French Arabic

بشأن الحرب على غزة
ليس العنفُ حتميةً، ولكن...

 

جان ماري مولِّر[1]

 

ليس العنفُ حتميةً. ولا يفرِض أبدًا قوانينَه من تلقاء ذاته. ولكنْ عندما يختاره البشرُ، يصبح حتميًا بأنْ يكابدون قوانينَه. هذه القوانينُ قاسية. إنها جامدة. إنها مرهِقة. إنها لا ترحم. إنها متوحشة. إنها لاأخلاقية. إنها، في النهاية، لاإنسانية. نتائجُ العنف مخزية. فظيعة. مُخجِلة. هذا هو منطقه. إنه منطق بارد لا تقف في وجهه صيحاتُ الغضب.

تشير سيمون ﭭـايل في الإلياذة إلى أنَّ "المحاربين يَظهرَون مشابهين إما للحريق وإما للفيضان وإما للريح وإما للحيوانات الضارية وإما لأي سبب أعمى يسبب الكارثة[2]". العنف، في الواقع، هو سبب أعمى للكارثة. إنه يفعل فعل كارثة طبيعية. إنَّ من طبيعة العنف نفسها أنْ يكونَ آليةً عمياء تجرُّ الإنسانَ في هروب نحو الرعب. يعتقد البشر أنهم يستعملون العنفَ، ولكنَّ العنفَ في الواقع هو الذي يستعملهم. يُخضِعهم ويجعلهم أدواتٍ في خدمته وحده. يتوهمون أنهم يستخدمونه، ولكنه يستخدمهم. فلا يبقى بين الإنسان والفعل العنيف أيُّ مسافة. وبالتالي فإنَّ المسافة التي يمكن وضعها بينهما هي التي تتيح وحدها وعيًا أفضل. ليس هناك في وحشية العنف من مكان للفكر. و"حيث لا يكون للفكر مكان لا يكون للعدل ولا للتعقُّـل مكان. ولذلك يتصرف الرجالُ المسلَّحون بقسوة وجنون[3]". تشير أيضًا سيمون ﭭـايل إلى أنه عندما "لا أريد أنْ أكبِّد العدوَّ إلاَّ خسارةً محدودة فإنني لا أستطيع لأنَّ استخدام الأسلحة ينطوي على اللامحدودية[4]". لقد أوضح ﭙول ﭭـاليري هو أيضًا دوامةَ العنف العمياء بقوله: "يُعرَف العنفُ بهذه الخاصية ألا وهي أنه لا يستطيع الاختيار: كثيرًا ما نقول أنَّ الغضب أعمى؛ فالانفجار أو الحريق يصيب مكانًا معيَّنًا وجميعَ ما يحتويه. إذًا، إنَّ الذين يتخيَّـلون ثورةً أو حربًا كحلولٍ لمشاكلَ محدَّدة يتوهمون عندما يعتقدون أن الشر وحده هو الذي يُقضَى عليه[5]."

لقد كان الخطاب الرجعي للمحللين السياسيين الذين يتعاطون حربَ غزة - الخبراء ورجال السياسة والصحفيين - تكرارًا لم يعد ينتهي لفكرة أن العمل العسكري لدولة إسرائيل كان "غير متكافئ". عندما يقولون ذلك فإنهم يعلنون عن رضاهم بامتلاك حقيقة جميلة وكبيرة. حقيقة لا تقبل النقاش. ويدعون إسرائيل، متقوِّين بهذه الحقيقة، إلى إظهار "الاعتدال". ولكنْ لا هذه الملاحظة ولا تلك الدعوة تفيدان البتةَ في السيطرة على الأحداث. فهؤلاء لا يبالون بها كليًا. في الواقع، يجهل المحللون ما يُفترَض أن يحللوه. يجهلون طبيعةَ العنف نفسها التي تتميز بعدم اعتدالها.

من الواضح بداهةً أنَّ إمكانيات إسرائيل العسكرية "غير متكافئة" مع إمكانيات حماس. فالقصف الجوي على غزة "غير متكافئ" مع إطلاق الصواريخ على إسرائيل. وعدد القتلى الفلسطينيين "غير متكافئ" مع عدد القتلى الإسرائيليين. ولكنْ من السخف والقبح التلويحُ بحساب عدد القتلى لإثبات حجة كهذه. كلُّ جريمة هي عنف غير متكافئ. عنف غير محدود. إذْ ليس لقوانين العنف معنى التناسب. إنها تفضِّـل الشططَ. فالعنفُ يَستخدِم جميعَ الوسائل التي في متناوله. ما يجري بسيط جدًا: عنف إسرائيل متكافئ مع قدرتها على العنف مثلما أن عنف حماس متكافئ مع قدرتها على العنف. عندما يستسلم أيُّ امرئٍ للمنطق الصِّرف للعنف فإنه يفعل كلَّ ما بوسعه. لأنَّ رغبة العنف شديدة بالدرجة نفسها لدى الطرفين. إنَّ ما يحصل هو الأسوأ بالضرورة. كل امرئ يهرع إلى تدمير نفسه. يهرع إلى الانتحار. وهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أن النزاع متناظر. إنه لامتناظر كليًا نظرًا لكون الشعب الفلسطيني هو المظلوم منذ أكثر من ستين سنة ودولة إسرائيل هي الظالمة. وفي هذا المستوى يكمن عدم التكافؤ الكبير. اللاتناظر سياسي بصورة أساسية.

صرَّح نيكولا ساركوزي في مؤتمر صحفي عُقِد في دمشق بتاريخ 6 كانون الثاني / يناير 2009 وذلك بعد لقائه بأهم المسؤولين السياسيين الإسرائيليين قائلاً: "قلتُ لهم بأن أعمال العنف يجب أن تتوقف بأسرع ما يمكن." بالتأكيد! ولكنْ من يستطيع أنْ يُـقنِـع إذا قال كلامًا بمثل هذه السطحية؟ لم يكن هذا التصريح سوى كلام فارغ ليس له أي مغزى. ها هو [رونيه] ﭙـيتيُّـون Pétillon [مؤلِّف رسوم متحركة] يصوِّر بذكاء شديد، من خلال رسْم نُشِرَ في 7 كانون الثاني / يناير 2009[6]، نيكولا ساركوزي يركض بأسرع ما يمكن قائلاً: "يجب الحصول على وقف إطلاق النار قبل نهاية الهجوم!" للأسف، لن يحصل وقف إطلاق النار إلاَّ بعد نهاية الهجوم.

كذلك، فإن القرار 1860 الذي صوَّت عليه مجلسُ الأمن في الأمم المتحدة بتاريخ 8 كانون الثاني 2009 يفتقد إلى المصداقية السياسية. إنَّ نص القرار "يدعو إلى وقف فوري وقابل للديمومة لإطلاق النار يحظى باحترام كامل." و"يطالب الدول الأعضاء بتكثيف جهودها لاتِّخاذ إجراءات وضمانات تؤمِّن لغزة وقفًا دائمًا وهادئًا لإطلاق النار". في الواقع، لم يكن في إمكان هذه النداءات لوقف إطلاق النار والتي أُطلِقَت بسخاء منذ بداية الأعمال العدوانية إلاَّ أنْ تبقى حبرًا على ورق. العنف هو في الواقع نار. والنار ليست حتمية أبدًا. ولكنْ عندما تُشعَل النارُ تفلتُ من بين أيدينا. أمام الحريق، ماذا يجدي نفعًا أنْ نتوسل إلى النار بأن تتوقف عن الاشتعال؟ النار تشتعل حتى تأخذ حدَّها. وتبقى الاحتجاجات الأخلاقية والاستنكارات الإنسانية والتعويذات والصلوات لا تسمن ولا تغني من جوع. تصبح هراء. مع ذلك، ليس من المناسب، بصورة خاصة، أن نستسلم للمأساة ولا أنْ نكبُتَ انفعالَنا وتمرُّدَنا. المظاهرة الأصح هي المظاهرة الصامتة علامةً على الحداد. ماذا يفيد إذا ذهبنا في الطرقات نصرخ معبِّرين عن غضبنا وحتى عن كراهيتنا للعدو؟ هذه الصيحات في غير مكانها. إنها تشترك هي نفسها في عملية العنف. إنها هي أيضًا كلام حرب. إنها تشدُّ أكثر عقدةَ النزاع التي من المفروض حلها. ما تحتاج إليه البشريةُ المصابة بمرض العنف حتى الموت هو كلام سلام. كلام إنسانية.

يشكِّل إطلاقُ الصواريخ محورَ المجادلات العاطفية التي تلُفُّ هذه الحربَ. ولا تَني الدعايةُ الإسرائيلية تكرِّر منذ بداية أعمالها العدوانية أن دولة إسرائيل لم تقم سوى بالدفاع عن مواطنيها ضد الصواريخ الفلسطينية. إذا وضعنا أنفسَنا مكان المدنيين الإسرائيليين الذين تستهدفهم هذه الصواريخُ فإن النزاهة الفكرية تحدونا إلى الاعتراف بأن في هذا الزعم جزءًا من الحقيقة. يبدو تمامًا أن الأغلبية الكبيرة جدًا من الإسرائيليين يتشاركون في وجهة النظر هذه، بمن فيهم كثير ممن كانوا بالأمس ينتمون إلى "معسكر السلام". وهذا واقع لا يمكن تجاهله. ولم يفتأ مسؤولو حماس، من جهتهم، يقولون أن إطلاق الصواريخ كان الوسيلة الوحيدة التي يمتلكونها ليقاوموا حصارَ غزة الذي يُجوِّع مليونًا ونصفَ المليون من المدنيين. إذا وضعنا أنفسَنا مكانَ سكَّان غزَّة فلا بد علينا أيضًا أن نعترف بأن في هذا الادِّعاء جزءًا من الحقيقة. مع ذلك، فإنَّ هذه الأجزاءَ من الحقيقة ليست الحقيقة كلها. إنَّ نصفَي حقيقة لا يشكِّلان حقيقةً، بل ينتهي بهما الأمرُ إلى أن يصبحا نقيضَيْ حقيقة.

من جهة، لا يمكن لإطلاق صواريخَ فلسطينية أن يقدِّم أدنى تبرير فكري وأخلاقي للأعمال العسكرية التأديبية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في غزة. على العكس، ينبغي أن يُنظَر إلى هذه الأعمال العسكرية صراحةً على أنها جرائم حرب. ولكنْ، من جهة أخرى، يُعَدُّ إطلاقُ صواريخَ على الأراضي الإسرائيلية انتهاكًا للقانون الدولي أيضًا - لم أقلْ: بالدرجة نفسها، لم أقلْ: على الشكل نفسه، لم أقلْ: بالطريقة نفسها، قلتُ: أيضًا... ليست المسألة مسألة نسبة، بل مسألة مبدأ. نشرَت منظمةُ الدفاع عن حقوق الإنسان (Human Rights Watch)، بتاريخ 30 كانون الأول /ديسمبر 2008، بيانًا أكَّد على أنَّ "إطلاق صواريخ تستهدف مناطق مأهولة بالمدنيين بهدف جَرح الإسرائيليين وإرهابهم لا يمكن تبريره بأي شكل من الأشكال، مهما كان العمل الذي تقوم به إسرائيل في قطاع غزة." وأشار البيان إلى أن: "الاستخدام المنتظم والمتعمَّد للأسلحة بلا تمييز في المناطق التي يسكنها مدنيون يشكِّل جريمةَ حرب." (تشير المنظمة إلى مقتل 19 مدنيًا إسرائيليًا منذ عام 2005، بمن فيهم الأربعة أشخاص الذين لقوا مصرعهم في المواجهات الحالية حتى تاريخ 2 كانون الثاني / يناير 2009.) هذا الموقف هو الوحيد الذي يمكن اتِّخاذه في نظر القانون الدولي الذي يستند إليه حتى هؤلاء الذين يدينون تجاوزاتِ الجيش الإسرائيلي. وهو الموقف الوحيد الممكن في نظر احترام حقوق الإنسان. إن الذين يريدون إهمال قدرة الصواريخ الفلسطينية على الأذى بحجة أنها "غير متكافئة" مع قدرة القنابل الإسرائيلية على الأذى هم ببساطة غير مسؤولين. ليس صحيحًا أن الصواريخ لا تقتل. إنها تقتل وتهدد بالقتل. دعونا نشير إلى أنَّ الرئيس محمود عباس قد أدان حماس صراحةً، ولكن هذه الإدانة لم تكن على الأرجح سوى مشهد منافسة يواجه المعسكرَين الفلسطينيَّين بعضهما ببعض.

إذا تركنا مستوى القانون لنضع أنفسنا على مستوى الفعالية، فإنه يبدو جليًا أن إطلاق هذه الصواريخ يشكِّل خطًا استراتيجيًا خطيرًا يرتكبه قادةُ حماس. إنَّ أحد المبادئ الأساسية للاستراتيجية هي أن نخمِّن ونُقدِّر ونتوقَّع ردودَ أفعال الخصم قبل اتِّخاذ أي قرار وذلك بهدف التأكد من أن التكاليف التي بمقدورنا أن ندفعها ستكون أقل من المكاسب التي يمكننا أن نتأملها بحدود المعقول. يتحتم قطعًا على المظلومين، من أجل مقاومة الظلم الذي يقع عليهم، أن يحبطوا قمعَ الظالمين. انطلاقًا من وجهة النظر هذه، لا يخامر أحدًا الشكُّ بأن استئناف إطلاق الصواريخ لا يمكنه إلا أن يثير عنفًا متطرفًا لدى الجيش الإسرائيلي يقع ضحيتَه جميعُ فلسطينيي غزة والضفة الغربية. إنَّ الأخذَ بعين الاعتبار لمسألة عدم التكافؤ تحديدًا - ونعود هنا إلى عدم التكافؤ - بين إمكانيات إسرائيل العسكرية وإمكانيات حماس من المفروض أن يُقنِعَ القادةَ الفلسطينيين بالعدول عن وضع أنفسهم في ساحة العنف. بناءً على ذلك، فإنَّ قرارَ حماس يبدو خطًا قاتلاً. يبدو خطًا غيرَ مسؤول. ذلك الخطأ الفلسطيني لا يبرِّر الخطأَ الإسرائيليَّ في شيء. ولكنه يتيح لإسرائيل أن تدَّعيَ وأن تجعل الآخرين يعتقدون وأنْ تُوهِمَ على نطاق واسع بأنَّ عملها مبرَّر.

مع ذلك، فإن تفوُّقَ إسرائيل الساحق، وإنْ أتاح لها أنْ تُراكِمَ عملياتِ التهديم والقتل في غزة، لا يمكن بالتأكيد أن يتيح لها كسبَ السلام. إن ما يجعل الحرب عادلةً ليس قضية عادلة، إنما سلام عادل. تقول سيمون ﭭـايل: "يكون النصر عادلاً إلى حد ما ليس تبعًا للقضية التي أدت إلى حمل السلاح، بل تبعًا للنظام الذي سيسود عندما يُلقَى السلاح. ليس سحقُ المهزوم ظلمًا دائمًا فحسب، بل هو أيضًا مفجِع دائمًا للجميع، مهزومين ومنتصرين ومتفرجين." عندما يسكت السلاح في غزة - لأنه سيسكت في نهاية المطاف عندما ينجِز العنفُ عملَه...، - لن يسود النظامُ بل ستسود فوضى عارمة.

ليست هذه الحرب استمرارًا للسياسة بوسائلَ أخرى غيرِ وسائل الدبلوماسية، بل تعطيل لها. تنادي دولةُ إسرائيل بحقها في الدفاع عن أمن شعبها. ولكنْ حتى ضمن النطاق الذي تكون فيه هذه الغايةُ مشروعةً، فإن وسائلَ العنف المستخدمة لا تُفسِد هذه الغايةَ فحسب، بل تمحوها وتحلُّ محلَّها. ويؤدي قلبُ العلاقة هذا بين الوسيلة والغاية إلى أن تقومَ الوسيلةُ مقامَ الغاية. فالعنف يُطلَب لذاته. ويصبح آليةَ تدمير وتخريب وموت عمياء. إسرائيل لا تحمي سكانَها، بل تعتدي على الشعب الفلسطيني. وبهذا، فهي تُدمِّر نفسَها بنفسها.

ما يميِّز هذه الحربَ بصورة أساسية هو أنها، بالإضافة إلى كونها لم تفتحْ أيَّ أفق سياسي نحو حلٍّ للنزاع الذي يواجه الشعبين الخصمين بعضهما ببعض منذ أكثر من ستين سنة، تغلقها اليوم جميعًا. لقد دافع نيكولا ساركوزي، خلال مؤتمره الصحفي الذي عُقِد في دمشق بتاريخ 6 كانون الثاني / يناير 2009، عن "فتحٍ سريع للآفاق لاستئناف طريق مفاوضات السلام". في سياق كهذا، ينقص مثلَ هذه الكلمات كلُّ الواقعية. إنها في الحقيقة سُريالية. فسبب هذه الحرب تحديدًا هو عدم وجود مفاوضات سلام حقيقية طيلة هذه السنوات الماضية جميعًا. إذا ما ربحت حماسُ انتخاباتِ كانون الثاني / يناير 2006 بصورة ديموقراطية تمامًا فذلك يعود أولاً إلى أن الفلسطينيين أرادوا التعويض عن الإخفاق السياسي لحركة فتح التي لم تحقق بالضبط أيَّ شيء بادِّعائها التفاوضَ مع إسرائيل. كان كلُّ شيء على أرض الواقع يكذِّب تكذيبًا فاضحًا التطوراتِ الدبلوماسيةَ المزعومة التي حصلت على الورق. لم يعدْ رئيسُ السلطة الفلسطينية محمود عباس يرأس شيئًا ولم تعدْ له أيةُ سلطة. أصبحت معانقتُه لرئيس الوزراء الإسرائيلي غير لائقة.

لا بد أنَّ نيكولا ساركوزي كان يفتقر بصورة خاصة إلى الحس السياسي ويجهل كلَّ شيء عن حقيقة الأمر الواقع حتى استطاع أنْ يؤكد بتاريخ 23 حزيران / يونيو 2008، بمناسبة زيارته الرسمية إلى الأراضي الفلسطينية، قائلاً: "أؤمن بالسلام، أؤمن بانتهاء هذا النزاع الذي دام أكثر مما ينبغي، وبالتالي أؤمن بالهدف القريب بشأن اتفاق على الوضع النهائي. أصبح هذا السلام اليوم في متناول اليد. (...) إن فرنسا تريد تشجيع الحكومتين الفلسطينية والإسرائيلية على متابعة المفاوضات بتصميم وعلى السير قُدُمًا نحو تسوية نهائية قبل نهاية عام 2008[7]." إن مثل هذه اللغة الدبلوماسية الخشبية ليست فقط لا تقول الحقيقة، بل تَحُول دون رؤيتها وفهمها. إنها إنكار للواقع.

كما يمكننا دائمًا أن نكرِّر أنَّ حلَّ النزاع يتوقف على إقامة دولة فلسطينية قادرة على البقاء وذات سيادة ضمن "حدود" عام 1967 مع القدس الشرقية عاصمة لها. وينتهي الأمر بأنْ يصبح هذا الكلام ببغائيةً بحتة. الواقع أنَّ الوضع الحقيقي على الأرض يجعل مشروعًا كهذا غير قابل للتحقيق أكثر فأكثر.

كان ساركوزي يؤكد، في التصريح نفسه، بشأن حماس ما يلي: "ليست هناك أيةُ علاقة سياسية ولا أية مفاوضات ولا أية محادثات بين فرنسا وحماس. وليس في نية الحكومة الفرنسية أنْ تتنازلَ عن موقفها الذي هو أيضًا موقف المجتمع الدولي، والذي يقضي بأنه لا يمكن أن يكون هناك أيُّ حوار مع حماس طالما أنها لم تحترم الشروط الثلاثة للرباعية وعلى رأسها التخلِّي عن العنف والاعتراف بإسرائيل." لم يكن الرئيس الفرنسي يدرك أنه، بقول ذلك، يَعرِض أحدَ كبرى الأسباب التي من أجلها تحديدًا لم يكن بالإمكان حصول اتفاق سلام. إن موقفًا كهذا لا يمكن اتِّخاذُه البتةَ فهو أرعن تمامًا. إنه، في المحصلة، موقف شنيع. لو كان في استطاعتي أن أتكلَّم لغةً غير صحيحة إلى أبعد حد من وجهة نظر سياسية لتجرَّأتُ وأشرْتُ إلى أنَّ فرنسا توافق على الحوار مع دولة إسرائيل دون أن تطلب منها التخلِّي مسبقًا عن العنف... لن يكون هناك عملية سلام في فلسطين مادمنا نرفض التكلم مع حماس. إن الخطأ السياسي الأكبر الذي يفسر اليوم حربَ غزة هو تحديدًا رفض أي حوار مع حماس بعد فوزها بانتخابات كانون الثاني / يناير 2006. وفي هذه المسألة، لم يكنْ ينبغي على أوروبا أنْ تنحاز أبدًا لسياسة الولايات المتحدة، وما كان ينبغي على فرنسا، بهذه المناسبة، أنْ تنحازَ أبدًا لسياسة أوروبا. لم يكنْ هذا الرفضُ لأي حوار إلاَّ أنْ يجعل حماس تنغلق في الموقف الأكثر تطرفًا. إنَّ ذلك ضيَّع الفرصة الوحيدة التي تتيح لهذه المنظمة أنْ تتخلَّى عن العنف وتختار بنفسها طريقًا سياسيًا لمواجهة النزاع.

فيما عدا الاعتبارات الانتخابية التي هي بالتأكيد اعتبارات القادة الإسرائيليين وفيما عدا إرادة تعويض إخفاق تساهال Tsahal (الجيش الإسرائيلي) في حرب لبنان عام 2006، فإن الهدف الحقيقي لهذه الحرب هو بالتأكيد إزالة حماس نهائيًا من المسرح السياسي الفلسطيني. وبالنظر إلى هذا الهدف، يصبح في الواقع إطلاقُ الصواريخ ذريعة. ولكنه، انطلاقًا من وجهة النظر هذه، يمكننا من الآن أنْ نراهِنَ على أنَّ إسرائيل قد خسرت الحرب.

لديَّ القناعة العميقة بأنَّ تخلِّي الفلسطينيين عن العنف يتيح وحده خلق عملية سلام حقيقية. وأنا أدرك أن هذا الخيار اليوم غير مرجَّح. قد يبدو، لأجل مسمَّى، هو الوحيد الممكن[8]. عندئذٍ، قد يفتح هذا الخيار مجالاً لتطبيق طرائق المقاومة اللاعنفية، وهي المصادر الوحيدة للرجاء والإنسانية.

إن أحد النتائج المحتملة لهذه الحرب هو إثارة ردود أفعال تتعلق بالهوية والطائفة داخل السكان المسلمين وداخل السكان اليهود في فرنسا والتي تظهر من خلال أعمال عنف. إنَّ رفض المواطنين المحبين للعدل لدوامة أعمال العنف التي تجري هنا وهناك سيتيح وحدَه فقط الحفاظَ على العيش المشترك للجميع في فرنسا المتعددة الثقافات.

التفكير بالعنف يعني الاعتراف به كعمل لا إنساني وكنفي لما هو إنساني في الإنسان وإنكار له. إن ما يجري في غزة ليس كارثة إنسانية تمسُّ احتياجاتِ الإنسان الأساسية في المسكن والمأكل والمشرب (humanitaire)، بل كارثة إنسانية تطال الكائن الإنساني في جوهره (humaine). إنها إخفاق للحضارة. فخراب بيوت غزة وكذلك خراب بيوت مدينة اسديروت Sdérot في إسرائيل أيضًا هو خراب لإنسانية الإنسان. في مثل هذه الظروف، يصبح من السخف الادِّعاء بأنَّ مبادئَ القانونِ الدولي وقوانينَ الحرب هي التي تُنتهَـك. إنَّ قوانين الإنسانية هي التي يتم التنكُّر لها في الواقع. ونتائج هذه الحرب أصلاً أكثر من أنْ تُحصَى. فالجروح العميقة التي سبَّبـتْها داخل الشعبَين العدوَّين يستعصي شفاؤها لردح طويل من الزمن. ما هو مقدار الأحقاد الفتاكة عبر العالم؟ ما هو مقدار الضغائن بين المسلمين؟ ما هو مقدار الشعور بالمرارة بين العرب؟ كم طفولة تحطَّمت؟ ومن بينها ينبغي أن نفهم طفولةَ الجنود الإسرائيليين. كم دمعة وألم في قلوب النساء؟ كم صدمة عميقة تصيب المحاربين عندما يدركون أنَّ الخزي هو الذي يغشاهم بدلًا من أنْ يُتوِّجَهم المجد؟ ما من أحد يعْلَم أبدًا.

ترجمة: محمد علي عبد الجليل

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  جان ماري مولِّر: الناطق الوطني للحركة من أجل بديل لاعنفي (MAN، بريد إلكتروني: man@nonviolence.fr؛ الموقع: www.nonviolence.fr). فيلسوف وكاتب [فرنسي]، مؤلِّف قاموس اللاعنف (منشورات الجيب لو رولييه).

[2]  سيمون ﭭـايل، المصدر اليوناني، باريس، غاليمار، 1953، ص 32.

[3]  المرجع المذكور، ص 21.

[4]  سيمون ﭭـايل، دفاتر 3، باريس، ﭙلون، 1956، ص 47.

[5]  ﭙول ﭭـاليري، نظرات على العالَم الحالي، باريس، غاليمار، سلسلة أفكار (Idées)، 1962، ص 86.

[6]  مجلة لو كانار أونشينيه Le Canard enchaîné [مجلة فرنسية ساخرة]، 7 كانون الثاني / يناير 2009.

[7]  مقابلة مع صحيفة القدس، 23 حزيران / يونيو 2008.

[8]  شرحتُ مطوَّلاً هذه الإمكانية في نص سابق بعنوان: القتل هو المسألة المطروحة، الفلسطينيون والإسرائيليون أمام تحدي العنف (يمكن مراجعته على موقع "الحركة من أجل بديل لاعنفي MAN"). - كما يمكن مراجعة المقال باللغة العربية في معابر على الرابط: http://www.maaber.org/issue_march08/non_violence2a.htm. (المحرر)

 

 

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود