أطوار صورة الله في التوراة 15: من التعددية إلى عتبة التوحيد

 

فراس السوَّاح

 

حتى سبعينات القرن الماضي كان الرأي السائد بين الباحثين في دين أو تاريخ إسرائيل، يذهب إلى أن التوحيد هو الذي ميَّز دين إسرائيل عن دين الثقافات المجاورة، منذ أيام موسى الذي تلقى الوصية والشريعة من الرب على جبل سيناء، ونقلها إلى شعبه الذي أخذ على نفسه عهدًا بأن يعبد يهوه وحده من دون بقية الآلهة ويلتزم بشريعته. أما اليوم فإن الاتجاه السائد لدى الباحثين، وبينهم العديد من المحافظين، يعترفون أمام ضغط الشواهد الأركيولوجية، بأن التوحيد اليَهَوي لم ينشأ كعقيدة راسخة قبل فترة السبي البابلي في القرن السادس قَبل الميلاد، وذلك على يد فئة من اللاهوتيين الذين كانوا يتأملون الحاضر وما آلت إليه مملكة يهوذا من انهيار كامل على كل صعيد، ويعيدون خلق الماضي على ضوء هذا الحاضر. وبذلك ابتدأت عملية صياغة التوراة العبرانية. وهي العملية التي استغرقت نحو قرنين من الزمان قبل أن يصل الكتاب إلى صيغته القريبة من الصيغة الراهنة.

إن كل الشواهد التي تحصلت لدينا اليوم، تدل بشكل قاطع على أن سكان المرتفعات الفلسطينية الذين شكلوا دولتي إسرائيل ويهوذا، لم يسمعوا بشريعة الرب التي نزلت على موسى، ولم تكن لهم علاقة بالعهد الذي قطعه أسلافهم المفترضون مع يهوه، ولم تكن عبادتهم للآلهة الكنعانية المتعددة بمثابة انحراف عن دين يهوه القديم، وإنما جاءت في سياق وضعهم الطبيعي كمجموعة بشرية تنتمي إلى الثقافة الكنعانية. أما الإله يهوه الذي قدِم إلى كنعان من المناطق الجبلية الصحراوية الجنوبية، ثم تحول إلى إله قومي لمملكتي إسرائيل ويهوذا، فلم يكن على علو منزلته إلا عضوًا في مجمع الآلهة موسع يضم عددًا من الآلهة والإلهات. ولربما جاء بهذا الإله مجموعة رعوية كانت تتجول في سيناء بقيادة شخصية غامضة تدعى موسى، قبل أن تستقر في مناطق المرتفعات الفلسطينية في مطلع القرن الثاني عشر قبل الميلاد، مع الجماعات التي وفدت إليها من بقية أنحاء فلسطين بعد الفراغ السكاني الذي نجم عن كارثة مناخية ضربت منطقة شرقي المتوسط فيما يُعرف الآن بالجفاف الميسيني.

في سعيه لأخذ موطئ قدم له بين الآلهة الكنعانية القديمة، عمد يهوه (عن طريق كهنته طبعًا) إلى تبني استراتيجية الامتصاص والتماثل، فقد عمد أولاً إلى التطابق مع إله السماء إيل حتى أنه دعي تبادليًا بالاسم نفسه في نهاية المطاف، واتخذ من عشيرة زوجة إيل القديمة زوجة له. وبعد ذلك أخذ بالتماثل مع الإله بعل واكتساب وظائفه وصلاحياته، حتى غدا من الصعب التفريق بين الإلهين. وبعد أن بنى ملوك يهوذا في زمن ما من أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع هيكلاً ضخمًا ليهوه في أورشليم صار رمزًا لسلطانه. بدأت بالظهور حركة دينية تدعو إلى "عبادة يهوه وحده"، وذلك على يد جماعة من اللاهوتيين المتأثرين بالحركة النبوية التي اشتد عودها إبان تلك الفترة، والتي وضعت على أولويات أجندتها محاربة التعددية وجميع مظاهرها والالتفات إلى عبادة يهوه في مقر سكنها بهيكل أورشليم. ولكن على الرغم من الحرارة التي ميزت خطاب هؤلاء الأنبياء إلا أنهم بقوا مع الفئة التي التأمت حولهم أقلية لم يستمع لصوتها أحد، وكانت رسالتهم أكثر جذرية وتطرفًا من أن تلقى القبول على نطاق واسع.

كان إشعيا الشخصية الأهم في هذه الحركة النبوية[1]. وقد عاصر الملك حزقيا (729-686 ق.م) صاحب الإصلاح الديني الكبير الأول، وربما كانت أفكاره وراء قيام هذا الإصلاح الموجه ضد عبادة الآلهة الأخرى لا سيما الإلهة عشيرة: "هو أوال المرتفعات، وكسر التماثيل، وقطع السواري، وسحق حية النحاس التي عملها موسى لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها ودعوها نحشتان." (الملوك الثاني 18: 4). وراء هذه الجملة الواسعة ضد الأيقونات لا نستطيع إلا أن نسمع الصوت الهادر للنبي إشعيا. وفي أواخر القرن الثامن أيضًا ارتفع صوت نبوي آخر هو صوت النبي ميخا، الذي عاصر إشعيا لفترة من الزمن وندد مثله بمظاهر عبادة الآلهة الأخرى: "كل هذا من أجل إثم يعقوب ومن أجل خطيئة بيت إسرائيل. ما هو ذنب يعقوب؟ أليس هو السامرة؟ وما هي مرتفعات يهوذا؟ أليست هي أورشليم؟ فأجل السامرة خربة في البرية مغارس للكروم، وأُلقي حجارتها إلى الوادي وأشف أسسها." (ميخا1: 5-6).

بعد نحو قرن على إصلاح الملك حزقيا الفاشل، وجدت حركة دعم يهوه وحده دعمًا من الملك يوشيا الذي حكم قبل بضعة عقود من نهاية مملكة يهوذا على يد نبوخذ نصر الكلداني، والذي قام بحركة إصلاح ديني أوسع نطاقًا من حركة سلفه الملك حزقيا، مدفوعًا بأفكار هذه الجماعة ومن ورائهم النبي الكبير إرميا الذي عاصر هذا الملك وعاش طويلاً ليشهد دمار أورشليم وخراب الهيكل. وخلال ذلك كان يطوف في شوارع أورشليم داعيًا إلى عبادة يهوه التي نسيها الناس والحكام ومنددًا بعبادة الآلهة الأخرى: "اسمعوا كلمة الرب يا بيت يعقوب وكل عشائر بيت إسرائيل. هكذا قال الرب: ماذا وجد فيِّ آباؤكم من جور حتى ابتعدوا عني وساروا في طريق الباطل وصاروا باطلاً، ولم يقولوا أين هو الرب" (إرميا2: 4-6). "ارجعي أيتها العاصية إسرائيل، يقول الرب. لا أوقع غضبي بكم لأني رؤوف يقول الرب، لا أحقد إلى الأبد. اعرفي إثمك أنك إلى الرب إلهك أذنب وفرَّقتِ طرقك للغرباء تحت كل شجرة خضراء، ولصوتي لم تسمعوا يقول الرب." (إرميا3: 12-14). "جُزّي شعرك واطرحيه (يا أورشليم) وارفعي على الهضاب مرثاة، لأن الرب رفض ورذل جيل رَجزِه، لأن بني يهوذا قد عملوا الشر في عينيَّ يقول الرب. وضعوا مُكرهاتهم (=الصور المنحوتة ومذابح الآلهة الغريبة) في البيت الذي دُعي باسمي لينجسوه." (إرميا7: 29-30).

يبتدئ إصلاح الملك يوشيا بقصة ذات مغزى بالنسبة للبدايات الأولى لتحرير الأسفار التوراتية. فخلال ترميم جزئية في هيكل أورشليم أشرف عليها الكاهن الأكبر المدعو حلقيا، تم العثور على دَرْجٍ قديمٍ من الورق تبين فيما بعد أنه سفر شريعة موسى، فأعطى حلقيا السفر للكاتب شافان فقرأه ثم أخذه إلى الملك يوشيا وقرأه أمامه. فلما سمع الملك كلام سفر الشريعة مزق ثيابه، وأمر الكاهن حلقيا وعددًا من خدم الهيكل أن يذهبوا إلى النبية خلدة الساكنة في أورشليم ويعرضوا عليها السفر، فأكدت لهم النبية أصالة هذه الوثيقة، وأكدت لهم أن غضب يهوه سوف يشتعل قريبًا على هذه المدينة لأن أهلها قد تركوا عبادته وأوقدوا لآلهة أخرى ليغيظوه. عند ذلك صعد الملك إلى الهيكل ودعا إليه كل شيوخ يهوذا وأورشليم وجميع الشعب من الصغير إلى الكبير، ووقف على المنبر وقرأ في آذانهم كلام سفر الشريعة الذي وُجد في بيت الرب. وعندما انتهى من القراءة قطع عهدًا أمام الرب لحفظ وصاياه وفرائضه المكتوبة في السفر، وقطع معه الشعب أيضًا بذلك. وعقب ذلك باشر حملته الواسعة للقضاء على كل مظاهر عبادة الآلهة الأخرى داخل هيكل أورشليم وخارجه (الملوك الثاني: 22-23).

نستنتج من هذه الرواية أن اتجاه عبادة يهوه وحده قد ابتدأ منذ ذلك الوقت المبكر نسبيًا بتزويد عبادة يهوه بالخلفية الأيديولوجية التي تسوغ شرعيتها وتميزها عن عبادات الآلهة الأخرى، وتبتكر لها جذورًا في الماضي السحيق تعود إلى تلك الشخصية الغائبة وراء ضباب التاريخ، وهي موسى الذي أخذ هؤلاء ينفضون عنه غبار الزمن ويعزون إليه تأسيس عقيدتهم الجديدة. ومن الواضح أن هذه الوثيقة المزورة قد تم دسها في أحد المواضع المنوي ترميمها من قبل أعضاء في هذه الجماعة، لتكون بمثابة "المانيفستو" الذي ستقوم عليه حركة الإصلاح المتفق عليها مع الملك يوشيا. كما وتقدم لنا هذه الرواية شاهدًا فريدًا من نوعه على أن أهالي يهوذا وحكامهم وكهنتهم لم يكونوا قد سمعوا من قبل بشريعة موسى ولا آباؤهم من قبلهم، وأن هذه الشريعة والعقيدة الكامنة وراءها، قد بدأت بالتشكل في خضم صراع اتجاه عبادة يهوه وحده مع العبادات الأخرى، من أجل إحلال مركزية العبادة في هيكل أورشليم وإبطال بقية المراكز الدينية المنتشرة في جميع أرجاء المملكة. ونحن إذ كنا لا نعرف شيئًا بصدده، إلا أنه كان ولا شك بمثابة الأساس الذي بنى عليه اللاهوتيون في المنفى البابلي نواة شريعتهم.

في حملته الأولى على أورشليم عام 597 ق.م، أزاح نبوخذ نصر البابلي ملك يهوذا المدعو يهوياكين عن العرش بسبب عصيانه على بابل بتحريض من مصر، وأحل محله عمه صدقيا، وأخذ منه جزية كبيرة، وسبى من أهل أورشليم نحو عشرة آلاف من المتعلمين والعسكريين وأهل الصناعة والحرف. نقرأ في سفر الملوك الثاني: "جاء نبوخذ نصر ملك بابل على المدينة وكان عبيده يحاصرونها. فخرج يهوياكين إلى ملك بابل هو وأمه وعبيده ورؤساء خصيانه، وأخذه ملك بابل في السنة الثامنة من مُلكه، وأخرج من هناك جميع خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك، وكسر كل آنية الذهب التي عملها سليمان ملك إسرائيل في هيكل الرب، وسبى كل أورشليم وكل الرؤساء وجبابرة البأس، عشرة آلاف سبي وجميع الصناع والأفيان، ولم يبق أحد إلا مساكين شعب الأرض. وسبى يهيوياكين إلى بابل وأم الملك ونساء الملك وخصيانه وأقوياء الأرض، ومَلَّك ملكُ بابل متنيا عمه عوضًا عنه، وغيَّر اسمه إلى صدقيا." (24 : 10-17). وقد ورد خبر هذه الحملة في سجلات نبوخذ نصر بشكل مختصر ودون ذكر شيء عن اقتياد مسبيين إلى بابل: "في السنة السابعة (من حُكم الملك نبوخذ نصر) قاد ملك أكاد جيوشه نحو بلاد حاتي (=غربي الفرات) فحاصر مدينة يهوذا وأخذها في اليوم الثاني عشر من شهر آذار، فقبض على الملك وعين عوضًا عنه ملكًا جديدًا اختاره، وأخذ منها جزية كبيرة حملها إلى بابل."

كان النبي حزقيال بين سبي هذه الحملة الأولى على أورشليم، وفي بابل تابع هذا النبي نقده لانحراف أهل يهوذا عن عبادة يهوه، وممارساتهم الوثنية، حتى بعد أن رأوا ما حل بأهلهم من سبي ومذلة: "هكذا قال السيد الرب: هأنذا جالب عليكم سيفًا، وأبيد مرتفعاتكم فتخرب مذابحكم وتتكسر شمساتكم (=مذابح البخور)، وأطرح قتلاكم قدام أصنامكم، وأضع جثث بني إسرائيل قدام أصنامهم وأذري عظامكم حول مذابحكم وتنكسر وتزول أصنامكم وتُقطع شمساتكم وتمحى أعمالكم وتسقط القتلى في وسطكم فتعلمون أني أنا الرب." (حزقيال6: 1-7).

بعد نحو عقد من الزمان قرر نبوخذ نصر التخلص نهائيًا من شعب ملوك يهوذا، بعد أن وصلته أخبار عن محاولة صدقيا ملك يهوذا الجديد إقامة تحالفات عسكرية في المنطقة من أجل التمرد على بابل. وفي عام 578 ق.م شن ملك بابل حملة واسعة على الجنوب السوري طالت عددًا من الممالك الفلسطينية وبينها يهوذا التي ضرب الجيش البابلي حولها حصارًا دام طويلاً. وعندما اشتد الجوع ونفذت المؤن حاول الملك صدقيا وعائلته الهرب بمعونة مجموعة من خيرة جنوده، ولكن الكلدانيين قبضوا عليه وساقوه إلى نبوخذ نصر الذي أمر بقتل عائلة ملك يهوذا أمامه، ثم سمل عينيه وأرسله أسيرًا إلى بابل. أما أورشليم التي لم تفتح أبوابها بعد هرب ملكها، فقد اقتحمها قائد الجيش البابلي. وعلى حد وصف محرر سفر الملوك الثاني: "في السنة التاسعة عشر للملك نبوخذ نصر ملك بابل، جاء نبوزردان رئيس الشرط عبد ملك بابل إلى أورشليم وأحرق بيت الرب وبيت الملك، وكل بيوت العظماء أحرقها بالنار، وجميع أسوار أورشليم مستديرًا هدمها. وبقية الشعب الذين بقوا في المدينة، والهاربون الذي هربوا إلى ملك بابل، وبقية الجمهور، سباهم نبوزردان ولكنه أبقى من مساكين الأرض كرامين وفلاحين... فوكل عليهم جدليًا بن أحيقام بن شافان." (الملوك الثاني 25).

هذا وعلى الرغم من عدم توفر نص بابلي يصف هذه الحملة الأخيرة على أورشليم، إلا أن كاثلين كينيون في ستينيات القرن العشرين وقد كشفت عن آثار دمار وحرائق في موقع أورشليم ترجع إلى مطلع القرن السادس قبل الميلاد، وانقطاع في السكن دام قرابة قرن من الزمان.

لقد وجهت حملة نبوخذ نصر ضربة قاضية إلى يهوذا قضت على بنيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفوق ذلك كله على حياتها الدينية، وتم تدمير هيكل أورشليم الذي كان على تعدد العبادة فيه بمثابة رمز للهوية القومية. لقد تم سبي خيرة أهل البلد من معلمين وإداريين وعسكريين وكهنة، أما من بقى في الأرض ليتابع العمل في الزراعية من أجل تقديم الجزية إلى بابل، فقد كانوا على حالة من الفقر والضياع وفقدان التوجه والثقة في أي شيء، حتى في آلهتهم القديمة التي لم تقدر على حمايتهم.

على أن هذه الكارثة الشاملة التي أنهت الكيان السياسي لما يدعى بإسرائيل القديمة، قد أحدثت أعمق أزمة في تاريخ دين يهوذا قادت إلى تحطيم بنيته القديمة ووضع الأسس الجديدة لدين مختلف تمامًا عما عرفته إسرائيل ويهوذا في ماضيهما، قائم بالدرجة الأولى على تعاليم الأنبياء الذين كانوا يدعون إلى عبادة الإله يهوه ونبذ عبادة الآلهة الأخرى، وكان صوتهم هو الشيء الوحيد الذي بقي نابضًا بالحياة من تحت الخراب والدمار. وبينما كانت صفوة العقول في المنفى تتساءل عن الأسباب الكامنة وراء الكارثة، كان صوت الأنبياء يقدم لهم الجواب. فلقد دمر يهوه شعبه وهجر هيكله الذي كان يسكن فيه بينهم لأنهم عصوه وأخطأوا وأشاحوا بوجوههم عنه.

وهكذا انطلقت في المنفى عملية فكرية واسعة النطاق، هدفت إلى إعادة كتابة التاريخ من خلال فهم جديد له، ومن خلال منظور ديني أيديولوجي بدأ لتوه بالتشكل. وقد قادت هذه العملية في النهاية إلى إنتاج الأسفار التوراتية التي تعيد قراءة الماضي على ضوء الحاضر، من خلال انتقائية تمزج بين الوقائع التاريخية وتفسيرها الأيديولوجي، وعندما تعوزها الوقائع تعمد إلى ابتكارها. لا نستثني من ذلك أسفار الأنبياء التي من المفترض أنها تسرد أعمال وأقوال أنبياء معروفين، أو أن بعضهم قد دونها بنفسه. فهذه الأسفار النبوية ليست إلا نتاج عملية تحرير وإعادة تحرير طويلة، مزجت بين فكر الأنبياء وفكر المحررين التوارتيين ورؤيتهم الدينية والتاريخية المتأخرة.

عندما غادر نخبة أهل أورشليم منازلهم المهدمة والمحترقة، حملوا معهم ما خف حمله وغلا ثمنه. وهناك فئة من كتبة البلاط حملت معها ما استطاعت من المخطوطات المدونة في أسفار لينقذوا من خلالها ما يمكن إنقاذ من التركة الثقافية للمملكة. والسِفر هو الشكل السابق على الكتاب الذي نعرفه اليوم، وهو عبارة عن دَرْجِ (=لفافة) من ورق البردي يطول أو يقصر للموضوع الذي يعالجه. وقد شكلت هذه الأسفار فيما بعد حجر الأساس للرواية التوراتية، وقدمت لمحرريها المادة المعلوماتية اللازمة لهم في عملهم. وقد أشار هؤلاء إلى بعض مصادرهم وذكروا لنا من عناوينها. وفيما يلي قائمة بما ذكروه منها والمواضع التي وردت فيها:

- سفر حروب الرب (العدد 21: 14).

- سفر ياشر (يشوع 10: 13 وصموئيل الثاني 1:8).

- سفر أمور الملك سليمان (الملوك الأول 11: 41).

- سفر أخبار الأيام لملوك يهوذا (الملوك الأول 14: 19 و15: 7).

- سفر أخبار الأيام لملوك إسرائيل (الملوك الثاني 1: 18 و14: 28).

- سفر أخبار صموئيل النبي (أخبار الأيام الأول 29: 29).

- سفر أخبار حاد النبي (أخبار الأيام الأول 29: 29).

- سفر أخبار ناثان النبي (أخبار الأيام الثاني 9: 29).

- نبوءة أخيَّا الشيلوني (أخبار الأيام الثاني 9: 29).

- سفر أخبار شمعيا النبي (أخبار الأيام الثاني 12: 15).

- سفر أخبار عيدو النبي (أخبار الأيام الثاني 12: 15).

- سفر أخبار ياهو بن حناني (أخبار الأيام الثاني 20: 34).

كانت أحوال سبي يهوذا في أراضي بابل على خير ما يرام. فقد أسكنتهم السلطات المدنية البابلية في منطقة نيبور الجنوبية، وأقطعتهم من أراضي الدولة مساحات ليزرعوها ويدفعوا ضرائبها لخزينة الملك، وكانت أمورهم تُدار من قبل شيوخ منهم. وقد استطاع بعضهم الوصول إلى مراكز إدارية عالية في الجهاز البيروقراطي للدولة. وفيما عدا إحساسهم بالغربة والحنين إلى الماضي، لم يكن لديهم ما يشتكون منه على الصعيد العملي. أما على الصعيد النفسي فإن كاتب المزمور 137 من سفر المزامير يصف حالة الغربة التي يشعرون بها في الترنيمة التالية: "على أنهار بابل جلسنا، وبكينا عندما تذكرنا صهيون. على الصفصاف في وسطها علقنا أعوادنا، لأنه هناك سألنا الذين سبونا كلام ترنيمة، ومعذبونا سألونا فرحًا قائلين: رنموا لنا من ترنيمات صهيون. كيف نرنم للرب ترنيمة في أرض غريبة؟ إن نسيتك يا أورشليم تُنسى يميني."

كل هذا يعني أن النخبة المفكرة من سبي يهوذا كانت تتمتع بكل الظروف الملائمة للتأمل والتفكير والتحاور وتشكيل المجالس، والكتابة. ولقد توصلت جماعة من المفكرين اللاهوتيين، بعضهم من فئة الكهنة السابقين وبعضهم من خارجها، إلى أن الكارثة التي حلت بيهوذا لم تكن ضربة قدر أعمى أو نتيجة للقوة العسكرية الآشورية، ولكنها كانت من عمل الإله يهوه عقابًا لها على خطاياها، وما من سبيل الآن سوى التوبة والاعتراف بالذنب، والعودة إلى الرب من خلال التعلم من دروس الماضي. وتظهر معالجتهم لهذه الفكرة بأوضح أشكالها في بعض مقاطع سفر إرميا، حيث يلجأ المحرر إلى صيغة السؤال والجواب التعليمية: "ويكون حين تقولون، لماذا صنع بنا الرب إلهنا كل هذه؟ نقول لكم: كما أنكم تركتموني وعبدتم آلهة غريبة في أرضكم، هكذا تعبدون الغرباء في أرض ليست لكم." (إرميا5: 9). وأيضًا: "لماذا بارت الأرض واحترقت كبرية بلا عابر؟ فقال الرب: على تركهم شريعتي التي جعلناها أمامهم ولم يسمعوا لصوتي ولم يسلكوا بها، بل سلكوا وراء عناد قلوبهم ووراء البعليم التي علمهم إياها آباؤهم. لذلك هكذا قال الرب إله إسرائيل: هأنذا أبددهم في أمم لم يعرفوها هم ولا آباؤهم، وأُطلق وراءهم السيف حتى أفنيهم." (إرميا9: 12-16). وأيضًا: "ويقولون لك: لماذا تكلم الرب علينا بكل هذا الشر العظيم؟ فتقول لهم: من أجل أن آباؤكم قد تركوني، وأنتم أسأتم في عملكم أكثر من آبائكم." (إرميا16: 10-12).

مثل هذا الجدل الذي يقيمه يهوه مع شعبه، لا يقتصر على أسفار الأنبياء. وها هو محرر سفر التثنية يتنبأ منذ أيام التجوال في سيناء بما ستكون عليه حال شعبه في المستقبل: "إن سمعتَ لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه يجعلك الرب مستعليًا على جميع قبائل الأرض، وتأتي عليك جميع هذه البركات وتدركك... ولكن إذا لم تسمع لصوت الرب إلهك تأتي عليك جميع هذه اللعنات وتركك. ملعونًا تكون في المدينة وملعونًا تكون في الحقل... يهذب الرب بك ويملكك الذي تقيمه عليك إلى أمة لم تعرفها أنت ولا آباؤك، وتعبد هناك آلهة أخرى من خشب ومن حجر، وتكون دَهَشًا وهُزأة في جميع الشعوب التي يسوقك الرب إليهم." (التثنية28: 1-36)

لقد وثَّق يهوه عهده مع شعبه في أول أيام الخروج من مصر، ثم أعطاهم الوصية والشريعة على جبل سيناء. ولكن إسرائيل كان عاصيًا منذ البداية ولم يستمع لكلمة الرب، فأرسل إليهم الرب سلسلة من الأنبياء: "فلم يسمعوا لي ولم يميلوا أذنهم، بل صلبوا رقابهم، أساؤوا أكثر من آبائهم. فتُكلمهم بكل هذه الكلمات ولا يسمعون لك، وتدعوهم ولا يجيبونك، فتقول لهم: هذه هي الأمة التي لم تسمع لصوت الرب إلههم ولم تقبل تأديبًا، باد الحق وقُطعه عن أفواههم." (إرميا7: 26-27). وبذلك حلت عليهم اللعنة التي هدد بها الرب في المقطع أعلاه من سفر التثنية.

ولقد استخدم يهوه الملك البابلي نبوخذ نصر كأداة لعقاب يهوذا وتدميرها: "إني أنا صنعت الأرض والإنسان والحيوان الذي كان على وجه بقوتي العظيمة وذراعي الممدودة، وأعطيتها لمن حسُن في عيني. والآن قد دفعتُ كل هذه الأراضي ليد نبوخذ نصر ملك بابل عبدي، وأعطيته أيضًا حيوان العقل ليخدمه، فتخدمه كل الشعوب." (إرميا27: 5-7). "هأنذا أدفع هذه المدينة ليد ملك بابل فيأخذها، وصدقيا ملك يهوذا لا يفلت من أيدي الكلدانيين بل إنما يُدفع ليد ملك بابل." (إرميا32: 3-4) "فيأتي الكلدانيون الذين يحاربون هذه المدينة فيشعلوها بالنار ويحرقونها والبيوت التي بخروا على سطوحها للبعل وسكبوا السكائب لآلهة أخرى ليغيظونني... لأن هذه المدينة صارت لي لغضبي ولغيظي من اليوم الذي فيه بنوها إلى هذا اليوم، لأنزعها من أمام وجهي." (إرميا32: 9-31)

نلاحظ في المقاطع التي سقناها أعلاه من سفر إرميا ظهور فكرة جديدة أخذ المحررون التوارتيون بتطويرها في أسفار الأنبياء. فإله التوراة قد بدأ يخرج من مجاله الضيق كإله يعمل ضمن دائرة شعب إسرائيل إلى المجال الأوسع للشعوب الأخرى. لقد كان في السابق يسكن بين شعبه وينصرهم في المعارك ويقاتل معهم أعداءهم، ولكن ها هو الآن يستخدم ملوكًا وقادة جيوش ليحقق من خلالهم أهدافه، ويمد نفوذه إلى ما وراء يهوذا وإلى عقر دار بابل القوة المسيطرة في ذلك الوقت.

هذا الإدراك العميق للخطيئة والقبول بعقابها لا بد أن تتلوه التوبة، لأن الرب غفور يقبل التوبة، والطريق ليس مسدودًا أمام شعب إسرائيل العاصي. وها هو المحرر التوراتي يضع على لسان النبي إرميا صلوات الاستغفار هذه: "اذكر يا رب ماذا صار لنا، أشرِفْ وانظر إلى عارنا. قد صار ميراثنا للغرباء وبيوتنا للأجانب، صرنا أيتامًا بلا أب وأمهاتنا كأرامل. نشرب ماءنا بالفضة، حطبنا بالثمن يأتي وعلى أعناقنا نُضطهد، نتعب ولا راحة لنا... مضى فرح قلبنا صار رقصنا نوحًا، سقط إكليل رأسنا. ويل لنا لأنا قد أخطأنا... لماذا تنسانا إلى الأبد وتتركنا طوال الأيام؟ أرددنا إليك يا رب فنرتد، جدد أيامنا كالقديم، هل كل الرفض رفضتنا؟ عل غضبت علينا جدًا؟" (مراثي إرميا5: 1-22). وبما أن يهوه قد أعلن في أكثر من مناسبة بأنه سيعود إليهم إن هم عادوا إليه: "فالآن أصلحوا طرقكم وأعمالكم واسمعوا لصوت الرب إلهكم، فيندم الرب عن الشر الذي تكلَّم به عليكم." (إرميا26: 13)، فإن محرر سفر إشعيا (الثاني)[2] يعلن عن هذا الغفران بفرح وابتهاج: "عزوا، عزوا شعبي يقول إلهكم، طيبوا قلب أورشليم ونادوها بأن جهادها قد كمل، إن إثمها قد عُفي عنه، أنها قد قُبلت من يد الرب ضعفين عن كل خطايا." (2إشعيا: 40: 1-2)

ولكن هذه البقية التائبة الموزعة في المنفى هم فئة مستضعفة لا تستطيع بقواها الذاتية تحقيق خلاصها من الأسر وإعادة بناء موطنها المهدم. لقد عجزت الآلهة التي عبدوها في الماضي عن دفع الكارثة عنهم، فهل بمقدور يهوه بعد أن عبدوه الآن وحده وقبل توبتهم أن يأخذ بيدهم؟ هنا يأتي جواب يهوه الحاسم على مثل هذه التساؤلات: " وأما أنتَ يا إسرائيل عبدي... لا تخف لأني معك. لا تتلفت لأني إلهك. قد أيدتك وأعنتك بيمين بري. إنه سيخزي ويخجل جميع المغتاظين عليك، يكون كلا شيء مخاصموك ويبيدون، تفتش عن منازعيك ولا تجدهم." (2إشعيا 41: 8-12).

ثم إن هذه النتيجة اللاهوتية التي أوصلها تأملها بأسباب الكارثة إلى هذه النتائج بدأت ترى أن يهوه لكي يستطيع إنقاذ شعبه الصغير والضعيف من يد أعتى قوى عالمية في ذلك الوقت، يجب أن يكون هو نفسه كبيرًا وقويًا، إلهًا مسيطرًا على العالم بأكمله لأعلى رقعة أرض صغيرة في فلسطين. وكلما كان إحساس هذه الفئة المسبية القليلة بهوانها وقلة حيلتها، كان إحساس بقدرة إلهها يتزايد. لقد رفعت جماعة عبادة يهوه وحده في الماضي إلهها إلى مرتبة إله الآلهة: "إله الآلهة، الرب إله الآلهة." (يشوع22: 21). "إله الآلهة، الرب تكلم ودعا الأرض من مشرقها إلى مغربها." (المزمور50: 1). "لأن الرب إله عظيم، ملك على كل الآلهة." (المزمور 95: 3). "اسجدوا له يا جميع الآلهة." (المزمور 97: 7). ولكنه الآن غدا الإله الأوحد في العالم ولا إله غيره: "أنا الرب وليس آخر ولا إله سواي." (2إشعيا 45: 5). "أنا الأول وأنا الآخر ولا إله غيري." (2إشعيا 44: 6). "التفتوا إلي واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض، لأني انا الله وليس آخر." (2إشعيا 45: 21). "أنا الرب صانع كل شيء، ناشر السموات وحدي، باسط الأرض من معي؟" (2إشعيا 44: 24).

ومن موقعه الجديد ها هو يحكم بالخراب على بابل من أجل أن يفك أسر شعبه، وها هي آلهة بابل تتهاوى أمامه: "قد جثا بيل، انحنى نبو، صارت تماثيلهما على الحيوانات والبهائم. محمولاتكم محملة حِملاً للمعيي، قد انحنت جثث معًا لم تقدر أن تنجي الحمل وهي نفسها مضت في السبي." (2إشعيا 46: 1-2). ومع آلهتها سوف تنزل بال الفخورة إلى الحضيض: "انزلي واجلسي على التراب أيتها العذراء ابنه بابل، اجلسي بلا كرسي يا ابنة الكلدانيين... اجلسي صامتة وادخلي في الظلام لأنك لا تعودين تدعين سيدة الممالك." (2إشعيا 46: 1-5).

بهذه الطريقة تمت ترقيه إله في مملكة صغيرة منهارة في الجنوب السوري إلى مرتبة الإله الأوحد خالق السموات والأرض، لكي يستطيع من خلال تحكُّمه بالعالم وبتاريخه تحرير شعبه والعودة به إلى أرضه. وها هو يستخدم الملك الفارسي قورش بعد أن رفعه إلى مرتبة مسيح الرب لكي يقضي على الإمبراطورية البابلية ويعيد سبي يهوذا إلى أورشليم: "هكذا يقول الرب لمسيحه لكورش الذي أمسكتُ بيمينه لأدوس أمامه أممًا وأحقاء ملوك، أَحُلُّ لأفتح له المصراعين، والأبواب لا تُغلق. أنا أسير قدامك والهُضاب أمهد، أكسُر مصراعي النحاس ومغاليق الحديد أقصف. وأعطيك ذخائر الظلمة وكنوز المخابئ، لكي تعرف أني أنا الرب الذي يدعوك باسمك، إله إسرائيل" (2إشعيا 45: 1-3). وكل هذه الهزة التي أحدثها ظهور الملك قورش على المسرح الدولي كانت من أجل إطلاق سراح بني إسرائيل: "لأجل عبدي يعقوب وإسرائيل مختاري دعوتك باسمك، لقبتك وأنت لست تعرفني. أنا الرب وليس آخر." (2إشعيا 45: 4-5). وقورش لم يدخل بابل منتصرًا إلا ليسمح للمسبيين بإعادة بناء هيكل أورشليم في أرضهم: "أنا الرب صانع كل شيء... مقيم كلمة عبده ومتمم رأي رسله، القائل عن أورشليم ستُعمر ولمدن يهوذا ستبنين وخِربِها أقيم، القائل عن قورش راعيَّ، فكل مسرتي يتمم ويقول عن أورشليم ستبنى وللهيكل ستؤسًّس." (2إشعيا 44: 24-28).

وهكذا وفي السنة الأولى لدخول قورش إلى بابل (سنة 539 ق.م)، على ما يقوله لنا محرر سفر عزرا: "نبه الرب روح كورش ملك فارس، فأطلق نداءً في مملكته وبالكتابة أيضًا قائلاً: هكذا قال كورش ملك فارس. جميع ممالك الأرض دفعها إليَّ رب السماء، وهو أوصاني أن أبني له بيتًا في أورشليم التي في يهوذا. من منكم من كل شعبه ليكن إلهه معه، ويصعد إلى أورشليم التي في يهوذا فيبني بيت الرب إله إسرائيل. هو الإله الذي في أورشليم." (عزرا1: 1-3). يلي ذلك خروج من بابل على طريقة الخروج الأول من مصر: "اخرجوا من بابل، اهربوا من أرض الكلدانيين بصوت الترنم. أخبروا ونادوا بهذا، شيعوه إلى أقاصي الأرض، قولوا قد فدى الرب عبده يعقوب ولم يعطشوا في القفار التي سيَّرهم فيها. أجرى لهم من الصخر ماءً وشق الصخر ففاضت المياه." (إشعيا48: 20-21).

على أن هذا كله لم ينتهي بمحرري التوراة إلى التوحيد الصافي وإنما إلى عتبة التوحيد، لأن إلههم الواحد هذا قد بقي على شموليته الظاهرية إلهًا لإسرائيل وحدها من دون بقية شعوب الأرض، ولم يكن رفعه إلى هذا المقام إلا رفعًا لمكانة إسرائيل نفسها بين الشعوب، لأن يهوه إلهها ومسكنه فيها. وها هو المحرر التوراتي يعبر عن أمنيه المستقبلية في أن تتحول كل الشعوب إلى عبيد يسجدون أمام إسرائيل ويلحسون الغبار عن قدميها:

"هكذا قال الرب: تعبُ مصر وتجارة كوش والسبئيون ذوو القامة، إليكِ يعبرون، ولك يكونون وخلفك يمشون. بالقيود يمرون ولك يسجدون. إليك يتضرعون قائلين: فيك وحدك الله وليس آخر، ليس إله." (2إشعيا 45: 15).

"قومي استنيري يا أورشليم، لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليك... وبنو الذين قهروك يسيرون خاضعين، وكل الذين أهانوك يسجدون لدى باطن قدميك." (2إشعيا 60: 1و14).

"هكذا قال الرب: ها إني أرفع إلى الأمام يديَّ وإلى الشعوب أقيم رايتي؛ فيأتون بأولادك في الأحضان وبناتك على الأكتاف يحملن، ويكون الملوك حاضنيك وسيداتهم مرضعاتك. بالوجوه إلى الأرض يسجدون لك ويلحسون غبار رجليك، فتعلمين أني أنا الرب الذي لا يخزى منتظروه." (2إشعيا 49: 22-23).

"ويكون في ذلك اليوم أن السيد يعيد يده ثانية ليقتني بقية شعبه... ويجمع منفيي إسرائيل ويضم مشتتي يهوذا من أربعة أطراف الأرض، لأن الرب سيرحم يعقوب ويختار إسرائيل ويريحهم في أرضهم فتقترن بهم الغرباء وينضمون إلى أرض الرب عبيدًا وإماءً." (إشعيا11: 11-12، وإشعيا 14: 1-2).

وها هو يهوه يأخذ عهد إسرائيل مهمة قهر أعدائها فيسحقهم ويخوض في دماء بالشعوب:

"اقتربوا أيها الأمم لتسمعوا ويا أيها الشعوب أصغوا. لتسمع الأرض وملؤها لأن للرب سخطًا على كل الأمم وحُمّوا على جيشهم. قد حرَّمهم، دفعهم للذبح، فقتلاهم تُطرح وجيفهم تصعد نتانتها وتسيل الجبال بدمائهم." (إشعيا 34: 1-5).

"وأنا أخاصم مخاصميك وأخلص أولادك، وأطعم ظالميك لحم أنفسهم، ويسكرون من دمائهم كما من سلاف، فيعلم كل بشر أني أنا الرب فاديكِ ومخلِّصكِ." (إشعيا 49: 25-26).

"- من ذا الآتي من آدوم بثياب حُمر من بَصرة؟ هذا البهي بملابسه المتعظم بكثرة قوته؟

- أنا المتكلم بالبر العظيم بالخلاص.

- ما بال لباسك محمرٌ وثيابك كدائس معصرة؟

- قد دست المعصرة وحدة ومن الشعوب لم يكن معي أحد، فدستهم بغضبي ووطئتهم بغيظي، فرشَّ عصيرهم على ثيابي فلطخت ملابسي. لأن النقمة من قلبي وسنة مفديي قد أتت.. قدست شعوبًا بغضبي وأسكرتهم بغيظي وأجريت على الأرض عصيرهم." (2إشعيا 63: 1-6).

نشوء الديانة التوراتية:

لقد جاء سبي أهل يهوذا في سياق عمليات تهجير واسعة النطاق قام بها ملوك الإمبراطورية الآشورية، وتابعها على نطاق أضيق ملوك الإمبراطورية البابلية الجديدة. وقد طالت سياسة التهجير هذه عشرات الشعوب المغلوبة التي أزيحت من مواطنها وجيء بأخلاط إثنية شتى لتحل محلها، وذلك من أجل خلخلة البنية الإثنية في المناطق المتمردة وكبح الروح القومية. وعندما ورث الفرس أملاك الإمبراطورية البابلية لم يمارسوا حق المنتصر على أراضي المقهورين وثرواتهم، لأن هؤلاء الورثة كانوا يتعاملون مع شعوب قد تم قهرها وترويضها، وإنما مارسوا حق الوارث، وتركزت سياستهم على كسب الدعم للحاكم الجديد من خلال سماحهم للشعوب المسبية بالعودة إلى مواطنها واسترداد هويتها الإثنية والدينية، والمشاركة في مشروع شامل للإنعاش الاقتصادي العام في الإمبراطورية. وعلى عكس البابليين والآشوريين من قبلهم، فقد اتبعوا نظام اللامركزية السياسية الذي يعطي للشعوب أكبر قدر من الحرية في إدارة شؤونهم المدنية، مع اتخاذ كل الاحتياطات اللازمة من أجل منع نمو النزعات القومية الانفصالية.

وعندما دخل قورش إلى بابل عام 539 ق.م، أعلن بيانه السياسي في نص طويل يتهم فيه الحكام السابقين بالظلم والاستبداد وتسخير الرعية وتهجيرهم والإساءة إلى الآلهة، مدعيًا أن إله بابل مردوخ الذي هجرها مع بقية الآلهة، قد دعاه لينقد الشعب ويعيد الأمور إلى نصابها، وأنه أسلمه بابل التي فتحت ذراعيها لاستقباله دون قتال. ولذا فإنه يعلن من بابل التي قصدها ملوك الجهات الأربعة لتقديم ولائهم، عم سياسته في إعادة بناء المدن المقدسة ومعابدها التي سُلبت منها تماثيل الآلهة، وإعادة المهجرين مع آلهتهم إلى تلك المدن التي جعلها سابقوه خرابًا. وعلى حد قول النص في خاتمته: "لقد أرجعت إلى المدن المقدسة على الجهة الأخرى من الدجلة معابدها التي كان خرابًا لمدة طويلة، كما أعدت إليها صور الآلهة التي كانت تعيش فيها، وجمعت سكانها المنفيين وسقتهم إلى أوطانهم. وتنفيذًا لأمر مردوخ العظيم، فقد أعدت صور آلهة سومر وأكاد، التي جلبها الملك نابونيد إلى بابل، سليمة إلى محاريبها السابقة، الأماكن التي تسر فؤادها."

على الرغم من الأسلوب الدعائي لهذا البيان السياسي الموجه إلى شعوب الإمبراطورية لكسب ولائها، إلا أن تطبيقه قد بدأ بالفعل، وسارت عملية إعادة الشعوب والآلهة إلى مواطنها على قدم وساق خلال فترة حكم الملك قورش وخلفائه من بعده، وذلك تحت شعارات "التجديد" و"إعادة البناء"، وفي ظل نظام إداري لا مركزي يساعد على حكم المناطق الشاسعة للإمبراطورية بكفاءة عالية ونفقات أقل، كما يساعد على فرض القوانين الفارسية إلى خلق هذه الكيانات الإقليمية التابعة، التي تستقبل عن طيب خاطر القوانين والشرائع والفارسية التي توحدها مع جسد الإمبراطورية، فقد عملت الإدارة الفارسية على مطابقة الآلهة المحلية في المجتمعات الجديدة، التي تم خلقها أو أحياؤها، مع إله السماء الفارسي أهورا مزدا، الإله الواحد الحق الذي بشر به زرادشت. وبهذه الطريقة سيتم توحيد أقاليم الإمبراطورية من خلال نظام قانوني تشريعي واحد، وإله واحد تتنوع أسماؤه وتجلياته من إقليم إلى آخر، ولكنها تتحد في النهاية تحت مفهوم الإله الواحد للإمبراطورية جمعاء.

في هذا السياق التاريخي والمناخ الفكري، نستطيع فهم الأخبار التوراتية في سفري عزرا ونحميا بخصوص عودة سبي يهوذا وإعادة بناء هيكل الرب في أورشليم.

على الرغم من أننا لا نملك وثيقة فارسية تخبر عن السماح لسبي يهوذا بالعودة إلى موطنهم، إلا أنه لا يوجد لدينا من الأسباب ما يدعو إلى الشك في الخطوط العامة لهذه القصة، لأنها تتفق مع الإطار العام للسياسة الفارسية. وبشكل خاص فإن المرسوم القاضي بعودة سبي يهوذا والذي يعزوه المحرر التوراتي إلى الملك قورش، يتفق مع روح البيان السياسي التاريخي الذي أعلنه قورش عشية دخوله إلى بابل. نقرأ في مطلع الإصحاح الأول من سفر عزرا: "في السنة الأولى لكورش ملك بابل، عند تمام كلمته الرب بفم إرميا، نبه الرب روح كورش ملك فارس فأطلق نداءً في كل مملكته وبالكتابة أيضًا قائلاً هكذا قال كورس ملك فارس: جميع ممالك الأرض دفعها إلي الرب إله السماء، وهو أوصاني أن أبني له بيتًا في أورشليم التي في يهوذا.. الخ." نلاحظ في هذا النص المطابقة بين إله قورش وإله المجتمع الجديد في أورشليم، واستخدام المحرر التوراتي للمرة الأولى لقب "إله السماء" في معرض الإشارة إلى الإله القديم يهوه، الذي لبس الآن لبوسًا جديدًا باعتباره صورة محلية عن الإله الشمولي للإمبراطورية الفارسية. كما تظهر بين الإلهين من إطلاق محرر سفر إشعيا الثاني على قورش لقب "مسيح الرب": "هكذا يقول الرب لمسيحه كورش، الذي أمسكتُ بيمينه لأدوس أمامه أممًا.. الخ." (2إشعيا: 1-6). بهذه الطريقة التقت تصورات اللاهوتيين التوراتيين في المنفى عن إله واحد لشعب إسرائيل بالأفكار الزرادشتية عن إله كوني شمولي. وعاد المسبيون ومعهم إله لا يربطه بالإله القديم كمملكة يهوذا سوى الاسم فقط.

جاءت عودة المسبيين إلى أورشليم على ثلاث دفعات تفصل بينها فترات متباعدة، وهنالك من قرر البقاء في الأراضي البابلية ولم يرجع إلى موطنه أبدًا، وجلهم من الجيل الثاني الذي ولد في المنفى ولم يعرف الوطن قط. ويبدو أن الموجة الأولى من العائدين قد توجهت إلى أورشليم خلال العام الذي دخل فيه قورش إلى بابل وأعلن عن سماحه لكل المنفيين بالعودة. وكان على رأس هذه الموجة التي لم تكن كثيرة العدد أمير من النسل الملكي يدعى شيشبصر عينته الإدارة الفارسية واليًا لها على مقاطعة أورشليم التي شغلت في التنظيم الإداري الفارسي الجديد المقسم الشمالي فقط من مملكة يهوذا القديمة، ودعيت بالاسم الفارسي "يهود" المشتق من الاسم القديم للملكة. ولمساعدة شيشبصر على الإقلاع في مشروع إحياء أورشليم وبناء هيكلها، فقد أعاد إليه قورش كنوز الهيكل التي نهبها البابليون، كما أن الأغنياء من سبي يهوذا المتكاسلين عن العودة، تبرعوا لأخوتهم العائدين بذهب وفضة ومواشٍ (عزرا1: 17-11). وعلى الرغم من أن الهدف الأول لمشروع العودة كان إعادة بناء بيت الرب، إلا أن شيشبصر وجماعته قد انشغلوا على ما يبدو بالمهام الآنية التي واجهتهم، والمتعلقة بتأمين مساكن لهم وتحصيل لقمة العيش. لذلك نجد محرر سفر عزرا ينتقل في الإصحاح الثاني إلى الحديث عن الموجة الثانية من العائدين بعد مرور سبع عشرة سنة على انطلاق الموجة الأولى، ويختفي شيشبصر من مسرح الأحداث دون سبب واضح.

جاءت الموجة الثانية في مطلع فترة حكم الملك داريوس حفيد قورش (522-486 ق.م) بقيادة الوالي الجديد على أورشليم المدعو زرُبابل، وهو من الجيل الثاني المولود في المنفى على ما يدل عليه اسمه الذي يعني "المولد في بابل". وقد رافقه هذه المرة عدد كبير من الأُسر تعدادهم نحو أربعين ألفًا (عزرا: 2)، وهو رقم يشكك معظم الباحثين اليوم بدقته، كما رافقه كاهن مرموق يدعى يشوع. وقد أعاد داريوس إلى زربابل ما تبقى من كنوز الهيكل المسلوبة، وأعطى أوامره إلى عامله على مناطق غربي الفرات بتسهيل مهمة زربابل وتزويده من خراج تلك المناطق بما يلزمه من مال لإعادة بناء الهيكل. وقد شرع زربابل بعملية إعادة البناء فور وصوله إلى أورشليم وأنهاه في السنة السادس لحكم الملك داريوس (عزرا: 3-6)، ولكن محرر سفر عزرا يتوقف عن ذكره دون سبب واضح ثلما توقف عن ذكر شيشبصر.

بعد الانتهاء من بناء بيت الرب نحو عام 516 ق.م، تصمت الرواية التوراتية عما كان يجري في أورشليم قرابة خمسين عامًا، لتلتقط خيط الأحداث مع صعود الملك أرتحشتا (أركزاكسيس الأول) عرش فارس (465-424 ق.م). ففي السنة السابعة لحكم الملك أرتحشتا، أي نحو عام 458 ق.م، انطلقت موجة ثالثة من العائدين إلى أورشليم، لم يذكر النص تعدادها، بقيادة المدعو عزرا بن سرايا، الكاهن المتفقه بشريعة الرب على ما يصفه النص. وعزرا هذا لم يأت إلى أورشليم كوال جديد على مقاطعة يهود، وإنما تركزت مهامه على مسائل التنظيم الديني والاجتماعي للمجتمع الجديد في أورشليم، وكان عليه الاهتمام بتعزيز طقوس الهيكل وأدائها على الشكل الصحيح، وتنظيم شؤون القضاء استنادًا إلى شريعة حملها معه من موطنه يدعوها النص بشريعة الملك وشريعة الرب. وعلى ما نقرأ في سفر عزرا:

"عزرا هذا صعد من بابل، وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل... وهذه صورة الرسالة التي أعطاها الملك أرتحشتا لعزرا الكاهن: من أرتحشتا ملك الملوك إلى عزرا الكاهن كاتب شريعة إله السماء الكامل. قد صدر مني أمرٌ أن كل من أراد في ملكي من شعب إسرائيل أن يرجع إلى أورشليم فليرجع معك. من أجل أنك مرسل من قبل الملك ومشيريه السبعة، لأجل السؤال عن يهوذا وأورشليم، حسب شريعة إلهك التي بيدك، ولحمل فضة وذهب تبرع به الملك ومشيروه لإله إسرائيل الذي في أورشليم مسكنه، مع تبرعات الشعب والكهنة، والمتبرعين لبيت إلهك الذي في أورشليم. لكي تشتري بهذه الفضة ثيرانًا وكباشًا وخرافًا، وتقدماتها وسكائبها، وتُقربها على المذبح. ومهما حسُن عندك وعند إخوتك أن تعملوه بباقي الذهب والفضة فحسب إرادة إلهكم تعملونه... أم أنت يا عزرا فحسب حكمة إلهك التي بيدك (=شريعة موسى) ضع حكامًا وقضاة يقضون لجميع الشعب الذي في عبر النهر (=نهر الأردن)، من جميع من يعرف شرائع إلهك، أما الذين لا يعرفون فعلموه. وكل من لا يعمل شريعة إلهك وشريعة الملك فليقض عليه عاجلاً إما بالموت أو بالنفي أو بغرامة المال أو بالحبس." (عزرا 7: 6-26).

نلاحظ من هذا النص أن عزرا قد جاء معه من بابل بشريعتين، الأولى تدعى شريعة الملك والثانية شريعة الرب. فأما شريعة الملك فهي القوانين الفارسية التي كانت الإدارة الفارسية تسعى من خلالها إلى تنميط العلاقات الخارجية للولايات ذات الاستقلال الذاتي، بطريقة تضمن ولاءها للإمبراطور الفارسي. وأما شريعة الرب فهي نموذج عن الشرائع التي كانت المجتمعات الجديدة في الإمبراطورية تصوغها من أجل إدارة شؤونها الداخلية، وذلك بعد أخذ موافقة الإدارة الفارسية عليها من أجل التأكد من عدم تعارضها من شريعة الملك.

ومن المرجح أن شريعة الرب التي جاء بها عزرا من بابل هي شريعة موسى التي وضعت نواتها الأولى جماعة عبادة يهوه وحده خلال الإصلاح الديني الكبير الذي قاده الملك يوشيا قبل بضعة عقود من دمار مملكة يهوذا، والتي ادعى كبير كهنة الهيكل أنه وجدها مدفونة تحت أحد جدران الهيكل، وهي التي دورت الإصلاحيين بالقاعدة الإيديولوجية التي قامت عليها حركتهم. وقد حُملت هذه الوثيقة التي يدعوها محرر سفر الملوك الثاني بسفر الشريعة مع ما تم حمله من وثائق إلى بابل، وهناك عكف اللاهوتيون على تطويرها بما يتلاءم والصورة الجديدة للإله يهوه، وظهرت الأسفار الخمسة الأولى من كتاب التوراة بشكلها الجنيني، الذي تم تطويره بعد ذلك في أورشليم على يد خلفاء عزرا.

وبما أن شريعة الرب هذه قد وضعت لتكون بمثابة اللحمة التي تجمع أهل المجتمع الجديد في أورشليم، وتؤكد تميزهم عن مجتمع يهوذا القديم العاصي على الرب، مثلما تؤكد تميزهم عن المجتمعات الوثنية المحيطة بهم، فقد كان لا بد من قراءة هذه الشريعة على مسامع الشعب بما فيهم الكهنة، وإفهامهم إياها، وأخذ العهد منهم على الالتزام بها. وعلى ما نقرأ في نحميا:

"ولما استهل الشهر السابع وبنو إسرائيل في مدنهم، اجتمع كل الشعب كرجل واحد إلى الساحة التي أمام باب الماء، وقالوا لعزرا الكاتب أن يأتي بسفر شريعة موسى التي أمر بها الرب إله إسرائيل. فأتى عزرا الكاتب بالشريعة أمام الجماعة من الرجال والنساء، وكلَّ فاهمٍ ما يُسمع. في اليوم الأول من الشهر السابع، وقرأ فيها أمام الساحة التي عند باب الماء من الصباح إلى نصف النهار أمام الرجال والنساء والفاهمين، وكانت آذان كل الشعب نحو سفر الشريعة. ووقف عزرا الكاتب على منبر الخشب الذي عملوه لهذا الأمر، ووقف بجانبه متَّثيا، وشمعُ، وعنايا.. الخ (تعداد لأسماء بطانة عزرا من لاهوتيي المنفى). وفتح عزرا السفر أمام كل الشعب لأنه كان فوق كل الشعب. وعندما فتحه وقف كل الشعب، وبارك عزر الربَّ الإله العظيم، وأجاب جميع الشعب آمين آمين، رافعين أيديهم وخروا وسجدوا للرب على وجوههم إلى الأرض، ويشوع، وباني، وشربيا... الخ، أفهموا الشعب الشريعة والشعب في أماكنهم، وقرؤوا في، في شريعة الله، ببيان وفسروا المعنى وأفهموهم القراءة... وفي اليوم الثاني اجتمع رؤوس آباء الشعب والكهنة واللاويون إلى عزرا الكاتب ليُفهمهم كلام الشريعة." (نحميا8: 1-13).

ونلاحظ من قول محرر سفر نحميا في آخر المقطع الذي اقتبسناه أعلاه، أن الكهنة عمومًا والكهنة من سبط اللاويين الذي من المفترض أنهم كانوا قيمين على طقوس بهوه من أيام هرون الذين ينتمون إليه، لم يكونوا يعرفون شيئًا عن شريعة موسى التي كانت تُقرأ على أسماعهم، شأنهم في ذلك شأن بقية الشعب.

ونفهم من بقية فقرات الإصحاح الثامن من سفر نحميا، أن قراءة سفر الشريعة استمرت أيامًا طوالاً. وفي اليوم الرابع والعشرين من الشهر اجتمع الشعب بالصوم وعليهم مسوح وتراب، ووقفوا واعترفوا بخطاياهم وذنوب آبائهم، وقُرئت أمامهم للمرة الأولى، كما هو واضح، قصة بني إسرائيل منذ أيام إبراهيم إلى زوال مملكتي إسرائيل ويهوذا، وكيف أخطأوا إلى الرب كل تلك الأيام. وينتهي هذا الاعتراف الكامل بالذنب بالاستغفار وقطع عهد مع الرب على عبادته وحده والعمل بكل وصاياه:

"والآن يا إلهنا العظيم الجبار، حافظ العهد والرحمة، لا تصغُر لديك كل المشقات التي أصابتنا... ملوكنا وآباؤنا وكهنتنا ورؤساؤنا لما يعلموا شريعتك ولا أصغوا إلى وصاياك، وهم لم يعبدوك في مملكتهم وفي خيرك الكثير الذي أعطيتهم، ولم يرجعوا عن خطاياهم. ها نحن اليوم عبيد والأرض التي أعطيتَ لآبائنا نحن عبيد فيها، وغلاتها كثيرة للملوك الذين جَعلتهم حكامًا علينا لأجل خطايانا. ومن أجل ذلك نحن نقطع ميثاقًا ونكتبه، ورؤساؤنا ولاويّونا وكهنتنا يختمون." (نحميا9). "والذين ختموا هم نحميا ابن حكليا، وصوفيا، وسرايا، وعزرا... الخ. وباقي الشعب والكهنة واللاويون... لصقوا بإخوتهم وعظائمهم ودخلوا في قَسم وحَلف أن يسيروا في شريعة الله التي أُعطيت عن يد موسى بن عبد الله، وأن يحفظوا ويعملوا جميع وصايا الرب سيدنا أحكامه وفرائضه." (نحميا10: 1-29).

هذا العهد الذي قطعته البقية التائبة أمام عزرا الكاهن بقبول شريعة الرب، هو في الحقيقة العهد الأول مع الرب إله إسرائيل الجديدة، وهو الذي عكسه المحررون التوراتيون على بدايات القصة التي كانوا عاكفين على تدبيجها عن أصول إسرائيل. فلقد عقد الرب عهده الأول مع إبراهيم، ثم جدد العهد مع كل من إسحاق ويعقوب، وعندما أنزل الشريعة على جبل سيناء أخذ موسى عهد الرب على شعبه أن يعبدوه وحده ويعملوا بشريعته. أما باقي القصة التوراتية فليست سوى تاريخ للخطيئة انتهت بإسرائيل العاصية إلى الدمار.

وهكذا تظهر إسرائيل التوراتية إلى الوجود باعتبارها ناتجًا فكريًا من نواتج الوضع الخاص للمجتمع الأورشليمي في العصر الفارسي. من هنا فإن هذه الإسرائيل لا تتمتع بوجود موضوعي خاضع لعملية التقصي التاريخي، لأن العملية التحريرية التي قادت إلى إنتاج إسرائيل التوراتية، لم تكن تهدف إلى إنشاء خطاب أمين عهد الماضي، بقدر ما هدفت إلى صياغة خطاب يعطي معنى للحاضر. والمضمون الذي يتكشف لنا عبر أسفار الكتاب ليس موجهًا نحو الكشف عن الماضي إلا بمقدار ما يقدمه هذا الماضي من دعم وتثبيت للمؤسسة الدينية والدنيوية القائمة. وبمعنى آخر، فإن ما يبدو في هذه الأسفار على أنه تأمل تاريخي، ليس في حقيقة الأمر إلا تأملاً في حاضر المجتمع الجديد باعتباره وريثًا لمجتمع قديم آل إلى اللعنة والتحلل والدمار. هذه الصورة عن إسرائيل هي تحكمت بنوع الأحداث التي تم جمعها وتذكُّرها باعتبارها تاريخًا. وسارت عملية ابتكار الهوية الدينية يدًا بيد مع ابتكار الهوية الإثنية.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  الإصحاحات من 1إلى 39 من سفر إشعيا هي التي يمكن أن نعزوها إلى إشعيا التاريخي. ولكن علينا الانتباه إلى أن يد المحررين المتأخرين قد لعبت في صياغتها التي وصلت إلينا لجعلها في انسجام مع اللاهوت اليهوي المتأخر. وهؤلاء هم المسؤولون عن كتابة بقية الإصحاحات من 40 إلى 60، وهي المنسوبة إلى إشعيا الثاني.

[2]  بما أن الإصحاحات من 40-66 في سفر إشعيا تتحدث عن أمور متأخرة وقعت بعد وفاة النبي التاريخي إشعيا، فإن الباحثين يطلقون على هذا القسم الثاني من السفر عنوان "إشعيا الثاني".

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني