english

أسئلة صعبة وأجوبة صعبة[1]

 

مايكل ناغلر

 

كل الأنظمة الطبيعية والإنسانية الرئيسية هي اليوم في أزمة أو في حالة تغيّر. وتتراوح مؤشرات هذا التغيّر من انهيار الثروة السمكية حول العالم، واستنزاف غابات المطر، وانحدار مصداقية الحكومات، وتفاقم عدم المساواة بين الأغنياء والفقراء، والأزمة في معنى الخواء والإحساس به المتأتّي من المغالاة في التوكيد على ازدياد الاستهلاك المادي.
نشرة شبكة المستقبل الإيجابي

فإن الرزينة لا تبرز من التراب، ولا المشقة تنبت من الأرض، حتى يولد الإنسان للمشقة كما يولد أبناء البرق لتحلق في الطيران.
(سفر أيوب 5: 6 - 7)

 

أبرزت الصفحة الأولى من نيويورك تايمز، إصدار يوم الأحد 17 آب 1997، صورة امرأة حزينة، اسمها ليندا ريد، وهي تضع باقة زهور على شاهدة قبر ابنها الذي شنق نفسه وهو في عمر السابعة عشر. وكان المراهق السادس من تلك الجالية الذي يشنق نفسه، أو تشنق نفسها، في تلك السنة. لماذا؟ تحدثت المقالة المُصاغة بشكل جيد، واصفةً حالات الانتحار في هذه المنطقة من جنوب بوسطن، عن مشاعر الكبرياء لدى الجالية، والتي تضغط بثقلها الشديد على الشباب، وعن التوترات العرقية، وعن قلّة الفرص الاقتصادية، وعن كل الأمور التي ندركها جيدًا لكنها بالكاد تفسّر سبب إقدام شاب في بلاد مثل بلادنا على وضع حدّ لحياته. لابد أن التفسير الصائب يمتدّ إلى ما هو أعمق من كبرياء الجالية ومن الفرص الاقتصادية. ففي عام 1998 ذكر كبير الأطباء في وزارة الصحة أن الأطفال في سن 10 - 14 أكثر عرضة لوضع حدّ لحياتهم بنسبة الضعفين مما لو كانوا في الخامسة عشرة. ما السبب؟ حيث الإحساس بأن كل هذا الحديث عن كبرياء الجالية وما شابه مجرد ستار من الدخان، ويقتبس الكاتب في النهاية عن كاهن محلي أنه: "ما من أجوبة حقًا".

أنا أرفضُ القبول بهذا. أرفضُ تصديق عدم وجود أجوبة عن استرخاص الحياة وتزايد العنف ضدها. رجالات ونساء دولة يُغتالون لصغائر الاختلافات؛ شابان يقتلان والديهما من أجل الحصول على أموالهما؛ قتل وانتحار يخلّف شخصية مشهورة وزوجته ميتين في منزلهما الفخم، وقد كانا على ما يبدو سعيدين لسنوات؛ نساء يُتاجَر بهن كسلع رخيصة؛ مراهق يُقتَل في الشارع من أجل حذائه الرياضي. لماذا؟ ربما من السهل القول بأنه ليست هناك من أجوبة، لكن هذا غير مقبول. وإذا لم تكن لدينا أجوبة عن مثل هذه المسألة الأساسية، مثل لماذا لا نستطيع أن نعيش بسلام مع بعضنا بعضًا، وغالبًا لا نستطيع الاستمرار في العيش على الإطلاق، فربما نحن نطرح الأسئلة الخاطئة.

من ناحية، واضح تمامًا أن هذا ما نفعله فحسب. فالعنف "يُنقل" إلينا كل يوم عبر وسائل الإعلام باندفاع، وبصخب تفصيلي فارغ من المعنى: "أُصيب جو إكس، وهو في السادسة والعشرين من عمره، بثلاثة أعيرة نارية من مسدس 9 ملم بِيع الثلاثاء الماضي بثلاثة وعشرين دولارًا". أو: "كانت نسبة القتل هذا الشهر في دايتون أخفض بـ 1.8 % من الشهر الماضي". كما يُنقَل إلينا، بتكرار وجدّية، "الأسباب" التافهة التي يقدّمها لنا الباقون على قيد الحياة، والمنفعلون بارتباك، أولئك الذين بالكاد يدركون ما الذي يجري حولهم، وليس من حدّ لمثل تلك الأمور المنافية للعقل وللإهانة الصريحة للطبيعة البشرية. حيث ماذا بوسعنا أن ندعو اليوم تلك الدعوة القضائية العابثة، فقد قالت زوجة جيمس أوليفر هيبرتي، الذي ارتكب مجزرة في مطعم ماكدونالد في سان إيسيدرو وراح ضحيتها 12 شخصًا، إن ما أصاب زوجها من هيجان قاتل مردَّه المقدار المفرط من MSG (غلوتاميتات أحادي الصوديوم) الموجود في شطائر الهامبرغر التي تُباع في المطعم. إن الطريقة التي تُنقل بها الأحداث العنيفة (وهذا جزء كبير للغاية مما نقرأه ونفكر فيه اليوم) تُتفِّه هذه الأحداث عمليًا وعلى الدوام. إنها تُقدَّم لنا مثل وابل من التفاصيل العَرَضية، وغالبًا على شكل إحصائيات باردة. إننا لا نفكر بتاتًا بشأن العنف ذاته، بسبب استغراقنا في تفصيل مثير ما أو آخر، في فصل ما عنيف أو آخر.

وبالتالي، فالأسئلة الصائبة ليست: لماذا يحوِّل الطلاب الشبان الصغار مدارسهم إلى ساحات حرب؟ أو: لماذا هناك الآن تزايد في جرائم الكراهية ضد مِثليِّ الجنس في فلوريدا؟ أو كيف يمكن إغلاق الحدود للحيلولة دون المتاجرة بالبشر؟ الأسئلة هي:

- ما هو العنف؟

- لماذا يستفحل سوءًا؟

- كيف نضع حدًّا له؟

محرّكات التغيير

لوقت طويل كان لدينا ميل لإنكار العنف. لكن هناك إشارات على أن هذا الميل يضعُف. وبأخذها للدور الهائل الذي لعبه العنف عبر التاريخ بالحسبان، كتبت حنه آرندت في دراستها الكلاسيكية حول العنف في العام 1969: "من المفاجئ إلى حدّ ما كم كان نادرًا، ولاعتبارات خاصة، أن نولي العنف اهتمامًا"[2]. لأنها كانت تعكس حقيقة أن وعيًا جديدًا بدأ يبزغ، حيث بات الكثيرون يشعرون أن الوقت قد حان لتجاوز الإنكار ومواجهة القضية الآن وبشكل مباشر. لقد لاحظ غاندي منذ نصف قرن أن العالم "مريض إلى حد الموت نتيجة إراقة الدماء"[3]، وفي الوقت نفسه تقريبًا، أبدى الفيلسوف الفرنسي جاك إلول ملاحظته للتفطّن إلى أن عصرنا "ليس مطلقًا عصر العنف، وإنما هو عصر وعي العنف"[4].

بعبارات أخرى، ما يميّز زمننا حقيقةً ليس كونه مُتخمًا بالعنف - كانت هناك أزمنة كهذه من قبل - بل أننا نواجه تحدّيًا قد لا يكون مسبوقًا للتعامل مع العنف. والحقيقة أن وسائل الإعلام لم تتمكن من اختيار وقتٍ أسوأ لكي تجعل العنف يبدو تافهًا وغير قابل للإدراك لأنها بذلك تُلحِق الضرر بالحضارة الإنسانية على نحو استثنائي.

تُشبه مجابهة العنف، إلى حدّ ما، الالتفات لمواجهة ضوء مًبهِر يعكس كل أنواع الصور والظلال الفاتنة التي أمامنا (أجل، لقد كنتُ مُتأثِّرًا بأفلاطون). لأنه من الصعب التحديق في ذلك الوهج لكننا، حين نُفلِح، نجد وكأننا نمرّ عبر نوع من مرآة "أليس"؛ فنشعر بغتةً بأننا مثل شخصية ذلك الملصق الإعلاني الشعبي من الستينيات الذي يُقحِم رأسه في كون آخر برمّته - أو ذاك المحكوم الذي يحدّق بكآبة عبر القضبان إلى رقعة صغيرة من السماء في حين أن كل ما خلف باب زنزانته مُتسع على مداه.

إنه عالم فسيح جدًا: الضوء قد يبدو مزعجًا في بادئ الأمر، لكن عندما نواجهه تتراءى المشاكل التي بدت عصية على الحل مقترنة بكل أنواع الحلول - حلول ذات آثار جانبية جيدة وغير متوقعة، عوضًا عن الحلول ذات الآثار السيئة.

تتّسم الطريقة السائدة في التعامل مع العنف بميل مرعب إلى خلق المزيد من المشكلات بدلاً من إيجاد حلول لها. فعلى سبيل المثال، يُسعى في الولايات المتحدة إلى وضع حدّ لإحضار الشباب الأسلحة إلى المدرسة عن طريق تركيب أجهزة كشف المعادن. من المؤكد أن هذا الإجراء يُقلّل من عدد الأسلحة المجلوبة إلى المدارس، لكنه، من جهة أخرى، يُضعِف معنويات الطلاب لأنه يعني عدم الثقة بهم. كما أنه يُكثِّف من إثارة "لعبة" تهريب الأسلحة إلى المدرسة. والأهم من كل ذلك هو أنه يُطبِّع العنف؛ فهو يُثلِّم الصدمة. كيف أمكننا السماح لموقف مثل هذا بأن يحدث، حيث يمتلك الشباب عمومًا أسلحة أقل بكثير مما يحملونها في المدرسة؟ ومن دون هذه الصدمة، أين كان لدينا الحافز للتصرف؟ أين الدافع لمواجهة المعضلة الحقيقية: العنف، والتي أحد مظاهرها فحسب حمل الأسلحة في المدرسة؟

التحرك نحو الحقيقة

لقد عرّفتُ وسائل الإعلام بأنها مصدر رئيسي لمشكلتنا، وأنا ماضٍ في التعريف لسبب بسيط ووحيد وهو أنها الحيّز الأكثر فاعلية لإحداث التغيير. على أية حال، وبكل أمانة، لا يمكن أن نلقي بكل اللوم على وسائل الإعلام. فحين قالت حنة آرندت إنه "مفاجئ نوعًا ما أن العنف لم يُولَ اهتمامًا خاصًا قبل الآن"، فإنها كانت تلمح علميًا إلى أنّ لدينا ميلاً طبيعيًا لتجنب التفكير في العنف بشكل مباشر، وهذا مفهوم، لأننا حينئذٍ سنفكر بما له علاقة بالجانب الأكثر سلبية في الطبيعة الإنسانية، أي بالجانب الأكثر سلبية في طبيعتنا نحن أنفسنا. وأنا لا أحب هذا أكثر مما تحبه أنت. لكن رغم ذلك لا بد من القيام به، ولكن ليس على نحو مدمِّر. وهذا يعني أنّ بإمكاننا إمعان النظر في أعماق الطبيعة البشرية - في أعماق طبيعتنا أنفسنا - بطريقة متوازنة، في مُطالعة ما هو صالح، بالإضافة إلى ما هو مُثبِط لعزيمتنا. واليوم، حين نؤكد على ذلك الجانب الظليل للإنسانية فمن الأفضل ربما أن يكون "التوكيد" معتدلاً جدًا بسبب استحواذ الحاضر القبيح والعنيف علينا، حيث يبدو أن ثقافتنا هي التي تجعلنا جاهلين أكثر فأكثر بمكانتنا الإنسانية. لذا، دعوني أطرح بجلاء وباقتباس مقتطف من عصر مضى، أعني القرن الرابع عشر، لأن ذلك لم يكن حقيقيًا في النهاية:

تحتك وخارجك يقع الكون المخلوق بكامله.
أجل، حتى الشمس والقمر والنجوم مثبّتة فوقك، وساطعة في القبة الزرقاء.
ومع ذلك لا يمكن مقارنتها بسُموِّك المُمجَّد ككائن بشري.
[5]

يبدو من الخيال تقريبًا، بالنسبة لنا، أن يتمكّن كاتب ما عمليًا من وصف الإنسانية بهذه العبارات المتوهِّجة، لكنه كان سيبدو خياليًا تمامًا بالنسبة إليه إن صورنا أنفسنا كـ" قتلة بالفطرة"[6]: خيالي تمامًا وأكثر خطرًا بكثير.

إن هاجسنا بالسلبية، الذي نسلِّم به جدلاً على نحو مُفارق، يجعل من شبه المستحيل فهم الجانب السلبي الذي فينا؛ فقد حال بيننا وبين تركيز تفكيرنا في أسباب العنف تلك التي تكمن فينا، عن طريق خلق شعور بأن أسباب العنف تكمن في داخلنا فحسب. لذلك، حين نضيء نورنا وسط الظلمة، فإنه من الضروري مراقبة بذور التغيّر والتجدّد التي فينا من خلال التأكيد، سويةً، على العمى الدوافع والنزوات التي تجعلنا عنيفين؛ فالمتناقضات يمكن أن تكون نفسها على نحو غريب.

ذات يوم، وبينما كنتُ أعبر ميدان Sproul، الذي كان مشهورًا في الستينيات كمسرح لحركة التعبير عن الرأي، شاهدتُ رهطًا من الطلاب يوزعون أوراقًا صغيرة حول كشك تمّت إقامته بعجالة. وهذا ليس بالأمر الغريب بالنسبة لجامعة بيركلي في كاليفورنيا. كان من الواضح أنهم مهتاجين (لا غرابة في ذلك أيضًا). اقتربتُ لكي أقرأ لافتتهم الكبيرة المكتوبة بخط اليد: جرائم الكراهية ضد الآسيويين في ارتفاع. لقد صُدِمتُ وتأذيتُ؛ ففي بيركلي الكثير جدًا من طلابي وأصدقائي وزملائي هم من الآسيويين، لذلك شعرتُ بأن الأمر يمسني شخصيًا، بعيدًا تمامًا عن حقيقة أن هذا النوع من الأمور لا يجب أن يحدث لا في بيركلي ولا في أي مكان آخر في هذا القرن. بيد أنّي تعلّمتُ أمرًا على مرّ السنين: إن أردتُ القيام بفعلٍ ذو فعالية وديمومة، فعليّ أن أضبط ردود أفعالي الأولية، وأن أتراجع خطوة إلى الوراء محاولاً رؤية الصورة الأكبر. ولكي أكون أكثر دقة، كان عليّ أن أتراجع ثلاث خطوات في هذه الحالة. وكما لو كانت يديّ مغلولتين بسلسلة في أعماق مياه عكرة، وكان عليّ أن أتحول بتفكيري من: جرائم الكراهية ضد الآسيويين إلى جرائم الكراهية إلى الكراهية بحد ذاتها. لأن الكراهية هي المعضلة الرئيسية؛ فكلما كانت هناك كراهية أكثر كلما ستعبر عن نفسها بشكلٍ ما، وستكون بعض هذه الأشكال غير قانونية - جرائم، بعبارة أخرى - وبعضها سيكون موجَّهًا ضد الآسيويين. لكن السبب الضمني لجرائم الكراهية ضد الآسيويين - في بيركلي أو في أي مكان آخر - لا علاقة له بالآسيويين أو حتى بالتمييز العنصري، ذلك أن الكراهية في ارتفاع. قد تكون اليوم موجهة نحو الآسيويين، وغدًا نحو اليهود والسود والمشرّدين ومِثليي الجنس والسحاقيات، وبالأمس كانوا الشيوعيين، لكن نظرًا لأن هؤلاء جميعًا مجرد أهداف لكراهية بعض الناس، فإن محاولة التعامل مع كل مجموعة من الضحايا على حدة يشبه محاولة معالجة تسرّب واحد كل مرة في نظام صدئٍ لضخّ للمياه. هل قطع المياه سيكون أكثر فاعلية أم أنه يجب تعديل تلك الصورة؟ لأن الكراهية هي المدّ الذي يرفع كل المراكب: لن نحصل على الكثير إن حاولنا إنقاذ المراكب، أو حتى مجموع المراكب دفعة واحدة، بل نحتاج إلى طريقة لخفض مستوى المدّ.

كتب جون بيرتون، السكرتير السابق في شعبة الشؤون الخارجية الأسترالية والباحث المشهور في النزاعات الآن:

بقدر ما تتنطّع السلطات لمعالجة مشاكل معينة كمشاكل منفصلة، بقدر ما لا تكون هناك ديمومة لعلاج أيّ منها.

لسنا ذاهبين فحسب إلى اشتباكات بين مجموعات، بل إلى صدام هائل بين الأنظمة التي بنيناها وبين الحاجات الإنسانية التي تفترض مخاطبتها.[7]

أولاً، وقبل كل شيء، إن مشكلة محاولة إيقاف التسرب في كل مرة لا جدوى منها على الإطلاق في حلّ المشكلات الأخرى. هل تقدّم ندوة نهضةً في الوعي؟ أو، إن كنت تريد حقًا أن تكون واسع الخيال، فربما توفر المزيد من إجراءات "الأمن" للآسيويين؟ ربما تلاحظ بعض الانخفاض في جرائم الكراهية ضد الآسيويين (وسأجادل لاحقًا بأن حتى هذا ليس مضمونًا)، لكن ماذا عن جرائم الكراهية ضد السود والسحاقيات والقوقازيين؟ وماذا عن عراك الشوارع؟ وماذا عن الحرب؟

ومن جهة أخرى، إذا أمكنك، بطريقة ما، أن تقوم بفعل من شأنه ضبط الكراهية، فإن كل مظاهر الكراهية سوف تنحسر بالدرجة ذاتها. وقد يكون التأثير على جرائم الكراهية المحددة أقل وضوحًا في بادئ الأمر لأنها ستكون غير مباشرة، لكن على المدى الطويل سيُعوَّل عليها أكثر بكثير. فأنت، ببساطة، لا تستطيع القيام بجرائم كراهية ضد الآسيويين ما لم تكن تختزن الكراهية. وعمومًا، من الواضح تمامًا أن السبب الوحيد لتكرارها هو أننا حالما نواجَه بعنف ذي طبيعة خاصة - الشاهد على ذلك هو ردّ فعلي الأول على الكشك - فإن ما يجذب كل انتباهنا هو التفاصيل. وحالات الطوارئ محفِّزات كبيرة، لكنها تخلق جوًا فظيعًا لحلّ حقيقي للمشكلات. فمن أجل حلّ المشكلات نحتاج إلى امتلاك القليل من ضبط النفس، والقليل من البُعد، والكثير من الصبر. نحتاج إلى أن نرى، على سبيل المثال، أن المشكلة ليست الكراهية الموجَّهة ضد المجموعة (أ) أو (ب)، وإنما هي الكراهية بحدّ ذاتها.

بينما كنتُ عائدًا إلى مكتبي صدف أن وجدت شخصية مشهورة من بيركلي يخطب في جمهرة من المتفرجين بصوت ميّزتُه تمامًا؛ فهو من النوع الذي يجعلك تجفل حتى قبل أن تستمع إلى ما يقول. لست متأكدًا من مشكلته أو لماذا اختار الحضور إلى الحرم الجامعي، لكنه كان بالغ الغضب ويهاجم الناس لساعات بصوت أجش وبمرارة. كان يُدعى شعبيًا رجل الكراهية. وقد تملكني شعور غريب بأنني ربما الشخص الوحيد الذي يلاحظ هذا الترابط.

العلم والاكتشاف مصادفةً Serendipity [8]

قد يبدو الأمر بسيطًا، لكن بمجرد ما نشق طريقنا إلى أسفل السلسلة، من جرائم الكراهية ضد الآسيويين إلى جرائم الكراهية إلى الكراهية - وليس من السهل القيام بهذا حين نكون واقعين في شرك موقف مفعم بالكره - فإننا نكون قد تجاوزنا سؤال لماذا هذا النوع من الجرائم؟ بل نكون قد بدأنا الطريق لحلّه. وحالما نركّز التفكير على السبب العاطفي، نبدأ في تلمس إجراء براغماتي يمكّننا من تطبيقه من خلال ما يستلزم من تغييرات ضرورية ذات علاقة بكل أشكال العنف؛ فنظرًا لأن الكراهية هي السبب المُبطَّن للعنف ليس بمقدورنا معالجة المعضلة إن لم تكن لدينا طريقة لتحويل الكراهية إلى منحى ما آخر. وثمة دليل على أن هذه الحيلة قد لا تكون مستحيلة بقدر ما تبدو عليه.

في تجربة لافتة نُشرت بدايةً منذ فترة قريبة في Journal of Abnormal Social Psychology، وأُجريت على تلاميذ مدارس من نفس العمر، حيث قُسِّموا إلى مجموعتين، وتم حثّ المجموعة الأولى على أن تكون عدوانية، والأخرى على أن تكون متعاونة. في غضون بضعة أسابيع صاروا يتصرفون بشكل مختلف تمامًا. ومن ثم جُمعِت المجموعتان وأُخضِع أعضاؤهما إلى إجراء مُحبِط حاد: جلسوا في غرفة كبيرة ولطيفة تحتوي على جهاز إسقاط ضوئي تحيط به عدة علب من الأفلام. ومن أجل تحسين الإجراء، وُزِّعت على الأطفال قطع حلوى طُلِب إليهم عدم تناولها مباشرة. وأُطفئت الأنوار في الغرفة وبدأ عرض الفلم الأول. ودون سابق إنذار من قبل القائمين على التجربة، أُضيئت الأنوار فجأة، وأُطفئ العارض الضوئي، وصودِرت قطع الحلوى، وأُعيد الأطفال إلى قاعاتهم الدراسية. العلم شاق! لكن القضية كانت ذات أهمية - كي نرى إن كان سيُعاق التدريب التعاوني في ظل مثل سوء معاملة غير مستحقَّة كهذه. وقد صُوِّرت نتائج الاختبار حسب الأصول عبر الزجاج الأحادي الرؤية لقاعات الدروس، فكانت بالغة الدلالة. فقد كان سلوك الأطفال الذين تلقّوا تدريبًا عدوانيًا مسبقًا جهنميًا؛ فتفجّر إحباطهم عمومًا في مشاجرات ومجادلات وأذى متعمد أكثر من ذي قبل، وهذا لم يكن مدعاة للاستغراب. لكن المفاجأة الحقيقية كانت أنّ الأطفال الذين شُجِعوا بشكل منظّم على التعاون مع بعضهم البعض كانوا أكثر تعاونًا من ذي قبل. فعلى نحو جلي، لم يحمهم تدريبهم التعاوني من الإحباط فحسب، بل سمح لهم بالتعالي عليه. لقد كانوا قادرين على تحويل السلبية المنفلتة في داخلهم إلى قنوات بنّاءة. فالتوتر النفسي على ما يبدو ليس صالحًا ولا طالحًا بحدّ ذاته، إذ يمكن التفكير فيه كطاقة خام بوسعها أن تصبح مدمرة أو نافعة حين نجعلها تتدفق عبر قنوات عدوانية أو متعاونة. السلام يمكن أن يكون مسألة تدريب بسيطة.

وكما تكون قد خمّنتَ من علب الأفلام والعارض الضوئي، فإن هذه الدراسة، التي قام بها جويل دافيتز، نُشرِت منذ أكثر من خمسين عامًا، وفي ذروة الحرب الباردة[9]. في حينه، كان الكثير من المعلقين السياسيين يقولون إننا لو قمنا بذلك في تلك السنة، 1952، لأمكننا تجنب الكثير من الأمور. وربما يُعتَقد آنذاك أنّ التساؤل حول ما إذا كان بوسع (أو ليس بوسع) الكائنات البشرية التدرّب لكي تتخلص من دوافعها العدوانية، سيحتل مكان الصدارة. بيد أن دراسة دافيتز أُهمِلت عمومًا. وكان هذا في أوج سيادة نظرية "العدوان الفطري"؛ ففي ذلك الوقت كان يعتقد أن العدوانية الإنسانية مُبَرمَجة بيولوجيًا وأنه ليس هناك ما يمكن فعله حيالها. وهي فكرة لم تعد ذات موثوقية كبيرة الآن (لكن الإعلام الجماهيري والجمهور بشكل عام ما زال يعتقد بها على نحو غير نقدي) لكنها كانت على وشك أن تخترق الجمهور من خلال سلسلة من المنشورات العلمية الزائفة التي كتبها روبرت آردري ("الأولوية الإقليمية" ستبرز في العام 1966) وريموند دارت وآخرين. لقد أصبحت ذروة هذا "العلم" الحسّي خلفنا الآن، وأصبحنا أحرارًا في أن نتصوّر أن هناك في الحقيقة ربما طرقًا لتحويل الكراهية والطاقات السلبية الأخرى إلى مجارٍ أخرى، ذلك أن الطبيعة البشرية، كما يوحي الاختبار، تتضمن العلاج كما تتضمن أسباب النزعة العنيفة التي تغمرنا.

لم يتوقف مسار العلم منذ عام 1952، ونحن على معرفة أكبر فيما يتعلق بالتعاون. وأصبح التدريب على الوساطة صناعة نامية على سبيل المثال، لكن مضامين دراسة دافيتز لا تزال بعيدة عن الإدراك بالكامل. فالدراسة بذاتها معروفة في أوساط علماء النفس ذوي التوجهات السلمية، لكن مضامينها لم تُستكشَف على نحو منظّم رغم أهميتها الكامنة. فالنزعة التشاؤمية بشأن الطبيعة البشرية ما زالت هي المعيار في أوساط الرأي العام، وأخشى أن تكون ما زالت كذلك في العلم السائد (رغم ملامح التغيير). فالناس يدرسون ويتحدثون ويستكشفون الجانب الظليل لطبيعتنا، وعلينا التعمق في النظر لكي نجد الجانب الآخر الذي نحتاجه حقًا.

بحثًا عن الوقاية

إن كنت ترغب حقًا في العدالة من أجل جماعتك الخاصة، أو أية جماعة تتماثل معها، عليك أن تخطو إلى الوراء في رؤيتك وعواطفك، ليس بغرض التقليل من الاهتمام بل لإعطاء نفسك حيّزًا عاطفيًا موجَّهًا بشكل أفضل. هذا ما علينا جميعًا فعله إذا شئنا أن نبصر حياة آمنة من خطر العنف، حتى لو كنا أقليات تعيش في مجتمع مريح. فسواء كنا نشطاء أثار غضبهم شكل من أشكال اللاعدالة، أم كنا نرغب فحسب في الدخول إلى مخزن دون أن نتعرّض للسلب، علينا تغيير طريقتنا في التفكير. علينا إبطاء ردود أفعالنا الأولية - ليس عبر فقداننا لكثافة المشاعر المتعلقة بالمشكلة بل، على العكس، لكي نحوّل تلك المشاعر الثمينة من الخوف أو الرعب أو الاستياء إلى العزم -. وبمقدار ما يكون بوسعنا رؤية الأسباب الخفية، بمقدار ما يكون بوسعنا أن نحدد الحل الوحيد الدائم والحقيقي.

بيد أنه ثمة نقطة ذات أهمية، وقد بدأتُ بالإشارة إليها للتو: لماذا ننتظر أن نتعرّض إلى السلب، أو إلى أن يبدأ أناس ذوو مواقف شنيعة في إهانتنا؟ من الواضح أنّ أطنانًا من الأفعال الأكثر فاعلية يجب عملها وتتعلق بجذور المشكلة بدلاً من الانصراف عنها، أفعال يتوجب القيام بها بثبات بدلاً من أن نؤخذ على حين غرة في كل مرة تكون فيها هناك حادثة عنفية. بوسعنا فعل هذا في اللحظة التي نحوِّل فيها ردة فعل من الطريقة التي تدعونا إليها وسائل الإعلام إلى ردّ فعل وفعل يدافع عن فكر يقول بأن ما يجري خطأ، وهذا يحصل في اللحظة التي نخطو فيها إلى الوراء بعيدًا عن الأذى والغضب المتعلق بما يحدث لنا شخصيًا، ونبدأ بالتفكير حول اللاإنسانية بحد ذاتها.

في صيف عام 1998، قُتِلت مديرة مدرسة ومعلِّمة متفانية، الأخت ثيوديليند شرِك، بالرصاص في جنوب أفريقيا في ما بدا وكأنه حادثة سرقة بينما كانت تقود سيارتها لكي تُقِلّ ابنة أختها. ورغم أنّ لمقاطعة كوازولوناتال تاريخ طويل من العنف السياسي، إلا أن حادثة القتل هذه كانت صادمة. فقد قال رئيس وزراء المقاطعة بِن نغوبين: "كانت الأخت ثيوديليند متفانية في أداء واجباتها التعليمية والدينية". ثم أضاف ملاحظة ارتفعت فوق الجلبة حول لماذا هي، وحول كون هذه الجريمة غير مقبولة، وقدّم نفاذ بصيرة مفيد لنا جميعًا: "يبقى العنف عنفًا بصرف النظر عن الدافع".[10]

وهذا يبيّن بالضبط كيف علينا أن نفكّر بالعنف لكي نعالجه. وهذا التفكير يقودنا إلى بصيرة فعالة؛ فأي عمل نقوم به لتخفيض العنف في أي مكان سيكون له أثر ذو علاقة بالعنف في كل مكان.

لقد أيّد البحث العلمي نفاذ بصيرة نغوبين. فإحدى الأوراق التي قُدّمت أمام الجمعية البريطانية لعلم النفس أظهرت أن حالات القلق والاكتئاب التي نقع فيها والناتجة عن ترقُّب هذه الأخبار - أو أشكال مختلفة من "التسلية" التي ترسم نفس الصورة القابضة للصدر للطبيعة البشرية - تؤثر في الطريقة التي نرى فيها كل الأشياء. من الواضح أن السلبية التي تواكبنا - من أي مصدر أخبار أو خيال - "تنزع إلى تعزيز إطار عقلي سلبي من المحتمل أن تكمن في أحداث وأفكار وذكريات سلبية تُنزع عنها الإيجابية وتُهملها"[11] (التأكيد من عندي).

ومن الواضح أن ذلك يمكن أن يؤدي إلى حلقة مفرغة - ومن الواضح، في الحقيقة، أنه قد فعل. ثمة الكثير من سقط المتاع السيئ في العالم، وبرؤيته عن قرب، بعيدًا عن نسبيتها، نصل إلى توقع أن تكون الأمور هكذا. وعندما تكون توقعاتنا سلبية، فإن الحياة تنجزها بيُسر. فالتوقعات السلبية تحجب إمكاناتنا الإيجابية التي نحتاجها لحلّ مشكلات من مثل العنف.

من المنطقي، إذن، أنه لكي نشهد صورًا إيجابية يجب أن يكون لدينا فعل معاكس، بمعنى أن نجعل الأمور تبدو أفضل بمقدار ما نرى بأن العنف يجعلها أسوأ. لكننا لا نفكر البتة في استكشاف الجانب المضيء للمبدأ. حيث يمكن أن يكون على نفس المسار مثلاً خبر حديث عن "التعلم العاطفي" (هو تعبير راهن لنوع من التدريب التعاوني كان دافيتز يتحدث عنه منذ خمسين عامًا)، بعنوان "درس اليوم: كبح العواطف العنيفة لدى الأطفال".[12] لكن، على سبيل المناقشة فحسب، ماذا لو وضعنا عنوانًا لمقالة "درس اليوم: إطلاق العنان لعواطف الأطفال الحنونة"؟ هذا أمر غير وارد لكنه في الواقع أكثر صحّة. وكما رأينا في اختبار دافيتز، فإن دافع الشباب الطبيعي للتعاون يَشغَل بعضًا من الطاقة التي يمكن بطريقة أخرى أن تغذّي عدوانيتهم.

عرضتُ مؤخرًا لطلابي فيلمًا وثائقيًا حول الآثار الكارثية للنزعة الاستعمارية. وقد أظهر الفيلم بجودة بالغة المفارقة بين ما حدث في الهند وبين ما حدث في مناطق استعمارية أخرى، وفي المقام الأول في أفريقيا. وأوضح الفيلم كيف أن الهند تبقى، رغم العديد من مشاكلها، البلد الديمقراطي الأكثر كثافة بالسكان على وجه الأرض، والذي يتمتع بعلاقات متكافئة مع القوة الاستعمارية السابقة، على عكس البلدان التي تجعلنا نجفل اليوم، كالصومال ورواندا وليبيريا والكونغو وغانا والجزائر. وللغرابة، لم يُذكر السبب، حيث لم يتجرّأ صانعو الفيلم على أن يقولوا أنّ اللاعنف أدّى إلى نتيجة في حين أدّى العنف إلى نتيجة أخرى. في ختام هذا الكتاب سوف ترى لماذا تجرأتُ أنا على قول ذلك تحديدًا.

بوصفه صحفيًا، كتب دانييل شور مؤخرًا:

التلفزيون يمجد العنف، ويشجّع على العنف... فبتبسيطه للقضايا الكبرى يدفنها، وبتمويه الخط بين الخيال والواقع يدفع بالواقع خارجًا.[13]

لكن إذا كان التلفزيون ووسائل الإعلام الأخرى تمجّد العنف والسلبية وتشجّع عليهما وتبسّطهما، فإننا لسنا ملزمين بالسير خلفها. فعندما يغرقوننا بالتفاصيل: ما عيار المسدس، أين مكان الجرح، وما هو الدافع، إن كان هناك أي دافع - يمكننا القول لأنفسنا: "هذا عنف. لننسَ كل شيء آخر ولنكتشف ما هو الخطأ الحاصل!"

حين يغدو بوسعنا تجاوز التفاصيل إلى العمق فسنرى فعليًا بارقات أمل. وفيما يلي بعض الأمثلة:

القوة هي القوة

في مشاركة لها في تغطية الألفية المسيحية الثانية، نشرت مجلة تايم لمحات عن مائة شخصية رئيسية تركت، برأي المحررين، بصماتها على ذلك القرن. لم يكن الأمر مُلهمًا؛ فما فعلوه بغاندي كان سيئًا بصورة فظيعة، لكنهم نجحوا في رواية قصة مثيرة عن نيلسون مانديلا[14]. فبينما كان مانديلا الشاب يخطو على رصيف الميناء مع حمولة مركب من السجناء الآخرين في جزيرة "روبن" السيئة الصيت، حيث قضى عدة سنوات من حياته، كان الحراس يصرخون "هُك! هُك!" في محاولة لسوق القادمين الجدد مثل قطيع ماشية، لإجبارهم على الهرولة إلى السجن وإخضاعهم إلى إذلالات أخرى، لكن مانيلا وأحد أصدقائه رفضا وبقيا يسيران بهدوء رغم تهديدات الحراس: "هل تريد أن أقتلك؟" ومن الداخل تقدم رئيس الحراس النقيب جيريك مناديًا مانديلا: "يا فتى"؛ فأجاب مانديلا جيريك الجافل بهدوء: "انظر، يجب أن أحذرك. سآخذك إلى أعلى سلطة وستكون جديرًا بالازدراء كزُغْبة حين أنتهي منك"[15] وبشكل لا يُصدّق، تراجع جيريك، كما ذكرت الـتايم.

لكن هل هذا أمر لا يصدق تمامًا؟ ألا يستسلم المُتنمِّرون عادة عندما يُواجَهون بمقاومة غير متوقعة؟ لقد شاهدنا جميعًا مثل هذه الأمثلة، وفي الفصول التالية سوف لن نرى بعض الأمثلة الأخرى فحسب، بل سنبدأ في استنباط تفسيرها العلمي.

لنتتبّع ما فات كتّاب تايم من دور رئيسي. بعد ربع قرن أصبح مانديلا أول رئيس لدولة جنوب أفريقيا الحرة. وكما يتذكّر معظمنا، توقّف أثناء خطاب تنصيبه، والتفت إلى خصمه اللدود ف. دبليو دي كلارك، وتناول يده قائلاً:

أنا فخور بأن أصافحك، من أجل أن نمضي معًا إلى الأمام... دعنا نعمل معًا لإنهاء التفرقة.[16]

ما الصلة بين هذين الحدثين؟ لن نتمكن مطلقًا من رؤية هذه الصلة إن فكرنا أن هناك في كل صراع "رابح" و"خاسر". هل ربح دي كلارك أم خسر حين قام مانديلا بإيماءته التصالحية. هذا تساؤل سخيف. وماذا عن مانديلا؟ ربما لا يكون قد أحبّ دي كلارك كشخص، لكنه استعمل قوة شخصيته للتغلب على كرهه الشخصي، ويمكننا بوضوح تتبّع الرابط بين قوته كسجين في جزيرة "روبن" وقوته كرئيس في جوهانسبورغ. فالقدرة على مواجهة شخص مُتنمِّر، والقدرة على مسامحته - وقوة الشخصية في الترفّع عن الغضب، حتى وإن كان هذا الغضب مُبرَّرًا بالكامل - أمران مترابطان على نحو وثيق. فهاتان الميزتان ليس بإمكانهما التعايش فحسب، بل تفسِّران بعضهما البعض أيضًا: لأن القوة هي القوة.

ونحن نفتقد إلى كلاّنية هذا الترابط إذا ما فكرنا بـ"القوة" على أنها تعني القدرة على السيطرة والهيمنة فحسب. وكمقابل لمثال مانديلا العظيم، غالبًا ما كان غاندي يقرّ بأخطائه على الملأ، ويبدو أنه كان يستمتع بذلك، مما كان يثير ذعر زملائه. فذات مرة انتاب أخته القلق على ما بدا لها وكأنه اعتراف ضارّ على وجه الخصوص؛ فقال:

أخبر الأخت أنّ اعتراف المرء بخطئه ليست هزيمة، لأن الاعتراف بالخطأ نصر بحدّ ذاته.[17]

ويمكننا الآن المضي خطوة إلى الأمام. فحقيقة أن القوة الفعلية تعني أكثر بكثير من اكتساب سلطة على الآخر يمكن أن تفسِّر التحوّلات الغريبة للأشخاص الغاضبين العنيفين التي تبرز على نحو غير متوقع في حوليّات السلام. فحين أصبح داعية الفصل العنصري جورج والاس حاكمَ "ألاباما" حافظ على وعد حملته الانتخابية، وحرفيًا "وقف على باب مبنى المدرسة" لمنع الطلاب السود من دخول جامعة ألاباما في حزيران عام 1963، جاعلاً من نفسه رمزًا قوميًا للمواجهة في قضية الفصل العنصري. لكن بمرور الزمن، حدث على ما يبدو شيء ما استدعى انقشاع ضباب الكراهية عن ذهنه. ففي 11 آذار عام 1995، حضر احتفال سيلما - مونتغومري Selma-to-Montgomry [18] للحقوق المدنية لكي يعتذر للمحتفلين، سودًا وبيضًا، الذين كانت قوات ولايته قد ضربتهم بالهراوات وفتحت خراطيم المياه عليهم قبل ثلاثين سنة مضت. كانت تلك شجاعة، فقد سلك طريقًا تحدّى فيها ماضي البلاد بالكامل حين أبصر الأمور بطريقة مختلفة؛ فمن رمز للفصل العنصري إلى رمز للمصالحة على غلاف مجلة لايف. فلا عجب أنّ غاندي كان يردّد غالبًا أن هناك أمل لأن يصبح شخص عنيف لاعنفيًا، أما الشخص الجبان فلا. ففي المنطق اللاعنفي يكون الأمر مفهومًا بالكامل؛ فما نراه هو نفسه الشجاعة والقوة، لكن في وضعية استخدام أفضل.

يمكننا أيضًا ربط هذين الحدثين في حياة مانديلا، أي المواجهة وسماحة النفس، بقيادته المؤثِّرة، وقدرته على إدارة دفّة دولة جديدة موسومة كانت قد انبثقت للتو من قلب شروط مريعة ترافقها توترات مرعبة مازالت عالقة. هل الشخص الذي يسامح أعداءه علنًا قائد جيد؟ طبعًا. فهو سيكون ميالاً إلى امتلاك وسائل خلاقة لتحقيق النظام، الذي ستُتاح لنا فرصة استكشافه لاحقًا (خصوصًا في الفصلين الخامس والسادس). أما الآن، فلنتفكر في أحد الأحداث اللاعنفية الذي أُسيئ فهمه - وهذه المرة ليس من قبل الصحافة فحسب.

في آب 1991، أحبطت انتفاضة شعبية انقلابًا كان له أن يُرجِع روسيا إلى الحقبة الستالينية. وقد وصفت مجلة ليبرالية ذات شأن الحدث كالتالي: "فشل الانقلاب. انهار النظام. ولمرّة واحدة كان العالم محظوظًا".[19] لكن المقاومة الشعبية الناجحة لانقلاب آب لم تكن "محظوظة"، بل كانت نتيجة أفعال مدروسة نفذها مقاومون لاعنفيون شجعان من المجتمع المدني كانوا يدرسون بشكل منظّم ولشهور تكتيكات لاعنفية، جزئيًا من خلال ورشات عمل أدارها مدربون أمريكيون مجرّبون (أحد أصدقائي أدار ما معدّله ورشتي عمل يوميًا في كافة أنحاء روسيا في ذلك الصيف). كل هذا كان مجهولاً كليًا للصحافة. وقد كتب المُستنكِف ضميريًا ألكسندر برونوزين بعد فترة قصيرة على الانقلاب: "لم يكن انقلاب آب حدثًا مفاجئًا. المفاجأة الحقيقية كانت سرعة إسقاطه و"السلاح" الذي انتصر اليوم كان الدفاع اللاعنفي المدعوم اجتماعيًا".[20]

سأتحدث أكثر لاحقًا عن هذا الشكل الرائع من الدفاع (الفصلين الرابع والثامن)، وما يمكن أن يعنيه بالنسبة لغالبيتنا التي ليس من المحتمل أن تشارك في مقاومة "سلطة الشعب". وما أودّ التأكيد عليه الآن هو أن نجاح المقاومة السريعة للانقلاب، الذي بدا متعذّر التفسير و"محظوظًا" جدًا بالنسبة لوسائل الإعلام والجمهور العام - ولدي قليل من الشك، فيما يتعلق بالقيادة السياسية - لم يكن محظوظًا ولا متعذر التفسير، وإنما كان نتيجة عمل دؤوب وتضحية حيث اتبعت قواعد اللعبة وكان التنبؤ مثاليًا. فحين تدرك أن كل شخص سيستجيب للمحبة أو للكراهية حين يُعرَضان عليه، تكون في طريقك لفهم هذا "اللغز".

لم يكن زميلي وصديقي سيرجي بليخانوف، الذي كان آنذاك نائبًا لمدير المعهد السوفييتي للدراسات الأمريكية والكندية، في موسكو في ذلك اليوم الحاسم الذي أُحبِط فيه الانقلاب. وبعد سنة سمعته يصف ما كابده عندما شاهد الصور التلفزيونية المتلاحقة للكرملين، المطوَّق بالجدران الكالحة والمصفّحات، ومبنى البرلمان الروسي برخامه الأبيض وزجاجه، الذي لا يحرسه سوى أناس عُزَّل: إنها صورة أسطورية تقريبًا لسلطة مدنية تتعرّض لهجوم عنفي. مازلت أذكر العاطفة الهادئة في صوته التي استحوذت على الباحثين الدوليين المتجمعين حوله. قال:

وماذا لديك ضدهم؟ ما الذي يمكن أن تستخدمه ضد تلك الدبابات وناقلات الجنود المصفّحة؟ - لا شيء. لا شيء سوى الروح والإحساس بالشرعية واستعداد البعض للمخاطرة بحياتهم.

آمل أن لا تكون السخرية المرهفة قد فاتت زملائي؛ لأن الـ"لا شيء" هذه هي الوصفة الكلاسيكية للاعنف الناجح: الروح، والإحساس بالشرعية (أي أن قضية المرء عادلة)، والاستعداد للتضحية - إذا تطلّب الأمر أن يضحي المرء بحياته. تلك هي بالضبط الأمور الثلاثة التي تجعل مقاومة نظام جائر ناجحة. وافتقادك لهذا يعني أن لا تكون قادرًا على توضيح ما هي القوى التي كانت فاعلة في مواجهة انقلاب آب 1991، وأسباب انتصار الشعب.

السر المكشوف

في ذاك الجانب من الستار الحديدي كانت هناك بلاد تُدعى يوغسلافيا، حيث يعيش أناس من ثقافات وانتماءات عرقية مختلفة جنبًا إلى جنب. ورغم التوترات فيما بينهم كانوا يعملون معًا، ويذهبون إلى المدارس معًا، ويتشاجرون، ويتزاوجون. وقد دام هذا الوضع لقرون. ثم ذات يوم، عندما سقط غطاء سيطرة الدولة الاشتراكية المركزية، تشظّت المجموعات الثقافية الرئيسية الثلاث (هي ليست مجموعات عرقية). وكانت النتيجة أكثر ما مرّت به أوروبا من عنف مروّع، ومحتمل في أي مكان آخر، منذ الحرب العالمية الثانية. وقد تساءل الكثيرون: "لماذا؟ كيف يمكنهم حشر الناس في سيارات الماشية من جديد؟". وكالمعتاد، كان هناك أولئك الذين قالوا "لا جواب". واستشهد آخرون بـ"التاريخ"، كما لو أنّ ذكريات المعركة الشهيرة في العام 1389 كان لزامًا أن يُثأر لها، رغم أن الناس الذين قاتلوا في حينه قد ماتوا منذ خمسمائة سنة...

لكن في كل هذا، أطلّ أحد العوامل الشائعة المبتذلة: السلطة السامة للدعاية. فلدى السكان السلاف الشماليون في الدول الأخرى من أوروبا الشرقية الشيوعية سابقًا (في هنغاريا ورومانيا) نما شكّ عارم حيال ما كانوا يشاهدونه على شاشات التلفزيون الرسمية أو ما كانوا يقرأونه في الصحف التي تشرف عليها الحكومة. ولسبب ما خمد هذا النوع من الشك في يوغسلافيا، إن كان قد وُجِد في الأصل. فالناس هنا كانوا يصدقون دائمًا، ومازالوا يصدقون، ما يشاهدونه أو يسمعونه في التلفزيون[21]. واستمر الخوف في تقسيمهم؛ الخوف الذي عمّ وسائل الإعلام بواسطة السياسيين الباحثين عن البقاء في السلطة.

بشكل ما، هذا ليس بالأمر الجديد، إذ نعلم جميعًا أنّ "الصحافة الصفراء" هي التي أقحمت الولايات المتحدة في نزاع مع أسبانيا عام 1898. آنذاك كانت الصحافة ورقية بشكل رئيسي، أما الآن فهناك التلفزيون (وفي حالة رواندا، الراديو). لكن الفرق بين آنذاك والآن ليس فرقًا تكنولوجيًا فحسب: إنه فرق "جذور" نصف قرن من الانعزال والعنف، ومن السمّ العقلي المتراكم الذي يجعلنا جميعًا أكثر انفعالاً واكتئابًا وعرضة للردّ بعنف مهما كانت حدود الخطأ بين الأعراق أو بين المجموعات الفرعية الثقافية في مجتمع كان قابلاً للحياة سابقًا، أو بين سيارتين على طريق سريع مزدحم. وتشير دراسة لندن التي استشهدتُّ بها قبلاً إلى هذا التأثير، وكذلك الكلمات الحكيمة لدانييل شور، وكلمات تلميذ المدرسة ذي الاثنتي عشرة سنة في سانتا روزا، كاليفورنيا: لو لم يكن هناك عنف على شاشة التلفزيون لكان هناك عدد أقل من الناس الذين يلجأون إلى العنف في الشارع. وأعتقدُ أيضًا أن أناسًا أقل كانوا سيتعرّضون للقتل والخطف وأمور أخرى[22].

بالتأكيد سيكون الوضع هكذا؛ فهو ببساطة "عنف في الداخل يقابله عنف في الخارج"، وهي نتيجة جليّة للعلم وللفطرة السليمة ولتجاربنا الشخصية الخاصة التي، مع ذلك، ترغب بعض الدوائر في اعتبارها مثار جدل، لكنها ليست كذلك. فإذا أبرزنا العنف سيكون لدينا المزيد من العنف، وإذا أكّدنا على المال والجشع سيكون هناك المزيد من جرائم السرقة، وبعبارات طفل حكيم آخر عمره اثنتا عشرة سنة:

يتلقّى الناس الكثير من الأفكار عن الجنس ]على شاشات التلفزيون[ ويعتقدون أن ذلك أمرٌ جيد، وبالنتيجة يغتصبون الناس.

وقد أشار عدد من الكتاب مؤخرًا إلى أنّ ألعاب الفيديو ذاتها التي تُستخدَم في الجيش، والتي تُستخدم لإعداد الجنود من أجل القتال، يلعب بها شبابنا، على سبيل المثال: الشباب الذين خلّفوا لنا إحدى أكثر الذكريات إيلامًا في أمريكا، هي مذبحة ثانوية كولومبيا حيث قام شابان بإطلاق نارٍ هائج فقتلوا 12 من زملائهم ومدرّس بالإضافة إلى جرح 24 آخرين قبل انتحارهما[23].

يبدو من الغباء المطبق أن نفعل هذا بأنفسنا حيث بوسع المرء أن يفهم المرارة الكامنة وراء كلمات الكاتب الأمريكي ويندل بيري:

الفرضية دائمًا هي أن نُطلِق الشياطين أولاً بشكل عام، ومن ثم، بطريقة ما، نصبح أذكياء بما يكفي للسيطرة عليها. هذه ليست طفولية، ولا حتى "ضعفًا إنسانيًا"، بل هي نوع من الحماقة البالغة. وربما لن نستطيع التغلب عليها وإنقاذ أنفسنا حتى نستعيد حسّنا السليم وندعوها شرًّا.[24]

إن كان هذا مُجديًا، فلتدعوها شرًا، لكن كن حذرًا: هناك عالم شاسع من الاختلاف بين اعتبار شيء ما شرًا واعتبار شخص ما شريرًا. الاستراتيجية الأولى تحشد المصادر ضد المشكلة، أما الثانية فتعيد فقط تدوير العلّة الأولية للعنف، التي هي إرادة مريضة، واستياء، وضعف في التقمّص العاطفي، وكراهية في نهاية المطاف.

عندما "حاك" أعضاء مجموعة الاتصال الأوروبية مجتمعين "سلامًا" من أجل بقايا يوغسلافيا في العام 1998، لم يتخذوا أية ترتيبات تخصّ إعادة النظر في التعليم، وبشكل لا يُصدَّق، لم يُولِ أحد الانتباه إلى المحطات التلفزيونية الحكومية التي استمرت في بثّ الكراهية التي شرعت الأبواب للعنف. فكما أخبرني بكآبة أحد زملائي في موقع الأحداث:

تتواصل تغذية معظم الناس بجرعات ثابتة من النزعة القومية والدعاية والكراهية وأنصاف الحقائق والأحكام المسبقة.

بعد ذلك على الفور اندلعت الحرب في كوسوفو.

عندما نرى شخصًا ما يثير الكراهية بتعمّد بهذه الطريقة، لا بد أن نشعر أنّ الأذى من ذلك عميق جدًا إلى حدّ أننا لا يهدأ لنا بال إذا لم نفعل شيئًا ما بشأنه، لكن دعوته بالـ"شرير" أمر يتطلّب الحذر. فحيثما يكون هناك شر لا بد أن يكون هناك فاعل للشر: شخص ما مغاير وخطِر.

عمومًا، أفضّلُ الاعتقاد بأننا نطلق العنان لهذه الشياطين من خلال نوع من الخطأ المأساوي، نوع من رؤية متعامية (يسميها بيري "حماقة بالغة"). وما زال الأمر غير مكتمل تمامًا لكنها مقاربة أكثر عملية، كما سنرى في الفصل الثاني.

غاية الحياة

لقد عتّمت وسائل الإعلام تمامًا، ولأسباب خاصة بها، على الدينامية البسيطة للعنف مما اقتضى منا القول بأنه ليس هناك أي جواب. لكن هناك جواب، وقد قمنا بمعاينة جزء منه للتو. فقد خلقنا نحن، بشكل جماعي، مثل هذا المناخ من العنف والسلبية الذي يبدو أن الحياة لا يستحقها - حياتنا وحياة الآخرين. وفي الوقت ذاته يبقى العنف "مثيرًا" على الأقل، ويمنحنا شعورًا زائفًا بالمعنى. والانتحار يتفق مع هذه الصورة باعتباره عنفًا موجَّهًا ضد النفس، أو أنه يجعل بعض شبابنا منعزلين إلى درجة أن يصبحوا هم أنفسهم "آخرًا" بالنسبة لأنفسهم؟ بأية حال، هي ظاهرة الانتحار لدى المراهقين التي تجبرنا على التراجع إلى الخلف للنظر إلى كامل الصورة. لذلك دعوني أصوغها ببساطة قدر الإمكان.

للحياة غاية. وبوسع الحيوانات العيش دون اكتشاف هذا الأمر، لكن البشر لا يستطيعون ذلك. ففي مجرى التاريخ ترتحل حضارات في انحراف حاد، وتفتتن بما هو هامشي، فتفقد رؤيتها لما تعيش من أجله. وحين يحدث هذا - ويبدو أنه يحدث دوريًا - لا يعود بوسع الثقافة برمتها رؤية وجهتها. يحدث ذلك عندما تفقد الحياة غايتها (أو يبدو ذلك)، ويبدأ الأفراد، الواقعين في قبضة التآكل الذي ربما لا يكونون قادرين على التأقلم معه، في الانسحاب من الحياة نفسها. وبالتالي نرى مراهقين ينتحرون كما لو أنّ الأمر بدعة، ونرى أطباء يساعدون الناس على إنهاء حياتهم بدلاً من مساعدتهم على العيش، ونرى العودة لعقوبة الموت - أي كل الأعراض لما دعاه البابا "حضارة الموت الموجَّه". وهو في الحقيقة، ليس موتًا موجَّهًا بذاته، وإنما هو موت موجَّه بالإهمال. فعندما لا تقدَّم لنا الحياة أنها غاية بذاتها يتخذ الموت والعنف شكل إغراء رهيب. أجل، وكما صاغ ذلك كاتب كلاسيكي هندي قديم:

أولئك الذين ينجذبون إلى الجانب الظليل من الحياة يمضون إلى ظلمة عمياء.[25]

فأن تعبث مع الجانب المظلم للطبيعة البشرية يعني أن تنتهي إلى العنف دون أن تعي السبب.

لذا، فالعنف الذي نراه اليوم مرتبط على نحو وثيق بـ"أزمة المعنى" المقتبسة عن عبارة لشبكة المستقبل الإيجابي في عنوان هذا الفصل. لقد أُدرِجت كعرَض، وسوف أجادل أنّ أزمة المعنى تنتمي إلى مرحلة مركزية. فإذا كان البشر لا يعرفون إلى أين تقودهم رحلة الحياة، فلماذا ينبغي عليهم أن يكونوا متحمّسين للاستمرار بها؟ بمقدور المراهقين أن يكونوا مباشرين جدًا، وهنا ما قاله أحدهم عندما أيّد الرئيس كلينتون حملة تربوية حول مخاطر الدخان ونصح بالعدول عن التدخين:

برأيي، الكثير من الشباب الذين يدخّنون ويقولون إنهم لا يعرفون السبب يختارون الموت لا شعوريًا. وبالتالي فإن القول لهم مرارًا وتكرارًا أن التدخين سيقتلهم ليس هو الجواب ... إذا كان الرئيس جدّيًا... فليشرع في إيجاد طرق تساعدهم على تصوّر المستقبل.[26]

عندما ينهي شاب حياته، أو يٌقتل شخصٌ على طريق كاليفورنيا السريع؛ عندما تُعتَبر الرشاوى بديلاً للعدالة؛ عندما ينقلب رجل على عائلته، أو يجري بلد تفجيرات نووية، فذلك ليس بسبب المال أو الغيرة أو حركة السير. إنه، أساسًا، لأن الحياة فقدت معناها بالنسبة لهم - ليس بوسعهم "تصوّر" مستقبل له أيّ أمل أو غاية. يمكن للمال ولكل تلك العوامل الأخرى أن تعجِّل في حدوث العنف، لكن فقط في أوساط الناس الذين، شعوريًا أو بطريقة أخرى، فقدت الحياة معناها بالنسبة لهم، أو بدقة أكثر، الذين فقدوا رؤية قيمة الحياة التي لا تُقدَّر بثمن، والتي دعاها فيلسوف يوناني "المعنى الذي لا ينضب".[27]

منذ عهد قريب، كانت هناك نشرة إخبارية جامعية حول اختراق رائع حقًا في علم الوراثة الجزيئي. لقد كان زملائي قادرين على "تصوير" الموقع ذاته على الخلية حيث تتبدّل الجينات وميضًا وخفوتًا، وحيث يُطلَب من DNA الانطلاق لإنتاج RNA الرسول للبدء بصنع جزء من متعضٍّ. وبينما كنتُ أواصل القراءة، مندهشًا من مدى ما وصلنا إليه منذ مهمتي المحددة القصيرة في المدرسة الطبية (لا يهم أبدًا منذ متى كان ذلك!)، بدأت أحاسيسي الأدبية في قرع أجراس إنذار خافتة. فتوقفتُ وأخذتُ شيئًا بعين الاعتبار: في هذه المقالة القصيرة، حوالي ستمائة كلمة، ظهرت "آلة" ثلاث عشرة مرة. وهذا ما يُدعى في الدوائر الأدبية "النص الفرعي": فحتى حين يخبرنا الكاتب عن إنجاز إنساني عظيم، يكون يخبرنا أيضًا، في ذلك الدفق القوي من الإيحاء، أن ذلك جري وفق المعنى الحرفي لكلماتنا: "أنت آلة، أنت آلة، أنت آلة..."[28]. وهذا ما يدعى التجريد من الإنسانية، والمُعترَف به اليوم في الدراسات السلمية على أنه أصل شتّى أشكال العنف.

أشار هيوستن سميث مؤخرًا إلى أنه

بالنسبة إلى ثقافتنا إجمالاً، لن يحدث ما هو رئيسي إلى أن نكتشف من نحن؛ فحقيقة المسألة هي أننا اليوم لا نملك مفتاحًا لحلّ مشكلة من نحن، وليست هناك وجهة نظر متماسكة للطبيعة البشرية في الغرب اليوم.[29]

"من نحن" سؤال سيحوم في خلفية كل مناقشة في هذا الكتاب. هل نحن مخلوقات مادية منفصلة - في هذه الحالة، من الصعب أن نرى كيف يمكن ألاّ نكون مُدانين في أمور كالمنافسة والنزاع - أم أننا مترابطون على نحو لا مرئي عبر ما دعاه المهاتما غاندي "وحدة القلب" التي تكمن خلف كل ما هو حقيقي، وتتجاوز اختلافات الجسد والثقافة والمُحبّبات والمكروهات والإيديولوجيات والأديان والأزياء؟ في الحالة الأخيرة، ربما يكون للحياة معنى خفيّ عميق رغم كل شيء. وفي هذه الحالة، ما زال أمامنا الكثير لنتعلمه.

لا ينشأ الجانب المظلم للعلم الحديث - ولسوء الحظ هناك جانب مظلم في العلم الحديث - من العلم بحدّ ذاته، وبدرجة أقل من أيٍّ من حقائق الطبيعة. إنه ينشأ من الطريقة التي نختار فيها، على نحو غير واعٍ، المعطيات العلمية لدعم الانطباع بأننا مجرد آلات بيولوجية في كونٍ ماديّ لا مغزى له، والذي يعزّز الإحساس المُقلِق لدى الكثيرين بأن الحياة مُجرَّدة من الغاية. فللعلم كل الحقّ في قَصْر انتباهه على الطبيعيات، أي على العالم الخارجي، وليس له حقّ القول، عندما يقوم بذلك، إنه قد قدّم لنا كامل القصة.

عندما يتحدث العلماء، أو بعضهم، عن "الأساس البيولوجي للعنف"، فإنهم ينحرفون عن عمق التفكير. فالعلم، كما يزاولونه على الأقل، يمكنه دراسة متناولات الفضاء الخارجي الواسعة بلا نهاية، لكن لا يمكنه دراسة الأبعاد الداخلية للكائن البشري على نحو مُرْضٍ. وكمحصلة، في مجرى الزمن، ينتهي الذين يتحوّلون إلى العلم بحثًا عن أجوبتهم حول الحياة إلى الشعور بأنهم لا يملكون مثل تلك الأبعاد، ويشعرون بالخواء. فالإرادة الإنسانية والنبل والجمال وغرض الحياة الطاغي هي كلها من صنف الأمور التي لا يدرسها العلماء والتي لا يُعتقَد نوعًا ما ، في نهاية المطاف، أنها موجودة بلا تبرير تمامًا.

ويصبح هذا الدافع نحو الاختزالية ضمن العلم مُغالى فيه في عقول اللاعلماء، وخصوصًا عندما يتم تضخيمه إلى حدّ كبير من قبل وسائل الإعلام. فـ"اكتشافات" التقارير الإعلامية الجديدة في الحتمية المادية بمعدل حوالي جين يوميًا: جين البدانة، التفضيل الجنسي، الذكاء، الرغبة الجنسية، وفيما إذا كنتَ تحب زبدة الفول السوداني - التي اكتشفوا للتو أن جينًا أو هرمونًا ما "يسبّبها". ليس من عالم مسؤول بوسعه الادِّعاء فعليًا أنّ الإمكان تتبّع أثر ما هو بتعقيد ودقّة الغضب أو الشهوات عندما يتّخذ جين أو هرمون ما وضعًا معينًا، لكننا كجمهور عام نُستثنى من مثل هذه الدقة. فنصل إلى الشعور بأننا لا نملك إرادة، وأن ليست هناك دراما خلاص مستمرة للكائن البشري، وأننا بدون معنى أو اتجاه، وبالتالي، كما قال ديستويفسكي في "الأبله"، نموت من اليأس:

الشرط الجوهري الأول للوجود الإنساني هو أن على الإنسان دومًا أن يكون قادرًا على الانحناء أمام شيء ما لا نهائي في عظمته. فإذا كان الناس محرومين من العظيم اللانهائي، فلن يستمروا في العيش وسيموتون من اليأس.[30]

وقد كان مراهقو جنوب بوسطن الستة أمثلة على ذلك، وهناك اليوم الكثير الكثير منهم.

عندما تصبح عائلة ما، كمحصلة لمجتمع، "مختلَّة وظيفيًا" (هذا تعبير لطيف نظرًا للمأساة)، يشبُّ أطفال ينقصهم الأمان واحترام الذات، ويكونون فريسة سهلة لما دعته شبكة المستقبل الإيجابي "أزمة المعنى وإحساس بالخواء الذي يستحضر مغالاة في التوكيد على الاستهلاك المادي" مما تمرّ به حضارتنا. إنهم يجدون صعوبة قصوى في تبيّن معنى الحياة، أو في الاعتقاد بأن ثمة معنى، ويبدأون بـ"الموت من اليأس" بألف طريقة - حتى وإن لم يشاهدوا جهاز تلفزيون مطلقًا.

عندما أفكر بالعالم الجديد لوسائل الإعلام، أتذكر أمرًا أشار إليه مؤخرًا موظف خدمات اجتماعية بخصوص رعاية الطفولة:

ليست لدينا فكرة كم هو مدمّر الوضع الذي خلقناه. إنها تجربة اجتماعية بمقياس كبير وبدون أدوات ضبط عمليًا.[31]

لكن هذا الكتاب هو عن الحلول، وليس عن المشكلات فقط. وبعض القصص التي رويتها، والتي سأرويها، هي حقًا حول أناس عاديين ينجزون في طريقهم ما وصفه ديستويفسكي في مُؤلَّفه العظيم - أناس يرتفعون باتجاه "العظيم اللامتناهي" عبر الاستجابة العاقلة للخير. لقد لمّحنا للتو أنه لا يوجد جواب واحد عن بل جوابين عن السؤال القائل: ماذا يمكن العمل لصون الشباب من اليأس من حياتهم؟ بوسعنا إيجاد طرق لخفض العنف وإيجاد إحساس جديد بالغاية. وكما بدأنا نرى، فإن هذين المشروعين الكبيرين على صلة وثيقة فيما بينهما.

ترجمة: غياث جازي

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] من كتاب البحث عن مستقبل لاعنفي، مايكل ناغلر، ترجمة غياث جازي، معابر للنشر، دمشق، قيد الطباعة.

[2] Arendt, Hannah. On Violence. New York: Harcourt, Brace & World, 1969, p.6.

[3] CWMG, Vol. 53, p. 354 (Harijan 4/14/46, p. 90).

[4] Ellul, Jacques. Contre Les Violents. Vienna: Le Centurion, 1972, p.7.

[5] Johnston, William, translator. The Cloud of Unknowing. New York: Image, Doubleday, 1973, p. 129.

[6] اسم فيلم أمريكي لأوليفر ستون عُرِض مؤخرًا.

[7] Burton, John W. Violence Explained: the sources of conflict, violence and crime and their prevention. Manchester: University of Manchester Press, 1997, p. 10.

[8] السَّرنديبية (عن أسطورة أمراء سرنديب الثلاثة): تعني موهبة اكتشاف ما هو نفيس مصادفة. (المترجم)

[9] Davitz, Joel R. “The Effects of Previous Training on Postfrustration Behavior,” Journal of Abnormal Social Psychology 47 (1952) pp. 309-315.

[10] Ngubane, Ben. AP wire report, July 27, 1998.

[11] British Psychological Society: Sobel and Ornstein. “Bad News on TV is Bad News All Around,” Mental Medicine Update, IV.1, (1995), p.1.

[12] Curbing violent emotions: Goleman, Joel. “Today’s Lesson: Curbing Kids’ Violent Emotions,” San Francisco Chronicle, March 5, 1992, pp. D3, D6.

[13] Schorr, Daniel. “TV Violence: What We Know But Ignore.” Christian Science Monitor. September 7, 1993, p.19.

[14] Brink, Andre. “Time Magazine’s 100 Leaders & Revolutionaries of the 20th Century.” Time 151, no. 14 (1998), pp.188-190.

[15] Here I am drawing on Meer, Fatima, Higher than Hope: the authorized biography of Nelson Mandela. New York: Harper & Row. (1990), pp. 218ff.

[16] Daniszewski, John, “Mandela, de Klerk debate,” AP story in the Santa Rosa Press Democrat, April 15, 1984, p. A5.

[17] CWMG, Vol. 75, 1999, p. 409.

[18] في أوائل العام 1965، خطط مارتن لوثر كينغ الابن ومؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية (SCLC) لمسيرة انطلقت من مدينة سيلما في ولاية ألاباما باتجاه مونتغومري عاصمة الولاية للمطالبة بإلغاء التمييز بين الناخبين في الولاية. فتعرضت المسيرة للهجوم بالهراوات والغاز المسيل للدموع من قبل الشرطة. وتمثّلت النتيجة المباشرة لهذه المسيرة التاريخية بتوقيع الرئيس جونسون مشروع قانون الحقوق الانتخابية في آب 1965 ليصبح قانونًا. (المترجم)

[19] Remnick, David. “Dumb Luck: Bush’s Cold War,” The New Yorker, Jan 25, 1993, p.105.

[20] E-mail from Peacemedia section of Peacenet conference on September 28, 1991.

[21] British independent TV journalist Gaby Rado on location, quoted in the Washington Spectator, February 1st, 1994, p. 2.

[22] This quote and the next from a Sonoma County school newsletter called Kid Konnection, July, 1994, p. 21.

[23] see Grossman, Lt. Col. Dave, and Gloria Degaetano. Stop Teaching Our Kids to Kill: A Call to Action Against TV, Movie and Video Game Violence . New York: Random House, 1999, and Kara Platoni, “The Pentagon Goes to the Video Arcade,” The Progressive, July, 1999, p. 27.

[24] Berry, Wendell. Standing by Words. San Francisco: North Point, 1983, p. 65.

[25] Isha Upanishad, verse 12 (my translation).

[26] Rich’ard Magee, quoted in Youth Outlook (YO) for September 11-15, 1995, p. 6.

[27] Heraclitus, fragment B 45: “You will never reach the limits of the soul [or, life principle], travel as far as you will by any road: so deep is its meaning” (my translation).

[28] Sanders, Robert, “Berkeley, LBNL Scientists Snap First 3-D Pictures of the ‘Heart’ of the Genetic Transcription Machine,” Berkeleyan, January 19-25, 2000, 3.

[29] Quoted in Glazer, Steven. The Heart of Learning. New York: Jeremy P. Tarcher/Putnam, (1999), p. 218.

[30] Dostoevsky, Fyodor. The Possessed (a.k.a. The Devils). New York: The Heritage Press, 1959, p. 571. Though this sentiment is put in the mouth of an unlikely character, there is no doubt Dostoevsky himself subscribed to it.

[31] Conniff, Dorothy. “Day care: a grand and troubling social experiment,” Utne Reader (from The Progressive), May/June, 1993, p. 67.

 

 

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود