الصوفية الجديدة وشعرية العالم عند أدونيس

 

راما وهبة

 

العلاقة بين الصوفية والشعر

الطريق إلى الله بين اثنين، وليس مع الله أحد[1].
الحلاج

يمثِّل التصوف الديني القدرة التأويلية للفكر الإنساني في تجاوز ظاهر النص للوصول إلى أعماق أكثر اتساعًا وبلوغ حقائق أكثر يقينية، وفي سبيل ذلك يسعى العارف إلى تجاوز الفعالية العقلية ومدارك المحسوسات المادية بانتخاب ملكات الذوق ومحجَّات الحدس لاستشراف رؤيته القلبية في معرفة خفايا الكون واكتناه أصل الوجود، كذلك تتبدى الرؤية الفنية في قدرتها على الحركة في فضاء لازمني أفقه مفتوح دائمًا نحو انبعاثات مستمرة تردم الهوة بين الواقع المتناهي والإبداع الخلاق.

يسعى هذا البحث إلى الكشف عن صوفية شعرية جديدة عند أدونيس من خلال هذه الصلة الجوهرية بين الإشراق الصوفي والرؤية الفنية في الحداثة الشعرية، والتي تتعدى الأقفاص العابرة للغة في محاولة الوصول إلى ذلك المعدن اللامرئي للوجود وتلك اللحظة الإكسيرية لنقاء العالم، وهو الذي سعى إلى خلخلة أرض اللغة لكتابة دم الآلهة حاملاً في مهيض جراحته نبض ارتجافة الإنسان حتى ترن أجراس الكون بصلاة آلام إنسانية عظيمة، وقد جعل من اللغة مدار تحولاته، مغيبًا ذاته في حبر المعنى لملابسة إشعاع لحظة الخلق الشعري المطلق التي تنفرج كانبعاث ضوء موشوري يمتد من محيط العدم حتى سرمد الإحاطة.

متقصيًا لأقاليم الجهات الشعرية يطالعنا أدونيس كسنديانة ضاربة في عصب الحياة، ومتصاعدة بابتهالاتها لتمجيد الإنسان والانتشاء بماء الأساطير في شهوة خالقة، ليعود ويحملنا بموسيقى عبوره الأزرق في انفعالات تشف عن دهش الروح واستفاقات البدء، هكذا يكون الشعر عند أدونيس كاصطفاء حيٍّ لشمس المعنى واجتباء متجدد لمدارات المطلق، وهكذا يمضي رائد الحداثة الشعرية كقارئ نبوي لنص العالم.

ولعل هذه الطبيعة الكشفية للفن وهذه الرؤية الكونية لمعطيات الوجود فيه هما ما يفسر لنا لماذا اختار المتصوفة لغة الشعر سبيلاً للتعبير عن مواجيدهم العشقية، ولماذا سلك شيوخ العرفان معارج العبارة للإيحاء ببهاء الإشارة التي تتسع إلى مالانهاية وتبقي النص مفتوحًا لفضاءات التأويل.

فالتصوف يوصف بأنه:

أكبر تيار روحي يسري في الأديان جميعها، وبمعنى أشمل يمكن تعريف التصوف بأنه إدراك الحقيقة المطلقة، سواء سميت هذه الحقيقة "حكمة" أو "نورًا" أو "عشقًا" أو "عدمًا"[2].

ويمثِّل التصوف حالة الإشراق الإنساني وقدرته التنويرية في مواجهة خفايا الكون وحالة الاغتراب الذي يعيشه الإنسان ككائن متناه يمتثل لنداء العود الأبدي المتجدد لعبور العالم كشرخ وجودي هشٍّ يعتبره عدمًا بين أبديتين، على اعتبار أن

"جوهر العالم هو النفس الرحماني الذي ظهرت فيه صور العالم[3].

وذلك ما يتعدى قدرات المنطق البشري والإمكانات العقلية التي تقف على عتبات الحجب، وتستنفدها ملابسات الحواس، على خلاف الرؤية الشعرية للعالم التي تجعل اللامرئي مرئيًا، وتستوطن الشفافية لتقول المابين وتشكل الماوراء وتماهي تحولات الغيب بمكابدات الظهور. وقد

خبر الصوفيةُ منذ وقت مبكر إمكانات الشعر، لا في التعبير عن مواجدهم فحسب، بل وفي إنتاج معرفة بالوجود وبالإنسان كذلك[4].

ففي مقابل الوجود المكاني المقيد للإنسان في العالم يكون الشعر كوجود زماني مطلق لروحه الخلاقة، إنه رقصنا الحلاجي بالسلاسل وكينونتا المتلاشية في بحر العدم الحي، حيث يصبح الانتهاء ابتداء، والكلمة فيضًا نشوريًا حتى أبدية الدوائر.

وكذلك قد جاءت حاجة التصوف إلى الشعر

تلبيةً لرغبات مجالس الصوفية التي تتخذ من السماع بابًا من أبواب تحقيق اللحظة الصوفية التي ينسى فيها المريدُ مكانه وزمانه، ويندمج في الزمن الروحي الذي لا تقيِّده الدقائقُ والساعات، وينخرط في حال الوجد والهيام[5].

فالشعر كإيحاء بالرمز وإيماء بالعبارة يحقق تلك المثنوية الحلولية التي تلج كنه الغرابة ليكون الكاتب كمن يضع قلبه على قبة الكون ويده على الطوفان، لتكون له تلك اللحظة الماسية العابرة لتمظهرات جوهر المعنى ويصل إلى المفرد المتحول بتشكيلات اللغة المتعددة، كما هي

النواة الفكرية في النص الأدونيسي التي تتميز برفضها الاكتمال بالتحديد المفاهيمي، وبقائها مفتوحة لما تستدعيه السيرورة الإنسانية من تأويل يتجدد بتجددها[6].

سيمياء النص التأويلي

وقال لي: القرب الذي تعرفه مسافة
والبعد الذي تعرفه مسافة
وأنا القريب البعيد بلا مسافة
[7].
النفري

إن النص الشعري باعتباره مجموعة من العلامات اللغوية المنزاحة عن حدودها الوضعية في سياقات الدلالة التي تتشكل وتنمو وتتجدد عبر فضاء إبداعي حرٍّ، يتيح للقارئ إمكانيات الانفعال الجمالي الحي بالرؤية الفنية، وتجعله شريكًا في خوض فتوح النص الذي يستشرف ولاداته المتجددة في كل قراءة، لتصبح ذات الكاتب معبرًا للآخر، يستلهم من خلالها وجوه معانيه المخبأة خلف ضباب العالم.

وبالقراءات التأويلية يتجاوز النص أفق الانتظار والتوقع السابق لوجوده، حيث يقيم الانزياح الجمالي لتساوق عباراته تحولاً في الاتجاه يشكل عند القارئ بدايات موحية لآفاق انتظار جديدة، كما أن

الكتابة لا تتحقق إلا لأنها تحمل داخلها إمكانية القراءة، والعكس صحيح أيضًا، فالقارئ لا يستطيع أن يملأ بالمعنى المحدد إلا العمل الذي لا يكون محددًا تحديدًا مطلقًا[8].

فاللغة الشعرية بذلك تكون ناقصة دائمًا، إلا أنها بذلك النقص تحمل إمكانات الامتلاء اللامتناهي وتجدد منافذ الإيحاء المثنوي بين قطبي التلقي، إنها حركة الجذب والانتباه، ومفترق الامحاء والدهشة، وإباحة الخلق الشعري لوحدة الضدين، إنها اللغة التي تتصاعد في العمق، والبعد الكامن التي فيها يتمرأى المجهول نفسه، والمدارات التي يتجلى من خلالها الحدس كهيدب للإشارة، لتكون الكلمة خروجًا عن التاريخ وموروثه وولوجًا في أقاليم الذهول، كما نرى في النص الأدونيسي في كتاب التحولات:

أسافر/ أصعد، أتفجر/ ألبس الهدير والتهدُّج/ أتموج بالرعب/ أتحرر من التوبة، العظة، العودة/ أتحرر من الصبر/ من دمي والتاريخ الراقد فيه/ أتجزأ وأعري وأوسوس نفسي ضد نفسي/ أضع نفسي خارج كل شيء وأقول للجنون الرشيق أن/ يسرق أهدابي كنسيم غربي/ أنقطع، أنفصل، أنفصم/ أختبئ تحت شفتي/ بعيدًا بعيدًا بعيدًا/ في الضوء في الظلام في الصمت في الذهول/ في لغة تغير الكلام/ في مطر يغير الفصول/ في الظمأ الجامح والسير بلا وصول[9].

فالكتابة هنا تخوض في عوالم استيهامية لاستحضار الآخر المفارق لها والمتمم لرؤيتها، لاغية المسافة بين الإنسان والمقدس، بين الواقع والغيب، بين الشعر والحقيقة، لتكون الكلمة في مطلق تجلياتها هي تلك اللامسافة التي تفصلنا عن أنفسنا.

سريالية التشكيل وجوهر الفراغ

تخيلت طفولتي
ورحت ألهو على الشاطئ
حينًا، كطفل يرسم وجه البحر
ويعدُّ أصابع الشمس
وحينًا، كبحَّار شيخ
يقرأ تاريخًا آخر للماء
[10].
أدونيس

يمضي الشاعر كحاجٍّ من حجَّاج الأعاصير، ليأخذنا بتلك الاندفاعة السيالة في سكرة الأجنحة لتقصي استفاقات اللغة عبر مفازة الإيحاء، حيث ينفلت الشاعر من الأشكال وأشباهها ومن طرائق التفكير المنظم والرقابة الواعية لينخرط في مكابدة حميمة لاستلهام لاشعوره الكامن في غيبوبة عن قيود العقل والحدود المسخية التي تؤطر أبعاد الوجود، وكل ذلك لا يكون إلا باللغة الشعرية التي هي:

نسيان للمعرفة العادية التي نحصل عليها عن طريق ما يسميه رامبو بازدراء التقدم العقلي، فتبقينا في حدود الأشكال الشائعة وأنظمة التفكير والعمل القاصرة الزائفة، أما الطريقة الأخرى التي يمكن بواسطتها بلوغ ما يستعصي عن التعبير وهذا ما يمكن بلوغه في تعريف فوضوية السريالية[11].

فالسريالية في الشعر أقرب إلى طفولة اللغة وعفوية الانبعاث في محاولة التماس لحظة التداعي وذروة الهذيان، إنها فوضى التشكيل الحر واللعب الخلاق الذي يتعدى المعرفة النسقية والتفكير التراتبي والمسالك المنتهكة في الحياة، لتشكل حيزًا من الخروج عن الكتابة الواعية إلى ما يسمى بالكتابة الآلية التي:

هي الكتابة العفوية غير المدروسة التي تفلت من الإكراهات الآتية من العقل الرتيب والفكر النقدي والمواضعات وتحرر من اليومي وعوائقه وتدفع الكاتب للخروج من أناه المألوفة إلى فضاء آخر[12].

فالشعر عند أدونيس هو خبز نبوي يساوي بين المجاز والحقيقة وتدور حوله حضارات العالم، فنراه يعجن قمح البدايات بماء سومر ويمخض حليب المجرات في جرة مايا، مختزلاً التاريخ ببرهة الِإشراق، ومتقدمًا على العالم بملامح شمسه الآتية.

حيث يتقدم اللامرئي على شقيقه المرئي، شاربًا ماء سومر في جرة مايا، نمخر الأزمنة بتنهداتنا، فيما نحمل الأرض كلها في إزميل، أو قصيدة، أو نختزنها في فرشاة ألوان ننصب عليها الأزرق ملكًا، وليس المجاز هو ما نعبر به المحطات والمفارق والمسافات، بل الواقع الذي يتنقل بين أصابعنا كأنه الخبز[13].

إنه النور المستعاد الذي يراه الشاعر في الأشياء جميعها حين تمسها عينه الثالثة التي تنزع عن كل معطى خارجي وكل اندفاعة داخلية لتحولهما إلى دفق تخومي تتماهى فيه الحدود وتتجاذب عبره صور اللاشعور، فالكتابة السريالية توازي الشطح الصوفي في انتخاب الخيال الحر الذي أولاه كلا الاتجاهين أهمية كبرى سواء في استجلاب أحوال الوجد الصوفي أو في إطلاق لامعقولية الهاجس الرؤيوي في سريالية الخيال الشعري،

فالشطحَ سر الصوفي الذي لا مفرَّ منهُ ولا يكون إلا باذاعته، ومن شروطها شدة الوجد والوجد ما يكونُ عند ذِكرِ مزعج، أو خوفٍ مُقلق، أو توبيخ على زلَّة، أو اشارة إلى فائدة، أو شوق إلى غائب، أو أسف على فائت، أو ندم على ماضٍ، أو استجلاب إلى حال[14].

كما نجد أن الخيال عند الشيخ الأكبر ابن عربي هو الحد الفاصل بين المعلوم والمجهول، بين المحسوس والمعقول، وهو البرزخ الذي تتلاقح فيه إمكانات التبدي الجديد لفاعلية النص والتعبير الخالص من غائية الوصول،

ومن ثم فإن كل فصل لتصور ابن عربي للشعر عن تصوره للخيال ووظائفه يعد خللاً منهجيًا يحول دون الاقتراب من الموجِّهات المتحكمة في رهان الشيخ الأكبر على الشعر[15].

فالشاعر يسعى إلى تثبيت ذلك الحضور الغائب في سريالية شعرية تبدو الكلمة فيها إشارة للمعنى والصورة ثمرة التكوير اللامرئي لشجر الكلام، في حين أن الصوفي يسعى إلى ملابسة فيض التجليات والامحاء في دهش النشوة فلا تكون الكتابة بالنسبة إليه إلا حجابًا آخر من حجب الغيب، ومساع تتجدد في دوائر الطواف، حيث يعتبر أدونيس في هذا المقام أن الكاتب إما أن يكون سرياليًا أو صوفيًا وأن الكتابة ليست إلا محاولة لتخليص الكاتب من اغترابه، في

الحالة الأولى يعيشها الصوفي انخطافًا وفي الحالة الثانية يعيشها السريالي إشراقًا، فالمتصوف مسكون بالغيب والسريالي مسكون بالمجهول، والكشف هو في أساس الغاية في تجربة كل منهما[16].

لذلك تطالعنا العبارة الصوفية المتجذرة في محاق الرؤية والنص السريالي المنفلت من عماء التجربة اللاوعية كهندسة فراغ تشكيلي يصبح فيه التعبير بالصورة والرمز والإلماح والإشارة امتدادًا لكيان الإنسان واجتراحًا لطريقة جديدة في معرفة العالم.

جسد اللغة فضاءات المعنى

جسدانا كتابة
وكلاهما كتابٌ للآخَر
جسدانا وحيٌ
ويرفضان الهياكل
جسدكِ مفردٌ بجسدك: فرادة مثنوية
جسدكِ
ط        ل        س        م        (لي)
م        س        ل        ط      (علي)

أدونيس[17]

ولدت قصيدة النثر من الحاجة إلى ابتكار لغة تتمرد على القوالب الشكلية للشعر وإقامة علاقات جديدة بين اللغة والعالم تتجاوب مع تحديات العصر، فكان ظهورها الأول في الساحة الأدبية الفرنسية، التي كان المبشر الأول لميلادها الشاعر الفرنسي بودلير أب الحداثة الشعرية كما وصفته سوزان برنار في كتابها قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا. إن قصيدة النثر

ترجمة لمصطلح فرنسي الأصل Poemeen Prose وجد لتحديد بعض كتابات رامبو النثرية الطافحة بالشعر كـ (موسم في الجحيم) و(الإشراقات). وإن تكن لها أيضًا أصول عميقة في الآداب كلها، بما في ذلك العربية، ولا سيما الديني والصوفي منها[18].

وكانت قصيدة النثر في حركة الشعر الفرنسي "تتسم برغبة عارمة في الإنعتاق من التقاليد الموروثة واللجوء إلى قوى جديدة للغة"[19]، حتى كانون الثاني من العام 1957 حين أحدثت (مجلة شعر) في لبنان التي أعلنت عن هذا النوع الفني الجديد في الأدب العربي، وكان من روادها آنذاك يوسف الخال وأدونيس وخليل حاوي وأنسي الحاج وغيرهم.

وقد تم تحديد بعض المفاهيم الجديدة حول قصيدة النثر التي تتناول الوحدة العضوية انطلاقًا من وحدة الجملة، والإيقاعات المنبعثة من التكرار والتوازي والأصوات الزمانية والمكانية، بالإضافة إلى الكثافة والمجانية بما يمنحان قصيدة النثر من أبعاد إيحائية، وكل ذلك لإيضاح أن قصيدة النثر ليست خروجًا عن الأوزان الشعرية فحسب بل هي خروج عن السائد والموروث وإقامة لمستوى آخر من مستويات الكلام، هذا الخروج الأول هو بمثابة هدم البنى الثابتة وخلخلة أعمدتها، للبحث عن مسافة تتلاقح فيها الإمكانات لتثمر مستقبل اللغة، ولعل فعل القراءة أيضًا هو بمثابة الخروج الثاني للنص الذي يقدم شيفراته الخاصة لملابسة توتراته الفاعلة والمتعددة على اختلاف انعكاساته في التلقي.

ففي حين تقدم الحداثة "تساؤلاً جذريًا يستكشف اللغة الشعرية ويستقصيها، وافتتاح آفاق تجريبية جديدة في الممارسة الكتابية، وابتكار طرق للتعبير تكون في مستوى هذا التساؤل"[20]، يكون التلقي امتدادًا لإشراقات النص يشارك في القدر نفسه بإحداث قفزات جديدة للغة أو بانحسارها في أفقها الخاص وحده إلى حين تبديها في قراءة أخرى.

فالحداثة تفترض أن يبدأ الكتاب من حيث ينتهي الآخرون لتوسيع أفق الكتابة والعالم، كما يقول أنسي الحاج في مقدمة ديوانه لن:

أول الواجبات التدمير، الخلق الشعري الصافي سيتعطل أمره في هذا الجو العاصف، لكن لا بدَّ حتى يستريح المتمرد إلى الخلق، لا يمكنه أن يقطن بركانًا، سوف يضيع وقتًا كثيرًا، لكن التخريب حيوي ومقدس[21].

فلم يعد بالإمكان النظر إلى الشعر على أنه تعبير باللغة عن واقع الحياة، كما لم يعد بالإمكان الحديث عن اعتباره محاكاة تخييلية توازيه أيضًا، فالشعر لم يعد تعويضًا عن نقص العالم بل أصبح بمثابة البحث عن إمكانية تغييره بخلق واقع آخر يتقدم عليه ويتجاوزه.

إن الحداثة رؤيا جديدة، وهي، جوهريًا، رؤيا تساؤل واحتجاج: تساؤل حول الممكن، واحتجاج على السائد، فلحظة الحداثة هي لحظة التوتر أي التناقض والتصادم بين البنى السائدة في المجتمع، وما تتطلبه حركته العميقة التغييرية من البنى التي تستجيب لها وتتلاءم معه[22].

ما هو السؤال الذي تطرحه الحداثة الشعرية إذن؟ وعلى ماذا تستند هذه الرؤية الجديدة للغة مادامت الأشكال القديمة لها قد استنفدت جدواها؟ وما الذي يدعو شاعرًا كأدونيس إلى هذه الخيميائية اللغوية في نصوصه باستحضار التراث الشعري القديم، سواء في الجاهلية العربية أم عند الشعراء الذين شكلوا مفترقًا في لغة المعنى كأبي تمام والمتنبي والمعري، أو حتى في نصوص شيوخ الصوفية الذين التزموا لغة الإشارة والإيحاء كالحلاج والنفري وابن عربي وغيرهم، ما الذي يدعوه إلى استقراء هذا التراث القديم وهو شاعر حداثة واختلاف ورؤية؟ وهو الذي يقول:

هذا أنا: لا ، لست من عصر الأفول
أنا ساعة الهتك العظيم أتت وخلخلة العقول
هذا أنا - عبرت سحابة
حبلى بزوبعة الجنون
[23].

بل لعل التساؤل الأكبر هو ما الذي يجمع بين قامات تراث الشعرية العربية وبين حداثيي الشعرية الغربية كرامبو وبودلير ونرفال وبريتون وسان جون بيرس وغيرهم ممن ترجم لهم أدونيس وكان على صلة حميمة بشعريتهم؟

إن تلك التساؤلات هي ما يدفعنا إلى التيقن بأن الحداثة ليست مسألة زمنية، كما أنها لا تتعلق باختلاف الحضارات والإيديولوجيا التي تحكمها، بل هي تتمثل في قدرة المبدع على ابتكار لغته الخاصة وتفجير إمكانات اللغة خارج إملاءات المثل القائمة والسعي إلى النمذجة، من هنا يبدو لنا

أن الحداثة زمانية ولازمانية في الوقت نفسه: زمانية لأنها متأصلة في حركية التاريخ، في إبداعية الإنسان، متواصلة في تطلعه وتجاوزه، ولازمنية لأنها رؤيا تحتضن الأزمنة كلها[24].

فلحظة الحداثة إذن هي لحظة الهتك العظيم وخلخلة العقول، سواء أكان ذلك في مشرق الأرض أم في مغربها، وسواء أكان ذلك في بدء الزمن أم في منتهاه.

يبحث أدونيس عن الغائب في هذا العالم ليكوِّن حضوره في الشعر، فنراه يتهجى العالم كجسد نابض بالتوترات الفاعلة، فللجسد في النص الأدونيسي فتوح تستشرف لحظة الصفر، وحدوس تبتكر سلم العتبات، كل جسد مفرد بنفسه وكلي بمثنويته بين حضور اللغة وغيب المعنى، ويتكرر الجسد في شعر أدونيس ليكون دائمًا جسدًا آخر يتعدى نفسه بسواه كموقف فنائي من العالم حتى تصميمات الأبعاد الزمانية والرؤية الماضية في هيولى التحولات، فالجسد عنده خروج من جثة المكان ودخول في أبدية المعنى، والجسد جسر لعبور ما يرى إلى ما لا يرى، والجسد تميمة تبارك شمس العودة وتستوطن المفقود، والجسد أخيرًا استقراء لتاريخ حضارات تدرك أفول آصنامها المتهالكة في أزمنة السقوط، ولعل الامتثال الأعلى لذلك يبدو في عناوين بعض كتبه رأس اللغة جسم الصحراء، أول الجسد آخر البحر، تاريخ يتمزق في جسد امرأة، من العناوين وحدها يبدو لنا بأن اللغة في نصوص أدونيس تضيء نفسها بنفسها، وأن النص الشعري جسد صحراء تتسع إلى ما لانهاية، فهو المبدأ الذي يمتثل له المحيط كمنتهى، ويتشظى فيه التاريخ بفداحة المنفى، بل يكاد لا يخلو أي نص شعري لأدونيس من الدلالة عن حقيقة الجسد المتعددة في كل تمظهرات العالم وأشيائه وشهوة النزوع إلى مايبقيه متداعيًا بفيض الولادات.

يعود أدونيس بالجسد إلى ماوراء المعصية في حالته الغريزية الأولى التي لا تفرق بين الخير والشر، ولا تزعم بأن السماء أقرب للبراءة من صلصال التكوين، بل لعله يرى بأن الجسد هو المغيب الأول في هذا العالم، وأن هذا الاغتراب غير المتحيز عنه هو القلق الشعري الكامن في خفي السؤال:

لم تكن الأرض جرحًا كانت جسدًا
كيف يمكن السفر بين الجرح والجسد
كيف تمكن الإقامة؟
[25]

أليس الجسد بهذا المعنى هو المصلوب على آلامه؟ أليست الإقامة فيه جرح والخروج عنه منفى؟ ألا يدفع هذا القلق إلى الانفصال عن العالم والانفلات عن محدوديته ورفض ثوابته الضيقة؟ لنجد في شعر أدونيس و

منذ أغاني مهيار الدمشقي قد بدأت كلمة الرفض سيرورتها في الشعر العربي المعاصر وفي النقد المعاصر، والرفض هو النسخ الذي ينتظم القصائد جميعها.. موقف الرفض هذا موقف مأساوي لأن الشاعر يقف في مضيق بين ما يرفض وما ينتظر، بين ماض وآت، ومن هنا كان الإحساس بالنفي والغربة، فمهيار مغترب أبدًا عما كان ليبني ما يكون[26].

ولا يمكننا الزعم أن الاغتراب الجسدي لا يمكن أن يكون محيطًا بالاغتراب الوجودي كله، مادام الجسد سؤال الروح ومفترق العالم، ومادامت الكتابة هي تلك المحاولات المستمرة في الإجابة عن كليهما معًا، بل لعلنا نعود من هذا الاغتراب إلى مساءلة الحداثة الشعرية، ما الذي تسعى إليه؟ ماهو مدارها؟ وبأية لغة توجد نفسها؟

شمس واحدة ورؤية متعددة

وحَّد بي الكون، فأجفانه تلبسُ أجفاني
وحَّد بي الكون، بحريتي فأينا يبتكر الثاني؟
وجهي وأعماقي في الإله[27].
أدونيس

ليست الصورة في النص الشعري الحديث صورة بلاغية تستجدي إقامة صلات بيانية بين الألفاظ، سواء في تقريب البعيد أو في عقد صلات مشابهة أو مشاكلة بين الصورة والمعنى، بل تعتبر الصورة هنا استحداث مجازات لغوية تتماهى مع بدء الحدس الشعري الذي تقوم عليه لتفتتح به عوالم لا تنقضي بانقضاء القول، كما يقول أدونيس (وجهي وأعماقي في الإله) هنا نجلو وجه الشاعر واستبصاراته الآتية، حيث يصبح الظاهر باطنًا في وحدة شمس الرؤية.

والشاعر وحده هو الذي يستطيع أن يقدم صورًا مخاتلة ترج الذهن وتربك تصوراته المسبقة، حتى تكاد الصور الشعرية أن تصبح كلامًا سائلاً يتقطر من لحظة الصدام الإبداعي بين الميتافيزيقي والشهوي، بين الأسطوري والمدنس، بين الرمز والواقع،

وسر الشعرية هو أن تظل دائمًا كلامًا ضد الكلام، لكي تقدر أن تسمي العالم وأشياءه أسماء جديدة، أي تراها في ضوء جديد، اللغة هنا لا تبتكر الشيء وحده، وإنما تبتكر ذاتها فيما تبتكره، والشعر هو حيث الكلمة تتجاوز نفسها مفلتة من حروفها، وحيث الشيء يأخذ صورة جديدة، ومعنى آخر[28].

فالشعر يعيش في لغته ليمارس مقدرته الإيمائية في تجسيد عالمه الخاص في صور تسمعها العين ومجازات تتلمسها الحواس، ليكون الشعر على مستوى بشرة التلقي في حركية لازمنية مستمرة كانخراط حميم مع باطن العالم وظاهره على السواء، وهذا المجاز اللغوي

بحسب التجربة الصوفية، ليس له ماض، أعني أنه بداية دائمة، هذه البداية جسر يربط بين المرئي وغير المرئي، وبما أن الغاية هي الكشف عن هذا المجهول، فإن الصورة الشعرية ليست تشبيهية تولد من المقايسة أو المقارنة، وإنما هي ابتكار، تولد من التقريب والجمع بين عالمين متباعدين، بحيث يصبحان وحدة[29].

هذا اللعب الجاد الذي يطرحه الشعر يجعل من النص انفتاحًا على مستوى السؤال الراهن أبدًا، ولاسيما في النص الأدونيسي الذي يطرح إشكالات الهوية والتراث والتأصيل والتناص وكل ما يرتبط بغربلة الشعرية العربية قديمًا وحديثًا بما يجعلها في مصاف الرؤية الحداثية التي تستلهم الإبداع الإنساني في شموليته المعرفية وجمالياته التي لا تقف على حدود الإمتاع أو القيمة التي لا تلبث أيضًا أن تجد منتهاها ما إن يتغير العصر وتتغير معه جمالياته وقيمه الفكرية السائدة الأخرى.

جسر
تكوين دائم لسديم العالم
هكذا يخرج من نفسه،
لكن داخلها: هل يقدر الفضاء أن يخرج من الفضاء؟
ولا تنسَ، لا تنس: ينبغي أن نفكر دائمًا في جسر لا يمكن عبوره
[30].

هذا التوق إلى الجسر الذي لا يمكن عبوره في محاولة إلى تقويض المستحيل هو مدار تعددية الرؤية عند أدونيس التي تطوف حول شمس المعنى، تكوين دائم لسديم العالم، وانسلاخ فضاء عن آخر، وعبور قصي حتى الولوج في غيب البدايات، لغة تنفلت إلى مجاهيلها كطواف الدراويش حول شمس الحق، ورقص الحلاج على درب الجلجلة.

ولعلنا نتأمل إحدى وقفات النفري التي كان لها تلك اللغة الطليعية التي تستعمل الرمز والإشارة وتنهض عن المجاز والإيحاء، لتكوِّن نصًا يفتق حيزًا بين الحروف لا يمكن أن يستنفده الكلام.

وقال لي: الرؤية تشهد الرؤية فتغيب عما سواها، وقال لي: رؤيتي لا تأمر ولا تنهي، غيبتي تأمر وتنهي
وقال لي إذا رأيتني استوى الكشف والحجاب.

مقامك من وراء الحرف لديّ ومن وراء مفاتيح الحروف،
فإذا أرسلتك إلى الحروف فاقتبس حرفًا من حرف كما نقتبس نارًا من نار،
أقول لك أخرج ألفًا من باء، أخرج باء من باء، أخرج ألفًا من ألف
الحرف حجاب والحجاب حرف
[31].

فالحروف مفاتيح لمجاهيل المعنى وأسفار لهتك الحجب، كما أن المجهول نفسه حروف تتبدى في فضاء اللغة وحجب تنفسح بأسرارها في نهار الكلام، الألف في المرموز الصوفي استقامة الوجود وعلته، حيث كل الحروف مريضة إلا الألف، وكل الحروف جزء منها وتجد كمالها فيها، وكل خروج عن اللغة هو دخول في المعنى، لتأتي الكلمات كما يفيض النهر عن ضفتيه في أبدية المجرى.

يضعنا نص النفري في عالم طفولة موعودة، إنه نص الغبطة، نشعر فيما نقرؤه أننا نخرج من شروطنا الضاغطة...، ماحيًا الفروقات بين الإنسان والله، إنه نص يقول لنا إن الحقيقة شوق وهي غير موجودة بوضوحها الكامل، أي بغموضها الكامل إلا في اللغة، أعني في الشعر[32].

فالتجربة الصوفية في الشعر تلتقي مع تجارب كثير من الشعراء الرؤيويين الذين كان شغفهم في

البحث عن النقطة العليا، نقطة البداية/ النهاية، الأصل/ العودة، الظهور/البطون، إنها في جغرافية الخيال ولا تدرك إلا بالخيال[33].

والذين كانوا يجدون في الكتابة الطريقة الوحيدة لبلوغ لحظة الروح وطرق أبواب الله، كهولدرلين ورامبو ونوفاليس وبليك وغوته وأخيرًا في شرقنا أدونيس وأنسي الحاج أيضًا وغيرهم الكثير من الشعراء الذين كان مطلق الشعر ينجيهم من قهر العالم، لنرى في شعرهم ما يخرجنا من أسوار العقل إلى دورة هلال البراءة حتى تلك النشوة الصافية التي عبر عنها رامبو في إشراقاته بلحظة الأبدية التي تبدو كالبحر حين يمتزج بالشمس.

الأقفاص العابرة وموسيقى التحولات

ماحيًا كل حكمة
هذه ناري
لم تبق آية ـ دمي الآية
هذا بدئي
[34].
أدونيس

الكتابة - على اختلاف الأجناس الأدبية التي تتأسس عليها - هي مهماز الطلوع البكر لأبعاد النص وأشكاله الفنية، سواء أكانت تشكل بمحمولاتها أفقًا دلاليًا يستقرىء ذاتية الكاتب والعالم الذي يعبر عنه، أم كانت انبثاقًا بدئيًا للحظة خلق عارمة تصبح فيها أقرب إلى كتابة المحو وبعثرة أحجيات الإمكان. إننا "نجد بين اللغة والأسلوب مكانًا لحقيقة شكلية أخرى هي: الكتابة"[35]، هذا المكان الذي لا يتحيز بين لانهائية اللغات وتعدد الأساليب هو الذي يجعل من الكتابة بمثابة موسيقى التحولات الهاربة من أقفاص اللغة العابرة، "إن اللغة لتنبني في مكان آخر، يبنيها الدفق المستحيل لكل لذائذ اللغة ولكن أين، وفي أي مكان آخر؟ إنه فردوس الكلمات، هنا يكون النص فردوسيًا حقًا، وطوباويًا من غير مكان"[36].

فحضور المعنى باللغة غير قابل للتحقق بشكل كامل، وإنما يتم استشرافه عبر الكتابة التي يتم من خلالها خلق إشارات المعنى لترن أصداؤه في أفق التحقق المستمر عبر آت لا يستنفد، كالنار التي تأكل نفسها لتؤجج ذروة الاحتراق وتمحق كل ماسواها كما يبدأ أدونيس قصيدته هذا هو اسمي بعبارته (ماحيًا كل حكمة هذه ناري)، ليبدو في المستوى الآخر من الكلام كهيدب للجنون يفتتح بالنار مسارب التأويل، ( لم تبق آية - دمي الآية - هذا بدئي) لتتوهج آية البدء في دم المصير.

وأدونيس لا يسعى إلى تسمية الأشياء أو التعبير عنها، إنما هو يخوض في مغامرة السؤال والتمحيص عن فسحة للشك، وإيجاد مسافة للارتماء عن حافة هذا العالم المتهافت إلى نهاياته، فكم انتهكت حرمة الحياة بنصل الفقه؟ وكم قتل الإله فينا بصمت مذبحة الإنسان؟

تخرج الأشياءُ من أسمائها، لا أسميها، ولكنْ / اسألوا الشرقَ: أَلَنْ يضجَرَ من مزْجِ خُطاهُ / بالدَّمِ الدافقِ من أبنائِه / ومنَ السُّكْرِ به / ومن النَّومِ على أشلائِهِمْ؟ / قامةُ التاريخِ مالتْ في يديَّ / إنه الإنسانُ- مذبُوحا على صدر نبيٍّ / أقرأُ الرَّملَ وأستأنِس بالريحِ التي تذْرُو وتنأَى / وأقولُ الحلمُ ضوءٌ ولقاحٌ / وعلى الحلْمِ تأسَّستُ، وفي الحلم بَنَيْتُ / أيّها الواقعُ من سمَّاكَ، من أين أتيتْ؟ / لسلالاتٍ من الجُرْحِ / الذي يجهلُ / هل  يضحكُ أم يبكِي / دَمِي طفلُ سؤالٍ[37].

ولعل السؤال الذي يؤرق طفل العالم، هو متى تخرج آية الإنسان من سورة الأديان؟ ومتى يفتتح بالضوء مساجد؟ ومتى نردم هوة الخطيئة وننجو بأنثى الدين؟ ومتى تؤذن شمس الآتي في كنيسة النهار؟ فالكتابة حين تجنح لاختراق العالم وثوابته لا تعود شكلاً للغة فحسب، وإنما تصبح انفعالاً يشعشع اللغة وتجربة تخوض المستقبل، وحركة تتعدى الجهات،

فمفهوم الكتابة يتجاوز مفهوم اللغة وينطوي عليه في ثناياه، وهذا يفترض بالطبع تقديم تحديد أو تعريف لكل من اللغة والكتابة...، نلاحظ أن تسمية (لغة) كانت تطلق على كل من الفعل والحركة والفكر والتفكير والوعي واللاوعي والتجربة والعاطفة، وها نحن نواجه اليوم نزوعًا لإطلاق تسمية (كتابة) على هذه الأشياء جميعًا وسواها[38].

بهذا المعنى للكتابة تتحد معرفة المعنى فيما يكون في اختلافه عن السائد وانفصاله عن السابق، وبقدر ما تنفسح هذه المسافة بين الدال والمدلول بقدر ما تكون قدرة اللغة على إضاءة نفسها أكبر في ابتكار طريقة جديدة للدخول في سفر الخلق.

رفضت وانفصلت/ لأنني أريد وصلاً آخر/ قبول آخر مثل الهواء والماء
يبتكر الإنسان والسماء/ يغير اللحمة والسداة والتكوين
كأنه يدخل من جديد/ في سفر النشأة والتكوين
[39].

لا بدَّ من الرفض أولاً، الهدم في استباحة الخلق والاصطفاء الحي حتى ذروة البدء، هكذا تكون كلمة الشاعر قد حققت خلاصها من أسبقية المعنى، وهكذا نرى في النص لذة تموج بين ضفاف التلقي، وتكون الكتابة قد أطلقت معرفة متجددة بالعالم، فهي

معرفة أن ما لم ينتج بعد في الحرف ليس له مأوى آخر، وأنه لا ينتظرنا لنقش سابق الوجود في فهم إلهيٍّ ما، إن على المعنى أن ينتظر أن يقال وأن يكتب، حتى يسكن نفسه ويصبح ما يكون باختلاف نفسه[40].

وردة العالم

سأحاول أن أموت وأمام عيني وردة تتفتح
هكذا تركت تنهداتي إلى صبواتها
ورحت أفكر في إضافة وتر آخر إلى قيثارة المعنى
[41].
أدونيس

الحب على اختلاف مراتبه في التجربة الصوفية هو سبيل العارف وغايته للإتحاد بالذات الإلهية حتى كمالها اللانهائي، في حين يتشكل الحب في التجربة السريالية كثورة على الموت ومكابدة سبل الرفض والمغايرة لقيم الوجود، وتجريد العالم من أشيائه حتى ملابسة جوهره الصميم وتأمل عريه الخالص.

ولعل الأنثوي الخلاق بين التجربتين يشكل أكمل مجالي الكشف الصوفي وأعلى مفازات سريالية يوتوبيا المعنى، حيث يسري الالتذاذ في الكون كله من خلال عشق المرأة كما يعبر الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي في إحدى فصوصه:

لا يفنى الإنسان في شيء يعشقه إلا إذا كان هذا الشيء شبيهًا به، فإذا وقع التجلي الإلهي في عين الصورة التي خلق آدام عليها طابق المعنى، ووقع الالتذاذ بالكل وسرت الشهوة في جميع أجزاء الإنسان ظاهرًا...، ولذلك فمن عرف قدر النساء وسرهن لم يزهد فيهن وفي حبهن بل إن حبهن هو من كمال العارف ذلك أنه ميراث نبوي...، وهو في ذلك حب إلهي، لأن حبنا للمرأة يقربنا من الله[42].

إن تأنيث علة الوجود ووحدة الأديان يشكلان مدار الطواف العرفاني في صوفية ابن عربي، والأنثوي في الحدس الصوفي لا يقف بمجابهة الذكوري كثنائيات تتضاد وتتقابل وإنما كأجزاء تتم وتتكامل لتشكيل وحدة أكبر تتعداهما معًا، وقد

عمر الله الموضع من آدم الذي خرجت منه حواء بالشهوة إليها إذ لا يبقى في الوجود خلاء، فلما عمره بالهواء حن إليها حنينه إلى نفسه[43].

ويحضر الجسد النبوي في نص أدونيس وقد ارتفع عن أرض نشأته معارج، تحيل أعضاءه جماع عوالم غيبية تعيده إلى ماء الغريزة حيث يشهد في ملكوت الحواس غابات الإيحاء وندهة الكواكب عبر مدارج سقوطه الأعلى.

أسمع أطرافك الهاذية/ أسمع شهقة الخاصرة وسلام الأوراك/ يغلبني الحال/ أدخل صحراء الجزع هاتفًا باسمك/ نازلاً إلى الأطباق السفلى/ في حضرة العالم الأضيق/ أشاهد النار والدمع في صحن واحد/ أشاهد المدينة العجب/ وتسكر أحوالي/ هكذا يقول السيد الجسد[44].

إن اشتهاء المرأة هو صلة الوجود المشيمية بأصل كيان الإنسان حتى الوصول إلى فجر الإحاطة والخلق وبلوغ فحوى الحياة والولادة، كذلك نجد الجنس في النص الأدونيسي حاضرًا بشهوية تامة، ليتقدم في خريطة الجسد كأرض مغيبة تتماهى نشوة الأعضاء فيها بسكرة الاحوال ولمع الهواتف وامحاء الرؤية حتى بكارة الوصل ودهش المشاهدة.

جسدكِ التِّيه أخرج/ وأسفارُ خروجي أنتِ/ آخذكِ أرضًا لا أعرفُها/ تلالاً وأوديةً تغطّيها نباتاتُ البحث امتدادات غامضةً/ وآخذكِ واقفًا/ قاعدًا/ راقدًا/ ولا أقنع بغيركِ/ آخذكِ/ في تنهداتي/ في اليقظة والنوم/ في الحالات الوسيطة/ وفي ما يُعدُّه لي الوقت آخذكِ/ ثنيّةً ثنيّةً/ وأفتتح مسالكي/ أتمدَّد فيكِ لا أصل/ أتدوَّر لا أصل/ أتسلَّك أنتسجُ لا أصل/ أصلُ من أقاصيكِ لا أصل/ ما بعد المسافاتِ أنتِ ما بعد المفازات/ أنتِ أين وهل وماذا وكيف ومتى وأنت/ لا أنتِ[45].

فإيروسية الجسد في شعر أدونيس هي بمثابة وثنيته الصوفية التي عبر عنها في شعرية السريال، فكما أن الكتابة الإبداعية هي حداثية دائمًا وليست فعلاً يتكرر في نسق الألفاظ وتجاوباتها، وكما أنه للمعنى في كل لحظة شكل آخر تتعدد أبعاده وتنفصم جهاته حتى اكتماله في عريه البهي، كذلك الجسد في جنس الأرض كقيثارة سماوية لها أوتار ممتدة بين محيطي الوجود والعدم، وكل عزف مثنوي على هذه الأوتار يجد حلوله الكامل في التفتح الأنثوي لوردة العالم.

من خلال ما تقدم يمكننا القول بأن مدار الصوفية الجديدة عند أدونيس ذو طابع مثنوي يمتثل من جهة للدفقة الشعرية الصافية عبر آفاق أنطولوجية تضيء شمس الرؤى المتعددة في فضاء النص التأويلي، ومن جهة أخرى يقوم على استعلاء حق الإنسان في التجاوز والاختلاف والخلق بما يرتق شرخ واقعه الاغترابي ويحقق معنى ولادته في استحقاق وراثته الإنسانية لفجر عالم آخر.

وقد تبينا بالتمعن في معنى الحداثة الشعرية وسيمياء التشكيل اللغوي أن اللغة في النص الأدونيسي تكاد تكون محوًا للأنساق اللغوية المسبقة وتفتيقًا لأحياز جديدة عابرة للنسيج الوحشي غير المتجانس لأرض الواقع حتى استجلاء تخوم لغوية عذراء تؤسس لنهضة أشكال فنية جديدة تكون في سبيل البحث المستمر عن الهويات الضائعة والمغيبات المقيدة بسلطات الدين والسياسة والثقافة والمجتمع وهيمنة الكبت الجنسي والرجعيات الفكرية في العالم العربي، وكل ذلك من خلال لازمنية الفن والحداثة الشعرية التي ترتفع كقبة متعالية فوق المسافات التاريخية والاختلافات الحضارية، لتكون ذات طابع تعاصري قادرًا على استقراء الواقع والاندماج في شروطنا الوجودية الآنية على نحو يبدد اغترابنا عنه، حيث يقوم الشاعر بذلك من خلال توليد طاقات الكتابة عبر اللعب الفني الحر وفوضى التشكيل والانتشار، لتكون الكتابة بمثابة اختلال متواصل يعبر عن قلق الروح في هذا العالم صوب اتساع أعمق لرؤية الإنسان والكون معًا.

فسواء أكان أدونيس يستلهم التاريخ أو الأسطورة، أو نراه يعبِّر بالرمز والإشارة، أو يشكل تجريدًا أعمى لما يستعصي عن الدخول في دلالات وضعية لأفق الكلام، فأدونيس يضيء لنا اللامرئي دائمًا بالإيحاء الشعري الذي لا تستنفده اللغة، وبالنداء الآتي من الطفولة المستعادة لتاريخ الغيم وزهرة السؤال.

*** *** ***

المراجع

1.    أدونيس، أبجدية ثانية، دار تويقال للنًّشر، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 1994.

2.    أدونيس، أغاني مهيار الدمشقي، دار الآداب، بيروت، 1988.

3.    أدونيس، أول الجسد آخر البحر، دار الساقي، بيروت، 2003.

4.    أدونيس، اهدأ هاملت تنشق جنون أوفيليا، دار الساقي، بيروت، 2008.

5.    أدونيس، الشعرية العربية، دار الآداب، بيروت، 1985.

6.    أدونيس، الصوفية والسريالية، دار الساقي، الطبعة الثالثة، بيروت، 2006.

7.    أدونيس، المسرح والمرايا، دار الآداب، بيروت، 1988.

8.    أدونيس، زوكالو، دار الساقي، الطبعة الأولى، بيروت، 2014.

9.    أدونيس، كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل، دار الآداب، الطبعة الأولى، بيروت، 1988.

10.                       أدونيس، مفرد بصيغة الجمع، دار الآداب، الطبعة الثانية، بيروت، 1988.

11.                       أدونيس، موسيقى الحوت الأزرق (الهوية، الكتابة، العنف)، دار الآداب، الطبعة الأولى، لبنان، 2002.

12.                       أدونيس، هذا هو اسمي، دار الآداب، بيروت، 1980.

13.                       أدونيس، وقت بين الورد والرماد، الطبعة الثالثة، دار العودة، بيروت، 1972.

14.                       أسيمة درويش، تحرير المعنى، دراسة نقدية في ديوان أدونيس، الكتاب1، دار الآداب، بيروت، 1997.

15.                       آنا ماري شيمل، الأبعاد الصوفية في الإسلام وتاريخ التصوف، منشورات دار الجمل، الطبعة الأولى، ألمانيا، 2006.

16.                       أنسي الحاج، مقدمة ديوان لن، المؤسسة الجامعبة، الطبعة الثانية، بيروت، 1982.

17.                       جاك دريدا، الكتابة والاختلاف، ترجمة كاظم جهاد، الطبعة الثانية، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية، المغرب، 1988.

18.                       جبرا إبراهيم جبرا، الرحلة الثامنة، دراسات نقدية، المكتبة العصرية، صيدا، لبنان، 1967.

19.                       خالد بلقاسم، مدخل إلى العلاقة بين الشعر والتصوف، مجلة البيت، عدد 1، خريف 2000.

20.                       خالدة سعيد، الهوية المتحركة، مجلة مواقف، عدد 17- 18، عام (1971).

21.                       رولان بارت، الكتابة في درجة الصفر، ترجمة محمد نديم خفشة، مركز الإنماء الحضاري، الطبعة الأولى، سورية، 2002.

22.                       رولان بارت، لذة النص، ترجمة منذر العياشي، مركز الإنمائ الحضاري، الطبعة الثانية، سورية، 2001.

23.                       سوزان بيرينار، قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، ترجمة زهير مجيد، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1993.

24.                       فاولي والاس، عصر السريالية، ترجمة خالدة سعيد، دار العودة، بيروت، 1981.

25.                       قاسم محمد عباس، الأعمال الكاملة للحلاج، رياض الريس للطباعة والنشر،الطبعة الأولى، بيروت، 2002.

26.                       عبدالرحمن بدوي، شطحات الصوفية، مطبعة السالم، الكويت، 1978.

27.                       محمد بنعمارة، الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر، شركة النشر والتوزيع، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 2001.

28.                       محيي الدين ابن عربي، الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت، 2006.

29.                       محيي الدين ابن عربي، فصوص الحكم، علق عليه أبو العلا عفيفي، دار الكتاب العربي، بيروت.

30.                       وليم راي، من الظاهراتية إلى التفككية، ترجمة يوئيل يوسف عزيز، دار المأمون للترجمة والنشر، الطبعة الأولى، دار الحرية، بغداد.

المصادر والمراجع الإلكترونية:

أدونيس، بيان الحداثة، 1979-1992، من الموقع:

http://www.jehat.com/Jehaat/ar/BayanatShe3reya/Adones.htm


 

horizontal rule

[1]  قاسم محمد عباس، الأعمال الكاملة للحلاج، رياض الريس للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2002.

[2]  آنا ماري شيمل، الأبعاد الصوفية في الإسلام وتاريخ التصوف، منشورات دار الجمل، الطبعة الأولى، ألمانيا، 2006.

[3]  محيي الدين ابن عربي، الفتوحات المكية، ج2، دار صادر، بيروت، 2006.

[4]  خالد بلقاسم، مدخل إلى العلاقة بين الشعر والتصوف، مجلة البيت، عدد 1، خريف 2000.

[5]  محمد بنعمارة، الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر، شركة النشر والتوزيع، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 2001.

[6]  أسيمة درويش، تحرير المعنى، دراسة نقدية في ديوان أدونيس، الكتاب1، دار الآداب، بيروت، 1997.

[7]  محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري، المواقف والمخاطبات، دار الكتب العلمية، بيروت، 1997.

[8]  وليم راي، من الظاهراتية إلى التفككية، ترجمة يوئيل يوسف عزيز، دار المأمون للترجمة والنشر، الطبعة الأولى، دار الحرية، بغداد.

[9]  أدونيس، كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل، دار الآداب، الطبعة الأولى، بيروت، 1988.

[10]  أدونيس، اهدأ هاملت تنشق جنون أوفيليا، دار الساقي، بيروت.

[11]  فاولي والاس، عصر السريالية، ترجمة خالدة سعيد، دار العودة، بيروت، 1981.

[12]  أدونيس، الصوفية والسريالية، دار الساقي، الطبعة الثالثة، بيروت، 2006.

[13]  أدونيس، زوكالو، دار الساقي، الطبعة الأولى، بيروت، 2014.

[14]  عبدالرحمن بدوي، شطحات الصوفية، مطبعة السالم، الكويت، 1978.

[15]  خالد بلقاسم، الكتابة والتصوف عند ابن عربي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 2004.

[16]  أدونيس، الصوفية والسريالية، دار الساقي، الطبعة الثالثة، بيروت، 2006.

[17]  أدونيس، أول الجسد آخر البحر، دار الساقي، بيروت، 2003.

[18]  جبرا إبراهيم جبرا، الرحلة الثامنة، دراسات نقدية، المكتبة العصرية، صيدا، لبنان، 1967.

[19]  سوزان بيرينار، قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، ترجمة زهير مجيد، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1993.

[20]  أدونيس، بيان الحداثة، 1979-1992، من موقع http://www.jehat.com/Jehaat/ar/BayanatShe3reya/Adones.htm

[21]  أنسي الحاج، مقدمة ديوان لن، المؤسسة الجامعية، الطبعة الثانية، بيروت، 1982.

[22]  سوزان بيرينار، قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، ترجمة زهير مجيد، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1993.

[23]  أدونيس، وقت بين الورد والرماد، الطبعة الثالثة، دار العودة، بيروت، 1972.

[24]  أدونيس، الشعرية العربية، دار الآداب، بيروت، 1985 .

[25]  أدونيس، مفرد بصيغة الجمع، دار الآداب، الطبعة الثانية، بيروت، 1988.

[26]  خالدة سعيد، الهوية المتحركة، مجلة مواقف، عدد 17- 18، عام (1971).

[27]  أدونيس، أغاني مهيار الدمشقي، دار الآداب، بيروت، 1988.

[28]  أدونيس، الشعرية العربية، ، دار الآداب، بيروت، 1985 .

[29]  المرجع السابق.

[30]  أدونيس، موسيقى الحوت الأزرق (الهوية، الكتابة، العنف)، دار الآداب، الطبعة الأولى، لبنان، 2002.

[31]  محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري، المواقف والمخاطبات، دار الكتب العلمية، بيروت، 1997.

[32]  أدونيس، الصوفية والسريالية، دار الساقي، الطبعة الثالثة، بيروت، 2006.

[33]  المرجع السابق.

[34]  رولان بارت، الكتابة في درجة الصفر، ترجمة محمد نديم خفشة، مركز الإنماء الحضاري، الطبعة الاولى، سورية، 2002.

[35]  رولان بارت، لذة النص، ترجمة منذر العياشي، مركز الإنمائ الحضاري، الطبعة الثانية، سورية، 2001.

[36]  أدونيس، أبجدية ثانية، دار تويقال للنّشر، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 1994.

[37]  جاك دريدا، الكتابة والاختلاف، ترجمة كاظم جهاد، الطبعة الثانية، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية، المغرب، 1988.

[38]  أدونيس، المسرح المرايا، دار الآداب، بيروت، 1988.

[39]  محيي الدين ابن عربي، فصوص الحكم، علق عليه أبو العلا عفيفي، دار الكتاب العربي، بيروت، ص327.

[40]  أدونيس، المسرح المرايا، دار الآداب، بيروت، 1988.

[41]  أدونيس، زوكالو، دار الساقي، الطبعة الأولى، بيروت، 2014.

[42]  محيي الدين ابن عربي، فصوص الحكم، علق عليه أبو العلا عفيفي، دار الكتاب العربي، بيروت.

[43]  محيي الدين ابن عربي، الفتوحات المكية، ج2، دار صادر، بيروت، 2006.

[44]  أدونيس، كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل، دار الآداب، الطبعة الأولى، بيروت، 1988.

[45]  أدونيس، مفرد بصيغة الجمع، دار الآداب، الطبعة الثانية، بيروت، 1988.

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني