english arabic

وحدها الذات هي المعلِّم

معرفة الذات في تعليم رامانا مهارشي

 

البدايات

في بلدة تِرُتشُللي القديمة، في زاوية جافة ومغبرَّة من جنوب الهند، تورِد القصصُ أن الرب شيفا نجَّى الأرضَ من الطوفان في مناسبات ثلاث بأن غرس رمحَه المثلث في الأرض وأحدث بذلك ثقبًا فيها تسربتِ المياهُ منه. في ذلك المكان الذي غرس فيه الإلهُ رمحَه ينتصب معبد بهومِناتشفَرا ("رب الأرض"). ولدى عبوره الشارع الموازي لهذا المعبد القديم يقع المرءُ على البيت الذي ولد فيه، في كانون الأول من العام 1879، الطفل فِنكَتِشوارَم أيَّار، تيمنًا باسم إله أسرته شري فِنكَتِشوارا من تِرومالا. وفيما بعد، حين سُجِّل الطفلُ في المدرسة، تغير اسمُه ليصير فنكتارامَن. وقد أطلق عليه أحدُ أقربائه اسمَ رامانا، وأحيانًا راماني.

ومع أنه كُتِبَ له أن يصير واحدًا من أعظم حكماء العصور الحديثة، لم تكن ثمة علامات خارجية تومئ إلى تحقُّقه الآتي. فبعد وفاة والده، انتقلت أسرةُ فنكتارامَن للسكن في بلدة معبد مادورَيْ الشهير بحيث يشرف عمُّه سوبَيَّار على تربيته وتربية أشقائه. وهناك، اختلف إلى مدرسة سكوت الإعدادية، ثم إلى مدرسة الإرسالية الأمريكية الثانوية. قيل آنذاك فيه إنه طالب لامبالٍ، غير جدِّي في أمور الدراسة على الإطلاق. لكنه كان فتى صحيح الجسم، قوي البنية.

وهناك، قُيِّض للـ"يقظة" أن تحصل، فتستبد به أمواجٌ من الحميَّة الروحية وهو يطالع كتاب پرياپورانَم، وهو عبارة عن سِيَر ثلاثة وستين قديسًا من تاميل نادو. ومنذ طفولته كان ثمة نبض باطني مستمر يردد: "أرُناتشَلا، أرُناتشَلا"، وكأن الذات – كيانه الحق – يذكِّره بطبيعته المنسية. وذات مرة، بينما كان زائرٌ يروي قصةَ سفره حاجًّا إلى تِرُفَـنَّـمَـلَيْ (معبد بلدة يشرف فيها تل أرُناتشَلا الحَرام على سهول الهند الجنوبية)، ذُهِلَ فنكتارامَن الفتى عندما علم أن أرُناتشَلا مكان على الأرض يمكن للمرء أن يذهب إليه.

بعيد ذلك، ذات يوم من أيام تموز الحارة، – وكان فنكتارامَن في السادسة عشرة من عمره، صحيح الجسم معافى، – واجه الفتى واقعَ موته. فبينما كان الجميع متغيبين خارج البيت، وكان هو جالسًا وحده في الطابق الأول من بيت عمِّه، اجتاحتْه موجةٌ عارمة من الخوف من الموت: شعر بأنه سوف يموت لا محالة! لكن فنكتارامَن، بدلاً من أن يهلع أو ينكفئ إلى الخوف، تميز بحضور ذهني شديد مكَّنه من مواجهة الموقف. فكر مليًّا في هدوء فيما يجب عليه أن يفعل. وللحال، قام بتمثيل حدوث الموت حتى ييسِّر الاسترسال في الخبرة حتى نهايتها، فاستلقى على ظهره، باسطًا أطرافه، مجمِّدًا جوارحه، وكأنه جثة متيبِّسة، ممسكًا أنفاسَه، حائلاً دون أي صوت والإفلات من بين شفتيه، وتفكَّر:

صدمة الموت والخوف منه اقتادا ذهني إلى الداخل وقلت لنفسي ذهنيًّا، من غير أن أصوغ الكلمات فعليًّا: "أما وأن الموت قد جاء، فماذا يعني؟ ما الذي هو على وشك أن يموت؟ طيب، هذا الجسم ميت الآن، وسوف يُحمَل إلى ميدان الحَرْق، فيُحرَق هناك ويُختزَل إلى رماد. ولكن مع موت هذا الجسم، هل أنا ميت؟ هل الجسم أنا؟ هذا الجسم صامت وساكن؛ لكني أشعر بقوة فرديتي برمَّتها، وحتى بصوت "الأنا" في داخلي، في معزل عنه. إذن فأنا الروح التي تتعالى عن الجسم. الجسم يموت، لكن الروح المتعالية عنه لا يمكن للموت أن يمسَّها. وهذا يعني أنني الروح التي لا تموت." هذا كله لم يكن فكرًا بليدًا. كان يبرق من خلالي في حيوية بوصفه حقيقةً حية كنت أدركها مباشرة [...]. من تلك اللحظة فصاعدًا، ركزتْ "الأنا" أو الذات انتباهَها على نفسها في انبهار قوي. وبذلك تلاشى الخوف من الموت دفعةً واحدة وإلى الأبد. ومنذ ذلك الوقت والاستغراق في الذات متواصل غير منقطع.

"الموت قبل الموت" هو مواجهة الخواء – الفراغ الذي ليس للذهن جذور فيه يقتات من خلالها ويستمر. وما أندر اللحظات التي يقدر فيها المرءُ على مواجهة الخواء من غير الانكفاء إلى أمان الشكل والصورة. مثله كمثل البوذا، عزم فنكتارامَن على المضي بالخبرة إلى أقصاها؛ وعبر التقصي السابر لطبيعة "الأنية"، "مات"، فَنِيَ عن ذاته القديمة، لتحل محلَّها الذات اللانهائية، ذاك الأزلي – إنها "القيامة الكبرى" (بالمصطلح الصوفي[1]).

بذلك حصل تحول كامل في حياة الحكيم الشاب. فالأشياء التي كانت لها في نظره قيمةٌ فيما مضى فقدت قيمتها، والقيم الروحية التي تجاهلها سابقًا باتت هي محط الانتباه الأوحد:

كنت مرارًا ما أجلس وحدي وأستغرق في الذات، الروح، القوة أو التيار الذي يكوِّنني. كنت أثابر على هذا، على الرغم من الملاحظات الساخرة لشقيقي الأكبر الذي كان يطلق عليَّ متهكمًا اسم "الحكيم" أو "اليوگاني"، وينصح لي بالاختلاء في الغاب مثل الـرِشي الأقدمين.

وحين وبَّخه شقيقُه في آب من ذلك العام نفسه على سلوكه سلوك سادهو (زاهد متوحد) فيما هو يتمتع بأسباب الراحة البيتية، أقرَّ فنكتارامَن بصحة كلمات شقيقه، فانتصب على قدميه وزعم أنه عائد إلى المدرسة، لكنه انطلق مغادرًا إلى أرُناتشَلا. وقد قال عن حاله في تلك الآونة:

حين غادرت المنزل، كنت أشبه بالذريرة التي جرفَها طوفانٌ هائل: لم أكن أشعر بجسمي أو بالعالم، أو إنْ كان الوقت نهارًا أو ليلاً.

الطريق إلى أرُناتشَلا.

لكن العناية أرشدت الحكيم الشاب في رحلته عائدًا إلى "وطنه الروحي". فنبض "أرُناتشَلا، أرُناتشَلا" ما انفك في قلبه يلعب دور النور الهادي. مستغرقًا في غبطة الوجود، كان يجلس وينام في أماكن متعددة حول التل وفي المعبد – مضطرًّا أحيانًا إلى المغادرة حين كان جماعات من الشبان الأشقياء يرجمونه بالحجارة. وكما أن "المدينة لا تخفى على جبل، ولا يوقَد سراجٌ ويوضع تحت المكيال، بل على المنارة" (إنجيل متى 5: 14-15)، كذلك ظهر تحقُّق فنكتارامَن السامق جليًّا، فاجتذب عددًا من المريدين المخلصين. أولئك كانوا أناسًا يريدون الاستحمام في سلام حضوره – سلام كان يستقر في لطف على المرء، فينتشله من دوَّامة الفكر الدائمة.

أول صورة وصلتنا له: رامانا في العشرين.

گناپَتي موني – وهو علاَّمة متمكن من السنسكريتية ويوگاني قدير – بدَّد شكوكَه الحكيمُ الشاب الذي كان مقيمًا آنذاك على سفوح تل أرُناتشَلا. وإذ تأثر الموني تأثرًا عميقًا بحكمته العظيمة، أعلن أن فنكتارامَن يجب أن يُعرَف منذ ذاك بلقب بهگفَن شري رامانا مهارشي.

شري رامانا مهارشي

بما أن رامانا حقَّق الذات من غير أيِّ تعليم روحي أو فلسفي مسبق، لم يعلق كبير أهمية على الدراسة النظرية البحتة. وتعاليمه فريدة المناسَبة للحياة العصرية، وتقدِّم تأليفًا متوازنًا بين العقل والقلب: إذ كان مهارشي يهدي الطالب دومًا إلى منبع السعادة الدائمة – الذات.

تعاليم رامانا مهارشي من بين أوضح التعاليم الأدفيتية (اللاثنوية) التي تأصلت في الهند وأكثرها مباشرة. كلمة أدفيتا تعني في بساطة "لا اثنين". وقد علَّم رامانا أننا نوجد بصفتنا الذات العليَّة في كلِّ لحظة، ولا حاجة لنا إلا إلى التيقظ لهذه الحقيقة بطلب منبع الأنية أو "فكرة الأنا"، ومن ثمَّ السكنى إلى الذات، كما نحن دائمًا. وقد أشار إلى منهاجه بتسمية "الفحص عن الذات" (التقاطع مع المنهاج السقراطي بيِّن).

رامانا في فترته "النسكية".

دأب رامانا على تشجيع الناس على سلوك الحياة بأكثر الطرق طبيعية. لم تكن المشكلة في نظره في الانخراط في العمل أو عدم الانخراط فيه – فكل شيء يحدث بحسب ما هو مقدَّر له. الاعتبار الأهم، في نظره، هو التحرر من وهم "أنا الفاعل".

منهاج "الفحص عن الذات" يحرر المرء من الخوف والفوضى المستديمين الناجمين عن توهُّم أن الأنية حقيقية. وبالتحرر من وهم الأنية، يختبر المرءُ الحريةَ الحق والسلامَ الفائق. وهو منهاج يقود المرء من الثنوية الظاهرة للفرد والعالم إلى أحدية غبطة طبيعته الحق.

وإذ يتيقظ المرء لوعي الذات، حتى في لمحات عابرة، يبدأ اختبارُه للشعور بأن الحق غير محدود بعالم الأنية. وتيار الوعي هذا يتكشف في المآل عن كونه الذاتالوعي الخالص. ومع أنه غالبًا ما يُشار إلى تعليم رامانا بوصفه "طريقة" فإنه في الحقيقة ليس كذلك: حين نسكن إلى كياننا الحق فإننا ندير ظهورنا للزمن، – للصيرورة، – وبالتالي، لصرف الوقت مطهِّرين الذهنَ والأنيةَ عينهما اللذين ينبغي تجاوُزهما. ويلحظ مهارشي:

أنت تفرض قيودًا على طبيعتك الحق التي هي الوجود اللانهائي، ثم تنتحب لأنك مجرد كائن متناهٍ. ثم تنهمك في هذه الـسادهَنا [الرياضة الروحية] أو تلك لتتخطَّى القيود غير الموجودة. لكن إذا اتخذت الـسادهَنا وجود القيود منطلَقًا كيف يمكن لها أن تعينك على تخطِّيها؟

كان المريدون الذين أحاطوا بـرامانا إبان حياته من خلفيات ثقافية واجتماعية متنوعة للغاية، لكنهم كانوا جميعًا يشتركون في توق مخلص إلى اختبار السلام والحرية الداخليين الحقيقيين. لم ينظر مهارشي قط إلى أحدهم بوصفه منفصلاً عنه، كما لم يتخذ "تلامذة" بالمعنى النقلي المتوارث. كان يكرر دومًا بأن الگورو (المعلِّم) ليس الصورة الجسمانية وبأن الهداية سوف تستمر حتى ما بعد زوال جسم الگورو. فلا حاجة، من ثمَّ، إلى إيجاد "سلسلة بَرَكة" أو إلى تعيين خليفة.

الأشرم

 بعد سنوات من الحياة في كهوف على تل أرُناتشَلا، انتقل مهارشي إلى أسفله، على مقربة من مدفن أمِّه. وبعيد ذلك، بدأ أشرم (دير) صغير بالتشكل من حوله، وبدأ الطلاب من سائر الخلفيات والأديان والجنسيات يتوافدون عليه للتنعم في حضرته، بعضهم يقيم إقامة قصيرة وبعضهم الآخر يطيل المكوث. لذا كان لا بدَّ من توسيع الأشرم وإضافة أبنية ومنتفعات جديدة – زريبة للمواشي، مدرسة لدراسة الفيدا، قسم للنشر، ومعبد الأم تقام فيه الشعائرُ في أوقاتها، إلخ.

كان رامانا مشهورًا بتعليمه الصامت وبـ"نظرته" التي يمنح عبرها المُسارَرة.

كان من عادة رامانا أن يجلس في قاعة متواضعة، مرحِّبًا ليل نهار بأسئلة الطالبين الصادقين. لا بل كان يصغي إلى قصص الناس الشخصية والأسرية، فيضحك مع الفرحين ويذرف الدموع أحيانًا مع الترحين. لم يكن بهگفَن يرفع صوته أبدًا، وإذا بدا عليه الغضبُ من حين لآخر، فذلك في صورة طارئة ولضرورة تعليمية، فلا يخلف أثرًا على سلامه المطمئن. كانت ممتلكاته الوحيدة مئزر ومنشفة (وعصا للتوكؤ لاحقًا). لم يمس المال يومًا، ليس لأنه يكرهه (إذ كان يعلم أنه ضروري للحياة اليومية)، بل لأنه لم تكن له حاجة إليه ولم يكن مهتمًّا به أصلاً. لم يسأل مهارشي أحدًا شيئًا قط. كما لم يسافر، ولم يلقِ محاضراتٍ، ولم يكتب كتبًا (اقتصرت كتابته على تدوين خلاصة مذهبه في الأدفيتا نَظْمًا).

لم يكن يسمح، بقدر استطاعته، بأي تفضيل في معاملته، إنْ في الطعام أو في أسباب الراحة. وحتى إذا قُدِّم له دواءٌ أو مقوٍّ، كان يصر على اقتسامه مع الجميع، حجته في ذلك أنه "إذا كان يفيدني فلا بدَّ أنه يفيد الآخرين".

وخلال السنوات التي عاشها في الأشرم لم يتخذ أية غرفة شخصية أو أية وسيلة أخرى من وسائل الراحة: نام وعاش في القاعة – المكان نفسه الذي يشغله الزوار معه. في أواخر حياته فقط، حين أضحت صحتُه شديدة الهشاشة، بُنِيَت له حجرةٌ صغيرة للمنامة. كان يجيب في تلقائية عن الأسئلة التي تُطرَح عليه، ولم يكن يبالي بمجيء الزوار أو رواحهم. ومع ذلك، كان يهتم متأنيًا لأدق التفاصيل حين ينهمك في عمله اليومي، سواء كان إعداد الطعام في المطبخ أو خياطة دفتر من بقايا الورق أو تصحيح مطبوعات الأشرم. لقد كان دومًا أسوة خارقة في حضور الانتباه.

جميع الذين أتوا إلى الأشرم للجلوس في حضرة رامانا – مهما يكن دينهم أو خلفيتهم الثقافية – شعروا بأنه ينتمي إليهم. ولا غرو، فإن الذات هي المشترك الأوحد بين الناس أجمعين، والتحري عن طبيعتها الحق يكشف عن وحدة عالمية شاملة تتعدى الاختلافات الذهنية الصنع.

هذا وإن روح المودة وكف الأذى التي كانت تتخلَّل الحكيم وكلَّ ما حوله جعلت حتى الحيوانات والطيور تألفه وتُصادِقه. وقد عاملها بالاحترام والاهتمام اللذين عامل بهما البشر الذين كانوا يقصدونه. الطيور والسناجب كانت تبني أعشاشها من حوله؛ والأبقار والكلاب والقردة اتخذت من الأشرم ملجأ لها. وجميعها كان يتصرف في فطنة، ولاسيما البقرة لكشمي. كان رامانا يفهم منطق الحيوانات ويعرف خصوصياتها معرفة حميمة، فيحرص على أن تتغذى تغذيةً كافية على الوجه الصحيح. وحين يموت أحدها، كان جثمانه يُحرَق بحسب الشعائر اللائقة.

رامانا مع البقرة لكشمي.

طوال ما يزيد عن 55 عامًا صرفها مهارشي في إرشاد الطلاب من سائر أنحاء العالم، لم يَحِدْ عن المهمة الجوهرية لإحالة السائل إلى حقيقة الوجود: فمهما كان شكل السؤال الموجَّه إليه، كان رامانا يقود السائل في لطف وتؤدة إلى "مَن يسأل السؤال؟"

ميراث رامانا مهارشي حي في تعاليمه. وإن مباشرة مقاربته وبساطتها تجتذب العديد من طالبي الحق، ولاسيما في زماننا، على اعتبار أننا أينما كنَّا فإن الذات متاحةٌ دومًا وأنه ليس ثمة "تأهيل" خاص للتحري عن ماهيتنا الحقيقية: وحده الإخلاص هو المطلوب.

"حسب المرء أن يدنو منه لكي يشعر بالسلام."

وفاته

في 5 شباط من العام 1949، ظهرت بوادر النهاية الأليمة. فقد كان بهگفَن كثيرًا ما يفرك مرفقه الأيسر، مما تسبب في شيء من التهيج. وقد وجد خادمه أن السبب كان كتلة صغيرة في حجم حبة البازلاء. قرر الطبيب أن الأمر طفيف وأنها يجب أن تُزال تحت بنج موضعي. وقد أجريت العملية ذات صباح في هدوء في حمام بهگفَن قبيل الإفطار.

شُخِّص لدى مهارشي لاحقًا ساركوما (نوع من الورم الخبيث)، لكن الحكيم لم يُبدِ أي قلق، وكان غير مبالٍ البتة بوجعه؛ وقد جلس كمُشاهد يتفرج على المرض وهو يستبيح الجسم. لكن عينيه ظلتا تلتمعان كعهدهما، وظلت بركتُه تفيض على كلِّ ما حواليه. تقاطرت الجموع إليه، وأصر رامانا على السماح لهم بمشاهدته (دَرْشَن). وقد تمنى المريدون عليه أن يشفي جسمَه باستعمال كراماته، وتوسل إليه كثيرون ممَّن حظوا بحضوره الجسماني ألا يغادر. لكن رامانا أشفق على الحزانى على وجعه، فحاول أن يواسيهم بتذكيرهم بحقيقة أن بهگفَن ليس الجسم. قال لمن حوله:

يحسبون أن هذا الجسم هو بهگفَن ويعزون إليه الألم. يا للأسف! إنهم قانطون لأن بهگفَن سوف يغادرهم ويمضي – إلى أين يمكن له أن يذهب، وكيف؟

كذلك:

يقولون إنني أحتضر، لكني لن أذهب. إلى أين يمكن لي أذهب؟ أنا هنا.

على الرغم من العناية الطبية المكثفة، لاح في 14 نيسان 1950 أن النهاية الجسمانية وشيكة. في ذلك المساء، سمح الحكيمُ للقادمين بمشاهدته (درشن). وفي آخر المساء، فيما كان المريدون جالسين خارج الحجرة المبنية خصيصًا لراحته إبان مرضه النهائي، شرعوا عفويًّا في ترتيل لازمة "أرُناتشَلا–شيفا" من أحد أناشيده المؤثرة المرفوعة إلى أرُناتشَلا. وقد كتب أرثر أوزبورن (كاتب سيرة حياة رامانا ومحرِّر مؤلَّفاته المكتوبة) عن ذلك المساء:

لدى سماع [الترتيل]، انفتحت عينا رامانا وشعَّتا، وارتسمت لبرهة على محيَّاه ابتسامةُ حنان يفوق الوصف. ومن زاوية عينيه الخارجية، تدحرجت دموعٌ من الغبطة. نَفَس واحد عميق آخر، ولا غير.

في تلك اللحظة بعينها – الثامنة وسبع وأربعين دقيقة مساءً – اجتاز السماءَ في بطء نجمٌ ضخم عابرًا إلى ذروة أرُناتشَلا الشمالية الشرقية. وقد بُلِّغ عن مرور الشهاب في مناطق بلغت حتى بومباي بُعدًا.

تل أرُناتشَلا: مكان ينبض بالطاقة الروحية.

كلمات رامانا باقية مرآةً للحكمة الأزلية، أينما نولِّي نرى فيها انعكاسًا لطبيعتنا الحق:

لا يوجد سرٌّ أكبر من التالي: على كوننا الحق، نطلب الفوز بالحق. نحسب أن ثمة شيئًا يحجب عنَّا الحق وأنه يجب أن يُدمَّر قبل الفوز بـالحق. هذا مضحك. سوف يطل عليكم فجرُ يوم تضحكون فيه من جهودكم الماضية. وذاك الذي سيكون يوم تضحكون هو أيضًا الآن وهنا.

د.أ.

سمادهي (مقام) رامانا مهارشي في أشرم تِرُفَـنَّـمَـلَيْ.

***

 

مرجعان

-          Arthur Osborne, Ramana Maharshi and the Path of Self-Knowledge, with a Forward by Dr. S. Radhakrishnan, Rider & Company, London, 1954.

-          Arthur Osborne (Ed.), The Teachings of Bhagavan Sri Ramana Maharshi in His Own Words, Rider & Company, London, 1962.

 

المعلِّم ونعمتُه

 

حديث مع بهگفَن شري رامانا مهارشي

 

السائل: ما هي الـگورو كريپا[2]؟ وكيف تقود إلى التحقق بـالذات؟

مهارشي: الگورو هو الذات... ذات حين إبان حياته يمسي أحدُهم غير راضٍ بها؛ وإذ لا يكتفي بما لديه، يسعى إلى إشباع رغباته عبر الصلاة إلى الله، إلخ. يتطهَّر ذهنُه تدريجيًّا حتى يتشوق إلى معرفة الله، طلبًا لـنعمته أكثر منه لإشباع رغباته الدنيوية. إذ ذاك، تبدأ نعمةُ الله بالتجلِّي: يتخذ الله صورةَ گورو ويظهر للمريد، يعلِّمه الحقيقة، لا بل ويطهِّر ذهنَه بالتلازُم مع ذلك. بذا فإن ذهن المريد يكتسب قوةً ويتمكن عندئذٍ من التوجُّه نحو الباطن. وبالتأمل يتطهَّر أكثر ويبقى ساكنًا من دون أدنى مويجة[3]. وهذا المدى الهادئ هو الذات. الگورو "خارجي" و"داخلي" في آنٍ معًا: من "الخارج" يعطي دفعًا للذهن لكي يتوجه نحو الباطن؛ ومن "الداخل" يسحب الذهنَ نحو الذات ويعين على تهدئة الذهن. تلك هي الـگورو كريپا. لا فرق بين الله والگورو والذات.

س: في الجمعية الثيوصوفية، يتأمل القوم طلبًا لإرشاد سادة معلِّمين.

م: السيد المعلِّم في الداخل. الغاية من التأمل هي إزالة الفكرة الجاهلة بأنه في الخارج فقط. لو كان [المعلِّم] غريبًا أنت في انتظاره فسيختفي لا محالة هو الآخر. أين هي الفائدة من كائن سريع الزوال كذاك؟ لكنك مادمت تحسب نفسك منفصلاً أو تتوهم أنك الجسم فإن المعلِّم "في الخارج" ضروري أيضًا، ولسوف يظهر وكأنه ذو جسم. أما حين يزول تماهي المرء الكاذب مع الجسم، فسيتبيَّن أن المعلِّم ليس سوى عين الذات.

س: هل سيعيننا الگورو على معرفة الذات عبر المُسارَرة، إلخ؟

م: هل يمسك الگورو بك من يدك ويهمس في أذنك؟ قد يتفق لك أن تتخيَّله على ما أنت عليه. ولأنك تظن أنك ذا جسم تحسب أن له جسمًا هو الآخر كي يفعل فيك شيئًا ملموسًا. عمله يكمن في الباطن، في العالم الروحي.

س: فكيف يمكن العثور على الگورو؟

م: الله، – وهو محايث، – في نعمته، يتحنَّن على المريد المحب ويتجلَّى بحسب تفتُّح هذا المريد. المريد يظن أن [الله] امرؤ ويتوقع علاقة كالعلاقة بين جسمين طبيعيين. لكن الگورو – الذي هو الله أو الذات متجسدةً – يعمل من الباطن، يعين المرء على رؤية ضلال مسلكه ويهديه على الصراط المستقيم حتى يحقِّق الذات في الباطن.

س: فماذا على المريد أن يفعل عندئذٍ؟

م: عليه فقط أن يتقيَّد بكلمات المعلِّم ويعمل في الباطن. والمعلِّم في "الداخل" وفي "الخارج" في آن معًا؛ ولهذا يوجِد الشروطَ ليقودك إلى الباطن، وفي الوقت نفسه، يهيِّئ "الباطن" ليجرَّك إلى المركز. وبهذا يعطي دفعةً من "الخارج" ويبذل جذبةً من "الداخل"، بحيث تتثبت في المركز. أنت تحسب أن العالم يمكن الفوز به بجهودك أنت. حين ينال منك الإحباطُ خارجيًّا فتنقاد إلى الداخل، تشعر: "أواه! ثمة قدرة أعلى من الإنسان!" الأنية أشبه ما تكون بفيل قوي جدًّا لا يمكن السيطرة عليه بأية قوة أقل من [قوة] أسد، ليست، في مثالنا هذا، سوى الگورو، الذي نظرته عينها تجعل الأنيةَ "الفيلية" ترتعد وتموت. ولسوف تعرف في الوقت المناسب أن مجدك يكمن حيث تنعدم. ومن أجل الفوز بهذا المقام لا بدَّ لك من أن تسلِّم نفسك. إذ ذاك يرى المعلِّم أنك في حالٍ مناسبة لتلقِّي هدايته، فيهديك.

س: كيف يمكن لـصمت الگورو، الذي لا يمنح أية مُسارَرة، كما وليس أي فعل ملموس آخر، أن يكون أقوى من كلامه، إلخ؟ كيف يكون مثل هذا الصمت خيرًا من دراسة الكتب [المقدسة]؟

م: الصمت أفعل شكل من أشكال العمل. فمهما بلغت الكتب من السعة والتوكيد، فإنها تخفق في التأثير. أما الگورو فهو ساكن، والنعمة تغلب على كلِّ شيء. وهذا الصمت أوسع وأشد توكيدًا من الكتب كلِّها مجتمعةً.

س: ولكن هل يستطيع المريد أن ينال السعادة؟

م: حين يسلِّم المريدُ أمرَه للـمعلِّم فهذا يعني أنه لم تبقَ فيه أية بقية من فردية يتمسك بها. وإذا كان التسليم تامًّا فإن كلَّ حسٍّ بـ"ذات" [منفصلة] يتلاشى، وإذ ذاك لا يمكن أن يوجد أي بؤس أو أسى. الكائن الأزلي ليس شيئًا غير السعادة. وهذا الأمر يأتي كَشْفًا.

س: كيف يمكن لي أن أنال النعمة؟

م: النعمة هي الذات. وتلك أيضًا لا يمكن الحصول عليها: لا حاجة لك إلا إلى أن تعلم بأنها موجودة. الشمس سطوع وحسب. إنها لا ترى العتمة. ومع ذلك، تراك تتكلم عن هروب العتمة لدى دنوِّ الشمس. كذلك جهل المريد أيضًا، مثله كمثل شبح العتمة، يتلاشى لدى نظرة من الگورو. أنت محاط بنور الشمس؛ ومع ذلك، إذ شئت أن ترى الشمس، عليك أن تلتفت إلى جهتها وتنظر إليها. كذلك النعمة تجدها بالمقاربة الصحيحة التي تقوم بها، مع أنها موجودة الآن وهنا.

س: ألا يمكن للـنعمة أن تسرِّع من نضج الطالب؟

م: دعِ الأمرَ كلَّه للـمعلِّم. سلِّم أمرك له من غير تحفُّظ. لا بدَّ من القيام بأحد أمرين: إما تسليم نفسك، لأنك تدرك عجزَك وحاجتَك إلى قدرة أعلى تستعين بها؛ وإما التحري عن علَّة البؤس، الذهاب إلى المنبع، وبالتالي، الاندغام في الذات. وأيَّ الطريقين تسلك، سوف تتحرر من البؤس. الله أو الگورو لا يتخلَّى أبدًا عن المريد الذي سلَّم نفسه.

س: ما هو المغزى من السجود للـگورو أو لله؟

م: القصد من السجود هو [إقرار] تبعية الأنية، وهو يعني الاندغام في المنبع. [غير أن] الله أو الگورو لا ينخدع بالركوع والانحناء والسجود الخارجي. إنه يرى إذا كانت الأنية مازالت موجودة أو لا.

س: هلا أعطاني بهگفن من ورقته بعض الـپرَساد[4] كعلامة على نعمته؟

م: كُلْ من غير أن تفكر في الأنية. إذ ذاك فإن ما تأكله يصير پرَساد بهگفن.

س: أليس الرجل المتعلم أفضل أهلية للاستنارة، بمعنى أنه يصير في غنى عن الـگورو كريپا؟

م: حتى الرجل المتعلم يجب أن ينحني أمام الحكيم الأمِّي. الأمِّية جهل، والتعليم جهل مكتسَب بالتعلم. كلاهما يجهل الغاية الحقيقية. أما الحكيم فهو "جاهل" بدلالة أخرى: إنه جاهل لأنه لا يوجد "آخر" في نظره.

س: أليست الغاية من تقديم الهدايا للـگورو هي نوال نعمته؟ لذا فإن الزوار يقدمون الهدايا لـبهگفن.

م: لماذا يجلبون الهدايا؟ هل أريدها؟ حتى إذا رفضت، فإنهم يُكرِهونني على أخذ الهدايا! لأيِّ غرض؟ أليس الأمر كوضع طُعم لاصطياد السمكة؟ هل يتلهف الصياد لإطعام السمكة؟ لا، إنه يتلهف لأكلها!

س: هل الفكرة الثيوصوفية بمنح مُسارَرات متوالية قبل بلوغ مُكشا[5] فكرة صحيحة؟

م: الواصلون إلى مُكشا في عمر واحد كابدوا قطعًا جميع المُسارَرات في أعمارهم السابقة.

س: تقول الثيوصوفيا بأن على الـجناني[6] بعد الموت أن يختاروا بين أربعة أو خمسة مسالك عمل، ليس في هذا العالم بالضرورة. فما هو رأي بهگفن؟

م: بعضهم قد يختار مسلك العمل، لكنْ ليس جميعهم.

س: هل أنت واعٍ بوجود أخوية من الـرِشي[7] غير المرئيين؟

م: إذا كانوا غير مرئيين كيف يمكن لك أن تراهم؟

س: في الوعي.

م: لا يوجد شيء خارجي في الوعي.

س: هل يمكن لي أن أدركهم؟

م: إذا أدركت حقيقتك أنت، إذ ذاك فإن حقيقة الـرِشي والمعلِّمين ستتضح في نظرك. هناك معلِّم واحد وحسب – ألا وهو الذات.

س: هل التقمص حقيقي؟

م: التقمص موجود فقط مادام الجهل. لا يوجد حقًّا تقمص على الإطلاق، لا الآن ولا قبل؛ كما لن يوجد أي [تقمص] فيما بعد[8]. هذه هي الحقيقة.

س: هل يمكن للـيوگاني[9] أن يعرف أعمارَه السابقة؟

م: هل تعرف حياتَك الحالية حتى تتمنى معرفة حياتك الماضية؟ جِدِ الحاضر، وما تبقى سيتبع. حتى مع معرفتنا الحالية المحدودة تراك تشقى كلَّ هذا الشقاء؛ فلماذا تحمِّل نفسك عبءَ المزيد من المعرفة؟ ألكي تشقى أكثر؟

س: هل يستعمل بهگفن قوى غيبيةً ليجعل الآخرين يحققون الذات، أم أن مجرد تحقُّق بهگفن كافٍ لهذا الغرض؟

م: القوة الروحية للتحقق بالذات أفعل بما لا يقاس من استعمال القوى الغيبية كلِّها مجتمعة. فبمقدار انعدام الأنية في الحكيم لا يوجد "آخرون" في نظره. ما هي أعلى فائدة يمكن أن تُمنَح لك؟ إنها السعادة؛ والسعادة تولد من السلام. والسلام لا يمكن له أن يسود إلا حيث لا يوجد اضطراب؛ والاضطراب ناجم عن الخواطر التي تنشأ في الذهن. حين يغيب الذهنُ نفسُه، يكون هناك سلام كامل. فما لم يُفْنِ المرءُ الذهنَ لا يستطيع أن يفوز بالسلام ويكون سعيدًا. وما لم يكن هو نفسه سعيدًا لا يستطيع أن يمنح السعادة للـ"آخرين". لكن، بما أنه لا يوجد "آخرون" في نظر الحكيم الذي لا ذهن لديه، فإن مجرد تحقُّقه بالذات هو، في حدِّ ذاته، كافٍ لإسعاد "الآخرين".

ترجمة: ديمتري أفييرينوس

*** *** ***


[1] هي بحسب عبد الرزاق الكاشاني: "الانبعاث بعد الفناء في الله إلى الحياة الحقيقية عند البقاء بالحق."

[2] هي "نعمة" الگورو ("كاشح العتمة"، المعلم المرشد) أو "بَرَكته"، أو بالأدق: البَرَكة الإلهية التي تتجلَّى من خلال الگورو. (المترجم)

[3] استعارة تشبِّه سكون الذهن بسكون الماء الذي تتلاشى المويجات على سطحه.

[4] الطعام المقدَّم للإله أو لأحد القديسين يصير پرَساد حين يُقبَل وبالتالي يبارَك. ومن عادة الهنود أن يتخذوا من أوراق بعض النباتات صحونًا.

[5] مُكشا (أو مُكتي) هو الانعتاق الروحي النهائي.

[6] الـجناني هو "العارف" المتحقق.

[7] الـرِشي هو "الرائي"؛ كناية عن الحكيم المتحقق.

[8] لا يوجد تقمص على صعيد الذات، لأن الذات لا تولد، وبالتالي، لا تموت؛ التقمص يوجد على صعيد مركَبات الوعي الفردي وحسب.

[9] الـيوگاني هو المتحقق بالـيوگا ("الاتحاد" مع برهمن، مبدأ الوجود)؛ ويقابله "الصوفي" في التراث الإسلامي.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود