الصفحة التالية

مدخل لدراسة منحولات العهدين القديم والجديد 1

 

موسى ديب الخوري

 

تقديم

تتناول هذه الدراسة الكتب المنحولة التي عرفت في عصور مختلفة من المسيحية والتي ضاعت أصولها من خلال الترجمات والتعديلات التي أدخلت عليها عبر مختلف الكنائس والملل، مما جعلها في كثير من الأحيان أشبه بالكتب التراثية المنقولة دون أن تكون لها أصول تاريخية واضحة. وعلى الرغم من اعترافنا بأن المسألة تعتبر من أكثر مسائل تاريخ الكتابات المقدسة التباسًا وتعقيدًا، لكننا نملك اليوم على عكس العقود أو القرون السابقة معلومات هامة جاءتنا بشكل خاص من خلال اكتشافات لمخطوطات ووثائق قديمة ثبتت أصالتها، ولعل أهمها مخطوطات البحر الميت أو مخطوطات قمران ومخطوطات نجع حمادي. وما قد يساعدنا أكثر في مهمتنا هذه هو التمييز بين الكتب المنحولة التي يمكن إرجاعها اليوم إلى أصول تاريخية واضحة ترتبط بملة أو جماعة كان لها دور معروف منذ نحو ألفي سنة أو أكثر، وبين تلك التي كتبت خلال القرون التالية للمسيح وكان الهدف منها إغناء التراث المسيحي الشعبي وتعميق الورع والإيمان بشخص المسيح بعيدًا عن التراث اليهودي.

ينصب اهتمامنا في القسم الأول من هذه الدراسة على المجموعة الأولى من المخطوطات والكتابات، أي على ما بات يعرف بمنحولات العهد القديم. وإن كنا لا نسعى عبر هذه الدراسة إلى تتبع فكر مجموعة معينة أو عدة مجموعات يمكن أن تعود أصول هذه الكتابات إليها كما قلنا، أو حتى إلى محاولة تتبع تاريخ انتشار هذه المجموعات وتشتتها في المناطق المجاورة حاملة معها هذا الفكر، وهو أمر يحتاج إلى دراسة خاصة، لكننا سنلحظ عبر سياق دراستنا هذه أن هذا الفكر الأساسي انتشر وترك أثر الجماعة نفسها في الكثير من التيارات الأدبية التي سوف نعرض لها من خلال الكتابات المنحولة للعهد الجديد في الجزء الثاني من هذه الدراسة. وعلى هذا، فإننا لا نستطيع أن نفصل تمامًا بين الكتب المنحولة ذات الأصول التاريخية، وتلك التي وضعت في إطار كنسي، بل سنلحظ أن جانبًا كبيرًا من منحولات العهد الجديد حملت بصمة وأثر التيار الأسيني عبر ما بات يعرف بالفكر "اليهودي - المسيحي"، أو "النصراني". وسنلحظ كذلك أن عددًا من مخطوطات المجموعة الأولى كان معروفًا من خلال مخطوطات "كنسية" قبل أن تكتشف أصوله التي تعود إلى الملة الأسينية.

نسلط الضوء بالتالي من خلال دراسة "المنحولات" على جانب من مخطوطات البحر الميت، الجانب الذي يتصل بالكتب المنحولة التي كانت معروفة في كنائس كثيرة أو كانت مرفوضة من الكنيسة الرسمية عبر عصور مختلفة، كما ونبيِّن المقاربات التي يمكن أن تكون لمخطوطات وكتب منحولة لم توجد في قمران إنما يمكن أن تنتسب إلى مخطوطات البحر الميت من خلال استمرار فكر معين أو أدب معين، وكانت قد وجدت عبر ترجمات مختلفة في كنائس مختلفة. وسوف نلحظ اعتمادًا على أصول جماعة قمران إمكانية مقاربة استمرارية كتبهم في التيارات المتنصرة من بعدهم. وسيتيح لنا ذلك الفرصة لكي نتناول في الجزء الثاني من هذه الدراسة تاريخ وتشعب الكتب المنحولة للعهد الجديد، وخاصة على ضوء اكتشاف مخطوطات نجع حمادي.

إن دراسة الكتب المنحولة للعهدين القديم والجديد تعتبر دراسة جامعة لا يمكن فيها فصل العهدين، ولا يمكن بالتالي اختصار المسألة إلى فصل المسار اليهودي - التوراتي عن المسار النصراني - الإنجيلي. وإن كانت ملامسة النقاط التي حاولت فيها بعض الكتابات المنحولة الخروج عن التيار النصراني - اليهودي تبدو أكيدة في الكتابات الغنوصية الطابع (مثل إنجيل توما)، لكن الجانب الذي سوف نتناوله ويتعلق بمخطوطات البحر الميت بشكل خاص هو جانب مشبع بالفكر الأسيني - النصراني وقد ارتدى المعطف "المسيحي". وهذا الفكر هو فكر يهودي في أصله، جمع بين التعلق بالتشدد الديني ومحاولة بناء تصور خلاصي، تجلى بما عرف بالأدب الرؤيوي من جهة، والمنظور الآخروي من جهة أخرى. وقد عاد هذا الفكر لينسج بعد مخطوطات البحر الميت الأسينية فكرًا كنسيًا "آخرويًا" نجد أصوله بوضوح في المخطوطات القمرانية، أو نجد ملامح منه في بعضها.

لقد أدى تحديد الكنيسة، بل والكنائس عمومًا لعدد من الكتابات المقدسة، إلى تمييز ما أصبح يشار إليه بالمنحولات، من العهدين القديم والجديد، وهي عبارة عن كتب قريبة جدًا في أسلوبها ومحتواها من الكتابات اليهودية والمسيحية في كل من العهدين. مع ذلك فإن نظرة الكنائس المختلفة (الكاثوليكية والبرتستانتية مثلاً) تختلف إلى هذه المنحولات. لكننا لسنا هنا بصدد دراسة الاختلاف في نظرة الكنائس لهذه الكتب، بل بالأحرى لأصول هذه الكتب بعيدًا عن المنظور الديني لها. وهذا يضعنا مباشرة أمام ضرورة إعادة سرد تاريخها رغم التعقيد الشائك في تلمس وتمييز المسارات التي أخذتها هذه الكتابات وخاصة بعد تلقيحها بثقافات مختلفة عبر الترجمات الكثيرة التي رويت بها في مناطق كثيرة من العالم. من هنا ندرك أهمية الاكتشافات القريبة التي حصلت لمخطوطات البحر الميت، ولاكتشافات أخرى (كما في نجع حمادي) لنستطيع بناء مرجعية مقارنة للنصوص والأفكار ومراحل تأليفها وترجماتها وأصولها الأدبية واللغوية. وما سنحاول القيام به في هذه الدراسة الموجزة هو تسليط الضوء على جانب من هذه المنحولات يتصل من جهة بالأصول الأسينية، أو يتصل مباشرة بما تركه الأسينيون في قمران قرب البحر الميت.

نشير أيضًا في سياق هذه المقدمة إلى اختلاف مدلولات لفظة "المنحولات" اختلافًا كبيرًا بحسب المرحلة الزمنية أو النصوص أو حتى المصادر التي أطلقت التسمية في ظروف معينة. وسنوضح مختلف هذه المدلولات في إطار الحديث عن منحولات العهد القديم أو منحولات العهد الجديد. لكن لا بد لنا من الإشارة إلى غياب هذا المصطلح أو شبه غيابه عن مصادرنا العربية، وبالتالي لوجود لبس في استخدامه وتعميمه دون إدراجه في إطار محدد، الأمر الذي يشكل جانبًا من جوانب عدم فهمنا لتاريخ المنحولات ودورها في التاريخ الديني للمنطقة.

منحولات العهد القديم

نشير بداية إلى أن استخدام تعبير منحولات العهد القديم بات بعد اكتشافات مخطوطات البحر الميت يشمل جانبين مختلفين، الأول هو منحولات العهد القديم في الكتاب المقدس الذي جمعت فيه الكنيسة نصوص التوراة إضافة إلى نصوص رفضها اليهود وعدوها غير "إلهية"، والثاني هو مجموعة كتب الملة الأسينية، التي سماها بعض الدارسين بمنحولات العهد القديم كونها كتبت قبيل كتابة الأناجيل عمومًا، وسماها دارسون آخرون بمنحولات ما بين العهدين، للإشارة إلى أنها شكلت مرحلة انتقالية بين العهدين.

ما هي الكتب التوراتية المنحولة؟

حققت مجموعة من العلماء برئاسة أندريه دوبون سومر ومارك فيلوننكو عددًا من المخطوطات باسم «التوراة المنحول» مقارنة مع بعض الأجزاء التي وجدت منها في قمران. وهذه المخطوطات هي كتاب أخنوخ الأول، والخمسينيات، ووصايا الشيوخ الإثني عشر، ومزامير سليمان ووصية موسى واستشهاد أشعيا. وأضاف هذان الباحثان مجموعة من الكتب التي حققت اعتمادًا على مخطوطات لم يعثر على بقايا أو آثار لها في قمران، إنما تُرجح صلتها بالملة الأسينية من خلال أسلوبها أو مواضيعها أو انتمائها إلى الخط الأدبي نفسه للملة الأسينية[1].

تتميز بعض أسفار العهد القديم المنحولة بأنها كتبت باسم مستعار. لكن ذلك لا ينطبق عليها جميعًا. فقد أُهملت أسماء مؤلفي استشهاد أشعيا وكتاب الآثار التوراتية وقصة يوسف وأسنات وحياة آدم وحواء اليونانية. وتنسب كتب أخرى من المجموعة إلى مؤلفين مختلَقين. فليس النبي أخنوخ أو أدريس هو مؤلف كتب أخنوخ التي بين أيدينا، وكذلك الأمر بالنسبة لوصايا الشيوخ الاثني عشر فهي لم تكتب بأيدي أبناء يعقوب، أو وصية يعقوب بيد يعقوب نفسه. والحق أن مفهوم منحولات العهد القديم أصعب تحديدًا من ذلك. وكان قد اقتُرح أن تكون هذه الكتابات قد أُلفت على يد مزورين أو ملفقين كانوا يريدون خداع القراء. لكن هذا التفسير لا يصيب كبد هذه الظاهرة الأدبية الواسعة والأصيلة. ولا بد من تمييز مبدئي، إذ لا يجب الخلط بين كتابات منحولة ومؤلفين منحولين. فمؤلفو الكتب المنحولة لا يخفون هويتهم تحت أسماء مزيفة، بل يقدمون أنفسهم بأسماء مشهورة. ويجب بالإضافة إلى ذلك أن نلاحظ أن مؤلفي هذه الأسفار المنحولة لا يعتبرون أنفسهم مؤرخين عظماء للماضي، بل يستدعون ميراث شخصيات التاريخ المقدس الذين كانوا معروفين بشكل واسع، مثل أخنوخ أو ابراهيم، إنما الذين لم يتركوا كتابات.

ظهرت هذه الأسفار المنحولة في نهاية العصر الهلينستي وتضاعفت في العصر الروماني. ويتوافق انتشار هذه النصوص المنحولة بشكل من الأشكال مع اختفاء الفكر التنبؤي ومع شيوع الفكر الآخروي (انتظار الآخرة). تشير هذه الكتابات إلى تحول في نفسانية الشعب الذي آمن بمعتقدات معينة ثم أخذ ينتظر، مكتويًا بالصراعات السياسية والثقافية التي كان يعيشها، خلاصًا لا بد أن يأتي من عالم السماء، أو مع نهاية الأزمنة والخلاص النهائي. وفي هذا الإطار تشكلت أخويات سرانية كثيرة كانت تنادي بضرورة الاستعداد لهذا اليوم الأخير والعودة إلى الكتب المقدسة. وقد وجدت في مواضيع وأسلوب الكتابات المنحولة طريقة فعالة لتنشيط الفكر الديني المهزوز أو المرتبك، وإعادة الثقة للإنسان العادي بالمعاني الدينية التي تحفظه طاهرًا وسالمًا والتي تعطيه الأمل بحياة أخرى خالدة.

ويمكن القول إن الكتابات اليهودية (إن صح التعبير) ظلت لفترة طويلة بلا أسماء مؤلفين. ولا بد أن أحد الأسباب الرئيسية في ذلك هو الاعتماد على النقل من ثقافات وآداب أخرى، إضافة إلى كون الموروث الشفهي الذي أخذه اليهود عن المنطقة المحلية غنيًا ومتنوعًا بحيث يصعب جمعه خلال فترات قصيرة، مما تطلب زمنًا طويلاً من أجل إعادة صياغته وملاءمته وفق شكل خاص بهم. وكانت بعض الأوساط من الأخويات، التي كان لها ربما الشكل الكهنوتي أو السراني، والتي انتشرت بكثرة خلال القرنين السابقين للميلاد بخاصة، تعتبر نفسها بشكل من الأشكال وريثة هذا الإرث من القصص والأساطير التي كان يُعتقد أنها ترجع إلى أزمنة سحيقة بل وإلى عهود الأنبياء أنفسهم الذين تتكلم عنهم هذه الحكايات. وكانت هذه الأساطير ثمينة جدًا لديهم بحيث اعتبرت غالبًا كمواريث سرية. وكان القائمون عليها حريصين على نقلها بأمانة بالطبع، إنما مع إغنائها بالتأكيد بما يناسب رؤية الكاتب كما وحاجات العصر وأحداثه التاريخية والدينية. وكان هؤلاء الأتقياء يعدون أنفسهم كورثة لأخنوخ أو لباروخ أو لعزرا. وهكذا كانوا يؤلفون النسخ الأصلية لـ «وصايا» الشيوخ، ويسجلون كشوفات موسى أو إيليا. وهكذا، فإن الأسفار المنحولة للعهد القديم هي في معظم الأحيان ثمرة إبداع جماعي ساهم فيه نساخ وكتاب كثيرون على مدى فترات زمنية طويلة أحيانًا. وبالتالي يتلاشى مفهوم الكاتب أو المؤلف الوحيد. والحق أن التركيز على هذا النوع من التأليف الموجَّه يفترض وجود ملة أو مدرسة أو جماعة من الأفراد الملتزمين بمبادئ معينة أو بمنظور ديني محدد. ولا شك أن وصول هذا الانتاج الغزير إلينا يعبر عن غزارة انتاج هؤلاء المؤلفين الذين كان همهم كما يبدو إرساء التعاليم الأساسية للدين مع إعطاء منظور أكثر موافقة للعصر وأكثر يسرًا وقبولاً لدى الناس. وهذا ما يفسر توسع واختلاط المؤلفات، وتعدد النسخ وكثرة البدائل والتنويعات على النص الواحد. وهكذا تصبح مشاكل التأريخ صعبة جدًا. وضمن هذه الظروف يصبح من الأفضل محاولة تحديد الوسط الذي وُضع فيه المؤلَّف بدلاً من البحث عن مؤلفه.

ويتأسس وضع هذه المؤلفات، الأساسية منها على الأقل، على أسطورة مفادها أن أخنوخ كان قد أوصى أبناءه، بحسب كتاب أسرار أخنوخ[2]، بتوزيع كتبه على أولادهم من جيل إلى جيل. ولعلنا نرى في هذه الأسطورة شيئًا من الاقتباس عن أساطير المنطقة الأصلية التي حورها اليهود لهم. فمما لا شك فيه أن اختراع الكتابة ترافق في الأزمنة القديمة بتوصيات بنقل هذه المعارف الكتابية عبر الأجيال. ونجد أساسًا لمثل هذه الأساطير في بلاد الرافدين ومصر والهند واليونان وغيرها. ولا بد أن ما جاء في وصية موسى[3] حيث يأمر موسى يشوع بوضع كتاباته في جرار، في موضع مخصص لذلك منذ خلق العالم، يشير إلى الاهتمام بقداسة الكتابة نفسها والذي كان معروفًا في القديم وتحول فيما بعد إلى نوع من التكريس للكتابات المقدسة التي أوحى بها الله نفسه. وكان ينبغي لهذه الجرار أن تحفظ الكتب المقدسة ليوم الدين ونهاية الزمان، إذ كان يُعتقد بأن القيامة قريبة، الأمر الذي كان أحد العوامل التي حفَّزت بالتأكيد على تدوين وتجميع الموروث المقدس كتابة والذي كانت هذه الأوساط الورعة تعتبر نفسها مسؤولة عنه، وتريد تأكيد خلوده وبقائه.

ولا شك أن الأسينيين لعبوا دورًا أساسيًا في تجميع هذا الموروث، إن في صياغته أو في نقله. فإن كان العمل بمجمله مجهول المؤلف أو المؤلفين، لكنه يحمل علامات الصنعة نفسها، ويمكن بهذا المعنى أن يكون "منحولاً" طالما أن مؤلفيه هم تلامذة أخنوخ أو عزرا. ومع ذلك، فهذه الفرضية التي يقول بها مارك فيلوننكو M. Filolenko وأندريه كاكو A. Caquot لا تكفي لتسمية هذه المؤلفات بالمنحولة، خاصة وأننا نتساءل بحق عن بقية المؤلفات التوراتية نفسها التي وُضعت ربما في أزمنة سابقة، إنما بالطريقة نفسها، والتي لا تحمل من الأصالة أكثر مما تحمله ربما هذه «الأسفار المنحولة». ومع تأكيدنا أن الأسينيين لعبوا دورًا أساسيًا في وضع هذه المؤلفات ونقلها، لكننا نتساءل أيضًا عن الدوافع الجوهرية التي كانت وراء ذلك، وعن الوسط الأقدم ربما الذي أخذ عنه الأسينيون وطوروا هذا العمل. ونعتقد أن اليهود المتأثرين بالثقافات الكنعانية والآرامية، والذين عاشوا في أوساط بعيدة عن أورشليم أو حتى عن فلسطين، لعبوا دورًا كبيرًا في تأسيس هذا الاتجاه الفكري بل وفي تأسيس الملة الأسينية نفسها كما وغيرها من التوجهات الروحية في تلك الفترة من «ما بين العهدين».

وكان يمكن لهذا الجهد الواسع أن يضيع هباء لو لم تجدد جماعات من الأسينية أو المتأثرة بالأسينية، مشروع الترجمة السبعينية، فعملت على ترجمة الأصول السامية للأسفار المنحولة إلى اليونانية. والحق أن يهودًا في سوريا وفلسطين، نرجح أنهم كانوا من بقايا الأسينيين أو المتأثرين بهم، عملوا في هذا العمل المشترك الكبير. وعبر هذا العمل الذي استغرق وقتًا طويلاً نسبيًا واشترك فيه أكثر من جيل أضيفت بشكل طبيعي مؤلفات وأعمال كثيرة على ترجمات النصوص العبرية أو الآرامية.

ولم يكن من الممكن بطبيعة الحال لليهودية الحاخامية القبول بتيار ولد في وسط كان في صراع مفتوح وصريح مع الفريسية. وبالتالي فإن عدم قبول اليهودية بهذه الكتابات هو أحد أسباب إعطائها تسمية "المنحولة"، حتى فيما بعد خلال الفترات المسيحية وفي الأوساط المسيحية. لكن السبب الحقيقي لهذه التسمية جاء فيما بعد من اعتماد الكنائس البعيدة عن المركزية المشرقية وعن الأسقفية الرومانية لاحقًا لبعض هذه الكتب، مما جعل منها كتبًا غير قانونية إن صح التعبير بالنسبة للكنيسة الرومانية. مع ذلك، أخذت بعض الكنائس البعيدة نسبيًا عن المنطقة بهذه الأعمال عبر عصور لاحقة ومتأخرة، وترجَمت هذه المنحولات إلى لغاتها المحلية، فأنقذت بذلك أدبًا وجد علماء الآثار بقاياه وأصوله في موقع قمران.

المنحولات وأصولها في الأدب الرؤيوي

ترتكز دراسة الكتب المنحولة على أدب كامل كان سائدًا منذ ما قبل المسيح في شرقي البحر المتوسط، وهو الأدب الذي يسمى الرؤيوي، وكان قد تركز في نهاية الألف الأول قبل الميلاد بين سكان شرقي المتوسط ومنهم قبائل كانت تتكلم العبرية، لكنه أدب يعود في أصوله إلى أزمنة أقدم في المنطقة، وكان يكتب بلغات أخرى لا شك. وقد وصلتنا بعض هذه الأصول في أساطير الفينيقيين والكنعانيين والبابليين وغيرهم. وإن كان الفكر اليهودي قد استلهم الأفكار بل والكثير من الأحداث من هذه النصوص القديمة، فإننا نعلم اليوم أن عناصر هذه الكتابات السابقة كانت موجودة بوضوح في العديد من الكتب السابقة أو المعاصرة للمرحلة التي كتبت فيها النصوص العبرية. بل إن عددًا كبيرًا من النصوص المسيحية في العهد الجديد هي كتابات رؤيوية في جزء منها أو بكاملها. وإن كان معظم هذه الكتابات التي وصلتنا من القرون القليلة السابقة للميلاد ومن القرون التالية للميلاد قد كتبت بلغة عبرية قديمة، لكن الكثير منها كتب أيضًا ووصلنا بالآرامية واليونانية. وقد ترجمت بألسنة أخرى مثل السريانية واللاتينية والإثيوبية والقبطية والعربية والأرمنية والسلافونية، وعبر هذه القناة إنما وصلتنا هذه الكتابات إذ اعتمدتها المجتمعات المسيحية المحلية التي تتكلم هذه اللغات ككتب مقدسة. ولا شك أن هذه الكتابات حملت معها في النهاية الميول والحركات التي كانت سائدة في اليهودية القديمة، بما في ذلك الانقسامات الفكرية بينها والنماذج التي كانت تتبناها في رؤياها لعلاقة الإنسان بالطبيعة والإله. وهذه الملل الرئيسية هي الفريسية والأسينية والزيلية (أو جماعة الغيورين) والسامريون و"المسيحيون". لهذا لا يصح أن نتحدث عن هذا الأدب كأدب هامشي أو كأدب هرطقة أو بدع. بل على العكس تمامًا، فهو يعبر عن مظهر أدبي عام نجد عليه شواهد كثيرة مختلفة[4].

ترد لفظة رؤيا فيما عرف بـ "رؤيا يوحنا" في الأدب المسيحي الأول، وهو عمل يحمل بجدارة هذه التسمية، لكن هذا الاسم نفسه أطلق فيما بعد على عدد كبير من الكتابات السابقة له والتي تنتسب إلى الشريان نفسه. ويشتق هذا اللفظ الذي يعني "الكشف" من الفعل apokalyptein الذي يعني الاكتشاف والكشف والذي استخدمته التوراة اليونانية لترجمة الفعلين العبريين غلاه galâh وحاسف hâsaph، ومعناهما الدقيق هو الاكتشاف[5] أو "الكشف[6]". ويعد سفر دانيال أول أسفار العهد القديم التوراتية الذي يحدد بشكل واضح وكامل نموذج الشكل التنبؤي الرؤيوي، حيث أدخله في إطار المعنى النوعي لـ "كشف الأسرار"[7]. ونجد هذا اللفظ مستخدمًا بشكل مماثل في أعمال بولس[8]. فليس من المدهش بالتالي أنه أطلق منذ العصور القديمة صفة "الرؤيوية" على الكتابات التي تعلن وتصف غالبًا، "كاشفة" بالتالي عن الحالة النهائية للأمور الأرضية والسماوية في المراحل الأخيرة للتاريخ. فكاتب الرؤية هو بالتالي عبارة عن نبي يتنبأ بنهاية العالم والأزمنة ويستخدم طرق الكتابة الموافقة للتعبير الخاص بما يسمى الأدب الرؤيوي. ومن هنا الرابط بين الأدب الرؤيوي والأدب الآخروي. وإن كنا قصرنا حديثنا السريع هنا عن الأدب الرؤيوي في إطار الأدب المسيحي - التوراتي، لكن من السهل جدًا أن نحزر وأن نتتبع أصول هذا الأدب في الأساطير والكتابات التي سادت الشرق الأدنى في الحضارات السورية والرافدية قبل آلاف السنين.

يعود الأدب الرؤيوي لا شك إلى فترة سحيقة في الشرق القديم، عندما كانت الأساطير تشكل الحامل الخصب لرؤى العلاقات التي كانت تربط العالمين الإلهي والإنساني. وإن كان المجال لا يتسع هنا لبناء نظرية حول هذه المسألة لكننا على الأقل نود إيرادها بهذا الشكل لتكون منطلقًا لفهم تاريخ الأدب الرؤيوي اللاحق في الأدب المنحول، وليس النظرة الشائعة بين عدد من المؤلفين حول "يهودية" هذا الأدب وأصوله! حيث يرى عدد كبير من الباحثين حول أصول الأدب الرؤيوي أنه يعود إلى ما يعرف بفترة دمار هيكل أورشليم في عام 587 ق.م. والنفي إلى بابل، الأمر الذي كان يعتقد أنه ولَّد مرحلة نهضة حقيقية تتميز بالحفاظ على الأساس الأخلاقي، بل والثقافي، للديانة اليهودية، ديانة موسى، والتي حفظت قدر الإستطاعة في أرض غريبة، من جهة، وأدى من جهة أخرى إلى إعادة التفسير والرؤية لهذا الموروث الجوهري بالعودة إلى ما هو أصيل وقديم في الموروث المماثل في القدم للمواريث المجاورة. وبشكل آخر كانت تلك هي المرحلة التي تم خلالها إعادة صهر وتأهيل إن صح التعبير للثقافات ودمجها مع الأساطير القديمة. وإن كان المجال لا يتسع هنا، وهو ليس في صلب موضوع دراستنا، لمناقشة هذه الفكرة التي أعتقد أنها تجانب المعطيات التاريخية والآثارية إلى حد كبير، فإنني سوف أعرض لنقطتين اثنتين على الأقل تصوبانها وتصبان في سياق فهمنا لأصول الأدب الرؤيوي: الأولى هي أن المعنى المطروح في النصوص الرؤيوية لا يتناسب مع خلاص شعب في الأسر بقدر ما يتناسب مع قدرة شعب على استيلاد أفكار توازن بين حاجاته الأرضية بكل ما فيها من صعوبات وتناقضات مع حاجاته الآخروية أو الغيبية التي تعطي الأولوية لبرنامج خارجي يتحكم بالمصائر والأقدار، وهو أمر يتناسب مع شعوب المنطقة التي كانت أكثر استقرارًا وتقدمًا فكريًا وروحيًا في تلك المرحلة، مما يجعل اعتماد اليهود للأدب الرؤيوي ناجمًا عن تأثرهم بفكر شعوب المنطقة التي احتكوا بها وهو أمر يزداد وضوحًا اليوم من خلال مقارنة النصوص التوراتية مع الكثير من نصوص الشعوب المجاورة الأدبية، الكنعانية والأوغاريتية على وجه الخصوص؛ والنقطة الثانية تتعلق بالمرحلة التاريخية التي تعود إليها مخطوطات البحر الميت والتي تنزاح نحو أربعة قرون إلى ستة قرون عن مرحلة الأسر البابلي. وهناك فرق جوهري بين نصوص المرحلة التي يفترض أنها أفرزت الكتابات الأسينية، وتلك السابقة لها والتي يفترض أيضًا أنها كانت مرحلة وضع الكتب التوراتية الأساسية. وفي هذا السياق تتبدى المرحلة الأسينية، من خلال ما وجد من أسفار التوراة في قمران، كمرحلة مكملة لما سبقها من مراحل إنشاء كتب العهد القديم، ومحاولة الإضافة عليها وتفسيرها، ثم التأكيد على نظام حياة خاص بالملة الأسينية في كتب أخرى. وهي تتبدى بشكل واضح كمرحلة متأخرة، مرحلة كانت هي الأنسب لطرح التصورات الرؤيوية بعد الشعور العام الذي كان سائدًا بأن الخلاص لم يأتِ ولم يتحقق، لا عبر "العودة إلى أورشليم" ولا عبر وضع أسفار العهد القديم. هذا إضافة بالطبع إلى التأثر المباشر بالفكر "الغيبي" و"الرؤيوي" الذي كان قد أشبع في القرون القليلة السابقة للميلاد في المشرق بالفكر الغنوصي المتمثل بعدة مدارس كانت قد انتشرت في المنطقة. وعلى هذا الأساس، أريد أن أؤسس لمنظور ولادة الفكر الأسيني، الذي كان له أثر كبير، ممثلاً لتيارات عديدة سادت فلسطين خلال القرنين الأول والثاني قبل الميلاد وكان معظمها يهودي المنبت، في ازدهار نمط الأدب الرؤيوي العبري ثم المنحول فيما بعد.

وفي الحقيقة، يمكننا تتبع أصول الفكر الرؤيوي اليهودي في إدراك اليهود لزمنية هيكلهم والعبادة المرتبطة به، بعد ما يفترض أنه كان دمار الهيكل. ودون الدخول في تفاصيل صحة وجود الهيكل أصلاً، لكننا نستطيع بوضوح جلاء فكرة أن اليهود الذين كانوا يؤسسون لديانة معمقة قبيل بداية العهد المسيحي، ضمن أطر الأخويات التي سبق واشرنا إليها، كانوا قد أدركوا أن المرجعية الزمنية والمكانية للعبادة والعلاقة مع العالم السماوي هي مرجعية يمكن أن تهتز، وهو أمر رأوا من المناسب إدراجه ضمن تاريخهم الرمزي، إن لم نقل الرؤيوي (لأنه، أي إثبات لدينا على نصوص دينية فعلية سابقة أشارت إلى دمار الهيكل وبالتالي إلى إعادة بنائه؟). وبالتالي، إن كان ثمة إعادة تجمُّع لليهود في أرض فلسطين (أليس هكذا يتم بناء التصورات التاريخية، حول شعب كان يبحث عن وطن، ثم ظل يبحث عن وطن، ولا يزال يبحث عن وطن، خصه به إله؟)، فإن صورة إعادة بناء هكيل مفترض تصبح مثالية لإلقاء ظل تاريخي على التجمع نفسه كتجمع بشري على خلفية دينية، لكنه بالتأكيد لن يكون مثاليًا طالما لا تقوم الديانة، ولا العبادة، على أساس وجود الهيكل فقط، بل مع وجود قصة تربط هذا الهيكل بهيكل سماوي، قصة تشير إلى أن العبادة هي في الأساس مبنية على خلفية سماوية. كان لا بد بالتالي من البحث عن شيء آخر، غير زمني، وغير مكاني، أو على الأقل يجد مكانه وزمانه في فضاء الوجود الإلهي وليس الأرضي، وفي هذا الشيء الآخر إنما كانت نواة ولادة الأدب الرؤيوي اليهودي.

لكن في الجوهر، حتى هذا البحث عن ثوابت إلهية أو سماوية موازية للمعبد الأرضي والعبادة الأرضية، لم يكن ليتأت في سياق تأمل ذاتي أو فردي ضمن جماعة أو جماعات، إن لم تكن أصوله قد طرحت أيضًا في سياق التطور الديني والفكري عمومًا في المنطقة. وعلى عكس ما يقوله جان هادو Jean Hadot  وأندريه بول André Paul من أن الإسرائيليين تفردوا عن شعوب المنطقة في التمييز بين الأسطورة والرؤية من جهة والواقع والتاريخ من جهة أخرى[9]، فإن قراءة التاريخ تشير بوضوح إلى أن القرون القليلة السابقة للميلاد كانت مشبعة من جهة بإعادة قراءة الأسطورة على ضوء الخبرة الدينية التأليفية المستفيدة من اللقاء الحضاري والثقافي الذي تم على أرض سوريا خلال القرون السابقة، ومن جهة أخرى بتيارات فكرية جديدة كانت تسعى إلى قراءة جديدة للتاريخ على ضوء الفلسفة والفكر النقديين. وكانت نتائج هذا التحول واضحة في كامل منطقة شرقي المتوسط خلال القرون القليلة التالية، أكان على الصعيد الديني، حيث برز الفكر المسيحي المتحرر من شراك الفكر اليهودي المنغلق والحرفي، أو على الصعيد الفلسفي حيث ظهرت مدارس فكرية كثيرة كانت استمرارًا للأرسطية والأفلاطونية ثم الأفلاطونية الجديدة. على هذا، يخطئ هادو وبول عندما يقولان إن الإسرائيليين كانوا أول من استطاع أن يفصل في التاريخ بين المجالين الكوني والأرضي. ويستمران في خطئهما (المقصود؟!) ليقولا إن الفكر اليهودي كان على خلاف الديانات الأخرى في المنطقة يرتكز على غير ما يحرك تلك الديانات حيث لا يتأسس على أساطير الخلق الإلهي! وفي الحقيقة، ماذا يجدي أن نقوم بدراسات حول دلالات الألفاظ إن كنا نريد إسقاط أو إقحام معنى لا يوجد أصلاً في المرادفات النصية! فالبحث في الأسفار التوراتية عن أصول لخلاص عميق من الثوابت المكانية الزمانية، عبر قراءة "الآخروية" و"الرؤيوية" في كتابات الأقدمين، لن تثبت لنا أن الأدب الرؤيوي يعود إلى فترة السبي اليهودي، ولن تقدم لنا دليلاً على أن الشعوب التي سكنت المنطقة ظلت بانتظار العودة من السبي لترفع أساطيرها إلى مصاف الديانات السرانية التي كانت قد أصبحت مشبعة بالفلسفة والرؤى على حد سواء! ديانات "مشرقية" تجد أصولها في تاريخ سحيق من التطور المتكامل لعناصر المجتمع والبيئة المحليين في مختلف مناطق الشرق الأدنى القديم.

وإن كان من الصحيح أن سفر حزقيال بشكل خاص يعد أحد بوادر الأدب الرؤيوي اليهودي، لكن لنتذكر أن الرؤية تتمحور فيه حول الهيكل وتحوله من هيكل أرضي إلى هيكل سماوي. ويشير ذلك إلى عدم القدرة بشكل أساسي على طرح تغيير جذري على مستوى المركزية المكانية وحتى الزمانية للعبادة. وهو أمر ستعود للوقوع فيه كافة التيارات التي اعتمدت هذا الفكر أساسًا، أكان بشكله الأرضي أو الرؤيوي. ولا يمثل التقسيم الداخلي للمعبد ومطابقته بسرانية التحول الأرضي - الروحي إشارة حقيقية إلى تغيير قادر على الخروج من إطار الزمنية اليهودية. أما المحاولة الحقيقية للخروج من هذا التمركز فنجدها في كتاب أخنوخ، وهي محاولة لم تخفق تمامًا، لكنها ظلت متمحورة في إطار فكر زمني أرضي.

أخنوخ والأدب الرؤيوي

يقدم لنا كتاب أخنوخ الذي ترجع نسخته الأولى إلى نحو منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، الوصف الأكثر دقة للهيكل السماوي كانتقال منهجي وأخير لمعبد أورشليم. ونرى في الحقيقة عبارات مدهشة[10] للسمة الرؤيوية في أنقى مظاهرها: وهي عبارات تردد صدى الرؤية الشهيرة لمركبة حزقيال، مع بشكل خاص العرش والنار والعجلات والبلور، كما أنها تنقل صورة "العجوز" الإلهي الجالس على العرش في سفر دانيال[11]. غير أن المقطع الذي نجده بوضوح كامل في كتاب اخنوخ هو ذكره لمشهد "بيت" يهوه في سفر الملوك الأول[12]. ووفق هذا النص التوراتي، فإن هيكل سليمان كان مبنيًا من قسمين: خارجي هو البيت المسمى هكل[13] hékal والداخلي في قلب الأول ويسمى الدبير débir.

كان الكاهن الأكبر هو الوحيد الذي يستطيع الدخول إلى القسم الثاني والداخلي من الصرح في يوم الكفارة[14]. ونجد هذا التقسيم الثنائي للهيكل التاريخي للقدس في كتاب أخنوخ الأول، حيث يتم إسقاط هذه الثنائية على الرؤيا السماوية للرائي أي أخنوخ نفسه. وهكذا، على غرار الكاهن الأكبر في الهيكل فإن الكاهن الأكبر السماوي، أي أخنوخ نفسه، يدخل إلى باحة المعبد، ويلج من ثم إلى داخل الهيكل، ليدخل بعد ذلك إلى المكافئ السماوي لقدس الأقداس. وفي هذا الموضع الفريد والخاص إنما يتم التجلي الملكي للإله الكوني الجالس على عرش مجده، وحوله كل شيء ساكن في صمت أبدي. فالملائكة أنفسهم، وهم كهنة متحولو الشكل، يُستبعدون عن هذا الموضع الفائق القداسة كما كان حال الكهنة في خدمة الهيكل الأرضي.

لقد تمثلت أخويات قمران بشكل واسع هذا النموذج الجديد وطبقته حتى في حياتها اليومية. ولعل النص الطويل الذي وجد ضمن مخطوطات البحر الميت، وسماه الدارسون مدرج الهيكل[15]، يعد شهادة جلية على ذلك. ففي انتظارهم الكشف عن الهيكل السماوي وهو الهيكل الحقيقي الوحيد، كانت الجماعة، التي سمت نفسها جماعة الميثاق الجديد، وهي تسمية تشير بشكل من الأشكال إلى تجديد الرؤيا أو إلى الرؤيا الحية والمستمرة، مما يعني أنها كانت على قطيعة وخلاف مع الصرح الأرضي ومع الشعائر المقامة فيه في أورشليم، تعترف بالهيكل الحقيقي، الهيكل الرؤيوي السماوي. ولا شك أن يسوع الناصري نفسه قد عمق هذا التيار الذي كان سائدًا إلى حد ما في ذلك الوقت. ومن هنا كانت كلماته حول هدم هيكل القدس وإعادة بنائه، أو حول تطهيره[16]، وكذلك الإعلان عن حلول الهيكل محل المعبد الأرضي حيث "سيمجد الآب بالروح والحق"[17].

لا بد أن نشير هنا إلى أن سفر حزقيال كان أشبه بجامع لكافة أنماط الأدب الرؤيوي التي كان يمكن أن نقرأ عنها في تلك المرحلة قبل الميلاد. فلا شك أنه سفر لم يكتب في فترة واحدة أو على يد كاتب واحد. وما الوحدة الأسلوبية فيه إلا انعكاس للنمط الأدبي الذي تم استقاؤه من مصارد مختلفة، هي في الواقع الفكر الذي ساد في بلاد الشام والرافدين عبر قرون طويلة قبل ما يعرف بمرحلة كتابة العهد القديم. وإضافة إلى الرؤيتين الشهيرتين في سفر حزقيال، المركبة الإلهية والهيكل الإلهي، نجد أنه يتحدث كذلك عن "الكتابة السماوية"، ونعلم كيف أن "الكتاب" أو السفر الإلهي حكمًا كان قد أعطي للنبي بطريقة شبه سحرية. وفي هذا الإطار فقد استقت الكتب الرؤيوية فيما بعد الكثير من هذه الأفكار لتستثمرها وتوسع رموزها وشرحها. وهنا لا بد من الإشارة إلى الذكر المتواتر والفائق الأهمية للألواح السماوية (الألواح المحفوظة) التي دونت عليها "أسرار" التاريخ الماضي والحاضر والمستقبل، للبشر وللعالم كله. ونجد ذكر هذه "الألواح" بشكل خاص في كبرى النصوص الرؤيوية من القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، وهي بشكل خاص كتاب أخنوخ الأول، وكتاب الخمسينيات، وكتاب وصايا الشيوخ الإثني عشر، وخاصة منها وصية لاوي ووصية أشر. ونجد هنا على سبيل المثال في المقطع التالي صورة أخنوخ، النسخة المطابقة للبطل البابلي إنمدورانكي، وهو يتلقى معرفة الأسرار السماوية عن طريق الألواح الإلهية:

وقال لي الملاك أيضًا: انظر يا أخنوخ إلى هذه الألواح السماوية، واقرأ ما كتب فيها وتعلم أدق تفاصيلها. وقد نظرت إلى هذه الألواح، وقرأت ما كتب فيها، وعرفت كل شيء. قرأت كتاب وأعمال البشر، جميع أبناء الجسد الأحياء على الأرض، حتى الجيل الأخير[18].

نرى بالتالي، أن الكشف الكامل نقل إلى أخنوخ عبر الملائكة، وهم الوحيدون الذين يستطيعون الوصول إلى الكتابات السماوية. فالرؤيا هي الوسيط الفعلي في هذا النقل، وأخنوخ الذي يوصف هنا بأنه "المفسر" و"الكاتب" السماوي، أصبح بمصاف الملائكة وفي رتبتهم، وبعبارة أخرى بين الكائنات السماوية الحقيقية[19].

يعطي المؤلَّف الرؤيوي الهام أيضًا والمعروف بـ كتاب الخميسينيات، المعنى الدقيق للاستخدام السماوي للألواح. فهو يقترح تفسيرًا جديدًا لهبة شريعة موسى، تفسير يغير بشكل جذري المفهوم السائد لها. فهذا الكشف التأسيسي للتوراه لم يعد في سيناء بل في السموات. بل وأكثر من ذلك، فإن الله هو من يملي بنفسه الأمور المكتوبة ويقوم ملاك بكتابتها على ألواح سماوية. وفي هذه الكشف الذي يفترض أنه الوحي الصحيح الوحيد لأنه الوحي الأخير، تشتمل كافة الوصايا المعروفة في الشريعة السينائية، وثمة أمثلة كثيرة من النص يمكن أن تبين ذلك. غير أن هذه الوصايا باتت مقترنة هنا بكشف، وهو كشف مدون على الألواح السماوية هذه المرة، لتاريخ البشر مبينًا ومرئيًا في تمامه، أي في تحوله. وهذا التاريخ هو الذي أخذ مكانه حصريًا في الكتابة على الألواح السماوية وبلغ معناه الأكمل فيها[20].

نحن هنا أمام تحول جذري، أو بالأحرى انتقال نوعي، في السموات وفي إطار التحديدات القصوى للتاريخ، مقارنة مع نزول الوصايا أو الشريعة في سيناء. فمع الأدب الرؤيوي، تحول الهيكل كما والخدمة الشعائرية ضمن الشخصانية السماوية، وهذا ينعكس على جبل سيناء نفسه وعلى الله وموسى، فنحن هنا أمام كائنات سماوية بامتياز. لقد حاول هذا الأدب فتح طريق جديد لاكتشاف أغوار النفس الإنسانية، ولطرح منظور جديد لعلاقة الإنسان بالإله، منظور كان لا بد له أن يتوَّج بالتحرر الكامل من "الناموس" المكتوب على ألواح إلى ناموس محفور في "ألواح سماوية"، ومدون بإملاء إلهي، ناموس لا يمكن إلا أن يكون متحققًا في الإنسان نفسه. لكن كيف السبيل إلى تحقيق هذه المعادلة الصعبة، والخروج من أطر الإلتزامات بمكانية وزمانية العقيدة؟

الأدب الرؤيوي وتأسيس القانون أو كتب موسى

في الوقت الذي كانت تكتب فيه هذه الأعمال الرؤيوية التي ذكرناها، كانت شريعة موسى المؤلفة من الكتب الخمس التوراتية الأولى (القانون) قد فرضت نفسها ككتاب يمثل العهد الجامع لليهود. وفي هذا السياق، نعرف أن الكتب اليهودية الأساسية نفسها هذه كانت تندرج إلى حد ما في نطاق ما يسمى الكتابات الرؤيوية، التي ليست في الجوهر إلا بدايات الكتابات التي عرفت فيما بعد بالمنحولة. فهذه الكتب استقت الكثير، إن لم نقل معظم أفكارها ونصوصها، من كتابات وأفكار الحضارات التي كانت متقدمة في المنطقة. ونحن نعرف في الحقيقة الدور الحاسم الذي لعبه عزرا، قبل قرنين تقريبًا من هذا الأدب الرؤيوي في إرساء عبادة حقيقية لما عرف بالتوراه. فيهود تلك الفترة، أي القرنان السابقان للميلاد تقريبًا أو أكثر بقليل، كانوا يتمتعون بوجود أساس قوي لديانة بدأت تفرض قواعدها على حياتهم اليومية: الهيكل وعبادته وكهنوته، والتوراه وقراءتها وتفسيراتها. ولا شك بأن الشروط والظروف نفسها التي أدت إلى تحول الهيكل وعبادته وخدمته إلى وقائع سماوية هي كانت أيضًا، خلال الفترة نفسها، وراء تحول توراه موسى إلى ألواح سماوية. لهذا، فإن الإطار الذي نشأت فيه الكتابات الرؤيوية أو الذي أدى إلى نشوئها نجم عن أزمة عامة بدأت منذ فترة أسبق في التاريخ. لكن هذه الأزمة التي كانت تتلخص في محاولة التوفيق بين شريعة موسى وخدمة الهيكل من جهة واستحالة دمج هذا الفكر مع سلطة سياسية مناسبة، ليست سوى الوجه الخارجي إن صح التعبير لمشكلة أعمق في سياق التاريخ اليهودي عمومًا، وتاريخ الكتابات المنحولة خصوصًا. فهذا الشرخ نشأ في الأساس كما تظهر الدراسات والاكتشافات الحديثة حول أصول النصوص اليهودية، من استثمار الأدب الديني الذي كان سائدًا في المنطقة في إطار مجموعة شعوبية لم تكن متجانسة فكريًا في الحقيقة، إنما كانت تبحث عن هويتها. وليست محاولة إدراج هذا الأدب في نطاق فكر قومي أو سياسي إلا تعبيرًا عن حالة "التيه" التي كانت تعاني منها هذه المجموعات. وما استمرار محاولات الكتابة الرؤيوية، ما يعرف اليوم بمنحولات العهد القديم، إلا دليلاً على عدم القدرة على التوصل إلى بناء أسس حقيقية تربط الواقع السياسي بمنظور شعوبي أو قومي. فهذه الجماعات كانت قبل هذا التاريخ بعدة قرون من بداية تأسيسها لشخصانية تاريخية عبارة عن مجموعات من البدو المرتزقة التي كانت تؤجر نفسها لشعوب المنطقة للقيام بأعمال مختلفة ولتخوض معها حروبها ودفاعاتها كما تشير نصوص كثيرة[21]. ولهذا بالذات لم يكن لمثل هذه السلطة التي كان يبحث عنها اليهود في تلك المرحلة، رغم استتباب طقس ديني على خلفية نصية قوية تثبتها شريعة "إلهية"، إلا أن تكون سلطة ملكية (على غرار الملكيات التي كانت سائدة في ذلك الوقت أيضًا). غير أن هذه السلطة التأسيسية لقومية يهودية سرعان ما سقطت هي نفسها في ظل هذه الأزمة التي لم تحل يومًا في التاريخ اليهودي. وما كانت محاولة أرسطوبولس (104 - 103 ق.م.) أو كذلك ألكسندر حنة (103 - 76 ق.م.) لتأسيس تولية الملك في ظل الحشمونيين، لتوقف صيرورة إعادة التفسير المتعلقة بكل شيء تقريبًا من مكتسبات النصوص التي لم يكن قد مضى الكثير على وضعها في الحقيقة! وعلى العكس، فإن كون هؤلاء الملوك جمعوا الكهنوت مع الملكية فاقم من الأزمة. فضم الملك لصفة الكاهن الأكبر كان يشير إلى سلطته على الهيكل. وهكذا، مع ملكية هيرودوس الكبير المشكوك فيها كملَكية يهودية، والتي كانت بالأحرى ملكية هلينستية وقبيل رومانية إن صح التعبير (40 - 4 ق.م.) وكذلك خلفائه (4 ق م - 44 ب.م.)، تفاقم الجدل حول مفهوم الهيكل المركزي وسلطته. وفي هذا الإطار، المتوافق زمانيًا وثقافيًا على الأقل، يأتي إعلان يسوع الناصري (الذي يعد نبيًا رؤيويًا ضمن السياق التاريخي اليهودي) بأن مجيء "ملكوت السموات" لا يمكن إلا أن يجلب معه أكثر ما كان ينتظره معاصروه في انتظارهم "الرؤيوي" من عدل وإنصاف.

لقد حاول رواد الكتابة الرؤيوية تقديم تفسير معمم لكل الخيرات المؤسساتية. واقترحوا قراءة بل "رؤية"، لأن الأمر يتعلق بـ "رؤى"، التحول المنهجي لما هو أرضي إلى العالم السماوي. فالأرض نفسها وكل ما يعمرها لم تفلت من هذا التفسير، فأصبحت "الأرض الجديدة"، وكذلك الإنسان الذي كان موعودًا بصف الكائنات السماوية، أي الملائكة (انظر على سبيل المثال "وصية أيوب"[22] وما أعلنه بولس للمسيحيين في الرسالة إلى أهل فيليبي[23] والرسالة إلى أهل قولوسي[24]). وقد وُصفت الآثار المباشرة لتحول الإنسان في النصوص الرؤيوية اليهودية واليهودية - المسيحية أيضًا، وما يستتبع ذلك من قدرات أو صفات كالتحدث بلغات عديدة[25]، أو مظاهر الطقوس الملائكية[26] والبهاء والتمجيد[27]. وفي هذا الإطار ليس ثمة حاجة للتذكير بأن الكتابات أصبحت "مستوحاة" ومحمولة أو مكتوبة على "ألواح سماوية"، هذه الألواح التي استمر تواترها في مختلف قصص اللوح المحفوظ في الثقافات التالية عبر القرون.

يمكننا القول بالتالي إنه بين القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد قادت صيرورة ولادة الأدب الرؤيوي اليهودي إلى كثرة استثنائية في الكتابات التي باتت تقدم ككتب أو وصايا أو رسائل، وأخيرًا كرؤى منسوبة لشخصيات معروفة في التاريخ، وهذا ما استمر كذلك عند "المسيحيين الأوائل" بشكل خاص. وقد حفظ لنا هذا التراث من هذا المنظور تاريخ نشوء ما يعرف اليوم بالكتب المقدسة أو السماوية، المأخوذة كما تصرح نصوص كثيرة عن ألواح سماوية محفوظة. وكان حجب الأسماء الحقيقية لكتاب هذه الرؤى بهدف إعطائها مزيدًا من القداسة وتسليط الضوء بشكل خاص على أسماء الشخصيات التي ارتبطت أصلاً برؤى أو بكشف سماوي.

يحاول بعض المؤرخين ربط صعود هذا التيار الأدبي الرؤيوي مع حالة الثورة المكابية ضد الرومان، التي يرون فيها حالة كانت قد أصبحت شبه شائعة لأقليات بمواجهة أنظمة قوية ظهرت خلال القرون القليلة السابقة والتالية للميلاد مثل اللجيديين في مصر أو السلوقيين في سوريا، مما أدى إلى إنهاء ملكيات محلية صغيرة كانت شائعة في المنطقة. وفي الحقيقة، أعتقد أن هذا الربط ضعيف للغاية، خاصة فيما يتعلق بالمكابيين، الذين كانوا يدافعون عن حلم "رؤيوي" بالأحرى من دفاعهم عن ملكية يهودية. وإن كانوا يحلمون فعلاً بتحقيق مملكة يهودية، فكانت على أساس رؤى المملكة السماوية وليس الأرضية. وفي الحقيقة، فإن الرغبة في تحويل هذا الإرث الرؤيوي الذي سمي لاحقًا في جزء كبير منه بالمنحول، إلى إرث يهودي، هو خطأ مميت يراد به إبراز التاريخ اليهودي في صورة أو حجم أكبر مما هو عليه في الحقيقة ضمن تاريخ المنطقة. هل يجب أن نشير هنا إلى الدراسات السكانية والعمرانية والتاريخية وغيرها التي تؤكد بوضوح على تنوع الثقافات التي كانت موجودة في فلسطين، بل في القدس نفسها، خلال القرون القليلة السابقة والتالية للميلاد، وأن "الثقافة والفكر" اليهوديين لم يكونا ليمثلا النسبة الأكبر انتشارًا وعددًا في هذا الوقت وهذا المكان؟ فإذا أردنا فعليًا تقييم هذا التراث الرؤيوي ضمن مسيرته التي أدت إلى الأدب المنحول الواسع والمتعدد التيارات، علينا أن نرى أصوله التي تعود إلى جماعات النصارى التي كانت تؤسس لمنحى جديد بعيد كل البعد عن اليهودية، منحى أريد له أن يكون بعيدًا عن العصبية "القومية اليهودية" وأمميًا بقدر ما أخذ واعترف بالثقافات الأخرى. وبغض النظر عن نجاح هذا التيار في مسعاه، لأننا نعرف العصبية المتشددة التي خرج منها ممثلة بالغيورين والاسينيين وسواهم، لكن النصرانية بحد ذاتها كانت سببًا حقيقيًا في ولادة أدب ظلت آثاره ماثلة في آداب رؤيوية ودينية استمرت قرونًا طويلة. ولهذا، عند الحديث عن التراث الرؤيوي الكبير كمًا ونوعًا، علينا أن ننظر له ليس كتراث يهودي بل كتراث يهودي - نصراني - مسيحي على خلفية ثقافية يونانية ورومانية. وبدلاً من إضافة التراث المسيحي للكتاب المسحييين الأوائل إلى مجلد الكتابات اليهودية، علينا الاعتراف بوضوح بأن هؤلاء الكتاب رسموا طريق الأدب الرؤيوي، والكتابات المقدسة اللاحقة على خلفية ثقافية أشمل من الكتابات القانونية التوراتية. وعلى ضوء ذلك يمكننا ربما فهم ما كتبه اللاهوتي الألماني E.  Käsemann عام 1960: "إن الأدب الرؤيوي أصبح أصل كل لاهوت مسيحي"[28].

كتب ما بين العهدين

كان اكتشاف مخطوطات البحر الميت مفاجأة كبيرة في وسط العلماء المهتمين بتاريخ الكتابات المقدسة! ولم يتطلب الأمر منهم وقتًا طويلاً حتى أدركوا أنهم أمام مجموعة من هذه المخطوطات التي كتبت بأسلوب الأدب الرؤيوي من جهة، وأنها حملت أصول كتابات كانت معروفة في مخطوطات متأخرة في كنائس بعيدة مثل السلافية أو الإثيوبية أو غيرها، ولم تكن معروفة الأصل من جهة أخرى. ولم يكن من الصعب إدراج هذه النصوص بين الكتب المنحولة أو ما عرف لاحقًا بكتابات ما بين العهدين. بل إن هذه النصوص فتحت الباب من جديد خلال العقود القليلة الماضية لإعادة النظر بتاريخ كتب العهد الجديد المنحولة، وشكلت إطارًا تاريخيًا وفكريًا لإعادة ترتيب وتصنيف المخطوطات المنحولة. وفيما يلي نعدد مجموعة النصوص التي وجدت أصولها في قمران أو نُسبت إلى الملة الأسينية اعتمادًا على مقارنتها بأسلوب أو فكر هذه الملة. وهي تعتبر من المنحولات التي كانت منتشرة في كنائس مختلفة.

كتاب أخنوخ

كان مؤلفو الرؤى اليهود يبحثون كما أشرنا عن شخصيات تاريخية شهيرة يوافق عليها الموروث الشرعي وتكون قادرة على تحقيق الكشوفات التي كان هؤلاء الكتاب يريدون نقلها. و«الشيخ أخنوخ» الذي يقول عنه سفر التكوين «إنه مشى مع الله» قبل أن يُرفع إلى السماء[29]، والذي يمثله أيضًا مؤلف سفر يشوع بن سيراخ كـ «معجزة العلم على مدى الأجيال»[30]، كان مطابقًا تمامًا لمثل هذه الوظيفة. والحق أن هذه الشخصية تُعدُّ نموذجًا للكائن المتفوق والذي يستمد معرفته مباشرة من السماء، الأمر الذي يجعلنا نجدها في حضارات كثيرة في صور متعددة إنما ذات مواصفات شبه متطابقة. وهكذا كان أخنوخ إضافة إلى كونه الشيخ السابع خلال فترة ما قبل الطوفان، صدى الملك السابع ما قبل الطوفان في الأسطورة البابلية، إمدورانكي، ومثله كاشف الأسرار الالهية ومتلقي ألواح الآلهة. وإذا كان أخنوخ يطابق من جهة بثوت المصري أو بالنبي إدريس في الاسلام، فذلك بالدرجة الأولى لأنه يعتبر مانح الحضارة للإنسانية وكاشف فنون المعرفة والعلم. فليس من المدهش إذن أن يصبح أخنوخ بطل سفر كامل من الأدب الرؤيوي يحمل اسمه، وفيه تتمثل حياة أخنوخ كرحلة مستمرة من الكشف والمعرفة الالهيين.

وصلنا المصدران الأساسيان للأدب الأخنوخي عن طريق نسختين أساسيتين هما: كتاب أخنوخ الاثيوبي (أو الحبشي) وكتاب أخنوخ السلافي. وكتاب أخنوخ الأول الذي نعرض له هو تجميع لم يحفظ بكامله سوى في نسخة إثيوبية معروفة منذ القرن الثامن عشر. وينقسم المؤلف بشكل واضح إلى خمسة أقسام هي:

-       الجزء الأول: (I - IVXXX). ويشتمل على فاتحة وسقوط الملائكة ورحلات أخنوخ الرؤيوية.

-       الجزء الثاني: (IIVXXX - IXXL). ويشتمل على «حكم» أخنوخ.

-       الجزء الثالث: (IIXXL - IIXXXL). ويشتمل على بحث في الفلك.

-       الجزء الرابع: (IIIXXXL - CX). ويشتمل على أحلام أخنوخ الرؤيوية.

-       الجزء الخامس: (ICX - IIIVC). ونجد فيه الخطب الأخلاقية.

لقد حفظ الجزء الأول والجزء الأخير جزئيًا في اللغة اليونانية. وعُثر في قمران على أجزاء آرامية من أقسامه الأول والثالث والرابع. أما القسم الثاني منه فليس مؤكدًا من خلال أية وثيقة آرامية.

يُعدّ الجزء الثاني، «الحِكَم»، أهم أجزاء الكتاب. ومن المؤكد أن مؤلفه غير مؤلف أو مؤلفي الأجزاء الأخرى من كتاب أخنوخ هذا. ويدل على ذلك تكرار نَسَب أخنوخ كما لو كان القارئ لا يعرفه. كما أن المسيح يلعب دورًا كبيرًا فيه في حين أنه غائب عن الأجزاء الأخرى. هذا إضافة إلى أن عبارات مثل «رب الأرواح» و«إله العالم» لا توجد في بقية الأجزاء. ونجد في الجزء الأول التعارض بين عقاب الكفار وغبطة المختارين في الآخرة. والفصلان الأخيران منه استطرادات حول الملائكيات والكونيات. والجزء الثاني من «الحِكم» (VLX - IIVL) يعطي رؤية أدق للحساب. ونجد فيه أن لقب المصطفى قد زيد بلقب «ابن الانسان» العارف والعادل. ويذكر الفصل IIVLX مرتين «دم البار» الذي صعد من الأرض باتجاه رب الأرواح. لقد سبق استشهاد البار استشهاد الشهداء كلهم، مما يجعل أخنوخ يرى البار الشهيد كينبوع للعدل لا ينضب تحيط به ينابيع الحكمة، وتلك إشارة إلى معلم الملة وتلاميذه. ويشير استشهاد أفراد الملة ربما إلى الحرب التي خاضها الغيورون ضد الرومان ومقتل آخرهم في مسعدة.

إن ابن الانسان هو "القاضي" الحاكم في الآخرة، كما أنه موجود قبل الوجود، طالما أن اسمه لُفظ قبل خلق الشمس وعلامات البروج. وهو معطي روح الحكمة والقدرة. وفي الفصل IL عرض لتعليم مفصل حول البعث. وفي الفصلين XXL وIXXL نجد خاتمة كتاب الحكم حيث يصف أخنوخ صعوده وتوليته كابن للانسان. ويبدو أن «الحكم» أُلّفت بشكل تصاعدي بحيث تقدم كشوفات تعليمية أكثر فأكثر سموًا. وقد أدى دور ابن الانسان فيها وعدم اكتشاف أي جزء منها في قمران إلى اعتقاد بعضهم بأنها كتابات مسيحية. لكن هذا الاعتقاد لا يقوم على أسس صحيحة. فليس فيها أي من الصفات الخاصة بشخصية يسوع كما هي مقدمة في الأناجيل. وابن الانسان هنا هو شخصنة لمجموعة المؤمنين السرانيين الذين يشعرون بالاضطهاد.

ومن هنا يتبدى بوضوح الأصل الأسيني للـ«حِكَم»، وبخاصة إذا تذكرنا الاضطهاد العنيف الذي تعرض له أعضاء الملة من خصومهم الفريسيين والصدوقيين. وبالمقابل يمكن مقابلة أو حتى مطابقة مصطفى الحق في «الحكم» مع معلم الحق في الشروحات القمرانية. أما عدم العثور على أي من أجزاء «الحكم» في قمران فهذا لا يعنى أبدًا أنه لم يكن موجودًا في المكتبة الأسينية. وقد اختفت اليوم مؤلفات كثيرة كان يمكن أن توجد في هذه المكتبة. ولا يستبعد أبدًا أن يكون المؤلَّف قد وضع في جماعة أسينية أخرى غير جماعة قمران، إذ كما ذكرنا في مقدمة الجزء الأول لم يكن موقع قمران هو الموقع الأسيني الوحيد. كذلك يمكن أن نطرح فرضية أخرى وهي أن تكون هذه الحكم قد كتبت بعد "مسعدة" حيث قام بعض الناجين ربما بكتابتها، استمرارًا لتقليدهم، حيث وضعوا فيها أهم ما حفظوه من كتابات قديمة أو من تعاليم.

وقد ذكر كتاب أخنوخ في العهد الجديد، إذ جاء في رسالة يهوذا في حديثه عن الأعضاء الكفار في الجماعة المسيحية: «وقد تنبأ عنهم أخنوخ سابع الآباء من آدم إذ يقول: "هوذا الرب قد أتى في ألوف قديسيه ليجري القضاء على جميع الخلق ويخزي الكافرين جميعًا في كل أعمال الكفر التي ارتكبوها وفي كل كلمة سوء قالها عليه الخاطئون الكافرون"». ونجد هذا الاستشهاد نفسه في كتاب أخنوخ (I، 9) مع شيء من التعديل. وهذا يعني أن بعض أوساط الكنيسة الأولى على الأقل كانت تميز هذا الكتاب بشكل خاص. وإضافة إلى ذلك فقد أخذ يسوع لقب ابن الانسان وأطلقه على نفسه كما جاء في الأناجيل. فهذه التسمية ليست مأخوذة فقط من كتاب دانيال كما يشير المفسرون عادة، بل وعبر كتاب الحِكم الذي ينقلها محملة بالغموض والسرانية. ومن هنا يعد كتاب أخنوخ أهم المقدمات وأكثر التحضيرات سرية لمسيحانية العهد الجديد. وبعبارة أخرى، يشكل هذا الكتاب أحد الأدلة الواضحة على الأصول الأسينية أو على الوسط الأسيني الذي وجدت فيه بدايات المسيحية، هذا الوسط الذي كان يمكن وصفه بمرادفات كثيرة أخرى، منها "الغيورين" أو "النصارى".

الخمسينيات

نجد أقدم ذكر وإسناد لكتاب الخمسينيات في كتاب دمشق[31]، حيث يرد تحت عنوان «كتاب تقسيمات الأزمنة بحسب خمسينياتها وأسابيعها من السنين». وهذا العنوان موسع في النسخة الاثيوبية على شكل استهلال: «هوذا سرد التوزيع الشرعي والمؤكد للأزمنة والأحداث والسنوات في أسابيعها وفي خمسينياتها على مدى سنوات العالم [...]».

ويمكن تعريف كتاب الخمسينيات على أنه سرد مواز للتوراة ومخصص لطرح بعض الإضافات التي تعبر عن أفكار ومعايير مؤلفها أو الوسط الذي وُضعت فيه، مع إظهار المعارف الخاصة التي يمتلكها المؤلف والمجهولة عند العامة. ويعتمد كتاب الخمسينيات بشكل أساسي على تقسيم الزمن إلى متتالية من الوحدات التي تسمى خمسينيات (حيث كل خمسينية 49 سنة)، بحيث يطبق أحداث سفري التكوين والخروج على هذه التقسيمات. وتقسم كل خمسينية بدورها إلى سبعة أسابيع من سبع سنوات، حيث السنة 364 يومًا كما في «البحث الفلكي» من كتاب أخنوخ الأول. واقتراح مثل هذا التقويم، المتوافق تمامًا مع التقويم الوارد في كتاب أخنوخ، بل ومع التقسيمات الأسينية عمومًا للأعياد والأوقات المقدسة، وهو تقويم مشتق من التقويم الذي كان معمولاً به في فلسطين عمومًا ولدى الشعوب الفينيقية بخاصة، يشير إلى السمة الحالاقية Halakique (أي المعيارية والقضائية التشريعية) للعمل والتنظيم الحياتي، ويثبت بما لا شك فيه الأصل الأسيني للخمسينيات. ولا شك أن وضع تقويم خمسيني مميز كان يهدف إلى تحديد الأعياد الدينية وإحياء صورة لليهود مميزة عن الشعوب الأخرى كشعب مختار للميثاق مع الله، وذلك أن الزمن كله مقسم بما يبرز التاريخ اليهودي حصرًا. فالتاريخ بحسب هذه التقسيمات محسوب ومقدر له أن يستمر لمدة 4900 سنة، أي 100 خمسينية من 49 سنة. ويكون منتصف التاريخ هو الدخول إلى الأرض الموعودة في عام 2450. ونجد في الخمسينيات كافة الأحداث التوراتية الأساسية، مثل موت آدم أو تقدمة اسحق كذبيحة، معطاة وفق هذا التقسيم الخمسيني. ووفق هذا التقويم تصادف الأعياد الطقسية في اليوم نفسه من كل سنة، وهي محاولة واضحة لإعطاء هذه الأعياد صفة قدسية. لكننا نعلم بالمقابل أنه كان من الصعوبة الحفاظ على هذه الدقة مع الاختلافات المتكررة من سنة إلى سنة، وهي إحدى المشاكل التي لم يكن الأسينيون فقط من يعاني منها.

وصايا الشيوخ الاثني عشر

تشكل وصايا الشيوخ الاثني عشر مؤلفًا واحدًا جمع «وصايا» كل من أبناء يعقوب الاثني عشر. فقد وجدت في الواقع عدة أجزاء من وصية آرامية للاوي في المغارة I من وادي قمران، ثم عدة أجزاء أخرى من المؤلف نفسه في المغارة VI. وكانت هذه النسخة من الوصية الآرامية للاوي معروفة إذ وجدت عدة أجزاء منها في الكنيس القرائي في القاهرة القديمة منذ بداية القرن العشرين. وتشهد هذه الأجزاء، مع أجزاء موازية محرفة لوصية لاوي وجدت في مخطوط يوناني في جبل آثوس Mont-Athos، على وجود نص أطول من النص الحالي لوصية لاوي. كذلك فقد وجد جزء من نص عبري لوصية نفتالي في المغارة VI، لكن أهميته ثانوية.

وتثبت هذه الأجزاء الآرامية والعبرية المكتشفة في قمران أن أصل الوصايا ليس مسيحيًا. وإن كان عدد الأجزاء التي وجدت في قمران من وصايا الشيوخ الاثني عشر قليلة، لكنها ترجح بشكل لا يقبل الجدل الأصل الأسيني للعمل كله. وبالمقابل فإن المخطوط اليوناني يظل غامض الأصل، وهو يجعلنا نعتقد بإمكانية أن تكون بعض الوصايا مختصرة كما وصلت إلينا عن أصل ضائع حتى الآن.

لقد نقل وصايا الشيوخ الاثني عشر إلى اليونانية نساخ مسيحيون. ومما لا شك فيه أنهم تدخلوا في النص في أكثر من موقع لإعطائه بعدًا مسيحيًا. لكن التحليل الدقيق يبين أنهم لم يغيروا النص ككل.

يمكن تأريخ الوصايا بشكل دقيق إلى حد ما من خلال النبوءات المذكورة فيها. فما يشير إليه لاوي مثلاً من احتلال القدس يعيدنا بشكل واضح إلى احتلال المدينة على يد بومباي عام 63 قبل الميلاد. وثمة إشارة واضحة في وصية زبولون إلى الصراع على السلطة بين هيركانوس الثاني وأرسطبولوس الثاني تتوافق تمامًا مع هذا التاريخ. أما الإشارة إلى اعتلاء هيروذوس الأكبر العرش في وصية يهوذا فيمكن أن تعيد الوصايا إلى نحو عام 37 قبل الميلاد. وهكذا يمكن إرجاع الوصايا إلى النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد. وتصنف الوصايا، مع كتاب أخنوخ الأول وكتاب الخمسينيات، كأحد أهم النصوص الخاصة بالملة الأسينية.

مزامير سليمان

عدد مزامير سليمان ثمانية عشر مزمورًا. وهي تشبه المزامير التوراتية، وقد حفظت في العديد من مخطوطات التوراة اليونانية. وهي مؤلفة بالعبرية، لكنها لم تعد موجودة سوى باليونانية وفي نسخة سريانية. وقد اعتُمدت لفترة طويلة في كنائس مسيحية كثيرة. وينسب العنوان «مزامير سليمان» الذي نجده في بداية النص أو في نهايته بحسب المخطوطة هذا العمل إلى سليمان. وقد سعى المؤلف إلى وضع هذه المزامير بما يوافق أسلوب القصائد الغنائية للمزامير التوراتية. وقد اعتمد على عدم ذكر أسماء الشخصيات التاريخية في النص، فوصف بومباي بالـ«خاطئ» و«التنين» و«الكافر»، وسمى الرومان «الأمم الأجنبية» و«الوثنيين».

مؤلِّف مزامير سليمان مجهول، وهو يتكلم باسم القديسين والأبرار والفقراء، الذين يحبون الله، وأبناء الميثاق. وقد اعتبرت مزامير سليمان لفترة طويلة كمزامير فريسية، حتى دعاها بعضهم «المزامير الفريسية». لكن الانتقادات العنيفة جدًا الموجهة إلى «أبناء أورشليم الذين نجسوا معبد الرب ودنسوا بكفرهم التقدمات إلى الله» لا يمكن أن تصيب سوى الصدوقيين. وثمة انتقادات أخرى ضد الذين يعيشون في «المكر» موجهة إلى الفريسيين. والمزمور VI بكامله نقد لاذع «ضد المخادعين». وقد ظل المعنى الدقيق للفظة المخادعين مشكوكًا فيه لفترة طويلة حتى جاء شرح ناحوم ليعرفنا بأن جماعة الميثاق (أي الأسينيين) كانوا يشيرون إلى الفريسيين بـ«الذين يبحثون عن الأشياء المخادعة». وبما أن المؤلف يحارب الجهتين الصدوقية والفريسية فلا بد أنه ينتمي إلى الفئة الثالثة أي الأسينيين. والحق أننا لا نستطيع إلا أن نرى في هذا الأدب عمومًا الذي كتبه الأسينيون بغزارة قبيل القضاء النهائي على اليهود في فلسطين المحاولات الأخيرة المعبرة عن الشعور بقرب كارثة نهائية لا مجال للهرب منها. فالصراع الذي كان قائمًا بين الفرقاء اليهود لم يكن في جوهره صراعًا فكريًا وعقائديًا فقط، بل كان نزاعًا على اعتبار الآخرين هم المسؤولون عن التردي الذي وصل إليه اليهود كلهم والذي كان يقودهم بشكل متسارع نحو نهاية أكيدة. والشعور بذلك كان قويًا من قبل مختلف الطبقات وبخاصة رجال الدين الذين كانوا يرون القوى الكبيرة المتصارعة على المنطقة ويشعرون بعدم المقدرة على مجاراتها وحتى على مسايرتها باستمرار. وبعد الضربة الموجعة التي أصابت أورشليم مع دخول بومباي إليها، شعر الأسينيون بخاصة أن يد الله كانت وراء هذه الكارثة بسبب الكفر الذي كان قد انتشر بين اليهود. ونلاحظ أن مؤلف مزامير سليمان، المتألم جدًا للكارثة التي أصابت أورشليم، لا ينفك عن ذكر الله وحمده لأنه حماه. ونعرف من خلال فلافيوس يوسيفوس أن الأسينيين كانوا متواجدين في أورشليم، بل وأن أحد أبواب المدينة كان يسمى «باب الأسينيين». ولا شك أن أفراد الجماعة الأسينية استطاعوا النجاة كما يشير إلى ذلك مؤلف مزامير سليمان عند اقتحام المدينة.

وصية موسى

في عام 1861 نشر كرياني Ceriani جزءًا من رؤيا كان قد اكتشفها في طرس من المكتبة الأمبروزية في ميلانو. وكان الجزء الأسفل منه سيئًا وقراءة مقاطع كثيرة منه غير ممكنة. وكانت الأسطر الأولى منه غير مقروءة مما كان يفتح المجال للافتراضات حول هذا العمل. ولهذا اقترحت له تسميات عديدة: «صعود موسى»، و«كتاب موسى»، و«وصية موسى». وقد أخذ بالفرضية الأولى وطوبق الكتاب مع الكتاب الذي يتحدث عنه كل من كليمنضوس الاسكندراني وأوريجينيس. ومع ذلك فالنص الذي بين أيدينا ليس رفعًا لموسى الى السموات بل هو وصية له.

إن النص اللاتيني لوصية موسى هو ترجمة لنسخة يونانية كانت مأخوذة عن أصل عبري. ويبدو أن المؤلَّف كتب بين عامي 7 و30 ميلادية، وهو ما تؤكده إشارة إلى فترة حكم هيرودوس الكبير وأبنائه. ولا شك أن مؤلِّف وصية موسى أسيني إنما زهدي النزعة. فهو لا يعطي أهمية للآمال العسكرية. وبالتالي فهو لم يكن ليلتحق بالحركة الزيلية التي كانت تتشكل آنذاك والتي انضم إليها عدد كبير من الأسينيين. وعلى العكس، فهو يلجأ إلى الصلاة وينتظر أن يأتي ملكوت الله. وهو يمثل دون شك الحل الذي لجأت إليه فئة من الأسينيين بل ومن غير الأسينيين في اللحظات الأخيرة قبل المواجهة النهائية التي قضت على اليهود في فلسطين.

استشهاد أشعيا

كان ديلمان A. Dillmann أول من تعرف عام 1877 في الفصول الأولى من مؤلف مسيحي، هو صعود أشعيا، على آثار مؤلَّف يحكي قصة استشهاد النبي أشعيا في عهد منسّي. ففي نهاية القرن الثاني أو في بداية القرن الثالث كان مؤلف مسيحي قد جمع في كتاب واحد وتأليف أدبي واحد ثلاثة مؤلفات مختلفة هي استشهاد أشعيا ووصية حزقيا ورؤيا أشعيا. والرؤيا وحدها تستحق عنوان «صعود أشعيا». ولكي يوحد الكاتب المسيحي هذه المؤلفات بروح واحدة فقد أدخل على وصية حزقيا وعلى استشهاد أشعيا عبارات وصيغًا مميزة من الرؤيا.

إن قصة هرب أشعيا وموته تفسر بشكل أسطوري تاريخ الملة في قمران وقصة مؤسسها. فهناك أولاً انسحاب أشعيا إلى الصحراء يتبعه تلاميذه اعتمادًا على نبوءته «مهِّدوا في الصحراء درب يهوه». وهذا النص نفسه هو الذي يذكره أعضاء ملة قمران لتبرير عزلتهم في الصحراء: "وعندما ستحصل هذه الأشياء في إسرائيل، ففي هذه اللحظات الحاسمة سينفصلون عن الوسط السكني للناس الضالين ويمضون إلى الصحراء لكي يشقوا دربًا «له» كما هو مكتوب...". وكتاب الاستشهاد يعطي السبب نفسه الذي نجده في دستور الجماعة للابتعاد إلى الصحراء وهو الانفصال عن الكفر والظلم. ومقابل جماعة أشعيا هناك جماعة بخيره «مختار الشر» مقابل «مختار العناية» كما في دستور الجماعة. ومنسي نفسه هو تابع لبلعال الذي يتكرر اسمه كثيرًا في مخطوطات الأسينيين للاشارة إلى الشيطان. وإضافة إلى مماثلات كثيرة أخرى بين استشهاد أشعيا والكتابات الأسينية هناك أخيرًا موت النبي الذي يبدو أنه يجسد موت قائد الملة.

كتب وحي العرافات

المقصود بالعرافات هنا العرافات الأبولونيات اللواتي يقدم بلوتارخوس أول شهادة عليهن على لسان هيراقليطس: «إنما العرافة La Sibylle فبفم مهتاج تتكلم، دون ابتسامة ولا زينة ولا خضاب، وصوتها يصل عبر ألف سنة[32]». ولم يكن ثمة في البداية سوى عرافة واحدة كما تشير إلى ذلك عبارة هيراقليطس. ثم ادعت عدة مدن أنها عرفت العرَّافة الأمر الذي أدى إلى الإعتقاد بأنها سافرت. ثم تم القبول لاحقًا أنه كان يوجد عدة عرافات يمكن أن يصل عددهن إلى ثلاثين أو أربعين. وفي القرن الأول قبل الميلاد قلص فارون عددهن إلى عشرة. وترجع أصول العرافة إلى الموروث الذي انتشر عبر حوض المتوسط الشرقي في الألفين السابقين للميلاد على الأقل مع إنتشار عبادة الآلهة التي تقدم الوحي مباشرة ووجود معابد كانت تحصل فيها إيحاءات[33] مرتبطة بطقوس خاصة.

وفي تقديم العرافة في كتاب وحي العرافات لأحداث اليوم الأخير تذكر مرات كثيرة علامات النهاية، وأولها بلعار، وهو تجسيد للشيطان يأتي مباشرة من وصايا الشيوخ الإثني عشر[34]، كما وصورة الأرملة الأكثر غموضًا. إن نهاية الأزمنة ستقترن باضطرابات سياسية، وبعلامات كونية، وسيرافقها حريق شامل. أما المسيح فليس له سوى دور محدد بدقة لا يخرج عنه، فهو يخضع لإرادة الله ولا يتصرف بشيء على هواه. ويدشن مجيؤه عصر ازدهار ورخاء فردوسيين. ومن الواضح أن النبوءة بدمار الهيكل وإعادة بنائه سابقة لعام 70 إذ يجهل المؤلف كما يبدو ما حصل للهيكل وهو يتحدث عن دمار آخروي. وتشير بعض المؤشرات إلى أن الكتاب لا يرجع إلى القرن الثاني قبل الميلاد بل إلى القرن الأول قبل الميلاد[35]. ولا شك أن الكتاب يرجع بأصله إلى الإسكندرية دون إمكانية أن نعرف المزيد عن أصوله. ويبدو أنه كان واسع الشعبية والإنتشار. فسرعان ما حرض أدبًا سيبيليًا منحولاً إذ إن كافة الكتب السيبيلية التالية له تستلهم منه.

أما الكتاب الرابع فيبدو أنه كان تصحيحًا لوحي أقدم حول الإمبراطوريات العالمية. وهو يقدم إشارتين تاريخيتين دقيقتين هامتين: الأولى دمار أورشليم عام 70، والثانية ثوران بركان فيزوف في عام 79 بعد الميلاد، الأمر الذي يرجع كتابته إلى حوالي عام 80 ميلادي. ويبدو أن المؤلف سوري أو من آسيا الصغرى إذ إنه لا يهتم إلا قليلاً بمصر. ومن جهة أخرى يبدو بحسب مارك فيلوننكو أن مؤلف الكتاب يمكن أن يكون من الأسينيين. فعلى الرغم من تغير موقف الملة تجاه تقديم الأضاحي، لكن الموقف الطقسي الهام بالنسبة لها يتجلى بوضوح عند مؤلف الكتاب الرابع، وبخاصة عندما يذكر عبارات التبريك التي تكاد تكون هي نفسها التي تسبق طقس العشاء المقدس لدى جماعة الملة الأسينية[36]. وإضافة إلى ذلك فإن الطريقة التي ينادي بها المؤلف للتطهر تشبه تمامًا طريقة الإغتسال التطهرية الطقسية التي كانت سائدة عند الجماعة والتي نجدها في نص آرامي من المغارة الرابعة في قمران عند البحر الميت، والذي يسمى صلاة لاوي. وفي الحقيقة فإن هذا التقارب مع الأسينية يطرح إشكالية بالنسبة لتاريخ الكتاب، فإذا كان سابقًا للميلاد، أي سابقًا للشتات الأسيني، فإننا نتساءل عما حدا بمؤلفه (الأسيني؟) لكتابته في مصر؟ ومع ذلك، فإن انتشار الفكر الأسيني لم يكن مقتصرًا بالتأكيد خلال القرن الأول قبل الميلاد على سوريا وحدها. ولهذا نرجح أن أكثر من مؤلف ساهم في كتابة هذه الكتب السيبيلية وذلك على فترات متباعدة نسبيًا، بحيث يمكن أن يكون لبعضهم صلة بالأسينية.

رؤيا باروخ اليونانية

نعرف كتبًا كثيرة نسبت لباروخ، ونعدد منها:

-       كتاب باروخ، وهو سفر منحول أدخل في التوراة السبعينية ويسمى أحيانًا باروخ الأول.

-       رؤيا باروخ السريانية، أو باروخ الثاني.

-       رؤيا باروخ اليونانية، أو باروخ الثالث.

-       بقايا كلام باروخ، وهو عنوان النسخة الإثيوبية لمراثي إرميا ويسمى أحيانًا باروخ الرابع.

وتروي لنا رؤيا باروخ اليونانية قصة باروخ الذي يرثي دمار أورشليم، فيظهر له ملاك يقترح أن يكشف له «أسرار الله». ويتم هذا الكشف عبر فصول الكتاب على مراحل. فيقود الملاك باروخ عبر السموات من الأولى إلى الخامسة. وتصبح كل سماء أكثر فأكثر بعدًا. وتشبه السماء الأولى سهلاً حيث نجد فيها كائنات هجينة تمثل الذين بنوا برج بابل وغضب الله عليهم. أما السماء الثانية فتضم الذين نصحوا ببناء البرج. ونجد في السماء الثالثة ثعبان هائل بطنه هو الحديس (أي الجحيم). ويكشف الملاك لباروخ هنا كيف علم الله نوح أن يعيد زراعة الكرمة التي كانت قد دمرت بعد الطوفان. كما يكشف له أسرار ميثولوجيا شمسية مدهشة، حيث يسبق طائر الفينيق في كل يوم عربة الشمس في مجراها. ويفرد الطائر الأسطوري جناحيه ليحمي الشمس من أشعة الشمس. وفي كل مساء يأخذ أربعة ملائكة تاج الشمس ويعيدونه إلى السماء ليجددوها ويطهروا أشعتها التي تدنسها نجاسات الأرض. ونجد المشهد نفسه تقريبًا في كتاب أسرار أخنوخ[37]. وعند مغيب الشمس يكشف الملاك لباروخ أسرار نمو وتراجع القمر. ووسط السماء الرابعة توجد بحيرة حيث نجد طيورًا تسبح الله: إنها أرواح الأبرار. ولا يدخل باروخ إلى السماء الخامسة. فرئيس جند الرب ميخائيل يدخل إليها وحده ليتلقى في كأس بسعة الكون استحقاقات الأبرار ليقدمها لله.

بعد أن ينتهي باروخ من رحلته السماوية يرجع إلى الأرض ويتساءل «لماذا دُمرت المدينة المقدسة؟». ويأتيه الجواب غريبًا جدًا: «ليتوقف عن الإهتمام بأورشليم وليهتم أكثر بالأسرار الإلهية». ويذكرنا ذلك بشكل ما بالموقف الأسيني من كهنة أورشليم الرسميين الذين أساؤوا للعبادة والشريعة، واهتمامهم بالمقابل بالمعرفة الإلهية التي يعتقدون أنهم وحدهم المالكون لها. وهذا يعني أن الصلة بين الله والبشر لم تعد تمر بالضرورة عبر هيكل أو معبد أرضي، خاصة بعد دمار الهيكل. ومن الواضح هنا أن مؤلف الكتاب من المطلعين على سرانيات يهودية كانت لا تزال ناشطة بعد دمار الهيكل مما يطرح إمكانية أن يكون أحد تلاميذ الأسينيين المشتتين. ولسنا نجد في الكتاب إضافات مسيحية واضحة. وبالمقابل فإن وصف الكائنات الهجينة وصف مصري واضح. كذلك فإن دور الفينيق في الميثولوجيا الفينيقية معروف. أما الأفعوان في السماء الثالثة فهو الثعبان الشيطان أبوفيس الذي يشرب مياه النهر تحت الأرضي الذي تقطعه المركبة الشمسية ليعطل مسيرتها. فثمة إذن دلائل واضحة على أصل مصري للكتاب يرجع إلى بدايات القرن الميلادي الثاني. ومن الواضح أنه ظهر في وسط جماعة سرانية كانت تتأمل حول أسرار الخلق وتسمي نفسها «أصدقاء الملائكة» كما يذكر باروخ نفسه في الكتاب. فلعلنا نجد هنا أيضًا استمرارية لأخوية أسسها أحد الأسينيين في مصر بعد تشتت الأسينيين، علمًا أن المدارس السرانية كانت كثيرة الإنتشار في ذلك الحين في مصر وحوض المتوسط الشرقي عمومًا.

كتاب أسرار أخنوخ

لم يحفظ كتاب أسرار أخنوخ إلا في نسخة سلافية، ومن هنا تسمية أخنوخ السلافي التي تعطى له أحيانًا. ويسمى أيضًا أخنوخ الثاني، فيأتي هكذا بعد أخنوخ الإثيوبي، أي الأول، وقبل العبري، أي أخنوخ الثالث. والنسخة السلافية ليست سوى نسخة عن أصل يوناني ضائع. ونجد فيها هنا وهناك بعض الدلالات على أصل عبري، لكن لا يمكن الاعتماد عليها لتأكيد وجود هذا الأصل. وربما كان مؤلف كتاب أسرار أخنوخ قد اعتمد على مراجع وضعت بالآرامية أو بالعبرية، لكن ليس ثمة ما يثبت هذه الفرضية.

ويشتمل كتاب أسرار أخنوخ على ثلاثة أجزاء. يصف الأول رحلة أخنوخ السماوية، ويخصص الثاني لخطابات وتعاليم أخنوخ بعد عودته إلى الإرض. ويحكي الجزء الثالث الأسطورة المدهشة لملكيصادق. وفي هذا الكتاب نجد أخنوخ يصعد عبر السموات السبع واصفًا إياها ليصل أخيرًا إلى السماء السابعة حيث يحظى بلقاء الله نفسه. وهناك يتعلم أسرار الخلق والكون، ثم يُمنح مهلة ثلاثين يومًا للعودة إلى الأرض قبل أن يُرفع نهائيًا إلى السماء حيث يصبح كاتب الملائكة. ويصف أخنوخ بعد عودته إلى الأرض بدقة لأبنائه الإله العظيم وحجم جسمه الهائل ومسارات الأفلاك كما والجنة والجحيم. ويؤكد وعظ أخنوخ على الفضيلة والعبادة، ويشدد على ضرورة الذبائح وبعض الطقوس كما وعلى أهمية الصلوات اليومية الثلاث في الهيكل، الأمر الذي يفترض أن العبادة كانت تجري في زمن الكاتب بشكل طبيعي في الهيكل.

أما الجزء الثالث من الكتاب فمخصص للولادة العجائبية لملكيصادق، الذي ما أن خرج من رحم أمه التي ماتت حتى تكلم وكان يحمل على صدره ختم الكهنوت. وبعد ولادته بأربعين يومًا رفعه رئيس الملائكة ميخائيل إلى الجنة. وبهذا ينتهي كتاب أسرار أخنوخ.

إن هذه الأحداث عمومًا تُرجع الكتاب برأي مارك فيلوننكو، على عكس أندريه فايان سابقًا وميليك حديثًا، إلى أصل يهودي وليس مسيحي. ولا شك أن العقيدة المطروحة في الكتاب هي عقيدة إيزوتيرية. وكما نلاحظ فإن كتاباته التي أوكل بإيصالها إلى البشر مخصصة بالدرجة الأولى إلى الحكماء. ويشير ذلك إلى أن مصدر هذا الكتاب هو وسط يهودي سراني كان مكرسًا للبحث عن المعارف السرية وبالتالي كان أقرب إلى الأسينية. وفي الحقيقة فإن مختلف التيارات التي سميت فيما بعد بالسرانية اليهودية[38] تطبع الكتاب كله بطابعها: التأملات حول الخلق وحول العرش الإلهي وحول أبعاد جسم الله. وهكذا فإن هذه التأملات التي تشكل ثلاث تيارات مختلفة تندمج في كتاب أسرار أخنوخ الذي يمثل هكذا أقدم شاهد على السرانية اليهودية.

كتاب الآثار التوراتية

لا شك أن كتاب الآثار التوراتية ينتمي إلى الوسط نفسه الذي صدر عنه كتابا عزرا الرابع ورؤيا باروخ السريانية. وقد حُفظ كتاب الآثار التوراتية في نسخة لاتينية مترجمة عن اليونانية المترجمة بدورها عن أصل عبري. والمؤلَّف هو سرد لحكايا التوراة منذ آدم وحتى شاول، بحيث يتبع المؤلف نص التوراة من سفر التكوين حتى سفر صموئيل.

ويمكن أن نعيد تأليف هذا الكتاب إلى ما بعد عام 70 الذي حوصرت فيه مدينة القدس وتحديدًا إلى 17 تموز الذي يشير إليه فلافيوس يوسيفوس كتاريخ لسقوط قلعة أنطونيا، وذلك مقارنة بما يرويه مؤلف الكتاب من أن العدو اجتاح الهيكل في 17 من الشهر الرابع أي من تموز (في التقويم القديم كانت السنة تبدأ في نيسان).

ويمكن أن نؤكد أن أصل هذا الكتاب يرجع إلى الأسينيين كما تدل على ذلك إشارات كثيرة. فالمؤلف يستخدم كما يبدو التقويم الذي في الخمسينيات، كما أنه يعرف المزمور ILC القمراني. والتاريخ الذي نعطيه لتأليف الكتاب يتوافق إلى حد كبير مع نهاية الفترة الأسينية مما يجعل كتابته متوافقة مع حدث كان هو بداية انطلاق الفكر الأسيني من بؤرته. ونلحظ بوضوح من خلال تأملات الكتاب وأناشيده وصلواته أن المؤلف ينتمي إلى جماعة سرانية متأملة، ولكنه في الوقت نفسه لم يعد يؤكد على الجماعة بقدر ما يريد الحفاظ على روح تعاليمها وتأملاتها. ولا شك أن هذه السرانية التي كانت تستمد قوتها من الأسينية القمرانية كانت تحضر إلى ما سمي لاحقًا بالأدب الرؤيوي. وتعد دراسة كتاب الآثار التوراتية التمهيد الأفضل لقراءة الكتاب الرابع لعزرا والرؤيا السريانية لباروخ.

كتاب عزرا الرابع

تتأتى تسمية كتاب عزرا الرابع من موقعه في عدد من مخطوطات الترجمة اللاتينية للكتاب المقدس بنسخته اللاتينية Vulgate. ويجب في الواقع أن نميز بين الكتب التالية:

-       كتاب عزرا الأول، وهو الكتاب الشرعي لعزرا.

-       كتاب عزرا الثاني، وهو الكتاب الشرعي لنحميا.

-       كتاب عزرا الثالث، وهو الشكل الخاص لكتاب عزرا الشرعي بصيغته في النسخة السبعينية.

-       كتاب عزرا الرابع، وهو رؤيا تشتمل في الواقع على الفصول من III إلى VIX من الكتاب.

-       كتاب عزرا الخامس، وهو يتألف من فصلين في مقدمته من كتاب عزرا الرابع، ويعتبر أنه تأليف مسيحي.

-       كتاب عزرا السادس، ويتألف من فصلين يليان كتاب عزرا الرابع، ويعتبر مؤلفون كثيرون أن هذا الملحق من تأليف مسيحي.

وثمة كتابات أخرى عُرفت باسم عزرا منها رؤيا عزرا اليونانية، ورؤيا عزرا اللاتينية وتساؤلات عزرا بالأرمنية. وقد أمن وجود هذا الكتاب في النسخة اللاتينية من الكتاب المقدس انتشارًا واسعًا له. ولا شك أن الترجمة اللاتينية ترتكز على أصل يوناني هو نفسه مترجم على الأرجح عن العبرية أو الآرامية.

وينقسم كتاب عزرا الرابع إلى سبعة أقسام تسمى تقليديًا الرؤى، في حين لا نجد رؤى حقيقة إلا في الفصول الرابع والخامس والسادس. والحق أن الفصول الثلاثة الأولى هي عبارة عن حوار بين عزرا والله أو عزرا وملاك. أما الفصل السابع والأخير فهو كشف أخير لعزرا يتوافق مع رمزية الرقم سبعة. فعزرا يعطي لله سبعة أسماء[39] ويؤكد على متوالية الأيام السبعة. وكذلك فهو يرى سبعة أنواع من العقاب لأرواح الكفار وسبعة أنواع من الثواب لنفوس الأبرار.

وقد حاول عدد كبير من المحققين والدارسين خلال القرن الأخير اكتشاف المصادر التي أمكن لمؤلف الكتاب أن يرجع إليها ويستمد منها. ويتفق معظم العلماء حاليًا على أصالة تأليف هذا الكتاب. ولا شك أن مؤلف عزرا الرابع كان قد استطاع اللجوء إلى كتب ومواريث شفهية في عصره لم يمكن حتى الآن العثور سوى على أجزاء بسيطة منها.

ويمكن أن نعتبر هذا الكتاب الذي يرجع دون شك إلى نهاية القرن الميلادي الأول مثل رد على شرعية التوراة العبرية في نهاية المجمع الذي عقد في يبنه بين عامي 90 و100 ميلادية[40]. ويدافع مؤلف عزرا الرابع بالتالي عن شرعية كتب الأدب المنحول والرؤيوي.

وقبل اكتشافات قمران كان كتاب عزرا الرابع ينسب إلى الوسط الفريسي. أما الآن فإن الكتاب يُدرج في نظر معظم النقاد في إطار الأدب القمراني الأسيني من خلال مقاربات كثيرة. ونجد مثلاً الكثير من التعابير التي ترجع بأصولها وبمعانيها إلى النصوص القمرانية، ومنها تعبير المشرِّع الذي يمكن أن يشير إلى معلم الحق. وثمة الكثير من المواضيع اللاهوتية ذات صدى أسيني: مثل فكرة «القلب السيء» التي يمكن مقارنتها بـ «النازع السيء» في العقيدة القمرانية. والحق أن الأفكار السرانية والزهد والإستنارة وأكل الأزهار والصوم عند المؤلف ترجع إلى أصول أسينية. ولا شك أن الأمر لم يعد يتعلق بجماعة أسنية كبيرة كانت مزدهرة في صحراء اليهودية قبل عام 70 ميلادية، بل بأسينية تشتت وكانت قد لجأت إلى بؤر يصعب حصرها. وقد اتخذت العقائد الأسينية في هذه الأماكن على مدى جيل أو أكثر مظاهر جديدة وحتى غريبة أحيانًا. وهكذا كان تلاميذ هذه المدارس الصغيرة الناشئة من تشتت الأسينية يدعون أنهم نماذج يجب أن تحتذى على مثال وشبه شخصيات الماضي الكبيرة، وهكذا كان بعضهم يستحق لقب الشبيه بعزرا[41] أو بباروخ[42]. وكان هؤلاء الملهمون، الورثة المخلصون أكان للأسينية أم لموروث الشخص نفسه، والمتابعون الشرعيون للرسالة، الرفاق السرانيون لعزرا الكاتب، قد نقلوا للكنيسة عملاً مشعًا وعميقًا رفضه الكنيس اليهودي.

رؤيا باروخ السريانية

إن المسائل التي نجدها في باروخ الثاني أو رؤيا باروخ السريانية تشبه من جوانب كثيرة تلك التي طرحها عزرا الرابع، بحيث أنه يجب دراسة الكتابين بشكل مترابط. والتدويرات التي نجدها في المؤلفين كما والأسلوب والمواضيع المشتركة كثيرة جدًا بحيث لا يمكن تفسير ذلك إلا بوجود صلة أدبية وثيقة بين الرائيين. وكانت إحدى الرؤيتين نموذجًا للرؤيا الأخرى دون شك.

ومن الواضح أن المؤلف الذي لا شك اعتمد على عزرا الرابع في كتابه هذا كان يخالفه في نواحي كثيرة إنما لا يعلنها صراحة، وذلك بالتأكيد لأنهما كانا ينتميان للوسط نفسه. ففي حين أن عزرا يأمل بمجيء مدينة الله على الأرض، فإن باروخ يأمل بإعادة بناء المملكة الفردوسية. وفي حين أن عزرا الرابع يهرب إلى الإشراق فإن باروخ الثاني لا يرى سلامًا إلا في الشريعة. ويتوجه عزرا الرابع إلى المساررين بينما يلتفت باروخ الثاني إلى الجماهير أي جمهور الكنائس اليهودية. والحق أن عزرا الرابع كتاب إيزوتيري (سراني أو باطني)، وكتاب باروخ الثاني كتاب إيكزوتيريك éxoterique، أي عامي.

وفي الحقيقة فإنه من الواضح أيضًا انقسام الرأي ضمن الملة التي انتمى إليها الكاتبان بعد دمار الهيكل. فقد تزعزع الإيمان بالله وبحمايته لشعبه المختار. وهذا ما تعبر عنه الأسئلة الملحاحة التي يوجهها كل من الكاتبين إلى الله، وما اختلاف الإجابة في الكتابين سوى تعبير عن اختلاف في وجهة النظر حول تفسير سبب تخلي الله عن شعبه. ولا شك أن الكاتبين ينتميان إلى ملة سرانية تعتمد تعاليم صارمة وتتمسك بالشريعة، ولا يسعنا إلا أن نحزر انتماءهما إلى الملة الأسينية أو إلى أخوية صغيرة ظلت مؤتلفة بعد انهيار أورشليم لفترة معينة.

يوسف وأسنات

يقع كتاب يوسف وأسنات في جزئين أساسيين. ويحدثنا أولهما وهو الأهم عن كيفية زواج يوسف وأسنات. ويحدثنا الجزء الثاني كيف أراد ابن الفرعون انتزاع أسنات. وبإخفاق هذا المسعى تؤول الملكية في مصر إلى يوسف.

ومن خلال الإطار المصري الفرعوني للرواية لا بد أن تأليفها تم في مصر على يد يهودي كان على اطلاع جيد على سرانيات البلد وطقوسها، وذلك في بداية القرن الثاني الميلادي على الأكثر. وإن كان هذا المؤلف يحمل سمات الكتاب السراني في نواحي عديدة من رمزيته المصرية بخاصة، فإنه يحمل بالمقابل تأكيدًا شديدًا على يهودية المعرفة الإلهية وعلى تميز الشعب المختار من خلال شخص يوسف. ويمكننا أن نرى في هذا التأكيد محاولة من يهود مصر الذين حفظوا تعاليم سرانية من مدرستهم الأم للحفاظ على التميز العرقي في وسط غريب عنهم كانوا قد بدؤوا يألفونه ويتعرفون على أسراره وربما يخشون اندماجهم فيه والأخذ بموروثه وحكمته. وإن كنا نجد نفسًا وأسلوبًا جديدين في هذا الكتاب لكننا نلحظ فيه تقاربًا مع الإتجاه الأسيني لا يمكن رده من خلال الكثير من الإلماعات إلى بعض الطقوس والممارسات والآداب والعقائد.

وصية أيوب

تنتمي وصية أيوب بأسلوبها وموضوعها إلى أدب «الوصايا». فعلى سرير موته يجمع أيوب أبناءه ليبلغهم آخر رغباته وليقسم بينهم خيراته. ويعتمد مؤلف وصية أيوب على نموذج وصايا الشيوخ الإثني عشر. ومن جهة أخرى فوصية أيوب هي شرح مسهب متمم للنسخة اليونانية من سفر أيوب. وعلى الرغم من أن النسخة اليونانية السبعينية لكتاب أيوب عانت من فجوات كثيرة ومن إضافات وترميمات كثيرة، لكن يبدو أن مؤلف وصية أيوب كان على اطلاع على النص الأصلي للنسخة السبعينية من سفر أيوب. ومن المدهش أن نجد خطابًا موجهًا من امرأة أيوب إليه في النسخة السبعينية من سفر أيوب هو نفسه تقريبًا مع بعض التعديلات الخطاب الذي نجده في وصية أيوب. ولا يوجد لدينا دليل على أن هذا الخطاب قد انتقل من الوصية إلى السفر الأصلي، أم كان في الأصل قد أضيف على سفر أيوب قبل كتابة هذه الوصية.

والحق أن هذا الكتاب يرجع على الأغلب إلى وسط جماعة من الشافين الذي يحدثنا عنهم فيلون الإسكندراني. وتدعم هذه الفرضية المقاربة الواضحة للوصية مع بعض السمات الأسينية. ويبدو أن المدرستين الشفائية والأسينية قد تبادلتا التأثير بل وحتى بعض المؤلفات خلال وقت معين. ومن الصعب تأريخ وصية أيوب بسبب عدم وجود أية إشارة تاريخية. وهو في كل حال تالي لوصايا الشيوخ الإثني عشر. ولهذا يمكن أن يرجع المؤلف إلى نهاية القرن الميلادي الأول. ومن المرجح أن يكون تأليفه قد تم في مصر، وهو أمر توحي به فرضية أن يكون من تأليف الشفائين الذين كانوا منتشرين في مصر خلال هذه الفترة.

وصية أبراهام

لقد ظهرت أساطير كثيرة حول حياة أبراهام (إبراهيم) في اليهودية اعتمادًا على النص التوراتي كما وعلى الموروث الشفهي. ولم يبق من هذا النتاج الواسع سوى ثلاثة نصوص هي وصية أبراهام ورؤيا أبراهام وتاريخ أبراهام وملكيصادق الذي يُنسب لأثناسوس الإسكندراني. ووصية أبراهام ليست وصية بالمعنى الأدبي المعروف للمصطلح. وقد وصلتنا في نسختين طويلة وقصيرة. ولم يحسم النقاش حول أسبقية أي منهما. ومما لا شك فيه أن النصين مأخوذين عن أصل مشترك بطريقتين مختلفتين. والنصان يرتكزان على تفسير لنص من التكوين، IIX، 1: «اذهب من بلدك ومن موطنك ومن بيت أبيك باتجاه البلد الذي سوف أريك إياه.» وتعطي وصية أبراهام لهذا النص التوراتي معنى رمزيًا: فعلى أبراهام أن يترك جسده، وهو تفسير يوافق التفسير الذي يعطيه فيلون الإسكندراني للأمر الموجه إلى أبراهام بمعنى أن تترك الروح الجسد[43]. وهذا ما يرفضه أبراهام فلا يريد أن يتبع رئيس الملائكة ميخائيل وأن يترك العالم. ولا يخضع الشيخ في النهاية للأمر إلا إذا أراه هذا الأخير الأرض المسكونة من السماء.

ورحلة أبراهام في وصية أبراهام ليست رحلة عبر السموات كما هو الحال في العديد من الرحلات الرؤيوية (كرحلات أخنوخ وباروخ مثلاً). وليس ثمة أي مظهر سراني يرافق هذه الرحلة. فببساطة يقاد أبراهام على مركبة إلى مكان في الأثير حيث يستطيع أن يرى، كما لو من مرصد أو من طائرة، الأرض وسكانها كما والحساب الأخير. ونلاحظ أنه ليس ثمة تمييز في هذا الحساب الأخير بين اليهود وغير اليهود. فكما لو أن المؤلف كان متحررًا من كافة الإعتبارات الخاصة في عالمية شاملة.

ومن المرجح أن المواجهة بين أبراهام والموت ترجع إلى موضوع سراني إيراني، هو اللقاء بين النفس والدايانا الخاصة بها. وليس ثمة بالمقابل أي خيط يسمح بتأكيد أن إحدى النسختين القصيرة أو الطويلة ترجع إلى أصل عبري أو آرامي. وكذلك ليس ثمة أية إشارة تاريخية تسمح بتحديد تاريخ كتابة إحدى النسختين. ومما لا شك فيه أن وصية أبراهام بشكلها الأولي كانت من نتاج اليهودية المصرية، ويمكن أن يرجع تاريخ تأليفها إلى ما بعد بداية القرن الثاني الميلادي. وثمة وصية لاسحق وأخرى ليعقوب تشكلان مع وصية أبراهام ثالوثًا. ونشير أخيرًا إلى أن مواضيع كثيرة من وصية أبراهام استيعدت في كتابات مسيحية لاحقة، مثل رؤيا بولس وتاريخ يوسف النجار ورؤيا العذراء.

رؤيا أبراهام

لم تحفظ رؤيا أبراهام إلا في السلافية. وربما كان ثمة كتابين مختلفين بعنوان رؤيا أبراهام، أحدهما غنوصي والآخر يهودي.

وتتألف رؤيا أبراهام من قسمين. يحدثنا الأول عن اهتداء أبراهام بن تراخ صانع الأصنام إلى الله الخالق. ويشتمل القسم الثاني على تقديم أبراهام للذبيحة ولقائه مع يوئيل وعزازيل ثم على رؤياه عندما صعد إلى السماء على جناحي حمامة. ومن المرجح أن الجزء الأول وُجد لوحده خلال مرحلة معينة قبل أن يضاف إليه الجزء الثاني.

وتتجذر أسطورة أبراهام الذي يدمر الأصنام في الهغادة اليهودية القديمة كما كانت موجودة قديمًا في كتاب الخمسينيات[44]. والجزء الثاني فقط يمكن أن يسمى رؤيا إذ يكشف تاريخ الكون لأبراهام خلال صعوده. وهذا السفر عبر السموات يقارن برحلات كثيرة مشابهة وبخاصة بالتي نجدها في وصية أبراهام. لكن مؤلف رؤيا أبراهام يجد تفسيرًا مختلفًا لخروج أبراهام من بيت أبيه، إذ عليه أن ينجو بنفسه قبل أن يهلك في الدمار الذي سيصيب بيت أبيه. وهذا المعنى مستمد من تقليد نجده في كتاب عزرا الرابع[45] وفي رؤيا باروخ السريانية[46]، وهو تقليد مستمد من تكوين، VX، 17.

في وصية أبراهام يصعد الشيخ إلى السموات في مركبة، لكن المركبة في الرؤيا ليست وسيلة الصعود بل هدف الرؤيا نفسها. وبهذا ينتمي مؤلف الرؤيا أيضًا إلى هذا الوسط السراني اليهودي الذي كان يرى في رؤيا المركبة التي رآها حزقيال أساس تأملاته. ونجد عند شولم[47] G. G. Scholem تفسيرات هامة لهذه التأملات: «يمثل العرش بالنسبة للسرانية اليهودية ما تمثله البليروما ، "الإمتلاء"، الكرة المشعة للألوهة مع قدراتها، إيوناتها، الأرخونت والقوى، بالنسبة للسرانيين اليونان وأوائل المسيحيين الذين ظهروا في تاريخ الديانات باسم الغنوصيين والهرمسيين. والسراني اليهودي الذي تحرضه بواعث مماثلة يعبر عن رؤياه بمصطلحات من خلفيته الدينية الخاصة. فالعرش السابق الوجود لله والذي يشتمل على كافة أشكال الخلق هو في الوقت نفسه هدف وموضوع الرؤيا السرانية.»

ونجد أقدم وصف لهذا العرش الذي تركته لنا هذه المدرسة السرانية في كتاب أخنوخ الإثيوبي[48]. كذلك يندرج كتاب أسرار أخنوخ في هذا التيار[49]. وقد أصبحت الفرضية القديمة التي كانت ترى أصل سرانية المركباه في الأسينية شبه مثبتة من خلال اكتشاف أجزاء «الشعائر الملائكية» التي تبين وبلا لبس أن «المركبة الإلهية كانت من المواضيع المفضلة عند الأسينيين[50]». ونلاحظ أن الموضوع لم يكن يتعلق في كتابي أخنوخ إلا بالعرش، كما في النص العبري لحزقيال. أما النصوص الحاخامية فتتحدث عن «مركبة». أما الشعائر الملائكية وأخنوخ الثالث فيتحدثان عن «عرش المركبة». ونجد هذه التناوبات الإصطلاحية في رؤيا أبراهام الذي يتحدث حينًا عن مركبة وحينًا عن عرش.

إن التأملات حول المركبة، كما والثنائية التي نجدها في رؤيا أبراهام، هي علامات واضحة على أصول أسينية لهذا المؤلف بحيث يمكن أن يرجع إلى الحركة الأسينية بعد شتاتها. وبما أنه أشير في الفصل IIVXX، 3 إلى حريق ونهب الهيكل من قبل كتائب رومانية عام 70 قبل الميلاد، فيمكن ترجع رؤيا أبراهام إلى ما بعد هذه الفترة بقليل، وبالتالي أن تنتسب إلى الأسينية التي تفجرت وانتشرت والتي يشهد عليها أيضًا كتاب عزرا الرابع ورؤيا باروخ السريانية.

مراثي إرميا

وصلنا هذا المؤلف المدهش باليونانية بعنوان مراثي إرميا وفي نسخة إثيوبية معنونة تتمة كلام باروخ. ونملك أيضًا نسختين أرمنية وسلافية. ويزيد أحيانًا نص النسخ عن النص اليوناني. ونفضل عنوان مراثي إرميا لأن الكتاب يكمل فعلاً كتاب إرميا مفصلاً الموروث الذي أهمله السفر الشرعي لإرميا.

يقع إطار الكتاب بين احتلال أورشليم والسبي إلى بابل والعودة إلى المدينة المقدسة. وتطرح مراثي إرميا أسئلة أدبية وعقائدية صعبة. والنص مرتبط بوضوح بكتاب رؤيا باروخ السريانية كما وبكتاب حُفظ بالقبطية هو تاريخ العبودية في بابل. والحق أنه ليس من السهل معرفة أي من كاتبي مراثي إرميا أو رؤيا باروخ السريانية قد تأثر بالآخر، هذا مع العلم أن المراثي كانت على الأرجح قد كتبت بأكثر من يد كاتب، وهي لا شك قد عُدلت في النهاية على يد كاتب مسيحي كما يظهر ذلك سرد موت إرميا في المرة الثانية. ومن جهة أخرى فثمة الكثير من التعابير والألفاظ الغامضة والتي تحتاج إلى تفسير في صلوات وخطب إرميا وباروخ وأبيملك، وهي تبدو وكأنها مستمدة من لغة سرانية. أما عجيبة التين فلها مدلول سراني واضح: فهي ترمز إلى عدم فساد جسد البار. أما قصة النسر ونزوله على ميت فيعيش فهي إعادة لأسطورة مصرية: فإيزيس تعيد إلى أوزيريس الحياة وهي بشكل صقر بعد أن تضربه بجناحيها. وتظهر هذه الأعجوبة كما وسابقتها اهتمام الكاتب بمسألة الموت والبعث في العالم الآخر.

وليس من السهل تخيل الوسط الذي ألفت فيه مراثي إرميا. فهل هو كتاب يهودي عدله كاتب مسيحي أم أن الأمر يتعلق بالأحرى بكتاب من اليهودية المسيحية المعتمدة على مصادر يهودية؟ إن المسألة مفتوحة بكل معنى الكلمة. ومع ذلك فثمة بعض الملامح، وإن كانت ضعيفة، تجعلنا نخمن وجود صلة ما مع الأسينية، وذلك من خلال ذكر عزلة باروخ وابتعاده عن المدينة المقدسة، وتحريض الشعب على العودة من بابل إنما دون اصطحاب الغرباء، وقصة نوم أبيملك الذي يمثل القلة من الأبرار الذين يحفظهم الله، والإفتراق الذي حصل بين الذين رضخوا للأمر والذين أرادوا الإبقاء على الغرباء الذين ارتبطوا بهم. وتختلط هذه الدلائل بأفكار وتساؤلات مشوشة في كثير من الأحيان تجعلنا نرى في هذه المراثي تأليفًا يحاول تلافي التشتت والتبعثر اليهودي. ويحيلنا ذلك إلى المطالبات التي كانت شائعة في القرن الأول قبل الميلاد بين ملل الغيورين والأسينيين وغيرهم في فلسطين.

الحياة اليونانية لآدم وحواء

إن هذا العنوان اتفاقي لهذا الكتاب. فالمخطوطات تحمل عنوانًا طويلاً هو «قصة وحياة آدم وحواء التي كشفها الله لعبده موسى والتي علمها رئيس جنده ميخائيل». وكان هذا العنوان هو سبب الخلط بين هذا الكتاب ورؤيا موسى. والهدف من عنوان الحياة اليونانية لآدم وحواء هو الإشارة إلى مضمون الكتاب بالدرجة الأولى كما وتمييز الحياة اليونانية عن ترجماته الأرمنية والجيورجية والسلافية وبخاصة اللاتينية. ويبدو أن كتاب الحياة اليونانية لآدم وحواء القديم كان قد كتب باليونانية، لكن المؤلف كان قد استعان بمصادر مترجمة عن العبرية أو الآرامية.

وإن كنا لا نستطيع وصف هذا الكتاب بأنه أسيني، لكنه يبدو متأثرًا بوضوح بالأسينية. فالمؤلف لا يستطيع تجاوز حذره تجاه الجنس وخطيئة الجسد. وحتى في الفردوس يعيش آدم وحواء في منطقتين مختلفتين. وكما يحدد في أحد المخطوطات فإنهما على الأرض لا ينامان معًا. ويعكس الكاتب عداوة للمرأة ترجع أصولها على الأرجح إلى مبحث شراك المرأة الأسيني بامتياز وإلى وصايا الشيوخ الإثني عشر أيضًا.

ونشير أخيرًا إلى أن المؤلف يستعرض كافة وقائع الشعائر الملائكية حول العرش والمركبة والشيروبين والسيرافين والمباخر الذهبية والعطور والكؤوس. ويمكن لهذه الإحتفالات أن تكون استمرارًا لكتاب الطقس الملائكي القمراني. أما التأملات حول الزيت فتدعونا إلى مقاربة الحياة اليونانية لآدم وحواء مع رؤيا باروخ اليونانية ومع كتاب أسرار أخنوخ. وليس ثمة أية إشارة تاريخية تسمح لنا بتأريخ هذا المؤلف بشكل دقيق. لكن مقاربته مع مخطوطات قمران السابق ذكرها تؤكد لنا بأن كاتبه، الكاتب الأول له على الأقل قبل ترجماته، كان على اطلاع عليها، بل وأنه كان مشبعًا بها حتى استطاع تقديم نص يحمل هذه الروح القمرانية بشكل واضح.

رؤيا إيليا

يستشهد بولس الرسول في الرسالة إلى أهل كورنثوس، II، 9 بعبارة لا توجد في العهد القديم إنما يعتبرها من الكتاب المقدس، وكانت هذه العبارة موجودة بحسب شهادة أوريجينس في كتاب أسرار إيليا. ولا نجد هذا المقطع في أي من الرؤيتين المنسوبتين لإيليا اللتين نعرفهما، وقد حفظتا إحداهما بالقبطية والأخرى بالعبرية. فإذا كان نسب عبارة الرسول بولس صحيحًا إلى رؤيا إيليا فهذا يعني أنه يجب أن توجد رؤيا ثالثة غير اللتين نعرفهما.

إن النسخة القبطية ليست سوى ترجمة عن نص يوناني تم العثور على جزء صغير منه على قطعة من البردى. وينقسم المؤلف إلى ثلاثة أجزاء. وبسبب التكرار في رؤيا إيليا من الواضح وجود تعديلات مستمرة على المخطوطة بحيث يصعب تأريخها. ومما لا شك فيه أن رؤيا إيليا هي تجميع لعدة مواد. فنجد أفكارًا في الفصل الأول من أصل يهودي على الأرجح. بينما كتب الفصل الثاني بتأثير مرجح من الرؤيوية المصرية. أما الفصل الثالث فمتأثر بوضوح بالملائكيات اليهودية إنما يكشف عن تحريفات مسيحية أيضًا. ومما لا شك فيه أن أصل الكتاب يهودي وأنه عُدل على يد كاتب مسيحي خلال الفترة ما بين القرنين الثاني والثالث الميلاديين.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] راجع ترجمتي لـمخطوطات البحر الميت، كتابات ما بين العهدين، الجزء الثاني والجزء الثالث، دار الطليعة الجديدة، دمشق، 1999 - 2000.

[2] المرجع السابق.

[3] المرجع السابق.

[4] Jean HADOT, André PAUL, Apocalyptique et Apocryphe (Littératures), Encyclopaedia Universalis 2011.

[5] خروج، 20، 26.

[6] صموئيل الأول، 2، 27

[7] دانيال 2، 29

[8] الرسالة إلى أهل غلاطية، 2، 2.

[9] Jean HADOT, André PAUL, Apocalyptique et Apocryphe (Littératures), Encyclopaedia Universalis 2011.

[10] راجع أخنوخ الأول، XIV، 8 ـ 24.

[11] دانيال، VII، 9 و10.

[12] ملوك الأول، الإصحاح 5.

[13] ملوك الأول، VI، 14.

[14] راجع لاوي، xvi.

[15] راجع مدرج الهيكل، مخطوطات البحر الميت، الجزء الأول، ترجمة موسى ديب الخوري، دار الطليعة الجديدة دمشق، 1999.

[16] متى، 4، 1 و2، إلخ.

[17] يوحنا، 4، 21 - 24.

[18] أخنوخ الأول، LXXXI، 1 و 2.

[19] راجع أيضاً النصوص من أخنوخ الأول: xciii، 1 و2؛ وciii، 2؛ وcvi، 19؛ وcviii، 7.

[20] نشير هنا إلى تواتر مفهوم "اللوح المحفوظ" في التراث الإسلامي، الذي يبدو كاستمرارية لهذا التراث "الرؤيوي". ووفق النظرية الإسلامية التقليدية قبل أن يخلق الله العالم، خلق اللوح والقلم، وأمر القلم أن يسجِّل على اللوح كل شيء. ومع ظهور كل نبي كان جبريل يكشف له من اللوح الرسالة التي كان عليه تبليغها. وعندما جاء محمد، وحان الوقت لتفويضه شريعته، جاء إليه الملاك جبريل أيضًا، ومن فترة إلى أخرى خلال الإثني والعشرين عامًا أوحى له تلك الآيات من اللوح المحفوظ الذي قيل أنه كلام الله. حول هذه النقطة راجع: Arthur Jeffery, The Qur'an as scripture, New York, R. F. Moore Co., 1952.

[21] Jacques Freu; Histoire politique du royaume d'Ugarit, Harmattan, Paris 2006.

[22] وصية أيوب، من xlv إلى lii.

[23] الرسالة إلى أهل فيليبي، iii، 10.

[24] الرسالة إلى أهل قولوسي، iii، 1 - 3.

[25] راجع وصية أيوب، من xlv إلى lii. وكذلك رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس، xiii، 1 وxiv، 14 وإلى أهل رومية، viii، 26، وأعمال الرسل، ii، 11 وx، 46.

[26] وصية أيوب، المصدر السابق.

[27] وصية أيوب، المصدر السابق، ورؤيا يوحنا، في مواضع مختلفة.

[28] Paul A. , Le Judaïsme ancien et la Bible, Desclée et Cie, Paris, 1987.

[29] تكوين، V، 24.

[30] يشوع بن سيراخ، VILX، 16.

[31] راجع: مخطوطات البحر الميت، الجزء الأول، الكتب الأسينية، كتاب دمشق، IVX، 3 ـ 4، ترجمة موسى ديب الخوري، دار الطليعة الجديدة، دمشق 1999.

[32] حول وحي بيثيا Pythie، IV.

[33] راجع لقيانوس السميساطي، الإلهة السورية، ترجمة موسى ديب الخوري، الفقرة 10، والهامش رقم 26، والفقرة رقم 36، دار الأبجدية، دمشق، 1992.

[34] راجع الجزء الثاني، وصايا الشيوخ الإثني عشر، وصية رأوبين، VI، 7، والهامش.

[35] انظر J. Schwartz, «L’Historiographie impériale dans les Oracula Sibyllina», dans Dialogues d’histoire ancienne, 21, Paris, 1976, p. 413-420.

[36] انظر الجزء الأول من كتابات ما بين العهدين، الكتابات الأسينية، الدستور الملحق للجماعة، II، 17 - 21.

[37] انظر أخنوخ الثاني، VIX، 2.

[38] G. G. Scholem, Les Grands Courants de la mystique juive, Paris, 1950.

[39] انظر عزرا الرابع، IIV، 132 - 139.

[40] K. Kohler, The Origins of the Synagogue and the Church, New York, 1929, p. 199.

[41] راجع عزرا الرابع، VI، 36؛ IIIV، 51، 62؛ VIX، 9، 49.

[42] راجع باروخ الثاني، II، 1؛ IIIX، 5.

[43] انظر فيلون الإسكندراني: Quod deterius, 159.

[44] راجع الخمسينيات، IIX، 12.

[45] راجع عزرا الرابع، III، 14.

[46] راجع باروخ الثاني، VI، 5.

[47] G. G. Scholem, Les Grands Courants de la mystique juive, Paris, 1950, p. 53-93.

[48] انظر أخنوخ الأول، VIX، 18 - 20.

[49] انظر أخنوخ الثاني، IXX، 2؛ IIXX، 2.

[50] A. Dupont-Sommer, Les Ecrits esséniens près de la mer Morte, Paris, 4e éd. 1980, p. 431.

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني