الثقة ومستقبل البحث العلمي٭

 

كارولين ويتبك٭٭

 

كان الفيزيائيون طوال سنوات كثيرة ينكرون أن يمثل الأداء غير الأخلاقي مشكلة في مهنتهم. لكن التآكل في الثقة والمسؤولية المهنية أو التغاضي عنهما يمكن أن يهدد مشروع البحث العلمي، وغالبًا بطرق ملتوية.

إن البحث العلمي، مثله مثل المساعي التعاونية الأخرى، يتطلب الثقة كي يزدهر. وتوضح الفيلسوفة المميزة أنيتا بايير Annette Baier أن الثقة هي تعويل على الأمانة. فكلا العنصرين، الأمانة والتعويل عليها، حيويان.

عندما لا تكون البدائل متاحة ربما نضطر للاستمرار في التعويل على أناس وأشياء فقدنا الإيمان بهم. لكن التعويل بدون أمانة يقود إلى سبيل لولبي منحدر من التوقعات الدنيا والسلوك الدفاعي والتعاون الضعيف. وتلك هي الحالة المؤسفة في بعض ميادين البحث العلمي. على سبيل المثال، أعرف باحثين فقدوا الإيمان في صدق وعدالة المحكِّمين. وكي يمولوا بحوثهم ويُعرِّفوا بمنجزاتهم يجب على هؤلاء الباحثين أن يواصلوا التعويل على تقديم اقتراحاتهم إلى المجلات والنشر فيها. ولكن، بما أنهم يخشون محاولة المحكمين سرقة أعمالهم فإن بعضهم يعمد إلى حجب معلومات أو حتى وضع عبارات غير صحيحة في مخطوطاتهم المقدمة إلى المحكمين، ويكون القصد من ذلك الانتظار حتى مرحلة الاختبارات النهائية لمقالاتهم قبل تدقيق العبارات غير الصحيحة. لكن هذه السلوكيات، ومثيلاتها، تعرقل عمل المحكمين والمحررين المحترمين وتخلق مخاطر جديدة على سجل البحث وتجعله بالتالي أقل جدارة بالثقة.

إن عنصر التعويل الكائن في الثقة يلقي الضوء على الحساسية الكامنة في عملية منح الثقة. ربما نؤمن بجميع أنواع الأشياء، مثلاً بأن صحيفة معينة سوف تصدر غدًا، لكن ما لم نعوِّل على تلك الصحيفة، وما لم يكن ثمة ما نراهن عليه في نشرها، فإننا بكل صراحة، لا نثق بها. فعلى الواثق تقع المسؤولية في أن يخذل أو يتحرر من الوهم أو أن يضلل، لأن الواثق يعتمد على الموثوق به. فالإحباط أو التضليل في عملية الثقة بالباحثين يقوض الثقة المستقبلية، وكما سنرى، يقوض الوظيفة المستقبلية للبحث العلمي.

وكما لاحظ عالم الاجتماع نيكلاس لوهمان Niklas Luhmann  فإن الثقة تيسِّر الحياة. وسيكون من قبيل تبديد الوقت أن ننظر وندقق في كل الإحباطات والعلل والتضليلات المحتمل حدوثها من قبل أولئك الذين نعول عليهم، وفي كل العواقب المحتملة لتلك الإحباطات وكل الأفعال المخففة التي قد نتخذها. وبدون الثقة سوف يصبح البحث العلمي مقودًا بأحابيل الخداع. ولكن الثقة العمياء ليست كافية. ومثل هذه الثقة الساذجة تقود عمومًا نحو الإحباط مع جرعة إضافية من العار لكون المرء قد تعرض للخداع. إن الثقة المضمونة والسلوك الجدير بالثقة هما اللذان يدعمان ديمومة الثقة والتعاون.

محترفون مسؤولون

غالبًا ما يسمع المرء قولاً مفاده أن الثقة ضرورية لأن الفريق الواثق لا يستطيع ضبط ومراقبة أداء الفريق الموثوق به، لكن ذلك يخفق في إدراك الحاجة إلى الثقة بالمحترفين في المجتمع الحديث. لن يكون بمقدور الشخص العادي أن يمتلك، مثلاً، علمًا مسبقًا بكل الأحداث التي تدخل في إطار هندسة جسر، أو حتى أن يمتلك المقدرة على توجيه أعمال المهندسين، إلا إذا صادف أيضًا أن الشخص العادي هو مهندس، ويصح الأمر عينه على البحث العلمي. فعلى الرغم من أن الشخص النموذجي ربما يستطيع تمييز بعض الأفعال المتسمة بالإهمال الجسيم، إلا أنه لن يفهم مضامين أغلب ما يقوم به الباحث ولن تكون لديه أي فكرة عن كيفية تحسين أداء الباحث.

إن الجدارة أو السلوك المسؤول عند المحترف ينبثق من اتحاد معقد بين الكفاءة والاهتمام. إن عدم الكفاءة ليست بحد ذاتها عيبًا أخلاقيًا، لكنها لا تولِّد الثقة. يكرس المجتمع الحديث موارد لتعليم مواطنيه وذلك كي يتمكن أعضاءٌ في مهن متنوعة من التضلع في معرفة ميادينهم واستخدام براعتهم وحصافتهم المصقولة في اتخاذ قرارات سليمة في مجالات خبرتهم. لذلك فإن الاهتمام الأخلاقي المطلوب من المحترفين ليس مجرد الاهتمام بالحذر أو بإضمار النوايا الحسنة، بل أيضًا الاهتمام بتوجيه خبرتهم للوصول إلى نتائج جيدة في ميدانهم الخاص بحيث أن المجتمع يعهد بذلك الميدان إلى أهل تلك الحرفة وأعضائها. قد يكون من غير اللائق أخلاقيًا أن يتبعثر الباحثون بتهاون حين يلتهمون طعامهم، أما عندما يتهاونون في وصف مصداقية البحث أو في دقة التقارير المكتوبة فإن ذلك يعدُّ فشلاً في المسؤولية الأخلاقية. ليس للمحترفين بدائل أفضل من الجدارة، ويحتاج الأفراد والمجتمع إلى أن يتمكنوا من التعويل بثقة على رأي المحترفين وحصافتهم.

وثمة سبب آخر يدفع الباحثين للتمتع بالجدارة؛ ذلك كي يزدهر البحث العلمي. وكما حاجّت بايير فإن الثقة اللائقة أخلاقيًا يجب أن تصمد أمام الإفصاح عن الأساس الذي تستند إليه. على سبيل المثال، إذا كانت ثقة المشرف على البحث في أمانة متدربيه تستند إلى اعتقاد بأن المتدرب يخشى أو لا يمكن تصور قيامه بتلفيق البيانات أو التجارب، فإن الإفصاح عن هذا الاعتقاد سوف يقدم للمتدرب الحافز كي يغش. وسوف يعاني البحث العلمي إذا كانت عملية الإشراف تعتمد وحسب على غرس الخوف من الضبط. إن المراقبة التي يقوم بها المشرفون ومعاونوهم يجب أن تخدم غايتين مهمتين: يجب أن تساعد الباحثين على تجنب خداع الذات الذي يمكن أن يقودهم إلى أوضاع يائسة ويغريهم بالغش، كما يجب أن تشجع الفهم الكامل والتقدير للقيم التي تساهم في العلم السليم.

في هذه المقالة سوف أُعنى فقط بالأسئلة الأخلاقية حول تأييد القيم التي تسهم في تحديد العلم السليم، لكن يوجد فئة ثانية من الأسئلة الأخلاقية أيضًا: إنها الأسئلة حول عواقب العمل العلمي. فعندما تطلب وكالة تمويل أن تُعنى اقتراحات المنح بالعواقب الأخلاقية والاجتماعية للعمل العلمي المقترح تمويله، فإن الوكالة تطرح في هذه الحالة قضايا من النمط الثاني. وكلا النمطين قضايا مهمة في مجال المسؤولية الأخلاقية، لكنها تتطلب أنواعًا مختلفة أساسيًا من الاعتبارات. إن الإخفاق في تأييد المسؤوليات الجوهرية للعلم يضع استمرارية العلم والبحث العلمي موضع تساؤل، كما يوحي عنوان المقالة التي كتبتها كات كيربي وفرانسيس هول الأخلاق وازدهار مهنة الفيزياء في هذا العدد من المجلة. إن الفشل في الأخذ بالاعتبار عواقب العمل العلمي يمكن أن يهدد سعادة الإنسان، وهذا شأن ذو أهمية جلية. وفي مقالة الدستور الأخلاقي للعالِم[1] التي كتبها واين لي منذ نصف قرن ويعاد طباعتها في هذا العدد من المجلة يحاجج الكاتب بأنه يجب على العالِم ألا يدعم القيم من النوع الأول فحسب بل أن يكفل أيضًا أن تستخدم المعرفة لمنفعة الجنس البشري.

يجب أن يهتم العلماء بأن يكونوا أناسًا أخيارًا (مواطنون فاعلون ومهتمون أخلاقيًا) وباحثين علميين أخيارًا أيضًا (باحثون خبراء ينجزون علمًا سليمًا). ومن المحتمل أن يستمر الجدال حول تقسيم العمل بين العلماء وغير العلماء من حيث التأثير والتقرير بشأن الاستخدامات الملائمة للعلم. لكن النقاشات حول الأهمية في حياة الشخص العلمية أو الفنية أو غيرها من المآثر مقارنة مع قيمة نفع الآخرين تطرح سؤالاً حول ما هو نوع الحياة الجدير بالعيش. وسوف يتواصل فحص السؤال ومناقشته ولن يقتصر الأمر على القاعات الأكاديمية. لو كان سقراط على حق فإن مثل هذا الفحص بحد ذاته هو جزء من امتلاك حياة جديرة بالعيش.

إن صون القيم التي تسهم في العلم السليم، بما في ذلك القيم الأخلاقية النوعية المتمثلة في الاستقامة والعدل، هو أمر أقل مدعاة للخلاف. إذا لم نعول بأمانة على المعايير الداعمة لسلامة البحوث، فإن نسيج الثقة المطلوبة لدعم البحوث – هذا إذا لم نذكر الثقة العامة المطلوبة من أجل تعزيز التمويل العام للعلم – سوف يتمزق. ومؤخرًا تغير فهم المجتمع العلمي لما يشكل تهديدات لسلامة البحث العلمي. وقد عزز هذا الفهم الاكتشافات التي وجدها فريق البحث الأخلاقي التابع للجمعية الأمريكية للفيزياء APS في دراسته المنشورة في هذه المجلة بقلم كيربي وهول.

دروس التاريخ

إن فهم المجتمع العلمي للسلوك البحثي المسؤول وكذلك لأهمية المسؤولية المهنية في البحث قد تطورا حديثًا فحسب. وبالفعل، مع أن تشارلز بابيج Charles Babbage قد انتقد في العام 1830 ما اعتبره عدم استقامة في العلم في إنكلترا آنذاك، إلا أن المعايير الأخلاقية للسلوك البحثي قد حظيت بمناقشة عامة قليلة في الولايات المتحدة أو في أي مكان آخر حتى مجيء الثمانينات من القرن العشرين. عندها، بدأ النقاش بالتركيز ليس على المسؤولية المهنية والجدارة، بل على ضبط التضليل البحثي (الذي دعي خطأ وعلى نحو شائع بـ"الاحتيال العلمي" انظر الإطار 1 أدناه). في ذلك الوقت، أُلقي الضوء على قضايا "التضليل البحثي" الفاضحة بمعنى التزييف أو التلفيق أو الانتحال – وعلى المعالجة السيئة لها. والنقاش الذي عمره ربع قرن في مجال أخلاقيات السلوك في البحث العلمي تُقابَل مع التاريخ الطويل الأمد لنقاش العلماء والمهندسين لمسؤوليات مهنية أخرى. على سبيل المثال، لقد ناقش المهندسون وعلماء الكيمياء مسؤولياتهم المهنية ابتداء من ثلاثينات القرن العشرين على الأقل.

عندما أصبح السلوك البحثي موضوعًا للنقاش العام في الثمانينات شعر الفيزيائيون بالارتياح نظرًا لأن معظم قضايا التضليل في الواقع قد ظهرت في ميدان الطب وعلوم الحياة. لكن الفيزيائيين دخلوا المعترك في العام 1986 عندما تعرض العالم روبرت ميليكان Robert Millikan للنقد الشديد بسبب ورود عبارة في ورقة بحثية له عن شحنة الالكترون عام 1913 (انظر الإطار 2 أدناه).

وفي الثمانينات رد عدد كبير من العلماء بشكل دفاعي على قضايا التضليل الفاضحة وكانوا مكرهين على الاعتراف بالحاجة إلى توجيه انتباه أعظم لسلامة البحوث. ويمكن للمرء أن يأخذ فكرة عن تلك الأوقات بقراءة الطبعة الأولى (1989) من تقرير أكاديمية العلوم الوطنية NAS المعنون كيف تكون عالمًا. كان التقرير محاولة من الأكاديمية لتقديم شيء ما حول السلوك البحثي المسؤول بغية تعليم الباحثين الشبان. لكن التقرير أهمل التطرق إلى القضايا المتعلقة بكيفية تفسير أعمال علماء ناجحين وراسخين خضع سلوكهم البحثي للمساءلة. على سبيل المثال، لقد احتوت الطبعة الأولى على صورة لصفحة حاسمة من كراس المختبر العائد لـ ميليكان تبين مواضع بيانات أسقطها من حسابه مع أنه أنكر بشكل صريح أنه قد أسقط شيئًا. لكن تقرير NAS لم يناقش في أي موضع عبارة ميليكان المثيرة للجدال. بالإضافة إلى ذلك، فقد شجع بقوة ليس معايير السلوك البحثي المسؤول وحسب بل "النظرة العلمية إلى العالم" مفترضًا أنها ضد القائلين بنظرية الخلق الذين اعتبر التقرير أنهم ينتقصون من قدر العلم.

إن اللهجة التي سادت جلسات الاستماع المراقَبة في كونغرس الولايات المتحدة برئاسة السيناتور الجمهوري جون دينغل، والتي حققت في الكيفية التي ردت بها مؤسسات الأبحاث على ادعاءات حدوث التضليل، قد عززت لدى كثير من العلماء نظرتهم بأنهم مع البحث العلمي كانوا تحت الحصار. وعلى الرغم من الموقف المنيع لكثير من العلماء، إلا أن المجتمع العلمي لم يكن لديه خيار سوى الاعتراف بأن الادعاءات بحدوث التضليل البحثي قد جرى على نحو واضح التعامل معها بشكل سيء من قبل جامعات عديدة، كما ورد بالتفصيل في تقرير آلان مازور عام 1989. على سبيل المثال، إن جون دارسي الأخصائي في أمراض القلب والباحث في الطب السريري لفَّق بيانات في أكثر من 15 من الأوراق البحثية وفي ما يزيد على 45 خلاصة. وقد وضع أسماء أعضاء من الهيئة التعليمية كمؤلفين مشاركين في المقالات والخلاصات من دون علمهم أو موافقتهم، ومع ذلك لم يُتخذ ضده أي إجراء مؤثر. وقد انتقل من جامعة إيموري إلى هارفرد حيث واصل الممارسات نفسها إلى أن قبض عليه في النهاية بتهمة تلفيق البيانات عام 1981. أما روبرت سلوتسكي وهو باحث غزير الإنتاج جدًا في جامعة كاليفورنيا سان دييغو، فقد كتب 160 ورقة بحثية في سبعة أعوام. وقام بدوره أيضًا في إضافة أسماء مؤلفين مشاركين إلى أبحاثه من دون مبرر. وقد استسلم فجأة بعد أن قام أحد المحكمين بالتشكيك في تكرار بيانات في اثنتين من أوراقه البحثية. عندها فقط تم إطلاق تحقيق في المسألة. وقد تبين أن 12 من بحوثه المنشورة احتوت نتائج ملفقة و48 منها كانت موضع شك.

ومهما حدث، فقد احتاجت مؤسسات الأبحاث إلى تطوير إجراءات أفضل للتعامل مع التضليل. وكي تستمر في تلقي التمويل الحكومي للأبحاث وخصوصًا تمويل مؤسسات الصحة الوطنية – فإن معظم جامعات البحوث بدأت على الأقل في تأسيس أو تحسين إجراءاتها للتعامل مع الادعاءات حول حدوث تضليل. إن التفسير الرائج في الدوائر العلمية للتضليل البحثي في كل مرة كان يربطه كليًا ببعض الباحثين المحتالين الذي يعاني معظمهم من الاضطراب العقلي.

في بواكير الثمانيات وثَّق والتر ستيوارت ونيد فيدر سلوكًا متراخيًا من قبل المؤلفين المشاركين مع دارسي وهو ما أتاح له خداع المجتمع العلمي. لكن، لمَّا كان بعض هؤلاء المؤلفين المشاركين هددوا بمقاضاة مجلة Nature إذا نشرت الفضيحة، فقد تأخر النشر إلى عام 1987. وحتى عندما تم ذلك فإن المجتمع العلمي لم يكن مستعدًا لاستيعاب الدرس الذي فحواه أن الهفوات الواضحة في المسؤولية المهنية من جهة أولئك الذين لم يرتكبوا بأنفسهم أي تضليل بحثي يمكن مع ذلك أن تمهد المسرح لحدوث التضليل من جهة آخرين.

في العام 1996 قام فرانسيس كولينز رئيس مشروع الجينوم البشري لدى المؤسسات الوطنية للصحة NIH بنشر تقرير حول باحث ثانوي في مختبر NIH – وللحق فإنه طالب دراسات عليا عنده – لفَّق بيانات في خمسة بحوث اشترك في تأليفها مع كولينز. وقد وافق الكثيرون في المجتمع العلمي على التفسير الذي قدمه كولينز بأنه لم يكن بمقدوره منع التلفيق أو تفحصه في وقت مبكر إلا بواسطة وسيلة بديلة، غير مقبولة، تقوم على التدقيق المزدوج لعمل كل شخص في الفريق. هذا الانصراف السريع عن مسؤوليات المؤلفين المشاركين، وخصوصًا الأساتذة منهم، يتعارض مع الحكم الدقيق جدًا الذي أصدرته اللجنة في مختبرات بيل التكنولوجية التي حققت في التضليل البحثي الذي قام به هيندريك شون (انظر مجلة الفيزياء اليوم، نوفمبر 2002، ص 15). فبعد أن برأت اللجنة المؤلفين المشاركين مع شون من أي اشتراك في الجرم، واصلوا وضع العقبات والقضايا الشائكة التي تخص المسؤولية المهنية للمؤلفين المشاركين في أعمال تحمل أسماءهم.

إن قضية شون وقضية فيكتور نينوف من مختبر لورانس بيركلي الوطني في العام نفسه (انظر مجلة الفيزياء اليوم، أيلول 2002، ص 15) جعلتا الفيزيائيين يتنبهون فجأة إلى أن عالَم الفيزياء نفسه كان عرضة للهجوم. ليس المتدربون والمرؤوسون المضطربون عقليًا فحسب، بل نجوم بارزون يمكن أن يخضعوا لإغراء التضليل في مجالات من البحث شديدة الوضوح. لكن التحقيقات في تلك القضايا شجعت على المزيد من المناقشة والتفكر حول مسؤوليات المؤلفين المشاركين. لذلك يمكن للتاريخ الأحدث أن يستحث المهمة الصعبة المتمثلة في تطوير معايير وتوجهات نافعة، على الأقل ضمن فروع وميادين معينة.

ما الذي يعرض سلامة البحوث للشبهات؟

قدمت تفسيرات متنوعة للتضليل البحثي. فبعض الكتاب الأوائل مثل وليم براود ونيكولاس ويد اعتبروا تلفيق وتزييف النتائج مشكلة قديمة العهد في العلم. لكنهم تعرضوا لنقد صائب لأنهم فشلوا في بعض الحالات في التفريق بين عدم الأمانة وبين استخدام الطرائق – كما في حالة انتقائية البيانات لدى روبرت ميليكان – التي قد لا تكون مقبولة بالنسبة لمعايير أيامنا لكنها مقبولة في فترات أبكر.

في العام 1994 حاججت دراسة لمجلس البحوث القومي في الولايات المتحدة بأن التخفيضات في الاعتمادات المالية للبحوث في العلوم الكيمائية والبيولوجية قد حرم على نحو غير متكافئ باحثين شبان من موارد مالية لأبحاثهم. وإن التهديد الحقيقي بفقدان مهنتهم وضع هؤلاء الباحثين الشبان القادرين تحت ضغط استثنائي. كما أن القلة الملحوظة في وظائف حملة شهادات الدكتوراه في الفيزياء ربما تخلق ضغوطًا مشابهة للقيام بمحاولات ملتوية. وقد وجدت حالات موثقة لطلاب دراسات عليا شعروا بأنهم مدفوعون للتلفيق أو التزييف تحت الضغط، مثلاً، كي يؤكدوا تجريبيًا نظرية عائدة للمشرف على بحثهم.

لقد تنامى بشكل مثير عدد الخريجين لدى كل مشرف جامعي في بعض الميادين وهذا يطرح أسئلة خطيرة حول نوعية الإشراف والنصح المقدم لهؤلاء الطلاب في بحوثهم. كما أن الافتقار إلى الإشراف الجامعي يصبح أكثر تعقيدًا بوجود طلبة ما بعد الدكتوراه في بعض الميادين: أحيانًا تكون الأولوية لطلبة ما بعد الدكتوراه في تلقي الإشراف الجامعي وهذا يجعل طلبة الدراسات العليا يعتمدون على إشراف طلبة ما بعد الدكتوراه قليلي الخبرة نسبيًا.

إن بعض خصائص التعليم في المرحلة الجامعية الأولى في العلم والهندسة ربما تعزز على نحو غير متعمد السلوك البحثي السيئ. وتبين مسوح حول السلامة الأكاديمية في جامعات بحثية أن عددًا منذرًا بالخطر من طلبة العلم والهندسة – أغلبية في بعض الجامعات – يعترفون بتزييف تقاريرهم المخبرية.

إن النمو الانفجاري في عدد الباحثين العلميين بعد الحرب العالمية الثانية جعل من الصعب انبثاق ضوابط اجتماعية جديدة بالسرعة الكافية كي تحل محل تلك الضوابط التي حافظت على احترام الباحثين عندما كان كل واحد منهم يعرف الآخر، إلى هذا الحد أو ذاك. وإن تغيرات أحدث في بيئة البحوث – مثل أنواع البيانات الجديدة والتزايد في المقالات المتعددة المؤلفين ومجموعات التعاون البين-مناهجية interdisciplinary والتوقعات بالكسب المالي الكبير للباحثين في بعض الميادين – كل ذلك تطلب من الباحثين الانكباب على مشكلات جديدة تخص مراقبة البحوث والانسجام مع القواعد القانونية.

انزياح في التركيز

بدأ العلماء يدركون أن الضبط والاقتصاص في حالات التلفيق والتزييف والاحتيال لا يكفيان. وطوال السنوات العشرة الماضية أو أكثر، أصبح في المقدمة الاهتمامُ الواسع بتشجيع السلوك المسؤول. ولهذا الانزياح العام مصادر عديدة. فكلما وجد تقرير لجنة MTT للعام 1992 حول المسؤولية الأكاديمية فإن الاتهامات بالتضليل تميل للارتفاع في الأوساط التي تظل فيها بلا حلِّ قضايا الارتكاب والإساءة والنزاع. إن الصلة بين الاتهامات بالتضليل وبيئات البحث الفقيرة أو العدائية توحي بأن الاستجابات الفعالة للمشكلات الدقيقة في السلوك البحثي يمكن أن تخفض من مدى حدوث الاتهامات بالتضليل. ومثل هذا التخفيض مرغوب كما يجزم بسهولة أي شخص تولى جانبًا من التحقيق في قضية تضليل.

والأكثر أساسية هو أن الثقة ضرورية للمشروع البحثي. وقد كانت هذه النقطة الأخيرة مفصلية في العديد من المنشورات المؤثرة في أواسط التسعينات. وكما ذكرت مقدمة الطبعة الثانية من كتاب كيف تكون عالمًا:

إن مستوى الثقة الذي يميز العلم وعلاقته بالمجتمع قد أسهم في حقبة الإنتاجية العلمية الفذة. ولكن هذه الثقة سوف تتواصل فقط إذا كرَّس المجتمع العلمي نفسه لإشاعة القيم المرتبطة بالسلوك العلمي الأخلاقي وجعلها بمثابة المُثل العليا.

والنتيجة الطبيعية هي أن ثقافة الارتياب والإحباط تقوض الثقة في النتائج التي يبنى المرء عليها، وتشوِّه مسرات الاكتشاف وتُفسد متع العمل الجماعي وتخرِّب الإشباعات اليومية لرغبة التقصي والبحث وتُعقِّد النشاطات البحثية. إن تخريب المتعة الوجودية في عملية البحث تلقى وعلى نحو لافت الانتباه الأقل، إلا في المناقشات العرضية لمعدَّلات الندم العالية أو حتى الانتحار بين المتدربين في بعض المختبرات والأقسام. ربما يشعر الناس بالمتعة تحديدًا في التضلُّع بالمهارات واكتساب المزايا المطلوبة لإدارة البحوث. إن مثل هذه المتعة تتآكل عندما يتبين أن الآخرين يستغلون ثقة المرء كي يحصلوا على منفعة تنافسية في بحثهم عن مكافآت خارجية من قبيل المرتبة أو المال. عندما تتآكل متعة إجراء البحوث فإن المكافآت الخارجية القليلة سوف تبقى لوحدها بمثابة الحوافز وسوف يصبح التنافس أكثر قسوة طالما أن الخوف من الضبط يصبح الكابح الوحيد  للمحاولات الملتوية.

وقد ذكرت دراسة مهمة تقارير عن تأثيرات مناخين للأبحاث. المناخ الأول يشدد على اكتساب وإظهار التفوق (التفوق في ميدان ما، أي الاحتراف عند الباحث)، والثاني يشدد على الحصول على نتائج بحثية. وجدت الدراسة أن بيئات التفوق دعمت التطور المهني والفكري للمتدربين على نحو أفضل من بيئات النتائج. ذلك الاكتشاف يتسق تمامًا مع أجوبة الطلبة أعضاء APSI الذين استشهد بهم كيربي وهول في مقالتهما.

تعزيز الاستقامة في البحوث

كما ذكرت في البداية، إذا كان للبحث العلمي أن يستمر في الازدهار، فإن ذلك يتطلب كلا من الثقة والسلوك الجدير بالثقة اللذين يدعمان التعاون الدائم. ومع أن بعضًا من السلوك البحثي يكون خاطئًا على نحو جلِّي، فإن الاستجابات السليمة لا تكون واضحة دومًا، وخصوصًا في الحالات التي تكون فيها المسؤوليات متعددة والتنافس محتملاً. ربما يتصرف الناس المحترمون بأساليب غير مقبولة أخلاقيًا عندما يأخذون بالاعتبار بضعة جوانب فقط من حالة معينة. على سبيل المثال، ربما يلاحظ أحد الأشخاص النص نفسه في مقالتين مؤلفتين من قبل شخصين مختلفين وينشر خبر هذه الملاحظة. عندها، ربما يصل بعض الناس إلى اعتقاد بأن المؤلف الذي نشر ثانيًا قد انتحل عمل المؤلف الذي نشر أولاً. ولكن، ربما يكون الواقع الحقيقي متمثلاً في أن الذي نشر ثانيًا قد كتب وروج لمخطوطته أولاً وأن الذي سارع إلى النشر هو المُنْتَحِل، أو في أن كلاً من الكاتبين قد استخدم على نحو لا-واعٍ الكلمات التي سمعها من أستاذ مشترك.

ومن الدقيق أن يتم حماية جميع الأطراف من الأذى بحيث تكون التحقيقات والاستقصاءات عن التضليل البحثي سرية تمامًا، أما عندما لا تطبق الضوابط ذاتها فإن الانطباعات السيئة يمكن أن تؤدي إلى تشويهات في السمعة. إن فهم الحالة ومعرفة كيفية التحقيق فيها من دون المزيد من الأضرار ليس مجرد قضية تتعلق بتعلم قواعد وإرشادات عامة. فعلى الأقل، يتطلب الأمر بعض الخبرة أو الدراية بكيفية اجتذاب خبرة المزيد من المحققين المتمرسين.

إن القلق الذي عبر عنه خريجو الدكتوراه في الفيزياء والذي ذكره كيربي وهول في تقريرهما له صلة بموضوعنا. إن الشكاوى من الإساءة والاستغلال لا تدهشنا نحن الذين تتبعنا قضايا العلاقات بين المشرفين على الأبحاث والمتدربين لديهم. يوجد، بلا ريب، إساءة واستغلال. وقد حاولتُ في موضع آخر أن ألفت الانتباه إلى إحدى الممارسات المشينة التي تتمثل في إسناد أطروحات ذات مواضيع متداخلة لطلاب الدراسات العليا وبالتالي خلق منافسة ضارية ربما يضطر "الخاسر" بموجبها أن يبدأ ثانية في البحث عن موضوع لأطروحة جديدة. يتم استغلال بعض المتدربين كعمال مهرة أذكياء رخيصي الأجر، كما يتم معاملة بعضهم الآخر بأسلوب مزاجي غير مقبول يحاكي الأسلوب الذي عومل به المشرفون عليهم عندما كانوا متدربين.

وقد وضعت الأقسام والجامعات ذات النظرة المستقبلية قواعد لمنع تكرار بعض الإساءات. على سبيل المثال، يمتلك بعضها قواعد تمنع أعضاء الهيئة التدريسية من استخدام طلابهم للمساعدة في عملهم الاستشاري، وبعضها يطلب أن يكون لطالب الدراسات العليا مشرفٌ ناصح منفصل عن أستاذه المشرف المباشر، ويطلب بعضها من أعضاء الهيئة التدريسية أن يقدموا مسبقًا تقريرًا خطيًا، كل فصل دراسي أو أكثر، قبل قطع التمويل عن طالب الدراسات العليا. وأنشأت بعض الأقسام مكتبًا يقوم بوظيفة الدفاع عن طلاب الدراسات العليا ويعمل وسيطًا إذا حدثت توترات بين المشرف والمتدرب، ويتوسط كي يجد للمتدرب مشرفًا جديدًا إذا انهارت العلاقة بينهما. وفي بعض الأحيان، يقوم رئيس فريق طلاب الدراسات العليا بهذه الوظيفة. ويعلم المتدربون أحيانًا أن بإمكانهم اللجوء إلى عميد كلية الدراسات العليا أو إلى المحقِّقين لطلب مثل هذه المساعدة. وفي بعض الأحيان يتصل بنا باحثون شبان على رقم خدمة المساعدة في مركز الأخلاق الهندسية والعلمية.

وثمة مقياس آخر مقترح يتمثل في الطلب من المشرفين على البحوث ومتدربيهم أن يصوغوا اتفاقًا قبل مباشرة علاقتهم. إن المضامين شبه القانونية لهذا المقياس تثير حفيظة الكثير من أعضاء الهيئة التدريسية. لكن الباعث على صوغ مثل هذه الاتفاقات هو تجنب أسواء الفهم اللاحقة وذلك لأن هذه الاتفاقات تؤكد على كون المشرفين على وعي صريح بتوقعاتهم الخاصة ويجعلون هذه التوقعات واضحة أمام طلبتهم في الدراسات العليا وذلك قبل الخوض في أي عمل.

إن الاقتراح حول الاتفاقات الصريحة ينمِّي إدراكات الطلاب بخصوص الإساءة أو الاستغلال. فالطلاب غالبًا لا يدركون ما هم مقدمون عليه عندما يدخلون في برامج الدراسات العليا، كما أن الأقسام لا تخبرهم عن ذلك. وقد رأيت طلابًا يدخلون إلى كلية الدراسات العليا ولديهم انطباع خاطئ عن أن العمل في مرحلة الدكتوراه سيكون بالضبط كالعمل في الدراسة الجامعية الأولى، إنما فقط أصعب وأسرع. واستغرق الأمر طويلاً كي يستوعبوا حقيقة أنهم قد جرى تقييمهم أوليًا بأنهم أصبحوا باحثين أكثر من كونهم حاصلين على درجات في منهاج معين. والكثير من المتدربين لا يعلمون كيف يفسرون تجربتهم كما لا يعلمون من أين يحصلون على معلومات غير متحيزة.

ومن خلال خبرتي الشخصية، فإن عدم اليقين ذاك يظل مشكلة شائعة وغالبًا غير مُدْرَكة. فعندما لا يمتلك المتدربون طريقة خالية من المخاطرة في الحصول على تفسيرات وافية، فإنهم ربما يستخلصون نتائج خاطئة حول مجمل السلوك البحثي النزيه. وهم غالبًا ما يتشاركون في سوء التفسير هذا مع الآخرين. إن الاهتمام بدراسة تساؤلات المتدربين يبدد النظرة الكلبية[2] cynicism حول أفعال ودوافع الباحثين. وإن التوقعات الشكاكة أخلاقيًا التي قد تنفذ إلى نشاطات البحث العلمي المستقبلي قد تصبح تنبؤات ذاتية التحقيق من خلال تقويض ممكنات الثقة والتعاون.

بعض الخبرات الشخصية

حصلت جزئيًا على خبرتي من خلال مناقشة استفسارات المساعدة مع فريق مركز الأخلاق الهندسية والعلمية. فقد انخرطت منذ العام 1990 في تطوير وإدارة جلسات حول السلوك البحثي المسؤول لصالح أقسام ومختبرات علمية وهندسية. ولأن الجلسات تتضمن أعضاء هيئات تدريسية ومتدربين من قسم أو مختبر واحد، فإنها تكشف حقائق عن الباحثين الكبار أكثر من الباحثين الصغار. في الجلسة النموذجية، تناقش المجموعة إجابات حول الدلالة الأخلاقية لمشكلات تحدث على نحو شائع في البحث العلمي. تغوص المجموعة في عمق تجربة أعضائها بغية تفسير الحالة – التي تكون مفتوحة على تفسيرات عديدة – وصوغ الخيارات. ويكون من الضروري البناء والتخطيط الواضحين للجلسات. إن مهمة مدير الجلسة تتمثل في إبقاء تركيز المجموعة منصبًا على تشخيص الإجابات الجيدة وربط اقتراحات المجموعة مع مختلف الإرشادات الأخلاقية الراهنة حيثما تكون صلة بينهما، وذلك بما هو أكثر من مناقشة الأحكام حول خصائص الإفادات الواردة في المشكلة. إن مهمة مدير الجلسة يمكن لأي عضو مهم في القسم أو المختبر الاضطلاع بها بسهولة.

وفي سياق القسم أو المختبر نفسه غالبًا ما يكون للباحثين الرئيسيين تبصرات واسعة الاختلاف – مثلاً، حول المنافع المهنية التي يمكن للمرء أن يجنيها على نحو شرعي من خلال تحكيم المخطوطات، والعوامل التي تقرر ترتيب المؤلفين في ورقة بحثية، والمعايير التي يجب أن تحكم علاقة المشرف بالمتدرب. وما هو مثير أيضًا، أنه قبل انعقاد الجلسة، يكون أغلب الباحثين الرئيسيين على عدم دراية بالاختلافات بينهم، وهذا يعني بأنهم مع معرفتهم لبعضهم بعضًا طوال عقود فإنهم لم يناقشوا أبدًا الكثير من عناصر سلوكهم البحثي. وغالبًا، إنما ليس دائمًا، تصل المجموعة إلى إجماع حول بعض المعايير الجديدة لمعالجة المشكلات التي تتصل بموضوع الجلسة. والأقسام والمخابر التي عملتُ معها تمتلك على الأرجح ما هو أكثر من معايير وسطية للسلوك البحثي لأن أعضاءها لا يخشون المشاركة في مثل هذه المناقشات، لكن خبرتي علمتني أن مناقشة الأساليب المسؤولة في معالجة المشكلات الشائعة يمكن أن تعزز فهم المجموعة وقدرتها على بحث المشكلات.

ويتضح أيضًا من تلك الجلسات أن طلاب الدراسات العليا والمتدربين الآخرين ينظرون بعين التقدير لفرصة طرح الأسئلة حول السلوك البحثي، إلا أنهم يترددون في التساؤل حول ما يبدو أنه يشكل تحديًا للممارسة البحثية التي يقوم بها المشرفون عليهم. ومن المهم على نحو خاص الانكباب على اهتمامات المتدربين بالعلاقة بين المشرف والمتدرب. ففي جميع موضوعات جلساتي، كان للمشاركين الخيار في إدراج مشكلات يرغبون على نحو مخصوص في أن يعالجها القسم. وكان المتدربون على الأخص يرغبون في إدراج مشكلة العلاقة بين المشرف والمتدرب ضمن الجلسات، وكانوا غالبًا ما يطرحون أسئلتهم أو يجيبون بأسماء مستعارة. وتصبح أغلب المداخلات جزءًا من السجل الدائم لمناقشة المشكلات وهو متاح للاطلاع عليه.

ونظرًا لتنوع الميادين – مثلاً، في أشكال البيانات أو في الممارسات ضمن المجلات العلمية – فإن الطرق التي يمكن من خلالها الإيفاء الأفضل بالمسؤوليات تتنوع أيضًا بين الميادين. لذلك فإنه حتى لو كانت إجراءات التعامل مع الادعاءات بحدوث تضليل بحثي هي من أفضل ما يكون في المستوى المؤسساتي، فإن معايير السلوك المسؤول في حالات البحث اليومية تحتاج إلى التطوير على مستويات الأقسام والمختبرات. وأكثر من ذلك، يحتاج الباحثون الرئيسيون إلى إخبارهم بالمعايير الحالية التي تطبق على ممارساتهم البحثية. إن اطلاعهم على المعايير الحالية المنبثقة يكون ضئيلاً وقد يكون متأخرًا عما لدى المتدربين الذي من المتوقع أن يعلِّموهم. وإذا كان لدى المشرفين الفصليين أسبابًا معقولة لعدم الموافقة على بعض المعايير فذلك يتطلب منهم أن يشرحوا لمتدربيهم الأسباب الكامنة وراء ذلك.

تبين نتائج الاستبيان الذي أجرته الجمعية الأمريكية للفيزياء APS والذي أورده كيربي وهول أن بعض مشكلات السلوك البحثي تعالج بشكل سيء أو يساء فهمها. وسيكون من الخطأ الافتراض بأن فهمًا أفضل للسلوك المسؤول يمكن اكتسابه بسرعة وأنه بعد ذلك سيتمكن كل امرء من التفكير على نحو صائب بكيفية تنمية البراعة البحثية. ومع تواصل ازدهار البحث العلمي يستمر تغير الشروط والأشكال التعاونية الضرورية لتعزيزه. لذلك فحتى أولئك الباحثون الذين تلقوا نصحًا وتوجيهًا جيدين من باحثين رئيسيين من الجيل السابق سوف يواجهون مشكلات مستجدة في السلوك البحثي لها أهمية أخلاقية. تحتاج الأقسام العلمية والمختبرات إلى أن تكون فعالة كمجتمعات خُلقية قادرة على تنمية وتعديل معايير السلوك التي تعزز الاستقامة في البحث العلمي.

***

الإطار (1)
التضليل ليس احتيالاً

إن الاحتيال تسمية مغلوطة للتضليل البحثي، وذلك لسببين:

أولاً، لأن التعريف القانوني للاحتيال يتطلب فريقًا يتأذى من فعل الاحتيال. بالإضافة إلى ذلك، فإن المفهوم القانوني للاحتيال له ثلاثة عناصر أساسية:

  1. أن يقدِّم المرتكب إفادة زائفة.

  2. أن يعلم المرتكب أن الإفادة زائفة أو أن يهمل بتهور مسألة كونها صحيحة أو زائفة.

  3. أن يتعمد المرتكب خداع الآخرين كي يصدقوا الإفادة.

ثانيًا، تنجم مواقف التضليل الشائعة عن المحاولات الملتوية وذلك بغرض توكيد نتيجة يعتقد المرتكبون بعمق أنها صحيحة وليست خاطئة أو أنهم لا يكترثون لقيمة الحقيقة العائدة لها. ففي مثل هذه الحالات يكون المؤثر هو خداع الذات أو التهور وربما الغطرسة، وليس النية الصريحة في خداع الآخرين. لقد ناقشت هذه النقطة بإسهاب في الفصل السادس من كتابي الأخلاقيات في الممارسة الهندسية والبحث العلمي (كامبردج 1998) وكنت مسرورًا عندما وجدت أن التعريف الحكومي العريض للتضليل البحثي الذي قدم في العام 2000 قد جرى توسيعه كي يشمل أفعال التهور بالإضافة إلى النية المتعمدة في الخداع.

***

الإطار (2)
ميليكان وبياناته

إن طبعة العام 1986 من كتيب منشورات سيغما، الشرف في العلم (طبعة New Haven, CT) انتقدت بحدة روبرت ميليكان بسبب عبارة وردت في ورقة بحثية حول شحنة الإلكترون نشرها عام 1913، وهي: "يجب أن ننوه أيضًا بأن هذه ليست مجموعة منتقاة من القطرات بل إنها تمثل جميع القطرات التي خضعت للتجربة طوال 60 يومًا متواصلة"، والعبارة وردت بالخط المائل في العام 1913. وكما ناقش جيرالد هولتون أولاً، يبين دفتر ملاحظات ميليكان (في صفحتين كما هو وارد بالشكل) أنه قد لاحظ كثيرًا من القطرات الأخرى التي قرر أن سلوكها يشوبه الشذوذ. وقد دفع هذا الأمر بعض علماء الفيزياء للدخول في نزاع حول كيفية تأويل عبارة ميليكان. والنقاش حول ميليكان، مثل كثير من النقاشات حول الاستقامة في البحوث في الثمانينات، كان عرضة لاستقطاب شديد. والمشاركون في النقاش إما اتخذوا موقفًا يعدُّ أن عبارة ميليكان لم تكن بأي حال مثيرة للاعتراض – لأنه في جملة "جميع القطرات" كان يعني شيئًا شبيهًا بالقول "جميع القطرات التي لا تتصرف بشكل شاذ" – أو أنهم ادعوا بأن ذلك شكَّل تزييفًا متعمدًا، أي، ضربًا من ضروب التضليل البحثي.

كان ميليكان صريحًا تمامًا في ورقته البحثية عام 1913 في استبعاده بيانات بطرق تبدو مقبولة في أيامه. وقد ذكر أشياء من قبيل "على الرغم من أن جميع هذه الملاحظات أعطت قيمًا لـ e (شحنة الإلكترون) ضمن حدود 2 بالمئة من المتوسط النهائي، فإن عدم اليقين في الملاحظات كان إلى حد أنني تجاهلتها لأنها لم تتوافق مع نتائج ملاحظات أخرى، وبالتالي شعرت بأنني مكره على تجاهلها كما هي". إن مثل هذا الانتقاء للبيانات لن يكون مقبولاً اليوم، أما في عام 1910، فإن محرري ومحكمي مجلة Physics review التي نشر ميليكان ورقته البحثية فيها لم يعترضوا على العبارة. لذلك، إن مكمن الخطأ في عمله لم يكن في انتقائية بياناته – أي لم يكن التزييف – بل في حجب البيانات المنتقاة وفقًا لمعايير متغيرة.

ورقتان من دفتر ملاحظات ميليكان تُظهر كلاً من البيانات المنشورة والمستبعدة

ترجمة: معين رومية

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ العنوان الأصلي للمقال: Trust and the Future of Research وقد نشر في مجلة Physics Today نوفمبر 2004.

٭٭ كارولين ويتبك Caroline Whitbeck: أستاذة الأخلاق في قسم الفلسفة في جامعة كليفلاند، أوهايو، كما تتولى منصبًا في قسم الهندسة الميكانيكية الفضائية، ومديرة مركز الأخلاقيات الهندسية والعلمية على شبكة الأنترنت.

[2] الكلبية: المذهب الذي يعتقد بأن السلوك البشري تهيمن عليه المصالح الذاتية وحدها. (المترجم)

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني