english

الصفحة التالية                  الصفحة السابقة

أنا وأنت
الجزء الثاني

مارتن بوبر

 

على الأقل، فيما يتعلق بهذا الموضوع، يتَّفق تاريخ الفرد مع تاريخ الجنس البشري، ومهما كان شكل الشراكة بينهما، على أنهما يعكسان تزايدًا متدرجًا في عالم الـهو.

أما فيما يتعلق بتاريخ الجنس البشري، الذي نحن بصدده، فتجدر الإشارة إلى أن بدايات العوالم المتعاقبة للثقافة تعود إلى حالة بدائية، قد تختلف من حيث الشكل إلا أنها تبقى ثابتة من حيث المضمون. وبما ينسجم مع هذه البدائية تبدأ العوالم الثقافية بعدد ضئيل من الأشياء، ما يجعل ليس فقط حياة ذلك الجنس إنما حياة تلك الثقافة المعينة متطابقةً مع حياة الفرد. لكن، وبغض النظر عما يبدو وكأنه عوالم منعزلة، ومن خلال التأثير التاريخي لثقافات أخرى سبقت، تهيمن هذه الثقافات في مرحلة معينة على عالم الـهو الخاص بها. وهذه حالة لا يتم بلوغها باكرًا، إلا أنها، على أيَّة حال، تسبق جيل الذروة، حيث بوسعها أن تتخذ شكل القبول المباشر لما هو معاصر، كقبول اليونان بالعالم المصري؛ أو شكل القبول غير المباشر لما مضى، كقبول المسيحية الغربية بالعالم اليوناني. بعد ذلك، توسِّع هذه الثقافات عالم الـهو الخاص بها، ليس فقط من خلال تجربتها الذاتية، إنما أيضًا من خلال استيعاب التجربة الأجنبية. عندها، فقط، تبدأ ثقافة ما بالنمو وبالتوسع الراسخ والمسكتشِف. (لندع خارج حساباتنا في الوقت الراهن المساهمة الأساسية للادراكات وللأفعال الحسِّية لعالم الـأنت). انطلاقًا من هنا، وبشكل عام، يكون عالم الأشياء، في كل ثقافة، أكثر شموليةً من ذلك الذي سبقه. ورغم العثرات والتراجعات الكثيرة فإنه بوسعنا أن نتبين بوضوح، في التاريخ، التزايد التدريجي في عالم الـهو. وإلى جانب تلك النقطة الناجمة عن الاستنتاج بأن طابع المحدودية و/أو طابع ما يدعى باللانهاية، أو بتعبير أدق اللامحدودية، ينتمي إلى "المنظور العالمي" لثقافة معينة؛ وذلك بالرغم من أنه مؤكد أن عالمًا "محدودًا" بوسعه أن يتضمن أجزاء وأشياء وعمليات أكثر من عالم "لامتناه". وتجدر الملاحظة أنه من الأهمية بمكان أن نقارن ليس فقط مدى المعرفة الطبيعية، بل أيضًا تلك المعرفة المرتبطة بالفارق الاجتماعي وبالإنجاز التقني، لأنه عن طريقهما معًا يتوسع عالم الأشياء.

وتكون العلاقة الأولية للإنسان بعالم الـهو متضمَّنة في المعاناة التي تعيد تشكيل العالم بشكل مستمر، ومتضمَّنة أيضًا في الاستعمال الذي يرشد العالم إلى غاياته المتعددة الداعمة والمسكِّنة والمزوِّدة للحياة البشرية. وبشكل يتناسب مع الازدياد في مدى عالم الـهو، تزداد أيضًا إمكانيات التجربة وإمكانيات الاستخدام، ويصبح بوسع المرء، بشكل مؤكد، استبدال التجربة المباشرة بالتجربة غير المباشرة، واكتساب الموضوعات المعرفية، كما يصبح بوسعه أكثر وأكثر اختزال استعماله للعالم ليجعل منه "استخدامًا" تخصصيًا. مع ذلك، يبقى من غير الممكن، على مرِّ الأجيال، تجنُّب التطور المستمر لهذه الإمكانية. وهذا ما نعنيه عادة حين نتحدث عن التطور التدريجي للحياة الروحية. في هذا المجال، يكون ذنب الخطيئة الفعلية، فيما يتعلق بالخطاب، تجاه الروح متضمَّنًا بلا شك؛ لذلك غالبًا ما تكون "الحياة الروحية" عائقًا أمام تلك التي تعاش في الروح، وفي أحسن الأحوال يصبح على المادة، التي تمَّ التحكم بها وصقلها، التوجه لتصنع تلك الحياة.

وهي العائق؛ لأن تطور إمكانية التجربة والاستخدام غالبًا ما يترافق مع انخفاض مقدرة الإنسان على التواصل – تلك المقدرة التي بموجبها فقط يكون بوسعه أن يحيا حياة روحية.

*

الروح، كظاهرة إنسانية، هي استجابة الإنسان للـأنت الخاصة به. فالإنسان يتحدث بعدة ألسن: لسان اللغة، ولسان الفن، ولسان الفعل؛ لكن الروح واحد، وهي الجواب المقدم للـأنت حين تظهر وتتوجه إليها في السرِّ. فالروح هي الكلمة. وكما أن بوسع الكلام في اللغة أن يتخذ أولاً شكل كلمات تتكون في عقل الإنسان، ثم شكل أصوات في حنجرته، وكلا الأمرين يبقى مع ذلك مجرد انكسار لحدث حقيقي، إلا أن الكلام يبقى في الحقيقة غير ملزم للإنسان، إنما الإنسان هو الذي يتخذ موقفه عن طريق الكلام ويتحدث انطلاقًا منه؛ كذلك الأمر فيما يتعلق بكل كلمة وبكل روح، فالروح ليست الـأنا، إنما هي تقع ما بين الـأنا والـأنت. إنها ليست كالدم الجاري في داخلك، إنما هي كالهواء الذي فيه تتنفس. يحيا الإنسان في الروح إن كان قادرًا على الاستجابة للـأنت الخاصة به، وهو يكون قادرًا على ذلك إن أقام علاقةً مع الكائن الكلِّي الخاص به، لأنه فقط بفضل مقدرته على إقامة هذه العلاقة يكون قادرًا على الحياة في الروح.

ومصير الحدث العلائقي مبيَّن هنا بشكل واضح، فبمقدار ما تكون الاستجابة قوية، بمقدار ما يتصل الرابط بالـأنت ويمنعها من أن تتحول إلى شيء. فقط الصمت الذي يسبق الـأنت – صمت كلِّ الألسن، صمت الصبر الكامن في قلب الكلمة التي لا يمكن تجزأتها، والتي تسبق الجواب المتشكل والمسموع – يترك الـأنت حرَّة، ويسمح للإنسان بأن يتخذ موقفه منها في قلب تلك الذخيرة التي لا تظهر الروح فيها، إنما تتواجد. فكل استجابةٍ تربط الـأنت بعالم الـهو. وهنا تكمن تعاسة الإنسان وعظمته، لأنه يفسِّر كيف تولد المعرفة، وكيف ينجز العمل، وكيف تصنع الصورة، وكيف يصنع الرمز، في قلب الكائنات الحيَّة.

لكن، من تحوَّل إلى هو، ومن تصلَّب كشيء وسط الأشياء، أصبح يملك من جديد الطبيعة والإمكانية لكي يعاود التحول أيضًا وأيضًا. وهذا ما نعنيه حاليًا حين نقول بأن الروح إن اتحدت بالإنسان ولَّدت لديه الجواب – وأيضًا وأيضًا يجب على هذا الذي كان في مرتبة الشيء أن يحترق في الحاضرية وأن يعود إلى حالة العنصر الذي جاء منه من أجل أن يعاد النظر فيه وأن يعاش في الحاضر من قبل البشر.

يُحبَط تحقق هذه الطبيعة وهذه النزعة من قبل الإنسان المتصالح مع عالم الـهو الذي يجب عليه تجربته واستخدامه، لأنه أصبح الآن يلغي ما كان مقيَّدًا عوضًا عن أن يحرره، ويراقبه بدلاً من أن ينظر إليه، ويحوِّله إلى صالحه عوضًا عن تقبله كما هو.

فليكن بعلمك: يفصح الوجود عن نفسه للإنسان الذي يشارك في المعرفة حين ينظر إلى ما يواجهه، فيصبح هذا الإنسان ملزمًا، في الواقع، أن يفهم كشيءٍ ما كان يراه بسبب قوة حضوره، ويصبح من واجبه مقارنة هذا الشيء مع سواه من الأشياء، وأن يحدد مرتبته بين أصناف الكائنات، وأن يصف ويحلِّل موضوعيته، لأنه فقط كـهو يكون بوسعه دخول بنية المعرفة. لكن، حين تَنَاولَهُ لم يكن شيئًا من بين جملة أشياء، ولا حدثًا من بين عدة أحداث، إنما كان حضورًا بالتأكيد، فالكائن لا يشترك معه على أساس قانون أصبح بعدئذٍ ممنوعًا من الظهور، إنما انطلاقًا من ذاته الخاصة. عندما يفكِّر الإنسان بفكرة عامة فإنه، عندئذٍ، يكتشف الحدث المتشابك، لأنه كان ينظر إليه من منظوره الخاص، في الوقت الذي كان يسعى إلى تجاوز نقيضه. أما الآن فقد أصبح الحدث متضمَّنًا في الـهو المعرفية المؤلفة من أفكار. ومن يحررها من ذلك، ويعيد الآن النظر إليها مرة أخرى، يحقق طبيعة فعل معرفي يجعله حقيقيًا وفعَّالاً بين البشر. لكن، من الممكن أيضًا معالجة المعرفة بطريقة يصبح من الممكن معها، بعدئذٍ، التأكيد على أن المادة هي هكذا، وأن اسمها هو هكذا، وأنها صنعت هكذا، وأن مكانها هناك، وأن ما تحول إلى هو يبقى هو، يجرَّب ويستخدم كـهو مهمته "اسكتشاف ما يتحمله المرء" في العالم الذي "سيغزوه" بعدئذٍ.

نفس الشيء فيما يتعلق بالفن حيث يتكشَّف الشكل للفنان عندما ينظر إلى ما يتجاوز نقيضه، فينفي كونه "بنيان". وهذا البنيان ليس من عالم الآلهة، إنما هو في قلب هذا العالم الإنساني الكبير. لأنه حتمًا هناك – نائم – حتى وإن لم تلحظه أيَّة عين بشرية. يخبرنا الشاعر الصيني كيف لم يشأ البشر الاستماع إلى اللحن الذي كان يعزفه على نايه اليشيمي، فعزف اللحن للآلهة التي مالت بآذانها نحوه، ومنذ ذلك الحين أصبح البشر يستمعون إلى اللحن؛ وهكذا تحول اللحن من الآلهة إلى أولئك الذين لم تعد "بنيتهم" تسمح لهم بالاستغناء عنه. ولأنه يتوق، كما في الحلم، إلى الالتقاء بالإنسان، يصبح بوسع الحلم، لهذا السبب وإلى الأبد، رفع الحظر ومعانقة الشكل؛ ثم يصبح بوسعه السير على طريقه، وتجربة ما يجب تجربته؛ ولأنه صُنع هكذا، أو لأن هذا هو ما يعبَر عنه من خلاله، أو لأن صفاته هي كذا وكذا، فإنه يتخذ مكانه في قلب مشروع الأشياء.

ليس القضية أن الفهم العلمي والجمالي غير ضروريان، بل هما ضروريان للإنسان الذي من الممكن أن يقوم بعمله بدقة، وأن يقحم هذا العمل في قلب حقيقة العلاقة، تلك العلاقة التي تتجاوز الفهم وتجمعه في داخلها.

وهناك، ثالثًا، الفعل المؤثر الصافي المتجرد من الإرادة الذاتية الاعتباطية. وهذا الفعل يتجاوز روح المعرفة وروح الفن، لأنه في هذه الحالة لا يحتاج الإنسان المادي الفاني لأن يختلط بالأشياء الإضافية الدائمة، إنما يصبح بوسعه تجاوزها كبنيان؛ ومحاصرًا بالصوت الموسيقي لخطابه الحياتي يبلغ جنَّة الروح المرصعة بالنجوم. هنا تظهر الـأنت للإنسان منبثقةً من سرٍّ أعمق، متوجهةً إليه حتى في الظلام، فيستجيب لها بحياته. هنا، ومن حين إلى آخر، تصبح الكلمة حياةً وتصبح الحياة عبرةً. وهذه الحياة بوسعها أن تحقق الشريعة أو أن تحطمها؛ فكلا الأمران ضروري دائمًا، لأن الروح لا يمكن أن تموت على هذه الأرض. وتقوم الحياة، عندئذٍ، بتعليم الذين سيأتون لاحقًا ليس ما هو موجود أو ما يجب أن يكون، بل كيف تعاش الحياة الروحية وجهًا لوجهٍ مع الـأنت، أي أنها ستكون جاهزةً بحدِّ ذاتها، وفي كلِّ مناسبة، لأن تصبح الـأنت من أجلهم، ولأن تفتح أمامهم عالم الـأنت – كلا، إنها ليست مستعدة لذلك: إنما ستقاربهم وستتواصل معهم باستمرار، أما هم وقد أصبحوا ينفرون من تعاملات الحياة التي تفتح العالم أمامهم وغير ملائمين لها فسيصبحون مزوَّدين تمامًا بالمعلومات. لقد علَّقوا الشخص إلى التاريخ، وضمنوا وجود كلماته في المكتبة، ودوَّنوا، تمامًا وبنفس الطريقة، تحقيق الشريعة أو تحطيمها. وهم لم يبخلوا أيضًا بإعجابهم، ولا حتى بإجلالهم الكاذب الممزوج، بكل بساطة بالنسبة للإنسان المعاصر، بالفائدة. يا أيها الوجه الوحيد كنجم في الظلام، يا أيها الإصبع الحيُّ الذي يلامس جبينًا غير منتبه، يا وقع أقدامٍ خافتٍ.

*

غالبًا ما يكون تطور فعل التجربة أو الاستخدام مرتبطًا بانخفاض المقدرة على التواصل.

ونتساءل: كيف يكون بوسع نفس الشخص الذي جعل من الروح طريقه إلى الغبطة أن يتصرف تجاه الكائنات المحيطة به؟

انطلاقًا من موقعه في قلب ملاذ الكلمة الأساسية الفاصلة التي تباعد ما بين الـأنا والـهو، يقسِّم الإنسان، بشكل منهجي، حياته مع زملائه البشر إلى مقاطعتين متقابلتين: المقاطعة الأولى للمؤسسات والمقاطعة الأخرى للمشاعر – بمعنى مقاطعة للـهو ومقاطعة للـأنا.

فالمؤسسات هي "ما في الخارج"، حيث تجرب ملاحقة كلِّ الغايات، وحيث يعمل الإنسان، ويتفاوض، ويتأثر، ويتحمل المسؤولية، ويتعاون، وينظِّم، ويدير أعماله، ويمارس وظيفته، ويبشِّر. وهذه من الممكن أن تكون جيدة التنظيم، إن لم نقل إنها ذات هيكلية منظمة إلى حدٍّ ما، لأنها المكان الذي، عن طريق العون المتشعب لأذرع وعقول البشر، يتم فيه القيام بالشؤون العملية.

أما المشاعر فهي "ما في الداخل"، حيث تعاش الحياة، وحيث يسترجع الإنسان نفسه من المؤسسات. هنا يتراقص طيف العواطف فيسبق اللمحات المعنيَّة. هنا يهمل الإنسان ما كان يحب وما كان يكره، ويهمل حتى ألمه إن لم يكن هذا الألم شديدًا، لأنه هنا في منزله مستلقيًا على كرسيه الهزاز.

فالمؤسسات هي سوق معقد، بينما المشاعر مخدع تغنيه أحاسيس تتغير بشكل مستمر.

وتحديد الخط الفاصل بين هذين العالمين معرَّض دائمًا للخطر، فالمشاعر الجيَّاشة تسيطر أحيانًا على أكثر المؤسسات موضوعيةً، رغم أنه يبقى من الممكن استعادتها عن طريق الجهد الكلِّي والإرادة الطيبة.

لكن الأصعب من كل هذا يبقى الترسيم الموثوق للخط الفاصل في قلب عوالم ما ندعوه بـالحياة الخاصة؛ ففي الزواج، على سبيل المثال، لا يرسم ذلك الخط أحيانًا بشكل كامل وبسيط، وإن كان من الممكن رسمه كاملاً في نهاية المطاف. دعونا ننظر، على سبيل المثال، كيف أنه، خلال سنوات الأحزاب والجماعات و"حركاتها" الهادفة لأن تتجاوز ذاتها، كانت هناك دورات تتنطح إلى السماء من جهة، وتجارة وأعمال من جهة أخرى، تبتعد عن بعضها البعض بالكامل، زاحفة على الأرض (سلسة كالآلة أو قذرة وعضوية).

تبقى الـهو المنفصلة للمؤسسات مجرَّد كتلة ترابية متحركة لا روح فيها، وتبقى الـأنا المنفصلة للمشاعر مجرَّد محاولة رفرفة صعبة لروح طائر ينازع، فلا هذه ولا تلك تعرف ماهية الإنسان: لأن المؤسسات لا تعرف إلا النموذج والمشاعر لا تعرف إلا الموضوع، وكلاهما لا يعرف ماهيَّة الشخص أو ماهيَّة الحياة المشتركة، وكلاهما لا يعرف الحاضر؛ فحتى أكثر المؤسسات عصرية لا تعرف إلا الماضي الكئيب الذي منه صنعت، وحتى أكثر المشاعر ثباتًا لا تعرف سوى رفرفة لحظة لم تتحقق بعد بشكل صحيح. وكلاهما لم يلج الحياة الحقيقية، فالمؤسسات لا تهب الحياة العامة والمشاعر لا تهب الحياة الخاصة.

يتم التأكد من أن المؤسسات لا تهب الحياة العامة من خلال المصاعب المتزايدة لأعداد متزايدة من البشر، فهذه هي نقطة بداية حاجة تأتي مع تقدم الزمن. وكون المشاعر لا تهب الحياة الخاصة أمر لا يفهمه إلا القليلون، لأنه يبدو، بالنسبة للجميع، أن الحياة الأكثر خصوصيةً تكمن في المشاعر. لذلك إن كنت، كالإنسان المعاصر، قد عودت نفسك على الاهتمام كلِّيًا بمشاعرك الخاصة، فإن القنوط الناجم عن عدم واقعيتها لن يرشدك إلى طريق أفضل – فالقنوط أيضًا شعور جديرٌ بالاهتمام.

لقد أصبح البشر الذين يعانون من ضائقة، حين يتحققون من أن المؤسسات لا تهب الحياة العامة، معدومو الحيلة. فالمؤسسات يجب أن تُفَكك، أو أن تُحَلَّ، أو أن تفجر إلى شظايا، عن طريق نفس تلك المشاعر؛ فالمشاعر هي التي يجب أن تجدد حياتهم، وأن تقدم لهم "حرية الشعور". أو لنقل: إذا كانت الدولة الممكننة تجمع من حيث بنيتها بين مواطنين غرباء من دون أن ترسِّخ أو تعزز كيانهم المشترك، عندئذ، وكما يقول هؤلاء البشر، فلنستبدل تلك الدولة بمجتمع الحب الذي سيقوم حينما يتقارب الناس ويصبحون راغبين في العيش المشترك انطلاقًا من مشاعرهم الجياشة الحرَّة. لكن الأمر ليس كذلك، فالمجتمع لا ينبثق في الحقيقة من أناس يكنُّون مشاعر تجاه بعضهم البعض (وإن كان من المؤكد أنه لا يمكن أن ينبثق من دون تلك المشاعر)، إنما ينبثق المجتمع، أولاً، من خلال اتخاذ موقف له علاقة بالعيش المشترك في مركز للعيش المشترك، وينبثق المجتمع ثانيًا من خلال تواجد البشر معًا في قلب الحياة المشتركة. والشرط الثاني ينبع من الشرط الأول، لكنه لا يظهر حين نقدِّم الأول فقط، لأن عيش علاقة متبادلة يتضمن مشاعر ولكنه لا يولِّد مشاعر. يُبنى المجتمع إذًا انطلاقًا من علاقة متبادلة، لكن الباني يبقى المركز الحيَّ للمعيشة.

وأيضًا، لا يمكن لمؤسسات ما يسمى بالحياة الخاصة أن تقدم حياةً جديدة عن طريق الشعور الحرِّ (رغم أنها ليست ممكنةً من دونه). فالزواج، على سبيل المثال، لا يمكنه أن يقدم البتة حياةً جديدة إلا عن طريق ذلك الينبوع الذي يبدأ منه دائمًا الزواج الحقيقي، ذلك الذي يكشف أنت كل شخص إلى الشخص الآخر، وإلا يصبح الزواج مبنيًا من قبل أنت لا علاقة لها بالـأنا. وهذه هي العوامل الغيبية وفوق النفسية لحبٍّ كانت المشاعر بالنسبة له مجرَّد مرفقات. ومن يريد أن يعطي للزواج حياةً جديدة مستقاة من ينبوع آخر لا يختلف فعلاً عمن يريد إلغائه، فكلاهما يبين بوضوح أنه لم يعد يمتلك عامل الحياة. وفعلاً، إن استثنينا من حساباتنا، ومن كلِّ الفلسفة الجنسية لهذا العصر، والتي تناقش اليوم أكثر من غيرها كل ما ينطوي على تجربة لها علاقة بالـأنا – بمعنى، إن استثنينا كل حالة لا يكون فيها الواحد حاضرًا بالنسبة للآخر ومحقِّقًا وضعه الحالي لديه، إنما يكون فقط مستمتعًا به – فما الذي يتبقى من العلاقة؟

الحياة العامة الحقيقية والحياة الخاصة الحقيقية شكلان من أشكال الارتباط. وهما بهذا الارتباط يتحققان ويستمران. وكلاهما، أي المشاعر (التي هي المضمون المتغير) والمؤسسات (التي هي المضمون الثابت)، ضروريان؛ لكن إن جُمعتا معًا فإنهما لا تقدمان حياةً إنسانية، لأن ما يخلق الحياة الإنسانية هو عامل ثالث: إنه الوجود المركزي للـأنت، أو بالأحرى، إن صحَّ القول، إنه وجود الـأنت المركزية التي يقدمها الحاضر.

*

ليست الكلمة الأساسية أنا–أنت شرًّا – كما ليست المادة شرًّا، إنما هي شرٌّ، وكذلك المادة، إن افترضت امتلاك صفة الكائن الحاضر. إنها شرٌّ إن ترك الإنسان عالم الـهو، المتزايد باستمرار، يتجاوزه ويستحوذ على السرِّ فيحجب عنه واقع أناه الخاصة، الأمر الذي يجعل الروح الشريرة تعلو عليه وتحتضنه، ويجعل الأشباح التي في داخله تهمس كل واحدة للأخرى معترفةً بعدم الخلاص.

*

هل غرقت الحياة العامة للإنسان المعاصر، بلا جدوى، في عالم الـهو؟ هل من الممكن أن نتخيل بأن جناحي هذه الحياة، أي الاقتصاد والدولة، بمداهما الحالي وهيكليتهما المكتملة، يستندان على أساس آخر غير التخلِّي المعتمد عن كل "مباشرة"، والرفض القطعي لكل حكم استئناف "غريب"، بمعنى أنهما لم تنشأ من هذا الميدان أصلاً؟ وإذا كانت الـأنا المجرِّبة والمستخدِمة هي الحاكم ههنا، تلك الـأنا المستفيدة من الأصول ومن العمل الاقتصادي المنجز، والمستفيدة من المساعي ومن الآراء السياسية، ترى ألا يتوجب علينا تبجيل الإتقان غير المحدود للبنيان الشامل والمتين للـ"هدف" الكبير الناجم عن هذين المجالين؟ وبالفعل، أليست الإنتاجية الكبيرة لرجل الدولة القيادي وللاقتصادي القيادي، تلك الإنتاجية المرتبطة بواقع نظرته إلى البشر الذين يتعامل معهم، ليس كحاملين للـأنت التي لا يمكن تجربتها، إنما كمراكز جهد وعمل، والمرتبطة أيضًا بنظرته إلى إمكانياتهم الخاصة، (أليست هذه الإنتاجية) هي التي يجب الاهتمام بها من أجل تقويمها واستعمالها؟ ألن ينهار عالمه فوق رأسه إن، عوضًا عن إضافة هذا إلى هذا إلى هذا ليحولها إلى هو، حاول أن يحسب مجموع الـأنت والـأنت والـأنت التي ستكون محصِّلتها أنت مرةً أخرى؟ ألن يكون بذلك قد استبدل الخبرات المتكونة بهوايات شديدة الحساسية، واستبدل الفكر المستنير بتعصب ضبابي؟ وإن حوَّلنا النظر ممن يقود إلى من يقاد، أترانا لن نكتشف بأن كل تطور في طبيعة العمل الحديث وفي طبيعة الملكية قد دمَّر تقريبًا – وكعلاقة ذات معنى – كل أثر للعيش مع ما يتجاوز النقيض؟ وقد يكون من السخف تمني العودة عن هذا التطور – لأنه إن كان لهذا التراجع أن يحصل، فإن البنيان الهائل والمتوازن جدًا لتلك الحضارة، التي بوسعها لوحدها تأمين الحياة للأعداد الهائلة من البشر الذين ترعرعوا في كنفها، سيدمَّر في نفس الوقت.

لقد تأخرت بالنطق يا صانع الكلام. فقد كان باستطاعتك قبل هنيهة تصديق خطابك، أما الآن فلم يعد بوسعك ذلك. قبل لحظة، كنت ترى، مثلي، أن الدولة لم تعد تقاد؛ فمشعلو النار ما زالوا يراكمون الفحم، أما القادة فلم يعودوا يمتلكون إلا مظهر التحكم بمكنات سباق مجنونة. وفي هذه اللحظة التي أنت فيها تتكلم، بوسعك أن تسمع، مثلي تمامًا، صوت عتلات الاقتصاد التي بدأت تعلو بشكل غير مسبوق؛ يبتسم لك السادة بثقة متعالية، لكن الموت موجود في القلوب. يقولون لك إنهم صنَّعوا الجهاز بحيث يتلاءم مع كل الظروف، لكنك تلاحظ أن كل ما بوسعهم فعله الآن هو مجرَّد التلاؤم مع الجهاز – وذلك، في الحقيقة، بمقدار ما يسمح لهم الجهاز بذلك. يعلِّمك الناطقون باسمهم أن الاقتصاد قد دخل ضمن إطار إرث الدولة، ولكنك تعلم أن ليس هناك ما ترثه سوى طغيان الـهو المتضخمة، تلك التي في ظلها تحلم الـأنا، التي تضاءلت مقدرتها على التحكم، بأنها ما زالت القائدة.

لم يعد بوسع حياة الإنسان في المجتمع، كما لم يعد بمستطاع الإنسان بحدِّ ذاته، الاستغناء عن عالم الـهو الذي تحلِّق الـأنت فوقه كما تحلِّق الروح فوق سطح المياه. فرغبة الإنسان في الربح وفي السلطة لها تأثيرها الطبيعي والخاص ما دامت هذه الرغبة مرتبطة ومدعَّمة بالرغبة في التواصل. لا يوجد دافع شرير ما لم يتم الفصل بين الدافع وبين الكائن؛ فالدافع المرتبط بالكائن والمحدد من قبله هو سقط المتاع الحيِّ للحياة المجتمعية، وهذه تتحلل إن فصلت. فالاقتصاد كملاذ للرغبة في الربح، والدولة كملاذ للرغبة في السلطة، شريكان في هذه الحياة طالما أنهما شريكان في الروح. فإن تنكرتا لروحهما، تنكرتا للحياة. لأن الحياة، كن متأكدًا، تأخذ ما يلزمها من الوقت كي تنجز أفعالها بشكل جيد. وبينما يتخيل البشر أنهم يشاهدون هيكلاً يتحرك لا يرون الآلة التي تدور منذ زمن طويل. فعلاً، لا تحتاج الطبيعة إلى المساعدة من خلال إدخال بعض المباشرة، كذلك ليس بوسع تخفيف وطأة بنيان الاقتصاد والدولة حجب واقع أنهما لم يعودا يخضعان لسطوة الروح الناطقة بالـأنت: لأنه لا يمكن لأي اضطراب في المحيط الخارجي أن يكون بديلاً عن العلاقة الحيَّة مع المركز. تتلقى بنى حياة الإنسان المجتمعي، بدءًا من الإنسان الأغنى وصولاً إلى الإنسان الأفقر، شكل معيشتها فتدخل في علاقة، وتحصل على شكلها المتجسِّد عن طريق رابط يصل الروح بالسلطة. ليس رجل الدولة أو الاقتصادي الذي يخضع للروح هاوٍ، لأنه يعرف جيدًا أن ليس بوسعه، من دون تخريب العمل، أن يواجه، كحاملين للـأنت، الناس الذين يتعامل معهم. ومع ذلك تراه يخاطر بفعل ذلك، ليس بشكل جلي ولا ببساطة إنما بمقدار ما تسمح له الحدود التي تضعها الروح. فالروح هي التي تحدد له ذلك، والخطر الذي كان من الممكن أن يحطم البنية المنفصلة يزول حين يتعلق الأمر بالبنى التي تجلس الـأنت في كنفها. إنه ليس متعصبًا، لكنه يخدم الحقيقة التي، رغم كونها تتجاوز المنطق، لا ترفضه، بل تحتضنه مع ذلك. فهو يفعل في حياته المجتمعية ما يفعله تحديدًا في حياته الخاصة، ذلك الإنسان الذي يعرف أن ليس بمقدوره تحقيق الـأنت بصفاء، فيؤكد يوميًا حقيقته من خلال الـهو، بما ينسجم مع الصحيح والمناسب ليومه، راسمًا – ومستكشفًا – كل يوم حدًّا فاصلاً جديدًا. وهكذا أيضًا، فقط من خلال الروح، وليس من خلال نفسه كنقطة انطلاق، يبدأ الفعل ويبدأ التملك؛ لأنه فقط من خلال تواجد الروح يتدفق المعنى ويتدفق الفرح في كلِّ عمل، وتتدفق الروعة وقربان المقدرة إلى كل ملكية فتملؤها، ليس حتى الحافة إنما بما فيه الكفاية؛ لأنه فقط بسبب وجود الروح يستطيع كل من يصنع ويمتلك، ويبقى في الوقت نفسه مرتبطًا بعالم الـهو، أن يتحول إلى ما يتجاوز الإنسان – أي إلى ما يشبه الـأنت. لم تعد العودة إلى الوراء ممكنة، إنما في لحظة الحاجة الأعمق هناك حركة آنية لا يمكن تخيلها نحو الداخل ونحو الخارج.

ليس مهمًا أن تكون الدولة هي القائدة للاقتصاد، أو أن تستمد سلطتها منه، طالما أن كليهما (أي الدولة والاقتصاد) لم يتغيرا، إنما المهم أن يصبح نظام الدولة أكثر تحررًا وأن يصبح اقتصادها أكثر إنصافًا – لكن ليس فيما يتعلق بالسؤال المطروح هنا والمتعلق بالحياة الحقيقية؛ لأنه ليس بوسعهما حتمًا، ومنذ البداية، أن يكونا حرّين ومنصفين مع ذاتهما. لأنه من المهم، أكثر من أي شيء آخر، أن تبقى الروح الناطقة بالـأنت، والمستجيبة لها، حيَّةً على أرض الواقع، وذلك سواء كانت تلك المعشَّقة مع روح الإنسان في الحياة المجتمعية خاضعةً للدولة وللاقتصاد أم فاعلةً بشكل مستقل، أو كان قد أعيد استيعاب تلك الروح، التي ما زالت مستمرة في حياة الإنسان الخاصة، في حياته المجتمعية. فإن انطلقت الحياة المجتمعية لتتوزع بين عوالم مستقلة، و"الحياة الروحية" واحدة من هذه العوالم، فإنها لن تبقى كذلك؛ لأن هذا يعني الاستسلام مرةً واحدة وإلى الأبد لطغيان العوالم التي غرقت في عالم الـهو، كما يعني سرقة الروح من الواقع بشكل كامل. فالروح وحدها وبشكل مستقل ليست فعالة إطلاقًا في الحياة، إنما هي فعالة من خلال علاقتها بالعالم: حين تمتلك القدرة لأن تخترق عالم الـأنت، وتحوله، وتصبح الروح "في مملكتها حقًا" إن كان بوسعها مواجهة العالم المنفتح أمامها، وإن كان بوسعها تقديم نفسها للعالم، ومن خلال علاقتها مع العالم تستطيع الروح أن تنقذ نفسها وأن تنقذ العالم معها. ويكون بوسع الروحانية المذهولة، والضعيفة، والمنحلَّة، والمتناقضة، التي تمثل الروح اليوم القيام بهذا فقط إن كان بوسعها إعادة الاتصال بحياة تلك التي تقدِّم الـأنت.

*

للسببية سلطان غير محدود على عالم الـهو؛ فأي حدث "فيزيائي" يمكن إدراكه عن طريق الحواس، وأي حدث "نفسي"، سواء كان قائمًا بذاته أو كان مكتشفًا عن طريق التجربة الذاتية، كمسبِب أو كسبب، صحيح بالضرورة. وأيضًا، فإن الحوادث التي يمكن أن نعتبرها ذات طابع غائي وتلك التي من الممكن أن تعزى إلى العالم غير المنقطع للـهو، لا يمكن استثناؤها من هذه السببية؛ لأن التواصل الذي يميزها يقبل الغائية حتمًا، لكنه يقبلها فقط كوجه مقابل فاعل في بعض منها، وغير مؤثر على استمراريتها وعلى كمالها.

السلطان غير المحدود للسببية في عالم الـهو، والبالغ الأهمية فيما يتعلق بالتنظيم العلمي للطبيعة، لا يؤثر كثيرًا على الإنسان الذي لا يمكن حصره بعالم الـهو، لأن بوسعه دائمًا مغادرته إلى عالم العلاقة. هنا تتواجه الـأنا والـأنت بحرِّية وتؤثران الواحدة على الأخرى من دون أن تكونا مترابطتين ولا متأثرتين بأي سببية. هنا يتأكد الإنسان من حرِّيته ومن حرِّية الكائن. لأنه يستطيع فقط أن يقرر من يعرف العلاقة ويعرف وجود الـأنت. ومن بوسعه أن يقرر حرٌّ، لأنه اقترب من الوجه[1].

تَغلي الأدوات المتقدة لكامل قدرتي على القرار بشكل هائل، وكل ما في وسعي رسمه من حولي هو دوائر، ومع ذلك فهي ليست حقيقية في العالم، لأنها تبدو في الوقت نفسه نائية ولا يمكن فصلها، كلمحات مغرية لسلطات من كلِّ أقاصي الحدود: لأن ما يغريني هو الكون، وأنا أسعى لكي أحقق في لحظة، وبكلتا يديَّ الغائصتين في النار حيث يختفي الفعل الوحيد، ذلك الفعل الذي يستهدفني – فقد آن الأوان! ها قد ابتعد تهديد الهاوية، كما أن السواد الأعظم الأقل مركزية من حيث رتابة ادعاءاته المتقزحة اللون لم يعد فاعلاً؛ وبقي فقط خياران ما زالا متجانبان – ذلك الآخر، الذي هو الفكرة التي ذهبت سدى؛ وذلك الأوحد، الذي هو الاتهام الموجه إليَّ. أما الآن فقد بدأ فيَّ التحقق. لأن القرار ليس إنجاز أحد الخيارين وترك الآخر كتلة بلا حياة ليتوضع في روحي كالنفايات طبقة فوق أخرى. إنما، وحده من يوجِّه كل قوة الخيار من أجل القيام بالمهمة، وحده من يجعل العاطفة الجياشة لما رفضه تكتسح نمو الواقع الذي تم اختياره – وحده من "يخدم الله مع دافع من شرٍّ" يتخذ القرار، ويقرر الحدث. إن فهمنا هذا، فإنه يصبح معلومًا أن ما خلق، بالاتجاه المقرر وبالقرار المتخذ، هو ما يجب أن يدعى بالمستقيم؛ وأنه إن كان هناك شيطان فإنه لن يكون ذلك الذي قرر معارضة الإله، إنما ذلك الذي، في قلب الأزلية، لم يتوصل إلى قرار.

لا ترهق السببية الإنسان الذي مُنح الحرِّية، فهو يعرف أن حياته البشرية تتأرجح بشكل طبيعي بين الـأنت وبين الـهو، وهو يدرك ما يعنيه هذا الأمر. يكفيه أن يكون بوسعه أيضًا وأيضًا عبور عتبة المكان المقدس الذي لم يستطع البقاء فيه؛ وحقيقة أنه يجب عليه مغادرته أيضًا وأيضًا مرتبط بالنسبة إليه داخليًا بمعنى وبطبيعة هذه الحياة. هناك، عند العتبة، تتقد الإجابة وتتقد الروح متجددة في داخله أكثر من أي وقت مضى؛ هنا، في بلد غير مقدس لكنه بحاجة إليه، يجب على هذا الإشعاع أن يثبت نفسه. وما يدعى بالحاجة هنا لم يعد يخيفه، لأنه فهم بأن الحاجة الحقيقية، أي المصير، موجود هناك.

المصير والحرِّية موعودان رسميًا كل منهما للآخر، ووحده الإنسان الذي يجعل من الحرِّية حقيقته يلتقي بالمصير. من خلال اكتشافي للفعل الذي يستهدفني – بهذه الحركة التي لحرِّيتي، ينكشف السرُّ أمامي؛ ولكن أيضًا من خلال فشلي في إنجاز الفعل كما أردته أن يكون – من خلال هذه المقاومة، ينكشف أيضًا السرُّ أمامي. ومن ينسى كل هذا هو المسؤول وهو الذي يتخذ بنفسه قرار الخروج من الأعماق، بينما من يتخلص من المقتنيات ومن الثياب ويقارب الوجه عاريًا، إنسان حرٌّ يلتقيه المصير كمرادف لحرِّيته. لأن المصير ليس حدوده، إنما هو تحققه؛ لأن الحرِّية والمصير مرتبطان معًا من حيث المضمون. ومن هذا المنظور، يمتلىء بالنور ذلك المصير الذي كان يُنظَر إليه قبل لحظة على أنه صارم، فيبدو له الآن وكأنه النعمة بحدِّ ذاتها.

كلا؛ لا ترهق ضرورة السببية الإنسان الذي يعود إلى عالم الـهو حاملاً هذا الإشعاع. وفي أوقات الحياة الصحيحة تتدفق الثقة من الذين يحملون الروح إلى كلِّ البشر. إلى كلِّ البشرِ حقًا، حتى إلى أكثرهم بلادةً، فتلتقي بالحاضر الذي تحقق إلى حدٍّ ما، بشكل طبيعي، باندفاع، وبشكل خافت: لأن كلَّ البشر في مكان ما أصبحوا على علم بالـأنت؛ والروح تعطيهم الآن الضمانة الكاملة.

لكن ما يحصل في الأزمنة المريضة أن عالم الـهو، الذي لم يعد مختَرقًا ومستَثمرًا كالتيارات الحيَّة من قبل عالم الـأنت المتدفق، إنما أضحى منعزلاً وراكدًا كشبح مستنقع عملاق يقهرُ الإنسان. وحين يتوصل عالم الـهو إلى تفاهم مع عالم أشياء لم يعد باستطاعة الكائن الحاضر تحمُّلُها، يستسلم الإنسان لهذا العالم. وترتفع سببية سلِسة تتحول إلى مصيرٍ ظالمٍ وخانق.

تستند كلُّ ثقافة عظيمة تضمُّ أممًا إلى حدث علائقي أصيل، هو الجواب للـأنت التي تقدم له عند ينبوع، كما تستند إلى فعل يبين أنه من نتاج الروح. وهذا الحدث، المدعَّم بالقوة الموجهة المتماثلة لأجيالٍ متعاقبة، يخلق في الروح تصورًا خاصًّا عن الكون؛ وفقط عن طريق هذا الحدث يصبح الكون عالمًا مفهومًا ومألوفًا شبيهًا بالمنزل، ويصبح مسكنًا للإنسان في هذا العالم، ما يجعله ممكنًا أيضًا وأيضًا. الآن فقط، أصبح بوسع الإنسان، الواثق من نفسه، أن يبني أيضًا وأيضًا، وبتفهم خاص للفضاء المحيط، مساكن للإله ومساكن للبشر، كما أصبح بوسعه أن يملأ الزمن المياس بالأناشيد وبالأغاني، وأن يبني حتمًا مجتمعًا بشريًا. لكنه يبقى حرًّا وبالتالي يبقى خلاَّقًا طالما ملك، عن طريق العمل ومن خلال معاناته الحياتية، ذلك الفعل الوجودي – وطالما أنه دخل في علاقة. أما عندما تتوقف الثقافة عن التمركز في المعاش وتعيد بشكل مستمر الحدث العلائقي، عندئذٍ نراها تترسخ في عالم الـهو، فتخترقها بشكل متقطع أحيانًا الأفعال المتوهجة لأرواح منعزلة. من الآن فصاعدًا ترتفع السببية السلسة، التي لم تكن تملك سابقًا القدرة على الإخلال بالمفهوم الروحي للكون، فتحوله إلى مصيرٍ مظلمٍ وخانق. أما المصير الحكيم والبارع، والسائد، والذي في وئام مع المفهوم الغني للكون، والمتجاوز لكل سببية، فيتحول إلى روح شيطانية لا معنى لها، ويقع تحت سطوة هذه السببية. وكل كارما كانت تبدو للأجداد كحكم خيِّر – بمعنى أن ما نفعل في هذه الحياة يهيؤنا لحياة مستقبلية في مجالات أعلى – يسلَّم بها الآن كطغيان: لأن كارما حياة سابقة لم نعيها قد وضعتنا في سجن لا نستطيع كسره في هذه الحياة. لأنه حتى هذه اللحظة أنشأت الجنة بقانون، جنَّة ظاهرة للعيان، رافعةً قوسها المضيء الذي يتدلى منه مغزل الضرورة، فالآن أصبحت النجوم الجوالة محكومة بقدرة خرقاء وجائرة. لقد كان فقط من الضروري تقديم الذات لدايك[2]، ذلك "الطريق" البهيج، الذي هو أيضًا طريقنا، لكي نقيم بقلب حرٍّ في قلب الحدود الكونية للمصير. لكننا الآن، ومهما فعلنا، أصبحنا نحمل عبء الوزن الثقيل للعالم، وعبء المصير الذي لا يعرف الروح. وتبقى الرغبة المقتحمة للخلاص غير راضية بعد محاولات عدة، حتى يهديها أبناء الإله إلى الحرِّية، من تعلم كيف يتخلَّص من دورة الولادات، أو من بوسعه إنقاذ النفوس الواقعة تحت تأثير قوى غريبة. ينبثق مثل هذا التحقق حينما يتم لقاء جديد هو في طريقه لأن يحقق كيانًا جوهريًا – انطلاقًا من جواب جديد، أو حينما يحدد مصير الإنسان الـأنت الخاصة به، لأنه عند القيام بهذا الفعل الوجودي الأساسي، يمكن أن تزال ثقافةٌ من قبل ثقافةٍ أخرى تخلت عن التأثر بذلك الفعل، كما يمكنها أيضًا وبحدِّ ذاتها أن تحقق حياة جديدة.

لا يشبه سقم عصرنا سقم أي عصر آخر، فهو ينتمي إليها جميعها. تاريخ الحضارات ليس مسار دهور يعبر فيه العدَّاء تلو الآخر نفس المسار المميت بمرح وعن غير دراية، إنما هناك طريق مجهول يمر بسرعة من خلال صعوده وهبوطه: وهو ليس طريق تقدم وتطور، إنما هو طريق هبوط حلزوني عبر الجحيم الروحي، الذي يمكن أن ندعوه أيضًا صعودًا في الأوغل، والأروع، للدوامة الأكثر تعقيدًا، حيث لا تقدم ولا تراجع، إنما فقط عكس اتجاه جديد تمامًا – إنه الإختراق. هل يجب علينا السير على هذا الدرب حتى النهاية، كي نختبر الظلمة النهائية؟ يبقى أنه حيثما يوجد الخطر، تنمو القوة المنقذة في المقابل.

أما اليوم، فقد فعل الفكر شبه البيولوجي وشبه العضوي معًا، ومهما اختلف هدف كل منهما، على ترسيخ اعتقاد بالنهاية هو الاعتقاد الأكثر قسوةً والأكثر جورًا حتى تاريخه. حيث لم يعد بوسع جبروت كارما النجوم التحكم الحتمي بمصير الإنسان؛ تدَّعي العديد من القوى السيطرة، لكن معظم معاصرينا يعتقدون، وهم على حق فيما يعتقدون، بتمازجها، تمامًا كما كان الرومان الأقدمون يؤمنون بتمازج الآلهة. وهو أمر تجعله طبيعة الإدعاء سهلاً. وسواء كان هذا "قانون الحياة" لصراع كوني يفترض أن يشارك به الجميع أو أن يتخلُّوا عن الحياة، أو كان "قانون الروح" الذي ينشأ فعلاً في نفس الشخص عن طريق غرائز فطرية مألوفة، أو كان "القانون الاجتماعي" لعملية اجتماعية مغرية تكون الإرادة والوعي بالنسبة لها مجرد مرفقات، أو كان "القانون الثقافي" لذهاب وإياب بنى تاريخية واحدة لا تتغير – ومهما كان شكلها، فإنها جميعها تعني دائمًا أن الإنسان موجود ضمن إطار مصير لا مفرَّ منه، ولا يستطيع أثناء غضبه مقاومته. يمكن للتكرس في الأسرار أن يحرر من إلزام النجوم، ويمكن للقربان إلى البراهمان مع ما يرافقه من عرفان أن يحرر من إلزامية الكارما: فالخلاص موجود في الحالتين. لكن الإله المركب لا يتحمل اعتقادًا بالانعتاق، لذلك يعتبر تخيل أية حرِّية حماقة؛ هنالك فقط خيار بين العبودية وبين التمرد اليائس. ولا يهم كل ما يقال عن هذه القوانين، المتعلقة بالتطور الغائي وبالنمو العضوي، ففي أساسها كلها يوجد منهج التملك، أي التملك من قبل سببية غير محددة. ومبدأ المنهج التدريجي هو تنازل الإنسان الذي قبل العالم الغزير للـهو، فهو يسيء استعمال اسم المصير: فالمصير ليس قبةً ضاغطة بقوة على عالم البشر، ولا يواجهه أحد سوى من يخرج إلى الحرِّية. لكن عقيدة الطريقة لا تترك أي مجال للحرية، لا تترك شيئًا لأحد أكثر كشوفها إيحاءً، فتلك التي تغير قوتها الهادئة وجه الأرض – تقلبها. لا تعرف العقيدة الإنسان الذي يتجاوز الصراع الكوني عن طريق الانقلاب، فيمزق شبكة الغرائز العادية إربًا، ويرتفع فوق الحظر المتعدد الطبقات، ويحرك، ويجدد، ويحول البنى الراسخة للتاريخ. إن لعبة العقيدة تتيح لك فقط الخيار بين أن تتبع القواعد أو أن تنسحب: لكن الإنسان الذي يحقق انقلابًا يطيح بالجزئيات، لأن العقيدة تريد دومًا السماح لك بملء قيدها بحياتك لا "أن تبقى حرًّا" من حيث روحك؛ لكن الإنسان الذي يحقق انقلابًا يعتقد بأن حريته هي العبودية الأكثر إذلالاً.

الشيء الوحيد الذي يمكن أن يكون مصيرًا بالنسبة للإنسان هو أن يؤمن بالمصير؛ لأن هذا الإيمان يلغي فعل الانقلاب.

منذ البداية كان الإيمان بالمصير خطأً، وكانت كل مراعاة للنهج هي مجرد "افتراض مستقبلي" محض لحدث عالمي منفصل، أي لموضوعية بدت وكأنما كانت من تاريخ؛ فوجود الـأنت، وظهور صلة صلبة، متعذر البلوغ بالنسبة لهذا الحدث. فهو لا يعرف واقع الروح؛ لأن برنامجه غير صالح للروح. والتوقع من منطلق الموضوعية صالح بالنسبة للإنسان الذي لا يعرف الحاضرية. وذلك الذي قهره عالم الـهو ملزم بأن ينظر إلى العقيدة كعملية غير قابلة للتغير، كحقيقة تفتح الطريق عبر نمو غزير؛ والحقيقة أن هذه العقيدة تزيد من استعباده لعالم الـهو. لكن عالم الـأنت يبقى غير موصد، فمن يخرج لملاقاته بحضور مركَّز وبقوة متصاعدة تسعى إلى الدخول في علاقةٍ يدرك معنى الحرية، ومن يتحرر من الاعتقاد بأن لا وجود للحرِّية سيتحرر فعلاً.

*

كما أن امتلاك السلطة للتحكم بالكابوس يكون بالتوجه إلى هذا الكابوس باسمه الحقيقي (أي مباشرةً)، كذلك فإن عالم الـهو، الذي كان يبدو قبل هنيهة خارقًا للطبيعة مقابل القدرة السقيمة للبشر، ملزم بأن يستسلم للإنسان الذي يعرفه على حقيقته – أي كانقطاع واغتراب عن ذلك الذي بوفرته، وعندما يصبح دفقه في متناول اليد، يلتقي بكل أنت أرضية، ذلك الذي يبدو فكره أحيانًا كبيرًا ومخيفًا كوالدة الإله، رغم أن له دائمًا شكلاً رحيمًا.

لكن كيف بوسع الإنسان الذي اختبأ شبح في كيانه، كيف بوسع الـأنا التي أفرغها الواقع، أن تجمع القوة التي تتيح لها مواجهة هذا الكابوس مباشرةً؟ كيف بوسع القدرة المخربة للكائن في الدخول في علاقة أن ترتفع مرة أخرى، في الوقت الذي يدوس فيه شبح نشيط وبشكل مستمر على الأطلال؟ كيف بوسع الكائن أن يجمع معًا بنفسه ما هو مطارد بجنون وبلا توقف في قلب دوائر فارغة، وعن طريق تلك الـأنا المنعزلة؟ كيف بوسع إنسان يعيش إرادةً ذاتيةً تعسفية إدراك معنى الحرِّية؟

لأنه كما أن الحرِّية والقدر، كذلك فإن الإرادة الذاتية الاعتباطية والمصير ينتميان إلى بعضهما البعض. لكن الحرِّية والقدر موعودان كلاً للآخر رسميًا ومرتبطان من حيث المعنى: بينما الإرادة الذاتية الاعتباطية والمصير، كشبح للروح وكحلم مروِّع للعالم، يتحمَّلان أحدهما الآخر عن طريق اللامعنى، فيتساكنان جنبًا إلى جنب ويتجنب كلٌّ منهما الآخر، من دون أية صلة أو أي تعارض – حتى تأتي تلك اللحظة التي يتم فيها اصطدام مرتبك لبريق ببريق، فينفصل عنها اعتراف بعدم الخلاص. كم من الروحانية البليغة والحاذقة ينفق اليوم في محاولة لتجنب، أو على الأقل لحجب، هذا الحدث!

الإنسان الحرُّ هو من يريد من دون إرادةٍ ذاتيةٍ اعتباطية. فهو يؤمن بالواقع، بمعنى أنه يؤمن بالتضامن الحقيقي للكيان الثنائي الحقيقي أنا وأنت. إنه يؤمن بالقدر، ويؤمن أنه بحاجة إليه في وقفته. فهو لا يحتفظ به عن طريق سلاسل موجهة، إنما ينتظره، وعليه أن يتوجه إليه، وهو ما زال يجهل مكانه. لكنه يعرف بكامل كيانه أن عليه الخروج. فالموضوع لن ينتهي بقرار منه، إنما سيكون فقط حينما يقرر ما بوسعه أن يشاء. لذلك يجب عليه التضحية بإرادته السقيمة، وغير الحرَّة التي تسيطر عليها الأشياء والغرائز، من أجل إرادته الكبرى، التي تركت تعريفًا مكتملاً للكائن. وأن لا يعاود التدخل، لكن في الوقت نفسه أن لا يدع الأشياء تحدث ببساطة. كما عليه الاستماع إلى ما ينبثق من نفسه، إلى مسار الكائن في العالم؛ ليس من أجل تلقي الدعم، إنما من أجل تحويله واقعًا كما كان يريد، ومن خلال حاجته إليه، عليه أن يُقدِّم – بروح وعمل إنسانيين، حياةً وموتًا إنسانيين. لقد قلت إنه يؤمن، لكن ما أعنيه في الحقيقة هو أنه يلتقي.

أما الإنسان صاحب الإرادة الذاتية فهو لا يؤمن ولا يلتقي. إنه لا يعرف تكافل الارتباط، إنما يعرف فقط العالم الخارجي المحموم والرغبة المحموة في استخدامه. والاستخدام يتطلب فقط إيلاءه اسمًا قديمًا يجعله يتشارك مع الآلهة. عندما ينطق هذا الشخص بالـأنت، فإن ما يعنيه بذلك هو "يا قدرتي على الاستخدام"، وما يدعوه مصيره هو فقط تزويد ومتابعة هذه القابلية على الاستخدام. لأنه في الحقيقة بلا مصير، إنه فقط كائن محدد بأشياء وغرائز، يلبّيها عن طريق شعوره بالسيادة – التي هي تعسُّف الإرادة الذاتية. وهو لا يملك إرادةً كبيرة، إنما فقط إرادةً ذاتية، يعتبرها إرادة حقيقية. إنه غير قادرٍ على التضحية إطلاقًا، حتى وإن كان ربما يحمل هذه الكلمة بين شفتيه؛ أنت تعرفه من واقع أن الكلمة التي ينطق بها لا تتحقق البتة. فهو يتدخل باستمرار، ولكن بقصد أن "يترك الأشياء تحدث". إنه يقول لك، لماذا لا نساعد المصير؟ ولماذا لا نستخدم تلك الأشياء التي يمكن تحقيقها والمطلوبة من أجل تحقيق غاية معينة؟ هو يلتقي أيضًا، بهذه الطريقة، مع الإنسان الحرِّ؛ لأنه ليس بوسعه رؤيته بطريقة أخرى. لكن الإنسان الحرَّ ليست لديه، من أجل تحقيق غاياته، غايات هنا ووسائل يقوم بها هناك: إنما لديه فقط شيء واحد ألا وهو قراره المتكرر بمقاربة المصير. فقد اتخذ قراره، ومن وقت لآخر، وعند كل مفترق طرق، تجده يؤكد هذا القرار. لكن الإنسان صاحب الإرادة الذاتية قد يعتقد بسرعة وعاجلاً أنه لم يكن حتى حيًّا وأن قرار إرادته الكبرى غير كاف وبحاجة لأن يدعَّم بوسيلة. إنه يؤمن؛ إنه يعني. لكن النواة المتشككة للإنسان صاحب الإرادة الذاتية لا تستطيع أن تتصور أي شيء غير الشك بالإرادة الذاتية، بمعنى تحديد الغاية واستنباط الوسيلة. لأنه من دون تضحية ومن دون نعمة، ومن دون لقاء ومن دون حضور، فإن ما بين يديه هو عالم كعالمه، عالم وسيط ومشوش بالغايات. وليس بوسع عالمه أن يكون شيئاً آخر، اسمه المصير. وبالتالي، مع كل سطوته، هو واقع بالكامل وبشكل لا ينفصم في شرك ما هو غير واقعي. وهو يعرف هذا كلما حاول التفكير بنفسه؛ لهذا تراه يوجِّه ذلك القسم الأفضل من روحانيته لمنع أو على الأقل لستر ما يفكر به.

لكن هذه الأفكار المتعلقة بالارتداد، لكن معنى الـأنا الواقعية المفرغة والـأنا الحقيقية، التي هي أفكار حول أن يدع نفسه يغرق أو أن يتجذر في التربة، تدعى يأسًا من قبل البشر، لأنها تربة ينشأ منها تدمير الذات وولادة جديدة، ستكون بداية الانقلاب.

*

يحدثنا براهمانات الدروب المئة، أنه فيما مضى كانت الآلهة والشياطين على خلاف. قالت الشياطين: "لمن يا ترى يجب أن نقدم قرابيننا؟" ووضعوها كلها في أفواههم الخاصة. أما الآلهة فوضعوا الهدايا كل واحد في فم الآخر. عندئذٍ قرر براجاباتي، الذي هو الروح البدائية، أن يقدم نفسه للآلهة.

*

مفهوم أن عالم الـهو، الذي قدَّم الكثير من ذاته، بمعنى أنه لم يُجلب إلى علاقة (مع الـأنت) ولم يُصهر من قبل الـأنت التي تحققت ككيان، يتخذ الشكل الغريب لحاضن روح شريرة. لكن كيف يحصل (كما تقولون) أن تُفرَّغ أنا الإنسان من الواقع؟ حتمًا، تتأكد الـأنا من نفسها، وسواء كانت تعيش في قلب العلاقة أو خارجها، من خلال وعيها لذاتها، الذي هوذلك الخيط الذهبي القوي الذي تعلق عليه ظروف متعددة الألوان. لذلك إن قلت الآن "أنا أراك"، أو "أنا أرى شجرة"، فإن الرؤية قد لا تكون حقيقية بنفس الطريقة وفي كلتا الحالتين، لكن الـأنا في كلتا الحالتين حقيقية بنفس الطريقة.

فلنحاكم الأمر إن كان الأمر هكذا، لأن شكل الكلمات لا يدلُّ على شيء؛ إن كانت متعددة فإن أنت المنطوق بها تشير أساسًا إلى هو، لكنها تتوجه فقط كـأنت بحكم العادة والإنسداد، وإن كانت متعددة فإن هو الملفوظة تشير أساسًا إلى أنت، يتم التذكير بحاضريتها وكأنها كانت بعيدةً مع الكائن الكامل، وهكذا تتحول أنوات لا تحصى إلى ضمائر ضرورية، واختصارات من أجل "هذا الرجل الذي يتكلم هنا". وأنت تتحدث عن وعي ذاتي! إن كنت في الجملة الواحدة تعني فعلاً الـأنت العلائقية وفي (الجملة) الأخرى تعني الـهو التجريبية، ما يعني، أنه إذا كانت الـأنا في كلتا الحالتين هي المعنية حقًا، فهل تراها في كلتا الحالتين نفس الـأنا التي تنطق بالوعي الذاتي!

تختلف الـأنا في الكلمة الأساسية أنا-أنت عن الـأنا في الكلمة الأساسية أنا-هو.

تظهر الـأنا في الكلمة الأساسية أنا-هو كشخصية وتصبح واعية لذاتها كموضوع (من أجل التجربة ومن أجل الاستعمال).

تظهر الـأنا في الكلمة الأساسية أنا-أنت كفرد وتصبح واعية لذاتها كشخصية (من دون أية إضافة).

تظهر الشخصية حين تتمايز عن الشخصيات الأخرى.

يظهر الفرد عندما يدخل في علاقة مع أفراد آخرين.

(الـأنا) الأولى هي الشكل الروحي لانفصال الطبيعي، (الـأنا) الأخرى هي الشكل الروحي للتعاضد الطبيعي للتواصل.

والغاية من التمايز الذاتي هي التجربة والاستخدام، وهذه غايتها "الحياة"، بمعنى أن الموت يحدُّ من مدى حياة الإنسان.

والغاية من العلاقة هي العلاقة مع الذات الخاصة، بمعنى الصلة مع الـأنت، لأنه من خلال العلاقة مع كل أنت تحركنا هناك نسمة الـأنت، التي هي الحياة الأزلية.

من يتخذ موقفه في العلاقة يشارك في واقع، أي مع كائن لا يكون ملكًا له فقط ولا يكمن خارجه فقط. لأن كل واقع هو فعل أشارك فيه من دون أن أكون قادرًا على تملُّكه لنفسي. فحيث لا توجد مشاركة لا يوجد واقع. وحيث يوجد تملُّك ذاتي لا يوجد واقع. وبمقدار ما يكون اتصال مباشر بالـأنت، بمقدار ما تكون المشاركة أكثر كمالاً.

تكون الـأنا حقيقية بمقدار ما تشارك في الواقع. وبمقدار ما تكون مشاركتها أكمل بمقدار ما تصبح الـأنا أكثر واقعية.

لكن الـأنا التي خرجت من الحدث العلائقي إلى الانفصال ووعت هذا الانفصال، لا تفقد واقعيتها. حيث يتم الحفاظ على المشاركة بطريقة حياتية. ما يعني، بكلمات أخرى، أن ما قيل حول العلاقة الأسمى ويمكن أن ينطبق على كل شيء، هو أن "البذرة تبقى في داخله". وهذا هو المجال الذاتي الذي تكون فيه الـأنا مدركة وعارفة بشكل خاص بتماسكها في قلب العلاقة وفي انفصالها. فالشخصية الحقة يمكن فقط أن تُفهم بشكل ديناميكي، كتأرجح للـأنا في قلب حقيقتها الواحدة. هنا أيضًا، يوجد المكان الذي تتشكل الرغبة فيه وتتصعد في سبيل علاقة أسمى وغير مشروطة، من أجل المشاركة الكلِّية في الوجود. ففي الشخصية ينضج الجوهر الروحي للفرد.

ويصبح الفرد واعيًا لذاته كشريك في الكيان، وكمتعايشٍ معه، وبالتالي (يصبح واعيًا لذاته) ككائن. وتصبح الشخصية واعيةً لذاتها من حيث أنها "كذا – و – كذا" لا أكثر. يقول الفرد "أنا"، بينما تقول الشخصية "أنا كذا – و – كذا". "اعرف نفسك" تعني بالنسبة للفرد "اعرف نفسك ككائن"، أما بالنسبة للشخصية فتعني "اعرف هذا الكائن الخاص". تصبح الشخصية بعيدة عن الكائن الحقيقي حين تتمايز عن الآخرين.

ونحن لا نعني بهذا أن "يتنازل" الفرد، بأي شكل من الأشكال، عن كيانه الخاص والمتمايز – إنما نعني فقط أن هذا الكيان ليس النقطة التي يجب عليه رصدها، لأن هناك فقط تصور ضروري ومعبِّر عن الكيان. ومن جانب آخر تستمتع الشخصية بكيانها الخاص، أو بالأحرى، غالبًا ما تستمتع بكيانها الخاص المتخيل الذي صنعته لنفسها. فمعرفة الذات بالنسبة لها تعني بشكلٍ أساسي (أي إجمالاً) إقامة ذات ظاهرة وموثوقة، ذاتٍ قادرة بشكل أساسي على خداعها أكثر وأكثر من أي وقت مضى، وتعني أن تؤمن لنفسها، حين تتطلع إلى هذه الذات الظاهرة وتمجدها، شكلاً من التعرف على ذاتها الخاصة كما هي في الحقيقة. فالمعرفة الحقيقية للكيان الخاص ستقود إلى دماره الذاتي – أو إلى ولادته من جديد.

ينظر الفرد إلى ذاته، بينما تنظر الشخصية إلى ما يخصها – (بمعنى) نوعي، وعرقي، وخلقي، ونبوغي.

الشخصية لا تشارك ولا تحصل على أي واقع. إنها تتمايز عن الآخر، وتسعى من خلال التجربة والاستخدام إلى الحصول على أكثر ما يمكن. هذه هي ديناميكيتها: تمايزٌ ذاتي وتملكٌ يُمارسَان وهمًا في الـهو. التابع، وكما يتوهم نفسه، يمكن أن يفعل بنفسه ما يشاء؛ بمقتضى هذا، تراه لا يكتسب أي فحوى، إنما يبقى مجرد نقطة وظيفية، تجرب وتستخدم. فلا كيانه المحدد الواسع والمتنوع ولا "شخصيته" المتحمسة بوسعهما أن يساعداه على اكتساب أي فحوى.

ليس هناك نوعان من البشر، إنما هناك قطبان للإنسانية.

لا يوجد شخص طاهر ولا توجد لاشخصية طاهرة. لا أحد منهما حقيقي أو غير حقيقي بالمطلق. فكل إنسانٍ يعيش في ثنائية الـأنا. لكن هناك بشر طبعهم الشخص إلى حدِّ أنه بوسعنا أن ندعوهم أشخاصًا، وبشر طبعتهم الشخصية إلى حدِّ أنه بوسعنا أن ندعوهم أفرادًا. والتاريخ الحقيقي يُقرر في حقل يقع ما بين هذين القطبين.

بمقدار ما يكون الإنسان، أو الإنسانية، مسيطر عليهما من قبل الشخصية، بمقدار ما يغرق في الخيال. في هكذا أزمنة يقود الشخص في الإنسان وفي الإنسانية وجودًا سرِّيًا مستورًا وكأنه أصبح ملغيًا – حتى يتم استدعاءه من جديد.

*

بمقدار ما تكون ثنائية أنا الكلمة الأساسية أنا-أنت قوية، بمقدار ما يكون الإنسان فرديًا.

لذلك استنادًا إلى نطقه بـأنا – واستنادًا إلى ما يعنيه حين يقول أنا – بوسعنا أن نحدد أين هو انتماء الإنسان وإلى أين سيقوده الطريق. فكلمة أنا هي لغو البشرية.

لذلك استمعوا إلى هذه الكلمة!

كم ناشزة هي أنا الفرد! وكم بوسعها إثارة شفقة كبيرة إن نُطق بها من قبل شفاه يضغطها تناقض ذاتي كامن. كم بوسعها أن توقظ الرعب إن قيلت بشكل فوضوي، بعنف، وبإهمال، وعن جهالة من شفاه تعكس التناقض. وإن جاءت بإهمال وبلا كلفة كم هي مؤلمةً وكريهةً.

فمن ينطق بالـأنا منفصلة، ويشدِّد على الاستهلال، يبسط عاريًا خجل روح العالم التي تدهورت إلى الروحانية.

ولكن كم جميلة وكم صوتها ملائم أنا سقراط الحيَّة والمثيرة للإعجاب! لأنها أنا الحوار الذي لا ينتهي، فجو الحوار يفوح من حولها في كل رحلاته، ما قبل الحكام وفي آخر ساعة له في السجن. إنها أنا تعيش في علاقة وبشكل مستمر مع إنسان يجسد الحوار. فهي لم تكف عن الإيمان بحقيقة البشر وتخرج للقائهم. وهكذا نراها في الحقيقة تتخذ موقفها معهم، كما أن الواقع لا يفقدها على الإطلاق. فوحدتها المتميزة لا يمكن أن تضيع، وإن صمت عالم الإنسان فإنه سيسمع صوت الفيض الذي ينطق بالـأنت.

وكم محبب ومشروع صوت الـأنا الكلِّية لغوته! لأنها أنا الوصال الطاهر مع الطبيعة؛ حيث تقدم الطبيعة نفسها له وتتحدث بلا توقف معه، كاشفة عن أسرارها من دون أن تخون سرَّها. فهو يؤمن بها، ويقول للوردة: "أنت التي تزينيها" – ويتخذ موقفه معها كحقيقة واحدة. وهكذا تبقى روح الواقع معه حين تعود لذاتها، ولفحة الشمس تبقى مع العين المباركة التي تنظر إلى تألقها الذاتي، وترافق صداقة العناصر الإنسان إلى سكون الموت والتحقق.

هذا هو عبر الأجيال الصوت "الوافي والحقيقي والطاهر" للنطق بالـأنا من قبل أشخاص ملتزمين بالعلاقة كسقراط وغوته.

ونستبق بتوضيح من عالم دنيا العلاقة المطلقة: كم كان جبارًا، حتى بالنسبة للوجود الطاغي، وكم كان شرعيًا، حتى بالنسبة للوجود البديهي، نطق الـأنا من قبل يسوع! لأنها أنا العلاقة المطلقة حين ينادي الإنسان الـأنت التي تخصُّه بـ"أبي" بشكل يتحول هو فيه، وبكل بساطة، إلى ابن، ولا شيء سوى ذلك. ففي أي وقت كان ينطق فيه بالـأنا فإن ما يعنيه كان فقط أنا الكلمة البدئية المقدسة التي رفعت من أجله في قلب كائن مطلق. وإن قاربه الفراق أبدًا، كان تماسك علاقته هو الأكبر؛ لأن حديثه إلى الآخرين كان فقط من خلال ذلك التماسك. لذلك من غير المجدي محاولة حصر هذه الـأنا بقدرةٍ فيها أو هذه الـأنت بشيء في داخلنا، ومرةً أخرى (محاولة) إفراغ الحقيقة، والعلاقة الآنية، للواقع. فـأنا وأنت هنا متلازمان؛ حيث بوسع كلِّ إنسان أن يقول أنت ويصبح أنا، وبوسع كل إنسان أن يقول "أبي" ويصبح ابنًا: لأن الواقع ملزِمٌ.

*

لكن كيف لو اقتضت مهمة إنسان أن لا يعرف شيئًا سوى الارتباط بقضيته الخاصة، أي أن لا يعود بوسعه التعرف على أية صلة حقيقية أو على أي تحقق حاضر مع الـأنت – (بمعنى) أن يتحول كل ما له علاقة به إلى هو، من أجل خدمة قضيته الخاصة؟ ماذا عن نابوليون حين ينطق بالـأنا؟ أليس ما ينطق به شرعيًا؟ ألا يعبِّر من حيث الظاهر عن تجربة وعن استخدامٍ غير مشخصن؟

حقًا لم يعرف ربُّ الأعمار بوضوح بُعد الـأنت. وهذا ما عبرت عنه بصدق الكلمات القائلة بأن كل كائنٍ هو بالنسبة له مجرد قيمة valore. من كان بوسعه أن يفكر على نحو متسامح ببطرس وبباقي المريدين الذين رفضوه بعيد سقوطه لا يعرف أحدًا بوسعه أن يتنكر له؛ لأن ليس عنده أحد يستطيع التعرف إليه ككائن. فقد كان بالنسبة للملايين الـأنت الشيطانية، تلك الـأنت التي لا تجيب، تلك التي تجيب على الـأنت بالـهو، أي تلك التي لا تجيب بصدق في المجال الشخصي إنما تجيب فقط في مجالها الخاص، وفي قضيتها الخاصة، وبأعمالها الخاصة. إن هذه الـأنت الشيطانية، حيث ليس بوسع أحدٍ أن يصبح أنت، هي الحاجز الأول أمام التاريخ، حيث تفقد كلمة التواصل الأساسية واقعيتها، وتفقد صفتها كفعل متبادل. لأنه بالإضافة إلى الشخص وإلى الفرد (وليس ما بينهما)، هناك الإنسان الحرُّ وصاحب الإرادة الذاتية، ذلك الثالث، الغائص في أزمة المصير، والمشحون بالمصير. ذلك الذي بالنسبة له كل شيء يشتعل، إنما بنار باردة. فإليه تؤدي آلاف العلاقات، لكن منه ولا علاقة واحدة. إنه يشارك في اللاواقع، لكن في داخله هناك انقسام غير محدود يعتبر مع ذلك واقعًا.

إنه يرى بالفعل الكائنات المحيطة كآلات تستطيع القيام بمنجزات مختلفة يجب أخذها بالحسبان واستعمالها من أجل القضية. وهو ينظر إلى نفسه أيضًا، بنفس الطريقة – باستثناء أن عليه التأكد باستمرار، والمرة تلو الأخرى، من خلال اختبار قدرته على الإنجاز (التي لم يختبر حدودها): إنه يتعامل أيضًا مع نفسه كـهو.

هكذا إذن، لا تكون الـأنا التي ينطق بها مفعمةً بالحيوية ومثيرة للإعجاب، وكاملة؛ إنما هي قول أقلُّ ما يوصف به (وهي بذلك شبيهة بما ينطق به الإنسان المعاصر) أنه مخيب فيما يتعلق بهذه الأشياء. إنه لا يتحدث عن نفسه، إنما فقط "مع نفسه كنقطة انطلاق". والـأنا التي ينطق بها ويكتبها هي الموضوع الرئيس للجمل المعبرة عن قراراته وعن استعداداته – لا أكثر ولا أقل. إنها بلا ذاتية، كما أنها أيضًا بلا وعي ذاتي يهمه التعرف على كائنه الخاص. "أنا الساعة الكائنة التي لا تعرف ذاتها" – وهكذا، تراه يعبِّر بنفسه عن كينونته المقررة، وعن حقيقة هذه الظاهرة وعن عدم واقعية هذه الـأنا، في الوقت الذي كان ينطلق من قضيته، ولأول مرة كان يستطيع، وكان يتجرأ، على التحدث وعلى التفكير بنفسه، وأن يكوِّن فكرة عن أناه – التي ظهرت الآن للمرة الأولى. لأن الـأنا التي ظهرت ليست مجرد موضوع، كما أنها لا تتجهه نحو الذاتية؛ إنما متحررةً من سحرها، وإن لم يتم حفظها، تراها تعبِّر عن نفسها بالكلمة المخيفة الشرعية واللاشرعية معًا: "الكون لنا!" وفي النهاية تعود لتغرق في السرِّ.

من يجرؤ على التأكيد، أثر هكذا مسار وهكذا انهيار، أن هذا الإنسان قد فهم رسالته الهائلة والمذهلة – أو لم يفهمها؟ ما هو مؤكدٌ أن الدور الشيطاني، الذي لا حاضر له، والذي أصبح السيد والمثال، قد أسيء فهمه. لأنه لا يعرف أن الحاكم هنا ليس شهوة السلطة ولا التمتع بها، إنما المصير والتحقق. إنه ينمو بحماس وجبينه المستبد لا يشكُّ بالعلامات المكتوبة على سطح هذا الجبين كالأشكال على وجه الساعة، فيقلد بجدية هذه الطريقة في النظر إلى الكائنات الحية، من دون أن يفهم حاجتها وضرورتها، مبادلاً الاهتمام الصارم لهذه الـأنا بالشأن الخاص لوعي ذات مهتاجة. وتبقى كلمة "أنا" لغو للبشرية. نطق بها نابوليون من دون أن تكون لديه القدرة على الدخول في علاقة، نطق بها كـأنا من أجل الاستهلاك. ومن يحاول النطق بها كما نطق بها (نابوليون) يعبِّر عن يأس تناقضاته الذاتية.

*

ماذا يعني التناقض مع الذات؟

ما لم يتبين الإنسان خلال حياته في العالم بداهة العلاقة، ما لم يستنبط ويحقق الـأنت الفطرية فيما يلاقي، عندئذٍ سيصاب في قلبه. وينمو الهدف غير الطبيعي والمستحيل للـأنت، بمعنى، أنه ينمو حيث لا مجال له بأن ينمو على الإطلاق. وهكذا، في داخله، تحصل مواجهة مع ما يتجاوزه، وهذا ليس علاقة، أو حضور، أو تفاعل متدفق، إنما فقط تناقض مع الذات. تناقض قد يحاول الإنسان أن يفسره كعلاقة، وربما حتى كعلاقة دينية، من أجل أن يسحب نفسه بقوة من الرعب المزدوج لسيد الفعل الداخلي؛ لكنه مجبر بأن يكتشف، المرة تلو الأخرى، خداع هذا التفسير. ها هي ذا حافة الحياة، هروب من حياة لم يتم الوفاء لها إلى مظهر تحقق بلا معنى، وتتلبسه المتاهة وضياع الذات بشكل أعمق من أي وقت مضى.

*

أمام اغترابه بين الـأنا وبين العالم، يفكِّر الإنسان المرتعد أحيانًا، بأن عليه القيام بشيء ما. كما حين تكون مضطجعًا، في ساعات الليل الغامضة، وتؤرقك أحلام اليقظة – فتتهاوى الحصون وتناديك الهاوية – وأنت ترصد عذابك: ما زالت هناك حياة، فقط لو كان بوسعي التوغل فيها – لكن كيف، كيف؟ هكذا يكون الإنسان خلال ساعات تفكيره، مرتعدًا، ومتفكرًا بلا هدف بهذا الشيء أو ذاك. وربما، في العمق، في قلب فهم غير مستحب لأعماقه الذاتية، تراه يعرف حقًا اتجاه التحول الناجم عن التضحية. لكنه يرفض هذه المعرفة بازدراء، ويدعو إليه الفكر الذي يثق به فعلاً؛ فهذا الفكر هو الذي سيصلح له، مرةً أخرى، كل الأمور. إنه في الحقيقة فن تفكير رفيع يستعمله حتى من أجل رسم صورة موثوقة لعالم إيمان مستحق. هكذا إذًا يخاطب هذا الإنسان فكره: "أنت ترى ذلك الشيء ذو العيون القاسية والممدد هنا – أتراه لم يكن في يوم من الأيام شريكي في اللعب؟ أتعرف كيف ضحك آنذاك في وجهي، وبنفس هتين العينين، اللاتي كنَّ يعكسن الطيبة؟ وأنت ترى الآن أناي البائسة – وأنا أقرُّ أمامك، بأنها فارغة، وأنه مهما فعلتُ بنفسي، بحكم التجربة والاستخدام، فإني لن أتمكن من سبر أغوار فراغها. فهل ستصلح الأمر بيني وبينها، بحيث تكفُّ عن تعذيبي وأتعافى؟" ويرسم الفكر، الجاهز للخدمة بفنِّه وبسرعته المعروفة لوحةً – لا بل، صفَّان من اللوحات، على الجدار الأيمن وعلى الجدار الأيسر. على إحداها يوجد (أو بالأحرى يعرض كعالم صور فكرية شريط سينمائي موثق) الكون. فتغرق الأرض البالغة الصغر في قلب دوامة النجوم، ويغوص الإنسان البالغ الصغر في قلب الأرض، فهو إضافةً إلى ذلك يحمله التاريخ عبر العصور، لكي يعيد بإصرار بناء تلَّة نمل ثقافات يسحقها ذلك التاريخ تحت أقدامه. وتحت صف اللوحات كتب: "الواحد والكلُّ". وعلى الجدار الآخر توجد الروح. ويغزل الدوَّار مدارات كل النجوم وحياة كل الخلائق وتاريخ الكون؛ فكل شيء منسوج بخيط واحد، وهو لم يعد يتحدث عن نجوم وخليقة وكون، إنما عن أحاسيس وتصورات، أو حتى عن تجارب، واشتراطات هذه الروح. وتحت صفِّ اللوحات كتب: "الواحد والكلُّ".

فإنْ ارتعش الإنسان في غربته، وأصاب عالم الذعر قلبه، فإنه، من الآن فصاعدًا، سينظر إلى الأعلى (يمينًا أو يسارًا، تمامًا وكأنه يبحث عن فرصته) فيرى لوحة. وفيها يرى أن الـأنا هي جزء لا يتجزأ من العالم وأنه في الحقيقة ليست هناك أنا على الإطلاق – وهكذا إذًا لا يستطيع العالم أن يساعد الـأنا بشيء، إنما هو فقط يسهِّل الأمور؛ أو أنه يرى بأن العالم هو جزء لا يتجزأ من الـأنا، وأنه في الحقيقة ليس هناك عالم على الإطلاق – هكذا إذًا ليس بوسع العالم أن يساعد الـأنا بشيء، إنما هو فقط يسهِّل الأمور. ومرة أخرى، يرتعش العالم في غربته، ويصيب الذعر قلب الـأنا، فينظر الإنسان إلى الأعلى ويشاهد لوحة؛ لا يهم أية لوحة يرى، فالـأنا الفارغة محشوة كلِّيًا بالعالم، أو أن تيار العالم يصب فيها ويشعرها بالارتياح.

لكنه ستأتي لحظة، وهي قريبة، حين ينظر الإنسان مرتعدًا إلى الأعلى ويرى كلتا اللوحتين تشعان معًا. فتتملكه رعشة أعمق.

ترجمة: أكرم أنطاكي

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] بمعنى الألوهة.

[2] إلهة العدالة والأخلاق عند اليونانيين القدامى.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود