى الشرق، وهو الذي اضطهد المسيحيين أيضًا، وتولى قيادةَ الجيش ومضى إلى الفرات؛ فهُزِم في نُصَيبين (إديسّـا) Nisibe (Edesse) سنة 260 ثم سُجِنَ وقُتِل.

تابعَ الساسانيون سيرَهم نحو البحر ودخلوا جبالَ كيليكية فاصطدموا بقوات "باليست" Baliste وأُذَينة Odénath.

كان هذا الأخيرُ أميرًا عربيًا حكَمَ تدْمرَ، تلك المدينةَ التي ازدهرت في عهد السلوقيين وأتاح لها وضعها الجغرافي المميَّز بأنْ تغتنيَ بالتجارة وتحتفظَ باستقلالها أيضًا. ولأنَّ الصحراءَ السورية تحيط بها من كل جانب، لم تتجرَّأ الجيوشُ المعادية على مهاجمتها، حتى ولو مباغَتةً. وحتى الغزوةُ التي سبق أنْ جهزها أنطونيو لاحتلالها باءت بالفشل.

كانت هذه المدينة تنمو منعزلةً وكانت تدير نفسَها كجمهورية تجارية من خلال مجلس شيوخ تاركةً قسطًا من الحُكْم لرؤساء المنطقة العرب. كان أحدهم أُذينة الذي اغتاظ من قلة الأهمية التي كان الفُرسُ يولونها لمعاهدته فتوجه نحو الرومان وأخذ على نفسه حمايةَ الحدود الشرقية للإمبراطورية بجنوده البدو؛ ودافعَ عن مصالح غاليانوس بن ﭭـاليريانوس ضدَّ مَكريانوس الذي أعلن نفسَه إمبراطورًا بدعم من "باليست". في مقابل ذلك حصل أذينةُ على لقب قائد جيوش الشرق والذي قلده إياه غاليانوس بعد أنْ أصبح إمبراطورًا (253-268).

وبمساعدة زوجته زنوبيا، أزمعَ على أنْ يقتطعَ لنفسه مملكةً مترامية الأطراف في الولايات التي أوكلَتْها إليه روما. اغتاله ابنُ أخيه بينما كان ينفذ المخطط (267 م). فأكملت زنوبيا ما بدأ به زوجُها، كوصية على ابنها وهب اللات؛ وأحاطت نفسَها برجال ثقات مستعدين لمساعدتها ولتقديم المشورة لها. فكان لونجينوس Longin الفيلسوفُ الحمصي مستشارَها الأول (كان تلميذًا لأوريجينوس[32] وأستاذًا للأفلاطوني الحديث السوري ملخوس والذي سمَّاه ﭙروفيروس Prophyre)، وكان بولس السمساطي أسقفُ أنطاكية أحدَ أصدقائها. فهي النشيطة جدًا والتي كانت مرةً قاسية ومرة رحيمة لم يغبْ عن بالها الهدفُ الذي رسمتْه لنفسها.

اعترفتْ بلادُ الرافدين وسورية ومصر بنفوذها خلال عدة سنوات. وكامرأة شرقية كانت تعرف الأهميةَ الواجب إعطاؤها لمظاهر الهيبة؛ فكانت تحيط نفسها ببلاط ملكي وكانت متألقة بثقافتها وجمالها وقوة إرادتها. ولكونها متمرسةً باستعمال السلاح، كانت أيضًا زعيمةَ حَرب وفارسة لا يشَقُّ لها غبار. وأصبحتْ تدمر في عهدها المدينةَ المتألقة التي تكشف أسرارَها الأطلالُ الحالية.

كان لهذه الدولة التدمرية حضارتُها الخاصة، ثقافةً هجينة نصْفُها هلنستي ونصفها الآخر ساميّ عربي لم تمتزج قط بالحضارة اللاتينية. كان السكان يستخدمون اللغةَ اليونانية واللاتينية والعربية.

للأسف كان عمر هذه الإمبراطورية الرائعة قصيرًا. لقد وضع الأباطرةُ الإيليريين illyriens (268-284 م) حدًا للفوضى وأعادوا النظامَ ووطدوا الوحدة. واستعاد أعظمُهم وهو أورليانوس [أورليان] (270-275) سيطرةَ روما على الشرق فهَزم الجيشَ التدمري قرب أنطاكية ودخل إميسا [حمص] ثم استولى على تدمر وعاملَ زنوبيا معاملةً حسنة، لكنه قتل لونجينوسَ. وبينما كان الإمبراطور عائدًا إلى إيطاليا (273 م) اندلعت ثورةٌ وعصيان، فرجع الجنودُ الرومان ونهبوا تدمر؛ وقِيْدت زنوبيا أسيرةً إلى روما حيث سارت على قدميها وراء عربة أورليانوس الظافر في حفل انتصاره؛ وعاشت أيامَها الأخيرة في تيبور (تيـﭭولي) قرب روما، محاطةً باحترام الجميع.

أصبح دِيوقليتيانوسُ [دِقلديانوس] Dioclétien إمبراطورًا (284-305 م). وقسم الإمبراطوريةَ قسمين وعيَّنَ مكسيميانوسَ عام 286 م شريكًا له، فأَوكَل إليه الغربَ بينما احتفظ هو بالشرق. في سنة 293 م، ومن أجل دفاع أفضل عن الإمبراطورية، عيَّن "قيصرين" هما: "قسطنطينوس خلوروس" Constance Chlore و"غاليريوس" Galère، كمعاونين للأباطرة (الإمبراطورَين "أغسطس") مع الاحتفاظ بحق التوريث. عندئذ، شرعَ بإصلاح واسع على الصعيد العسكري والقضائي والنقدي والإداري، وقام بتجميع الولايات على شكل إدارات؛ فكانت سورية التي تضم تسعَ ولايات ضمن إدارة الشرق.

لا يمكن للإمبراطور أنْ يكون في كل مكان. بلا شك أنَّ الإمبراطوريةَ لم تكنْ أوسعَ مما كانت عليه في عهد تراجان أو أدريانوس؛ إذْ ولَّى الزمانُ الذي يواجه فيه رجل واحد جميع الأخطار. كما أنَّ ضغطَ العدو كان أقوى بكثير على جميع الجهات، والجيوشُ يصعب السيطرة عليها.

من جهة أخرى، فإنَّ تسليمَ القيادة لكبار القادة يعني إطلاقَ العنان لمحاولات التعدي التي سببت كلَّ مصائب السنوات الخمسين الأخيرة. فكَّر دقلديانوسُ بأنْ يجعلَ من خصومه الاحتماليين زملاءً له وورثة. وبهذا، فقد هدَّأَ من طموحهم ودعَمَ المستقبلَ والحاضرَ معًا[33].

حققتِ المسيحيةُ في نهاية القرن الثالث انتشارًا واسعًا في شمال سورية؛ لكنها لم تضمَّ إليها، في المقابل، سوى عدد قليل من الأتباع في الجبال وفي فلسطين. وبقيَتْ هيليوبوليسُ وغزة متعلقتَينِ بعباداتهما القديمة. ونزولاً عند نصائح غاليريوس[34]، عزم دقلديانوسُ على مقاومة كل من يرفض التضحية للآلهة. فنجم عن ذلك اضطهادُ المسيحيين في احتفالات عيد الفصح. وفي سنة 303 م، صدر مرسوم يجرِّد الموظفين المسيحيين من مناصبهم ويقضي بتدمير الكنائس وإتلاف الكتب المقدسة. ودام ذلك ثماني سنوات. ثم صدر مرسوم يتسامح مع المسيحيين. وعاد الاضطهادُ في عهد الإمبراطور مكسيميانوس (306-310) ثم في عهد "ليسينوس ليسينيانوس" Licinus Licinianus (308-324 م) الذي أصبح حاكمًا لكل الشرق في سنة 313 م بعد انتصاره على مكسيمينوس الثاني دازا Maximin II Daia حاكم سورية (309-313).

كان قسطنطين بن قسطنطينوس خلوروس وصِهْر مكسيميانوس قد أُعلِن إمبراطورًا سنة 306 م عقب وفاة أبيه. كان انتصاره على الإمبراطور الروماني مكسنتيوس بن مكسيميانوس (306-312) انتصارًا للمسيحية. ففي سنة 313 م صدر مرسوم ميلانو الذي أقرَّ الحريةَ الدينية. وفي سنة 324 م هَزَم قسطنطينُ ليسينيوسَ الذي كان يحكم الشرقَ وكان يتآمر على قسطنطين، مستعيدًا بذلك وحدةَ الإمبراطورية. لقد جعل من نفسه مدافعًا عن المسيحية ودعا سنة 325 إلى مجمع مسكوني في نيقية (تركيا): ولأنه كان يَعتبِر الكنيسة أحدَ الركائز الأساسية للدولة، فقد تدَخَّلَ مباشرة في المسائل الدينية. أسَّس سنة 325-330 على ضفاف البوسفور روما جديدة هي القسطنطينية ونقل إليها عاصمتَه.

كان إنكار الآلهة القديمة أفضلَ الطرق للحصول على حظوة الملك. وأصبحت سوريةُ، باستثناء بعض المدن، مسيحيةً بالكامل؛ وأقيمت المعابدُ في جميع الأنحاء لتمجيد يسوع المسيح والقديسين. كما شُيِّدت كاتدرائياتٌ في أماكنَ ارتبطَتْ بحياة المسيح: فالمؤمنون الذين تقودهم أُمُّ الإمبراطور هيلانة وحماته "أوتروﭙـيا" Eutropie قد عثروا على غار بيت لحم ومنزل العشاء السري وقبر المسيح وحتى الصليب المقدس والتي لم يُثْبِتْ "أوزيبُ" Eusèbe [35] صحتَها، وبرزَتْ أنطاكيةُ أكثر فأكثر كمركز ديني رئيسي في الشرق. وازدادت أهمية أُسقفها يومًا عن يوم بسبب الصراع الذي كان يقوم به إما لصالح الأريوسية أو ضدها. وقُضيَ على الوثنية وعمل الناسُ جاهدين على محو أثارها من "أماكن عبادة" و"أشجار خضراء" وغيرها.

في عهد قسطنطين "الأكبر"، حققتْ قوةُ الإمبراطورية الأمنَ في سورية. فقد وقَّع "صابور" الثاني Sapor II معاهدةَ سلام ولم يعُدِ السكانُ يخشون من اجتياح الفُرس. وعرفت البلادُ عصرًا جديدًا من النشاط الاقتصادي.

توفي قسطنطين سنة 337 م. وانقسمت الإمبراطورية من جديد. أصبح قسطنطينوسُ الثاني Constance II بن قسطنطين إمبراطورًا (337-361) وحكم وحده منذ سنة 351 م. كان يقيم غالبًا في أنطاكية التي أصبحت عاصمةَ الشرق. لقد دافع عن المسيحية في الإمبراطورية لكنه حمى الأريوسيين [الأريسيين].

لقد فرضَت ثورةُ جيوش بلاد الغال لقبَ أغسطس على جوليانوس ابن أخ قسطنطين الأول. كان موت قسطنطينوس سنة 361 قد جنَّب الحربَ، وأصبح جوليانوسُ إمبراطورًا. واشتُهِر باسم جوليانوس المرتد Julien l'Apostat، فقد تخلى عن المسيحية ودافع عن الوثنية الموسومة بالأفلاطونية الحديثة. وكانت تلك نهضةً قصيرة لكنها متألقة للعبادات الوثنية. لقد سعى الإمبراطورُ للمرة الأخيرة إلى إنقاذ المجتمع القديم الذي قوَّضَ دعائمَه مذهبُ المساواة الإنجيلي. توفي سنة 363 وهو يحارب الفُرسَ في بلاد الرافدين.

سارع جوﭭيانوس Jovien (363-364 م) الذي جاء خلفًا لجوليانوس إلى إقامة السلام مع صرغون ملك الفرس وتنازل له عن البلاد المفتوحة في عهد دقلديانوس؛ واستأنف سياسةَ قسطنطين الدينية في الداخل وأعاد للكنيسة امتيازاتِها.

حكمَ الشرقَ الإمبراطورُ ﭭـالِنْسُ (364-378 م) شريكُ أخيه ﭭـالنتينيانوس إمبراطورِ الغرب (364-375 م)، واعتنق الأريوسيةَ وكان عليه مواجهةُ الغزو البربري في الغرب. خلال هذا الوقت، لم ينصبَّ اهتمامُ الأباطرة les Augustes وكبارِ الموظفين على سورية. وأصاب البلادَ الفقرُ، وأعاقت ابتزازاتُ خزانة الدولة العملَ وأصبحت اللصوصيةُ وقطعُ الطريق من جديد وسيلةً للتعيُّش. أرسل ﭭـالِنْسُ إلى الدانوب جميعَ القوات التي أمكنه حشدَها فهزمَتْه قبائلُ "القوط الغربيين" wisigoths البرابرة قرب أندرينوبل (إدرنة) Andrinople (Edirné) في تركيا وقُتِل عشيةَ هزيمته.

انتقل حُكمُ الشرق إلى ثيودوسيوس الأول الذي نودي به أُغسطسَ سنة 379 م؛ فجعل من المسيحية دينَ الدولة (380 م) ومنع كلَّ عبادة وثنية.

أدى اغتيالُ الإمبراطور ﭭـالنتينيانوس الثاني (375-392) إلى ضم الغرب إلى ممتلكاته؛ فتحققت وحدةُ الإمبراطورية الرومانية للمرة الأخيرة ولفترة قصيرة جدًا. وعندما توفي ثيودوسيوسُ "الأكبر" سنة 395 م، أورثَ الشرقَ لنجْله الأكبر أركاديوس Arcadius (395-408) والغربَ لابنه الثاني هونوريوس Honorius (395-423).

انتهت سيطرةُ روما على العالم. وتم الانفصال بين الشرق والغرب. وتغلغلَتِ العاداتُ الأسيوية في إيطاليا. لقد حكَمَ أغسطسُ مراعيًا الأصولَ الجمهورية بينما حكم دقلديانوسُ ثم قسطنطينُ حكمًا مطلقًا. وبوفاة ثيودوسيوس كان هذا التطورُ في مزاولة الحكم المطلق قد أخذ شكلَه النهائي. أصبحت سوريةُ لاحقًا إحدى الولايات الرئيسية في الإمبراطورية البيزنطية التي كان عليها، لكي تصبحَ أكثرَ قوةً ونفوذًا، أنْ تُهْمِلَ الغربَ وتركز جهودَها على الشرق.

ترجمة: محمد علي عبد الجليل

مراجعة: ديمتري أفييرينوس

*** *** ***

ملاحظة: منعًا لأي لبس في ذهن القارئ بخصوص بعض الأسماء والتواريخ المشار إليها في الصفحات الأخيرة، يجب التنويه ببساطة إلى أن دقلديانوس الذي أصبح إمبراطورًا في سنة 284 م قد أنشأ "تنظيمًا رباعيًا" للإمبراطورية "Tétrarchie": "tétra" باليونانية تعني "أربعة"، منظِّمًا بذلك الإمبراطوريةَ الرومانية الذي قسَّمها بين أربعة أباطرة، اثنين بلقب "أغسطس" واثنين بلقب "قيصر" يحكمون الإمبراطورية معًا مع الاحتفاظ بحق التوريث.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] فلاﭭيوس يوسيفيوس (37 ق. م-100 م) مؤرخ يهودي. سترابون (نحو 58 ق. م-نحو 22 م) جغرافي يوناني.

[2] ابنُ ابنِ أخ يوليوس قيصر ووريثه.

[3] قُتِلَ جميعُ اليهود في دمشق: رينان، تاريخ أصول المسيحية.

[4] المقصود هو نفسه المؤرخ فلاﭭيوس يوسيفيوس Flavius Josèphe المتوفَّى سنة 100 م والذي انتهى به الأمرُ إلى الإقامة في روما حيث كتبَ "حرب اليهود".

[5] أ. شوازي A. Choisy: تاريخ العمارة، المجلد الأول.

[6] قرابين: احتفالات يقوم الوثنيون من خلالها بتطهير شخص أو مدينة أو حقل.

[7] زخارف بشكل سعف النخل.

[8] شخص خرافي عند الوثنيين نصفه الأعلى بشر والأسفل ماعز.

[9] عمارة: زينة على شكل حَبْل من أوراق الكرمة وعناقيد العنب.

[10] رسم خرافي لامرأة يموت كلُّ من ينظر إليها.

[11] hypogée بناء تحت الأرض مخصص للقبور.

[12] eaux lustrales ماء مقدَّس عند القدماء: ماء المعمودية، (انظر 1).

[13] أسطورة يونانية. ابن أغاميمنون Agamemnon وكليتَمْنَستر Clytemnestre. قَتَلَ أمَّه، بالاتفاق مع أخته إلكترا، ليثأر لأبيه، ثم طاردَتْه آلهةُ العذاب Erinyes أو آلهةُ الجحيم Furies.

[14] إلهة الخصب، أصلها من آسيا الصغرى.

[15] Cannophore (Canope) خابية الأموات: وعاء جنائزي.

[16] آتيس: إله من فريجيا، وهو رفيق سيبيل Cybèle.

[17] ف. غرايُّو F. Graillot: عبادة "سيبيل".

* الغالوسيون: هم كهنة سيبيل المَخصيّـون؛ من المحتمَل أنهم استعاروا اسمَهم من نهر "غالوس" في غالاسيا والذي كان يجري قرب معبد سيبيل الأصلي والذي يقال أنه يجعل كلَّ من يشرب منه مجنوناً. أغلبُ الظن أنَّ الكهنةَ كانوا يخصون أنفسَهم، بدموية، اقتداءً بـ "آتيس"، شريك سيبيل في الشعائر. [المترجم]

[18] رحيّا (أسطورة يونانية): زوجةُ كرونوسَ بنِ أورانوسَ وأبي زيوس.

[19] اسم الأباطرة الرومان السبعة (نيرﭭـا، تراجان، أدريانوس، أنطونينوس، مَرقُص أوريليوس Marc Aurèle، ﭭـيروس، كومودوس).

[20] عِلْم تشكُّل الأجرام السماوية.

[21] علم أنساب وبنوّة الآلهة.

[22] هوبي Huby، خريستوس، فصل 9.

[23] أمير الشر، في مقابل أورموزد Ormuzd [أهورامازدا]، في الزرادشتية.

[24] فرانس كومون Franz Cumont: أسرار "ميثرا".

[25] مدينة قديمة في فريجيا، مشهورة بمعبدها المكرَّس لسيبيل.

[26] لوسيان: De Dea Syria.

[27] دوسّو Dussaud: مقدمة لتاريخ الأديان.

[28] نظام فلسفي ديني يدّعي أتباعُه معرفةً كاملة بالله (من اليونانية gnôsis: المعرفة).

[29] "سيـﭭـيروس" Sévères: سلالة حاكمة رومانية (193-235) تضم (5) خمسة أباطرة هم:  "سـﭙتيموس سيـﭭـيروس"، كراكلا، جيتا، إيلاغابال، ألكسندر سيـﭭيروس.

[30] سلالة حكمت بلادَ فارس من سنة 226 حتى 651 م.

[31] أو الفرثيين [الـﭙـرثيين] وهم سلالة حكمت من سنة 250 ق. م حتى 220 م.

[32] مفسِّر ولاهوتي ولد في الإسكندرية (حوالي 185-حوالي 253) أبو الكنيسة اليونانية.

[33] غ. بلوخ G. Bloch: الإمبراطورية الرومانية، فصل 6.

[34] إمبراطور روماني (293-311 م)، صِهْر دِيوقليتيانوسُ [دِقلديانوس] Dioclétien.

[35] البابا سنة 310 م.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود