French Arabic  

حاجات النفس̽

 

سيمون ﭭـايل

 

إنَّ مفهوم الواجب يسبق مفهومَ الحق، فهو تابع له ومرتبط به. فالحق ليس فاعلاً بذاته، بل فقط بالواجب الذي يقابله: إذْ لا يتأتَّى الأداءُ الفعلي للحق ممن يمتلك ذلك الحقَّ، بل من الأناس الآخرين الذين يعترفون بفضلٍ ما تجاهه. يكون الواجب فاعلاً حالما يُعترَف به. وحتى إنْ كان هناك واجبٌ لم يَعترِفْ به أحدٌ فلن يفقدَ شيئًا من كمال كينونته. حقٌّ لا يَعترِف به أحدٌ ليس شيئًا ذا قيمة.

لا معنى للقول بأنَّ للبشر حقوقًا من جهة وواجباتٍ من جهة أخرى. فهذه الكلمات لا تُعبِّـر سوى عن فروقات في زاوية الرؤية. العلاقة فيما بينها هي علاقة ذات وموضوع. إنَّ للإنسان واجباتٍ فقط إذا ما نظرنا إليه بذاته، بعضٌ من هذه الواجبات تجاه نفسه. وللآخرين حقوقٌ فقط إذا ما نُظِرَ إليهم من ناحيته. وله بدَورِه حقوقٌ إذا ما نُظِرَ إليه من ناحية الآخرين الذين يعترفون بأفضال تجاهه. ليس للإنسان أيُّ حق فيما لو كان وحيدًا في هذا العالَم، بل عليه واجبات.

لا ينفصل مفهوم الحق، لكونه ذا طابع موضوعي، عن مفهومَي الوجود والواقع. يَظهر عندما يهبط الواجب إلى مجال الوقائع؛ وبالتالي ينطوي دائمًا وإلى حد ما على حالاتٍ وظروف خاصة. تَظهر الحقوقُ دائمًا مرتبطةً ببعض الشروط. يمكن للواجب وحده أن يكون غيرَ مشروط. يتوضع في مجال يتجاوز كلَّ الشروط، لأنه مجال يتجاوز هذا العالَم.

لم يكن الناسُ في عام 1789 يعترفون بحقيقةِ مثل هذا المجال. لم يكونوا يعترفون سوى بمجال الأمور الإنسانية. ولذلك بدأوا بمفهوم الحق. ولكنهم في الوقت نفسه أرادوا أن يضعوا مبادئَ مطْـلَـقةً. فأوقعَهم هذا التناقضُ في لَبْسٍ لغويٍّ وفكريٍّ يَـعُـدُّه الكثيرون وراء اللَّبس السياسيِّ والاجتماعي الحالي. فمجالُ ما هو خالدٌ عالميٌّ غيرُ مشروط [مطْـلَق] يختلف عن مجال الظروف الفعلية، حيث تسكنه مفاهيمُ مختلفةٌ ترتبط بالجانب الأخفى من النفس البشرية.

لا يربط الواجبُ إلاَّ أفرادَ البشر بعضهم ببعض. فليس هناك من واجبات للجماعات في حد ذاتها. ولكنْ هناك واجبات لجميع البشر الذين يؤلِّفون الجماعةَ أو يخدمونها أو يقودونها أو يمثلونها، سواء في جانب حياتهم المرتبط بالجماعة أم في الجانب المستقل عنها.

تربط جميعَ البشر بعضَهم ببعض واجباتٌ مماثلةٌ، على الرغم من أنها تُقابِل أفعالاً مختلفةً بحسب الظروف. فلا يمكن لأي إنسانٍ، كائنًا من كان، وفي أي ظرف كان، أنْ يفلِتَ منها دون جُرْم؛ إلاَّ في حالة تعارُضِ واجبَينِ حقيقيَّين تعارضًا حقيقيًا فإنَّ الإنسان مجبَر على ترك أحدهما.

يقاس الخللُ في نظام اجتماعي ما بمقدار ما ينطوي [النظامُ] على هذا النوع من الظروف.

ولكنْ حتى في هذه الحالة يكون هناك جُرْمٌ إذا كان الواجبُ المتروكُ لم يتمَّ التخلي عنه في الواقع فحسب بل تمَّ نكرانُه أيضًا.

إن موضوع الواجب في مجال الأمور الإنسانية هو دائمًا الكائنُ الإنساني في ذاته. هناك واجبٌ تجاه كلِّ كائن إنساني لمجرَّد كونه كائنًا إنسانيًا، دون وجود أي شرط آخر، وحتى عندما لا يعترف هو بأي واجب.

لا يقوم هذا الواجبُ على أي ظرف واقعي ولا على الاجتهادات ولا على الأعراف ولا على البنية الاجتماعية ولا على علاقات القوة ولا على تراث الماضي ولا على الاتجاه المفترض للتاريخ. لأنه لا يمكن لأي ظرف واقعي أنْ يوجِدَ واجبًا.

لا يقوم هذا الواجبُ على أي اتفاق. لأنَّ جميع الاتفاقات تتغيَّر بحسب إرادة المتعاقدين، في حين أنه لا يمكن لأي تغيير في إرادة البشر أنْ يغيِّرَ أيَّ شيء في الواجب.

هذا الواجب ثابت. ويستجيب للقدَر الخالد للكائن الإنساني. إنَّ للكائن الإنساني وحدَه قدَرًا خالدًا وليس للجماعات الإنسانية. لذلك ليس هناك من واجبات مباشرةٍ ثابتة تجاهها. الشيء الثابت الوحيد هو الواجب تجاه الكائن الإنساني في ذاته.

هذا الواجبُ غيرُ مشروط. وإذا ما بُنِيَ على شيء فإنَّ هذا الشيء لا يمتُّ إلى عالَمنا بِصِلة. ففي عالَمنا لا يُبنى الواجبُ على شيء. ذلك هو الواجب الوحيد الخاص بالأمور الإنسانية والذي لا يخضع لأي شرط.

ليس لهذا الواجب أساس، إنما تحقُّق في اتفاق الوعي العالمي. وقد عبَّرَتْ عنه بعضٌ من أقدم النصوص المكتوبة التي وصلَتْ إلينا. واعترفَ الجميعُ به في جميع الحالات الخاصة التي لا تحارِبُ فيها المصالحُ أو الأهواءُ هذا الواجبَ. ويقاس التقدمُ به.

يعبَّر عن الاعتراف بهذا الواجب تعبيرًا غامضًا وناقصًا، ولكنْ ينقص ويزيد بحسب الحالة، من خلال ما يسمَّى بالقوانين الوضعية. وبمقدار ما تكون القوانينُ الوضعيةُ متناقضةً مع الواجب، وبهذا المقدار فقط، توصَم باللاشرعية.

وعلى الرغم من أنَّ ذلك الواجب الثابت يستجيب للقدَر الخالد للإنسان فإنَّ موضوعه المباشرَ ليس هذا القدَر. فالقدَر الخالد لأيِّ إنسان لا يمكن أنْ يكونَ موضوعًا لأي واجب، لأنه ليس خاضعًا لتأثيرات خارجية.

أنْ يمتلكَ الإنسانُ قدَرًا خالدًا لا يفرِض ذلك سوى واجبٍ واحد فقط: واجبِ الاحترام. ولا يؤدَّى الواجبُ إلاَّ إذا تمَّ التعبيرُ عن الاحترام تعبيرًا فعليًا حقيقيًا وليس صوريًا؛ ولا يمكن أنْ يكون ذلك إلاَّ عبْرَ حاجات الإنسان الأرضية.

لم يتغيَّرِ الوعيُ الإنساني قطُّ حول هذه النقطة. فالمصريون كانوا يعتقدون منذ آلاف السنين أنَّ النفس لا يمكنها أنْ تتزكَّى بعد الموت ما لم تتمكَّنْ من القول: "لم أدَعْ أحدًا يتألم من الجوع." ويعرِف جميعُ المسيحيين أنهم سيتعرَّضون لسماع المسيح بنفسه يقول لهم ذات يوم: "كنتُ جائعًا فلم تطعمْـني."[1] وجميعُ الناس يتصورون التقدمَ قبل كل شيء على أنه انتقال المجتمع البشري إلى حالةٍ لا يعاني فيها الناسُ من الجوع. وإذا طرحْنا السؤالَ بعبارات عامة على أي شخص فلا أحدَ يعتقد ببراءة إنسان يمتلك طعامًا وفيرًا وعلى بابه شخصٌ يكاد يموت من الجوع فلا يعطيه شيئًا.

إنَّ لَمِنَ الواجبِ الأزلي إذًا تجاه الكائن الإنساني ألاَّ ندعَه يعاني من الجوع إذا كنا نمتلك فرصةَ مساعدته. ينبغي لهذا الواجب، نظرًا لكونه الأكثر بديهيةً، أنْ يفيدَ كنموذج لوضع لائحة بالواجبات الثابتة تجاه كل إنسان. ولا بد، لوضع هذه اللائحة بدقة، أنْ تصْدرَ عن هذا المثال الأول بطريق القياس.

وبالتالي، ينبغي على لائحة الواجبات تجاه الإنسان أنْ تقابِلَ لائحةَ الحاجات الإنسانية الحيوية المماثلة للجوع.

بعض هذه الحاجات جسدي كالجوع نفسه. ومن السهل إحصاؤها. وتتعلق بالحماية من العنف وبالمسكن والملبس والدفء والرعاية الصحية والعناية في حال المرض.

البعضُ الآخر من هذه الحاجات لا علاقة له بالحياة الجسدية، بل بالحياة النفسية. مع ذلك فهي أرضية كالحاجات الأولى، وليس لها صلة مباشرة بحيث تكون في متناول عقلنا مع القدَر الخالد للإنسان. إنها، شأنُها شأن الحاجات الجسدية، ضروراتٌ للحياة على هذه الأرض. بمعنى أنه إذا لم تُشبَعْ يقع الإنسانُ شيئًا فشيئًا في حالةٍ أشبهِ إلى حد ما بالموت وأقرب إلى حد ما من الحياة النباتية الخالصة.

إنَّ التعرفَ عليها وإحصاءها أصعبُ بكثير من التعرف على حاجات الجسد وإحصائها. ولكنَّ الجميع يعترفون بوجودها. فجميع الأعمال الوحشية التي يمكن أنْ يمارسَها الغازي على شعوب خاضعة من مجازرَ وعملياتِ تشويهٍ جسدي وتجويعٍ منظَّم واستعباد واعتقالاتٍ واسعةِ النطاق تُـعَـدُّ عمومًا إجراءاتٍ من هذا القبيل، حتى وإنْ لم تكن الحريةُ أو البلد الأم من الضرورات الجسدية. يعي جميعُ الناس أنَّ هناك أعمالاً وحشيةً تُلحِقُ أذىً بحياة الإنسان دون أنْ تُلحِقَ أذىً بجسده. تلك هي التي تَحْرِم الإنسانَ من بعض الغذاء اللازم لحياة النفس.

إنَّ جميعَ الواجبات بلا استثناء، المطْـلَقةِ منها أو النسبية، الثابتةِ أو المتغيِّرة، المباشرةِ أو غيرِ المباشرة، تجاه الأمور الإنسانية تنجم عن الحاجات الحيوية للكائن الإنساني. فموضوعُ جميعِ الواجبات التي تخصُّ مباشرةً إنسانًا محددًا هو أمور لها بالنسبة للبشر دور مشابهٌ للغذاء.

من الواجب احترامُ حقل القمح ليس لذاته بل لأنه طعام للبشر.

بصورة مماثلة، ينبغي احترامُ الجماعة، أيًا كانت – وطنًا أو عائلةً أو غيرَ ذلك -، ليس لذاتها، إنما لكونها غذاء لعدد معيَّن من النفوس البشرية.

يفرض هذا الواجبُ في الواقع مواقفَ وأفعالاً مختلفةً بحسب مختلف الظروف. إلاَّ أنه متماثل قطعًا للجميع إذا ما نظرْنا إليه في ذاته.

خاصةً وأنه متماثل قطعًا في نظر الذين يكونون خارجه.

إنَّ درجة الاحترام الواجبِ للجماعات الإنسانية عاليةٌ جدًا لعدة اعتبارات.

أولاً، كلُّ جماعة فريدة، وإذا ما أُبيدَتْ لا تعوَّض. فكيسُ القمح يمكن في أي وقت استبدالُه بكيس قمح آخر. والغذاءُ الذي تقدِّمه الجماعةُ لنفوس أعضائها لا يعادله شيءٌ في الكون أجمع.

زدْ على ذلك أنَّ الجماعة أساسًا تلِـجُ المستقبلَ من خلال استمراريتها. فهي لا تشتمل على غذاءٍ لنفوس الأحياء فحسب، بل أيضًا لنفوس الذين لم يولَدوا بعد والذين سيأتون إلى هذا العالَم على مر قرون قادمة.

أخيرًا، إنَّ للجماعة من خلال استمراريتها نفسِها جذورَها في الماضي. فتشكِّلُ الأداةَ الوحيدةَ للحفاظ على الكنوز الروحية التي جمعَها الأمواتُ وأداةَ النقل الوحيدةَ التي تُمكِّنُ الأمواتَ من التكلم مع الأحياء. وإنَّ الشيء الأرضي الوحيد الذي لا بد أنْ تكون له صلة مباشرة مع القدَر الخالد للإنسان هو إشعاع هؤلاء الذين عرفوا كيف يعون هذا القدَر وعيًا تامًا، ذلك الإشعاعُ المنقولُ من جيل إلى جيل.

بسبب هذا كلِّه، قد يحصلُ أنْ يصِلَ الواجبُ تجاه الجماعة التي تتعرَّض للخطر إلى حد التضحية الكاملة. ولكنْ لا ينتج عن ذلك أنَّ الجماعة فوق الكائن الإنساني.[2] يمكن أيضًا أنْ يتحتَّـمَ على واجبِ إغاثةِ إنسانٍ يتعرَّض لمكروهٍ أنْ يصلَ إلى حد التضحية الكاملة، بدون أنْ يستلزمَ ذلك وجود أية أفضلية للشخص المغاث.

يمكن أنْ يتعرَّضَ فلاَّحٌ في بعض الظروف، من أجْـلِ زراعة حقله، إلى الإعياء والمرض وحتى الموت. ولكنْ لا يغيب عن باله أبدًا أنَّ القضية قضية خبزٍ وحسب.

بصورة مماثلة، ليس من حق أية جماعة على الإطلاق، حتى عند التضحية الكاملة، أيُّ شيء غيرُ الاحترام المماثل للاحترام الواجب للغذاء.

ما يحصل في الأعم الأغلب هو انقلاب الأدوار. على العكس تمامًا، تأكل بعضُ الجماعات النفوسَ بدلاً من أنْ تقدِّمَ طعامًا لها. وفي هذه الحالة، يكون هناك مرض اجتماعي، والواجبُ الأول هو محاولة العلاج؛ وفي بعض الحالات قد يكون من الضروري الاسترشاد بالطرق الجراحية.

وفي هذه النقطة، يكون واجبُ من هم داخل الجماعة مماثلاً لواجب من هم خارجها.

قد تقدِّم الجماعةُ لنفوس أعضائها غذاءً غيرَ كافٍ. عندئذٍ، لا بد من تحسينه.

أخيرًا، هناك جماعاتٌ ميِّـتة لا تلتهمُ النفوسَ ولكنها بالمقابل لا تغذِّيها. فإذا ثَـبُـتَ يقينًا أنها ماتت فعلاً وأنَّ الأمر ليس سُباتًا [مرَضيَّـًا] عابرًا فلا بد في هذه الحالة فقط من إلغائها.

الدراسةُ الأولى التي ينبغي القيامُ بها هي دراسة الحاجات التي تكون لحياةِ النفس ما تكونُه حاجاتُ الطعام والنوم والدفء لحياة الجسد. ولا بد من محاولة إحصائها وتعريفها.

ينبغي عدم خلطها أبدًا مع الرغبات والنزوات والأهواء والنقائص. كما ينبغي أيضًا التمييز بين الذاتي [الجوهري] والعرَضي. فالإنسان لا يحتاج إلى الرز أو إلى البطاطا، بل إلى الغِذاء؛ ولا إلى الحطب أو إلى الفحم بل إلى الدفء. كذلك الأمرُ بالنسبة إلى حاجات النفس، ينبغي الاعترافُ بحالاتِ الرضا المختلفةِ ولكنِ المرادفةِ، والتي تلبي الحاجاتِ نفسَها. كما ينبغي تمييز أغذية النفس عن السموم التي يمكن لبعض الوقت أنْ توهِمَ بأنها تقومُ مقامَ الغذاء.

إنَّ غياب دراسة كهذه يُجبِر الحكوماتِ، إذا كانت لديها نياتٌ حسنة، على التأرجح على غير هدى.

وإليكم بعضَ الإيضاحات.

حاجات النفس

1- النظام

الحاجة الأولى للنفس هي الحاجة الأقرب إلى قدَرها الخالد، ألا وهي النظام، ويعني نسيجًا من العلاقات الاجتماعية بحيث لا يكون أحدٌ مرغَمًا على انتهاك واجبات صارمة لتنفيذ واجبات أخرى. فالنفسُ لا تعاني إلاَّ في تلك الحالة من عنف روحي من جَرَّاء ظروف خارجية. لأنَّ مَن يوقفه فقط، أثناء تنفيذ الواجب، تهديدُ الموت أو العذاب يمكنه أنْ يتجاوزَ ذلك ولا يُجرَح إلاَّ في جسده. ولكنَّ الذي يوضَع في ظروف تكونُ فيها الأفعالُ التي تأمرُ بها عدةُ واجباتٍ صارمةٍ أفعالاً متعارضة في الواقع، من دون أنْ يتمكَّنَ من اتِّقاء ذلك، فإنَّ ذلك الإنسانَ يُجرَح في حبه للخير.

اليومَ هناك درجةٌ عاليةٌ جدًا من الفوضى والتعارض بين الواجبات.

إنَّ من يتصرَّف بحيث يزيد من هذا التعارض يكون مثيرًا للفوضى. ومن يتصرَّف بحيث يقلِّل منه يكون صانعًا للنظام. ومن ينفي بعضَ الواجبات لتبسيط المشاكل يكون قد أقام رابطةً مع الجريمة.

ليس لدينا لسوء الحظ طريقةٌ للتقليل من هذا التعارض. حتى إننا لسنا متيقِّنين من أنَّ فكرةَ النظام الذي يُفترَض أنْ تكون فيه جميعُ الواجبات متناغمةً فكرةً غيرَ خيالية. عندما ينزِلُ الواجبُ إلى مستوى الواقع يتدخَّلُ عددٌ كبير من العلاقات المستقلة إلى درجة يبدو فيها التناقضُ مرجَّحًا على الانسجام.

ولكنْ لدينا كلَّ يوم أمام أعيننا الكونَ مثالاً تتآزر فيه أفعالٌ ميكانيكية مستقلة لانهائية لتشكِّلَ نظامًا يبقى من خلال التغيُّرات ثابتًا. لذلك نحن نحب جَمالَ العالَم، لأننا نستشعر مِن ورائه حضورَ شيء مشابه للحكمة التي نودُّ امتلاكَها لإشباع رغبتنا في الخير.

بدرجة أقلّ، تُقدِّم الأعمالُ الفنيةُ الجميلةُ حقًا مثالَ الكل المتكامل الذي تتآزر فيه عناصرُ مستقلةٌ، بصورة عصيَّةٍ على الفهم، لتشكِّلَ جَمالاً فريدًا.

أخيرًا، ينبثق الإحساسُ بمختلف الواجبات دائمًا عن رغبةٍ في الخير، فريدةٍ، ثابتةٍ، تظل دائمًا هي هي، عند كلِّ إنسانٍ، من المهد إلى اللَّحْـد. تلك الرغبةُ التي تَفْعَـلُ على الدوام في عمق ذاتنا تمنعنا من أنْ نتمكَّنَ من الاستسلام للمواقف التي تتعارض فيها الواجباتُ. فإمَّا أنْ نلجأَ إلى الكذب لننسى أنها موجودة وإمَّا أنْ نخبِطَ خبْطَ عشواءَ للخروج منها.

إنَّ تأَمُّـلَ الأعمالِ الفنية الحقيقية، وكذلك تأمُّـلَ جَمالِ العالَم أيضًا، وكذلك تأمُّـلَ الخيرِ الخفيِّ الذي نتطلَّع إليه، يمكن أنْ يدعمَنا في جهد التفكير الدائم في النظام الإنساني الذي ينبغي أنْ يكون موضوعَنا الأول.

يشجِّع كبارُ المحرِّضين على العنف أنفسَهم من خلال التفكير كيف أنَّ القوةَ الميكانيكية العمياء تسود كلَّ الكون.

إذا نظرْنا إلى العالَم نظرةً أفضل من نظرتهم فإننا سنجد تشجيعًا أكبر إذا رأينا كيف أنَّ القوى العمياء التي لا حصر لها هي قوىً مقيَّـدةٌ، متوافقة متوازنة، تؤدي إلى المساهمة في الوحدة، من خلال شيء لا نفهمه، ولكنْ نحبه ونسمِّيه الجَمالَ.

إذا أبقينا فكرةَ النظام الإنساني الحقيقي حاضرةً باستمرار في ذاتنا وإذا فكَّرْنا بذلك كما نفكر بموضوع ينبغي علينا التضحيةُ الكاملة من أجله عندما تسنح الفرصةُ فإننا نصبح في حالة إنسان يمشي في الليل بدون دليل ولكنه يفكر باستمرار في الاتجاه الذي يريد أنْ يتَّجهَ نحوه. هناك أمل كبير لمثل هذا المسافر.

هذا النظام هو أُولى الحاجات، بل هو فوق الحاجات بكل معنى الكلمة. ولكي نتمكَّنَ من التفكير فيه، لا بد من معرفة الحاجات الأخرى.

إنَّ الخاصيةَ الأُولى التي تُميِّز الحاجاتِ عن الرغبات أو الأهواء أو العيوب وتُميِّز الغذاءَ عن الشراهة أو السُّـمِّ هي أنَّ الحاجاتِ محدودةٌ، وكذلك الغذاء الذي يقابلها. فالبخيلُ لا يكتفي أبدًا من الذهب، ولكنْ إذا أعطينا أيَّ إنسان خبزًا بقدر ما يريد فستأتي لحظةٌ يكتفي فيها منه. يجلبُ الغذاءُ الشبعَ. كذلك الأمر في غذاء النفس.

الخاصيةُ الثانية المرتبطة بالأُولى هي أنَّ الحاجاتِ تنتظم في أزواجٍ من الأضداد وينبغي أنْ تتآلفَ في توازن. فالإنسانُ يحتاج إلى الغذاء، ولكنْ يحتاج أيضًا إلى فاصل بين الوجبات؛ ويحتاج إلى الدفء وإلى البرودة المعتدلة، ويحتاج إلى الراحة وإلى النشاط. كذلك الأمر في حاجات النفس.

ما نسمِّيهِ بطريق الوسط le juste milieu يقوم في الحقيقة على عدم إشباع أيٍّ من الحاجتين الضدَّين.[3] إنَّ إشباعَ أيٍّ من الحاجتين المتضادَّتَين حتى الامتلاء لَهُوَ تشويهٌ للتوازنِ الحقيقيِّ مثيرٌ للسخرية.

حاجات النفس

2- الحُـرِّيَّـة

إنَّ الحُـرِّيَّـةَ غذاءٌ لا غنىً عنه للنفس البشرية. والحُـرِّيَّـةُ بالمعنى الملموس للكلمة تقوم على إمكانية الخيار. والمقصود طبعًا إمكانية حقيقية. حيثما تكون هناك حياة جماعية فلا مناصَ من أنْ يحدَّ الخيارَ قواعدُ تفرِضُها المنفعةُ العامة.

إلاَّ أنَّ الحُـرِّيَّـةَ لا تزيد ولا تنقص بضيق الحدود أو باتِّساعها. فتمامُ الحُـرِّيَّـة مرهونٌ بشروطٍ قياسُها ليس أقلَّ سهولةً.

ينبغي أنْ تكون القواعدُ معقولةً وسهلةً بحيث يمكن لأي إنسان يرغب في ذلك ويمتلك ملَكَةَ انتباهٍ متوسطةً أنْ يفهمَ الفائدةَ التي تقابلُها من جهةٍ وأنْ يفهمَ من جهة أخرى الضروراتِ الواقعيةَ التي فرضَتْها. ينبغي أنْ تصْـدرَ عن سلطة لا يُنظَر إليها على أنها غريبة أو عدوَّة، سلطةٍ محبوبةٍ كأنها مِلْكُ من يديرها. لا بد من أنْ تكون القواعد ثابتةً وقليلةَ العدد وعامةً بحيث يتمكَّنُ الفكرُ من استيعابها استيعابًا نهائيًا، لا أنْ يصطدمَ بها كلما كان عليه أنْ يتَّخذَ قرارًا.

بهذه الشروط تكون حرِّيَّةُ الناس ذوي الإرادة الطيِّبة حرِّيَّـةً تامةً في داخلهم على الرغم من أنها مقيَّدة بالواقع. لأنه عندما تندمج القواعد في كينونتهم نفسِها لا تعود تحضُر الإمكانياتُ الممنوعةُ في فكرهم ولا تستدعي مقاومتُها ودفعها. كذلك فإنَّ عادة عدم أكل الأشياء الكريهة أو الخطرة، تلك العادة التي طبعَـتْـها التربيةُ، لا يشعر بها الإنسانُ السوي كقيد للحرِّيَّة في مجال الغذاء. الطفلُ وحدَه يشعر بالقيود.

إنَّ من تنقصهم العزيمةُ الصادقة أو من يبقون طفوليين ليسوا أبدًا أحرارًا في أية حالة اجتماعية.

عندما تكون إمكانياتُ الخيار واسعةً إلى درجة الإضرار بالمصلحة العامة، لا يتمتَّع البشرُ بالحرِّيَّة. لأنه يجب عليهم إمَّا أنْ يلجأوا إلى ملاذ اللامسؤولية وعدم الجدِّية puérilité واللامبالاة، ذلك الملاذ الذي لا يمكن أنْ يجدوا فيه سوى الملل وإمَّا أنْ ترهقَهم المسؤوليةُ في كل ظرف خشيةَ إيذاء الآخرين. في حالة كهذه، عندما يعتقد الناسُ خطأً بأنهم يمتلكون الحرِّيةَ ولا يشعرون بأنهم يتمتعون بها، يصل بهم الأمرُ إلى الاعتقاد بأنَّ الحرِّيةَ ليست خيرًا.

حاجات النفس

3- الطاعة

الطاعةُ حاجةٌ حيوية للنفس البشرية. وهي على نوعين: طاعةٌ للقوانين القائمة وطاعةٌ لأناسٍ يُنظَر إليهم كقادة. وتقتضي الموافقةَ، ليس على كلِّ أمرٍ من الأوامر المُـتَـلَـقَّـاةِ، بل موافقةٌ تُمنَح مرةً واحدة، مع مراعاة شرط وحيد عند الاقتضاء هو مقتضيات الضمير. من الضروري الاعترافُ عمومًا، وأنْ يعترفَ القادةُ أولاً، بأنَّ الموافقةَ، وليس الخوف من العقاب أو الطمع في الثواب، تشكِّلُ في الواقع الحافزَ الرئيسيَّ للطاعة، بحيث لا يكون أبدًا في الخضوع شُبهةُ خُنوع. لا بد من أنْ نعرِفَ أيضًا أنَّ الذين يَـأمرون يطيعون بدورهم؛ ينبغي أنْ يتَّجهَ النظامُ التراتُبيِّ كلُّه نحو هدف يحسُّ الجميعُ من الأعلى إلى الأدنى بقيمته وحتى بسموِّه.

بما أنَّ الطاعةَ غذاءٌ ضروري للنفس فإنَّ من يُحرَمُ منها نهائيًا يمرض. وبالتالي فإنَّ كلَّ جماعةٍ يحكمها قائدٌ أعلى غيرُ مسؤول comptable تجاه أحد تكون بين يدَيْ إنسان مريض.

ولذلك أينما وُضِعَ إنسانٌ مدى الحياة على رأس تنظيم اجتماعي فلا بد من أنْ يكونَ رمزًا لا قائدًا، كحالة مَلِكِ بريطانيا؛ وينبغي أيضًا أنْ تقيِّـد آدابُ السلوك من حرِّيته أكثرَ من حرِّية أي إنسان من الشعب. وبهذه الطريقة، يكون فوق القادة الفعليين شخصٌ، على الرغم من كونهم قادةً؛ من جهة أخرى، يمكن استبدالُهم بدون أنْ تنقطعَ الاستمراريةُ، وبالتالي يحصل كلٌّ منهم على نصيبه الضروري من الطاعة.

إنَّ الذين يُخضِعون جماهيرَ بشريةً بالإكراه والوحشية إنما يحرمونها في الوقت نفسه من غذاءين حيويين هما: الحرِّيةُ والطاعة؛ لأنه لا يعود في استطاعة هذه الجماهير أنْ تعطيَ موافقتَها الداخليةَ للسلطة التي ترزح تحتها. والذين يشجعون وضعًا يكون فيه إغراءُ الربح المحرِّكَ الرئيسيَّ إنما ينزِعون من الناس الطاعةَ، لأنَّ الموافقةَ التي هي أساسُ الطاعة ليست شيئًا يباع ويُشرَى.

هناك ألف إشارة تُظهِر أنَّ البشرَ في عصرنا كانوا منذ وقت طويل جائعين إلى الطاعة. ولكنِ اسْـتُـغِـلَّ ذلك الأمرُ لإعطائهم العبوديةَ.

حاجات النفس

4- المسؤولية

إنَّ المبادرةَ والمسؤوليةَ، شعورَ المرء بأنه مفيد وحتى بأنه لا يُستغنَى عنه، هي حاجات حيوية للنفس البشرية.

الحرمانُ الكاملُ منها هي حالة العاطل عن العمل، حتى وإنْ تلقَّى مساعدةً تُمكِّنه من الأكل واللبس والسكن. فهو لا شيء في الحياة الاقتصادية، وورقةُ الاقتراع التي تشكِّلُ نصيبَه في الحياة السياسية ليس لها عنده من معنىً.

حالُ العامل اليدوي [العادي غير المؤهَّـل] يكاد يكون أفضل.

يتطلَّبُ إشباعُ هذه الحاجة أنْ يكونَ على الإنسان أنْ يتَّخذَ غالبًا قراراتٍ في مشاكلَ، كبيرةٍ أو صغيرةٍ، تمسُّ مصالحَ غريبةٍ عن مصالحه هو، ولكنه يحسُّ بنفسه ملتزمًا تجاهها. ينبغي أيضًا أنْ يلتزمَ ببذل جهود باستمرار. وينبغي أخيرًا أنْ يتمكَّنَ فكريًا من الإحاطة بنِتاج الجماعة التي ينتمي إليها برمَّتِه، بما فيه المجالات التي ليس له فيها أبدًا قرارٌ يتَّخذُه ولا رأيٌ يعطيه. لأجل ذلك، ينبغي أنْ نُعَرِّفَه على هذا النتاج وأنْ نطلبَ منه أنْ يوليه اهتمامًا وأنْ نجعلَه يحسُّ بقيمته وفائدته، وسموِّه إذا اقتضى الأمرُ ذلك، وأنْ نجعلَه بلا ريب يمسكُ بالجانب الذي يشارك فيه.

كلُّ جماعة، مهما كان نوعها، لا تتيح لأعضائها قضاءَ هذه الحاجة تكون مَـعِـيْـبةً ولا بد من تغييرها.

تصل حاجةُ المبادرة عند أية شخصية قوية قليلاً إلى درجة حاجة القيادة. ينبغي على الحياة المحلية والإقليمية الغنية وعلى الأعمال التربوية الكثيرة وعلى حركات الشباب أنْ تعطيَ أيَّ شخص غير قادر على القيادة فرصةَ القيادة خلال بعض فتراتٍ من حياته.

حاجات النفس

5- المساواة

المساواةُ حاجةٌ حيوية للنفس البشرية. وتقوم على الاعتراف العلني والعام والفعلي الذي تُعَبِّـر عنه تعبيرًا حقيقيًا المؤسساتُ والأعرافُ بأنَّ المقدارَ نفسَه من الاحترام والتقدير حق واجب لكل كائن إنساني، لأنَّ الاحترامَ حق واجب لكل كائن إنساني بذاته وليس له درجات.

وبالتالي، لا ينبغي أبدًا للفروق الحتمية بين البشر أنْ تحمِلَ مفهومَ الفرق في درجة الاحترام. فحتى لا نشعرَ بأنَّ الفروقَ تحمل هذا المفهومَ، لا بد من وجود شيءٌ من التوازن بين المساواة واللامساواة.

يقوم تكافؤ الفُرَص على نوع من التوفيق أو الجمع بين المساواة واللامساواة. فإذا استطاع أيُّ إنسان بلوغَ المكانة الاجتماعية المقابلة للوظيفة التي يقْدِر على شَغلِها وإذا انتشرَت التربيةُ بحيث لا يُحرَم أحدٌ من أية كفاءة بسبب مولده فقط فإنَّ لجميع الأطفال الفرصةَ [الأمل] espérance نفسَها. وهكذا تكون فرصةُ كلُّ إنسان مكافئةً لفرصة الإنسان الآخر، فيما يخصُّه هو عندما يكون شابًا وفيما يخصُّ أولاده فيما بعد.

ولكنْ عندما يقوم هذا التوفيقُ وحدَه بلعب الدَّور من دون أنْ يكونَ عنصرًا ضمن عناصرَ أخرى، لا يعود يشكِّلُ توازنًا وينطوي على مخاطرَ جمَّةٍ.

أولاً، بالنسبة لإنسانٍ يكون في وضعٍ أدنى ويعاني من ذلك، لا تشكِّل معرفةُ أنَّ عجزَه هو سبب وضعه ومعرفةُ أنَّ الناسَ كلَّهم يعرِفون ذلك عزاءً بل مضاعفة للمرارة؛ فبعضُهم يمكنه أنْ يتحمَّـل ما لا يطاق والبعضُ الآخر ينقاد إلى الجريمة، وذلك كلٌّ بحسب طبعه.

ثم تنشأ بناءً على ذلك وبصورة محتومة في الحياة الاجتماعية ما هو أشبهُ بمضخَّةٍ ماصَّة نحو الأعلى. فينتج عن ذلك مرَضٌ اجتماعي إذا لم تأتِ حركةٌ هابطةٌ تقيمُ توازنًا مع الحركة الصاعدة. فبمقدار ما يكونُ ممكنًا في الواقع لابن الأجير أنْ يصبحَ وزيرًا يومًا ما، بهذا المقدار ينبغي أنْ يكونَ ممكنًا في الواقع لابن الوزير أنْ يصبح أجيرًا يومًا ما. ولا يمكن أنْ تكونَ درجةُ الاحتمال الثاني هذا كبيرةً بدون وجود درجة خطيرة جدًا من الإكراه الاجتماعي.

إذا قام هذا النوع من المساواة بلعب الدَّور وحدَه وبدون حدود فإنه سيعطي الحياةَ الاجتماعية مرونةً fluidité تقوم بتفكيكها.

هناك طرائق أقلُّ فظاظةً للتأليف بين المساواة والاختلاف. الطريقةُ الأولى هي التناسب. ويعرَّف التناسبُ بأنه التوفيق بين المساواة واللامساواة، وهو العنصر الوحيد للتوازن في كل مكان من الكون.

لو طُبِّـقَتْ هذه الطريقةُ على التوازن الاجتماعي لفُرِضَتْ على كل إنسان أعباءٌ متناسبة مع القدرة والرفاهية اللتَين يمتلكهما ومخاطرُ مقابلة في حالة العجز والخطأ. مثلاً، ربما ينبغي على رب العمل غير الكفء أو المرتكب لخطأ تجاه عماله أنْ يعانيَ في نفسه وجسده أكثر بكثير مما يعاني عامل يدوي عادي غير كفء أو مرتكب لخطأ تجاه رب عمله. فضلاً عن ذلك، ربما ينبغي أنْ يعرِفَ جميعُ العمال العاديين أنَّ الأمر على هذا النحو. وهذا يستلزم تنظيمًا معيَّـنًا للمَخاطر من جهةٍ وتصوُّرًا للعقاب في قانون العقوبات من جهةٍ أخرى بحيث تلعب دائمًا المكانةُ الاجتماعية إلى حد كبير، وكظرف مشدِّد، دورًا في تحديد العقوبة. من بابٍ أَولى، ينبغي لممارسة وظائفَ عامةٍ رفيعةٍ أنْ تنطويَ على مخاطرَ شخصيةٍ جسيمة.

الطريقةُ الأخرى لجعل المساواة تتوافق مع الاختلاف هي نزع الطابع الكمِّي عن الاختلافات ما استطعنا. فحيثما يكون هناك اختلاف في الطبيعة فقط لا في الدرجة لا يكون هناك أية لامساواة.

عندما نجعل من المال المحرِّكَ الوحيدَ أو شِبْهَ الوحيدِ لجميع الأفعال والمقياسَ الوحيدَ أو شِبْهَ الوحيدِ لجميع الأشياء نكون بذلك قد وضعْنا سُمَّ اللامساواة في كل مكان. من الصحيح أنَّ هذه اللامساواةَ هي محرِّك؛ فهي ليست مرتبطةً بالأشخاص، لأنَّ المال يُكتسَب ويضيع؛ واللامساواةُ ليست أقلَّ واقعيةً منه.

هناك نوعان من اللامساواة يقابلهما حافزان مختلفان. فاللامساواة الثابتة تقريبًا، كاللامساواة في فرنسا القديمة، تؤدي إلى عبادة الرؤساء – ليس بدون أنْ تخالطَها كراهيةٌ مكبوتة – وإلى الخضوع لأوامرهم. واللامساواةُ المحرِّكة، المرنة، تؤدي إلى رغبة في الصعود. وهي ليست أقربَ إلى المساواة من اللامساواة الثابتة، كما أنها هي الأخرى ضارة أيضًا. فثورةُ عام 1789 عندما ادَّعَتْ المساواةَ لم تَـقُـمْ في الواقع سوى بتكريسِ عمليةِ استبدالِ شكلٍ من اللامساواة مكان شكلٍ آخر.

كلما كان هناك مساواة في المجتمع، كان عملُ الحافزَينِ المرتبطَينِ بشكلَي اللامساواة أقلَّ، وبالتالي ينبغي وجود حوافز أكثر.

بمقدار ما تكون المساواةُ كبيرةً، بمقدار ما يُنظَر إلى الظروف البشرية المختلفة كما هي، بدون أنْ يكونَ أحدُها أقلَّ أو أفضلَ من الأخر، ولكنها مختلفة. بمعنى أنْ تكونَ، ببساطةٍ، مهنةُ عامل المنْجم ومهنةُ الوزير استعدادَينِ مختلفَينِ كمهنتَي الشاعر وعالِمِ الرياضيات. وبمعنى أنْ تُـحسَب القسوةُ الجسديةُ المرتبطةُ بظرف عامل المنْجم تكريمًا لمن يعاني منها.

في أوقات الحرب، عندما يمتلك الجيشُ الروحَ المعنويةَ التي ينبغي فإنَّ الجندي يكون سعيدًا وفخورًا بكونه تحت النار لا في المقر العام؛ ويكون الجنرالُ سعيدًا وفخورًا بأن مصير المعركة يعتمد على عقله؛ وفي الوقت نفسِه يُعجَب الجنديُّ بالجنرال ويُعجَب الجنرالُ بالجندي. مثلُ هذا التوازن يشكِّلُ مساواةً. فالمساواةُ في الظروف الاجتماعية تحصل فيما لو كان فيها مثلُ ذلك التوازن.

وهذا يستلزم وجود مؤشرات اعتراف خاصة بكل ظرف ولا تكون كاذبة.

حاجات النفس

6- التَّراتُبية

التراتُبيةُ [نظام المراتب] حاجةٌ حيوية للنفس البشرية. وتقوم على نوع من الاحترام ونوع من الإخلاص للرؤساء ليس بالنظر إلى شخصهم ولا إلى السلطة التي يمارسونها ولكنْ بالنظر إلى كونهم رموزًا. فما يرمزون إليه هو ذلك المجال الذي يوجد فوق كل إنسان والذي تشكِّل واجباتُ كلِّ إنسان تجاه أقرانه تعبيرًا عنه في هذا العالَم. تقتضي التراتبيةُ الحقيقيةُ أنْ يعيَ الرؤساءُ هذه الوظيفةَ الرمزيةَ ويَعْـلموا أنها الموضوع الشرعي الوحيد لإخلاص مرؤوسيهم. إنَّ نتيجة التراتبية الحقة هي حمْـلُ كلِّ فرد على الاستقرار بصورة طبيعية في المكان الذي يشغله.

حاجات النفس

7- الشرف

الشرَفُ حاجةٌ حيوية للنفس البشرية. إنَّ الاحترام الواجب لكل كائن إنساني بمجرَّد كونِه إنسانًا، حتى وإنْ أُعطيَ فعليًا، لا يكفي لتلبية هذه الحاجة؛ لأنه مماثل لجميع البشر وثابت؛ في حين أنَّ الشرف له علاقة بكائن إنساني معتبَر، ليس بالنظر إلى كونه إنسانًا ببساطة، ولكنْ بالنظر إلى محيطه الاجتماعي. وتُشبَع هذه الحاجةُ إشباعًا كاملاً إذا قدَّمَتْ كلُّ جماعة للكائن الإنساني الذي ينتمي إليها مشاركةً في التراث السامي المتضمَّن في ماضيها والمعترَف به علنًا خارجها.

مثلاً، لكي تلبَّى حاجةُ الشرف في الحياة المهنية، لا بد من أنْ تقابلَ كلَّ مهنة جمعيةٌ ما collectivité تكون قادرةً فعليًا على الحفاظ على الذكرى حيةً، ذكرى كنوز الشهامة والبطولة والنزاهة والكرَم والعبقرية، تلك الكنوز التي تُبذَل خلال ممارسة المهنة.

كلُّ اضطهاد يؤدي إلى جوع لحاجة الشرف، لأن تقاليد الشهامة التي يمتلكها المضطهَدون غير معترف بها لعدم وجود هيبة اجتماعية.

وهذه هي دائمًا نتيجة الغزو. فـ "ﭭـِرسينْجيتوريكس"[4] Vercingétorix لم يكنْ بطلاً عند الرومان. ولو أنَّ الإنكليزَ قد استولَوا على فرنسا في القرن الخامس عشر لَـنُسِيَتْ جان دارك[5] Jeanne d'Arc تمامًا، وحتى على نطاق واسع. حاليًا نتكلم عنها للأنَّاميين Annamites [الـﭭيتناميين][6] وللعرب؛ ولكنهم يعرفون أننا لا نريد أنْ نتكلَّـمَ عندنا لا عن أبطالهم ولا عن قدِّيسيهم؛ وهكذا فالحالة التي نحن فيها من حفاظ على أبطالنا هي نَيلٌ من شرف الـﭭيتناميين والعرب.

إنَّ للاضطهاد الاجتماعي النتائجَ نفسَها. فـ "غوينمر"[7] Guynemer و"مِرموز"[8] Mermoz خُـلِّدوا في الذاكرة الجمعية بفضل هيبة الطيران الاجتماعية؛ والبطولة الخارقة أحياناً التي يبذلها عمالُ المناجم أو صيادو السمك بالكاد يكون لها صدىً في أوساط عمال المناجم أو صيادي السمك.

إنَّ الدرجة القصوى للحرمان من الشرف هي الحرمان الكامل من التقدير المفروض على فئات من الكائنات الإنسانية. كما هي في فرنسا، وبأشكال مختلفة، حالُ المومسات وأصحاب السوابق ورجال الشرطة والطبقة الكادحة الدنيا sous-prolétariat من المهاجرين والسكان الأصليين للمستعمرات... ينبغي لمثل هذه الفئات ألاَّ تكونَ موجودةً.

ينبغي على الجريمة وحدها أنْ تضعَ الكائنَ الذي يرتكبها خارجَ الاحترام الاجتماعي، وينبغي على العقاب أنْ يعيدَه إليه.

حاجات النفس

8- العِقاب

العِقابُ حاجةٌ حيوية للنفس البشرية. وهو نوعان: تأديبي وجزائي. فالعقوباتُ من النوع الأول تقدِّم ضمانةً ضد حالات الضعف التي ستكون مقاومتُها مضنيةً جدًا إذا لم يكنْ هناك دعمٌ خارجي. ولكنَّ العِقابَ الأكثر ضرورةً للنفس هو العقاب على الجريمة. فبالجريمةِ يضع الإنسانُ نفسَه خارجَ شبكة الواجبات الثابتة التي تربط كلَّ كائن إنساني بجميع البشر الآخرين. ولا يمكن إعادة اندماجه فيها إلاَّ بالعقاب، بصورة كاملة إذا كان هناك موافقة من طرفه، وإلاَّ فبصورةٍ جزئية. فمثلما أنَّ الطريقة الوحيدة للتعبير عن الاحترام لمن يعاني من الجوع هي إطعامه، كذلك فإنَّ الطريقة الوحيدة للتعبير عن الاحترام لمن يضع نفسَه خارج القانون هي إعادة دمجه فيه بإخضاعه للعقاب الذي يحدِّده القانونُ.

إنَّ حاجة العقاب لا تلبَّى إذا كان قانونُ العقوبات طريقةَ إكراه من خلال الرعب، كما هي الحال بصورة عامة.

تستلزم تلبيةُ هذه الرغبة أولاً أنْ يحمل كلُّ ما يتعلق بقانون العقوبات طابعًا مَهيبًا ومقدسًا وأنْ تُضْـفَى مهابةُ القانون على المحكمة وعلى الشرطة وعلى المتهم وعلى المحكوم، وذلك حتى في القضايا الأقل أهمية، لمجرَّد أنها يمكن أنْ تؤديَ إلى الحرمان من الحرِّية. وينبغي أنْ يكون العقاب شرفًا، لا أنْ يمحوَ فقط عارَ الجريمة، بل أنْ يُنظَرَ إليه كتربية إضافية تجبر على الخير العام بأعلى درجة من الإخلاص. كما يجب أنْ تكونَ قسوةُ العقوبات منسجمةً مع طابع الواجبات المنتهَكة وليس مع مصالح الأمن الاجتماعي.

إنَّ سوء سمعة déconsidération الشرطة وتساهُـل légèreté القضاة ونظام السجون والإقصاء الاجتماعي النهائي لأصحاب السوابق وسُـلَّم العقوبات الذي ينص على فرْض عقوبة على عشر سرقات تافهة أقسى من العقوبة على الاغتصاب أو على بعض حالات القتل والذي ينص حتى على عقوبات لمجرَّد سوء الحظ، كلُّ ذلك يَحُـوْلُ دون وجود أي شيء عندنا يستحق اسمَ العقاب.

ينبغي، سواء فيما يخصُّ الأخطاءَ أم فيما يخص الجرائمَ، أنْ تزدادَ درجةُ عدم العقاب [الحصانة] كلما نزلنا في السُّـلَّم الاجتماعي لا كلما صعدنا فيه. وإلاَّ يشعر المرءُ بالآلام المفروضة عليه وكأنها حالاتُ إكراه أو حتى كأنها تعسُّف في السلطة ولا تشكِّل عقوباتٍ. لا يكون هناك عقاب إلاَّ إذا رافق الألمُ في لحظة ما، في الذاكرةِ، وحتى بعد فوات الأوان، شعورٌ بالعدل. وكما أنَّ الموسيقيَّ يوقِظ بالنغمات الشعورَ بالجَمال، كذلك ينبغي على نظام العقوبات أنْ يعرف كيف يوقِظُ الشعورَ بالعدل لدى المجرم عن طريق الألم أو حتى الموت عند الاقتضاء. وكما يقال عن متعلِّم الصَّنْعة المبتدئ الذي يُجرَح بأنَّ المهنةَ تدخل في جسده،[9] كذلك فإنَّ العقاب طريقةٌ لإدخال العدل في نفس المجرم من خلال الألم الجسدي.

إنَّ مسألةَ أفضلِ طريقةٍ لمنع حدوث مؤامرة في أعلى الهرم بهدف الحصول على حصانة ضد العقاب هي إحدى أعوص المشاكل السياسية. ولا يمكنها أنْ تُحَـلَّ إلاَّ إذا تجشَّمَ رجلٌ أو عدةُ رجال مسؤوليةَ منْعِ مثلِ هذه المؤامرة وكانوا في وضعٍ لا تميل فيه أنفسُهم إلى الدخول فيها.

حاجات النفس

9- حرِّيَّـة الرأي

عادةً ما تُذْكَـرُ حرِّيَّـةُ الرأي مقرونةً مع حرِّية المشاركة. وهذا خطأ. إذْ إنه فيما عدا حالة المجموعات الطبيعية، ليست المشاركة حاجةً، بل وسيلة لممارسة الحياة اليومية.

على العكس من ذلك فإنَّ حرِّية التعبير الكاملة وغير المحدودة عن أي رأي مهما كان وبدون أي قيد أو شرط أو تحفُّظ هي حاجة مطلقة للعقل. وبالتالي فإنها حاجة للنفس، لأنه إذا لم يكن العقل مرتاحًا فستكون النفسُ بكُـلِّيتها مريضةً. إنَّ طبيعةَ الإشباع المناسب لهذه الحاجة وحدودَه تندرج في البنية نفسِها لمختلف ملَكات النفس[10]. لأنَّ الشيء الواحدَ يمكن أنْ يكونَ محدودًا ولامحدودًا، مثلما أنه في الإمكان زيادة طول مستطيل إلى ما لا نهاية ويبقى عَرْضه محدودًا.

يمكن للعقل أنْ يعمل عند الكائن الإنساني بثلاث طرق. فيمكن أنْ يشتغلَ على مشاكلَ تقنيةٍ، أيْ يبحثُ عن وسائلَ لتحقيق هدف موضوع سلفًا. ويمكن أنْ يقدِّمَ إضاءةً عندما يحصل قرارُ الإرادة في خيارٍ من أجل توجُّـهٍ ما. ويمكن أنْ يعملَ وحدَه، منعزلاً عن باقي الملَكات [النفسية]، في تأمُّـل نظري بحْتٍ حيث يُستبعَد منه بصورة مؤقتة كلُّ همٍّ يتعلق بالعمل.

في النفس السليمة، يعمل العقلُ بالطرق الثلاث بالتناوب، وبدرجات مختلفة من الحرِّية. فيكونُ في الوظيفة الأولى خادمًا. ويكونُ في الوظيفة الثانية هادمًا وينبغي إسكاتُه حالما يبدأ بتقديم حُجَج للجزء من النفس الذي ينحاز دائمًا للشر عند من لم يكنْ في حالة الكمال. ولكنْ عندما يعمل وحيدًا ومنعزلاً، ينبغي أنْ يمتلكَ حرِّيةً مطْـلَقة. وإلاَّ لنقصَ الكائنَ الإنسانيَّ شيءٌ ما جوهري.

كذلك الأمر في المجتمع السليم. لذلك يُحبَّـذ في مجال المنشورات تشكيلُ رصيد من الحرِّية المطْـلَقة، ولكنْ بطريقة يكون فيها من الطبيعي ألاَّ تُـلزِمَ الأعمالُ المنشورةُ المؤلِّفين بأية درجة وألاَّ تحتويَ على أية نصيحة للقرَّاء. وهنا من الممكن أنْ تُنشَرَ جميعُ الحُجج المؤيدة للقضايا السيئة وبكل قوَّتِها. فمن الحسن والمفيد نشرُها. ومن الممكن لأيِّ شخص أنْ يمتدحَ فيها أكثرَ شيء كان يستنكره. قد يكون من المعلوم لدى الجميع أنَّ مثل هذه المؤلَّفات ليس هدفُها تحديدَ موقف المؤلِّفين من مشاكل الحياة، بل المساهمة من خلال بحوث تمهيدية في الإحصاء الكامل والصحيح للمعطيات المتعلقة بكل مشكلة. ومن شأن القانون أنْ يمنعَ نشرَ أي شيء لكاتبٍ إذا كان يتضمَّنُ أيَّ خطر من أي نوع.

على العكس من ذلك فإنَّ المنشوراتِ الهادفةَ إلى التأثير في ما نسمِّيه بالرأي العام، أيْ التأثير في الواقع في سلوك الحياة، تشكِّل أفعالاً وينبغي أنْ تخضعَ للقيود نفسِها الخاصة بجميع الأفعال. بتعبير آخر، ينبغي ألاَّ تُـلحِقَ ضررًا غير مشروع بأي كائن إنساني، وينبغي بصورة خاصة ألاَّ تحتويَ بتاتًا على أي نفي صريح أو ضمني للواجبات الثابتة تجاه الكائن الإنساني، بمجرَّد أنْ يعترفَ القانونُ علنًا بهذه الواجبات.

إنَّ التمييزَ بين المجالين، المجالِ الواقع خارجَ العمل والمجالِ المرتبطِ به أمرٌ يستحيل التعبيرُ عنه على الورق بلغة قانونية. ولكنَّ هذا لا يمنع من أنْ يكونَ التمييزُ واضحًا تمامًا. فالفصلُ بين هذين المجالين سهلٌ في الواقع إذا كانت إرادةُ بلوغ ذلك فقط قويةً بما يكفي.

من الواضح، مثلاً، أنْ تكونَ الصحافةُ اليوميةُ والأسبوعيةُ في المجال الثاني. وكذلك المجلات، لأنها تشكِّل جميعًا مركزَ إشعاع لطريقةِ تفكير معيَّنة؛ فالمجلاتُ التي يمكنها أنْ تتخلَّى عن هذه الوظيفة هي وحدَها التي يمكنها أنْ تدَّعيَ الحرِّيةَ الكاملة.

كذلك الأمر في الأدب. قد يكون ذلك حلاً للجدل الذي دارَ مؤخَّرًا حول موضوع الأخلاق والأدب والذي شوَّشَه تجَـمُّـعُ جميعِ أصحابِ المواهب في جهةٍ وذلك من خلال تضامن مهني، والحمقى والجبناءُ فقط في الجهة الأخرى.

ولكنَّ موقفَ الحمقى والجبناء ليس إلى حد كبير أقلَّ انسجامًا مع العقل [من موقف الكُـتَّاب]. فالكُـتَّابُ لهم طريقة غيرُ مقبولة في اللعب في كلا الاتِّجاهَين [على الحبلين]. إذْ لم يسبق لهم أنِ ادَّعَوا بقدر ما ادَّعَوا اليوم في عصرنا دَورَ المرشدين الروحيين ولم يمارسوا ذلك الدَّورَ بقدر ما مارسوه اليوم. في الواقع، وخلال السنوات التي سبقت الحرب، لم ينافسْهم عليه أحدٌ إلاَّ العلماءُ. فالمكانُ الذي شغلَه سابقًا الكهنةُ في الحياة الأخلاقية للبلاد كان قد شغلَه الفيزيائيون والروائيون، مما يكفي لقياس قيمة ما أحرزناه مِن تقدُّم. ولكنْ لو حاسبَ أحدهم الكُـتَّابَ على توجُّه تأثيرهم للاذوا بالفرار ساخطين وراء الامتياز المقدَّس ألا وهو الفن للفن.

لا شكَّ بأنَّ جِيْد[11] Gide، على سبيل المثال، قد عرَفَ دائمًا أنَّ كتبًا مثل: كتاب Les Nourritures terrestres [أطعمة الأرض] أو رواية Les Caves du Vatican [أقبية الفاتيكان] كان لها تأثير على السلوك العملي لحياة مئات من الشباب، وإنه لفخور بذلك. ولذا فليس هناك من سبب يدعو لوضع مثل هذه الكتب وراء حاجز الفن للفن الذي لا يُمَسُّ ولسجنِ صبي يلقي بأحدهم من قطار يمشي. كذلك يمكنهم أنْ يطالبوا بامتيازات الفن للفن من أجل الجريمة. فالسرياليون سابقًا لم يكونوا بعيدين عن ذلك. وكلُّ ما كرَّره كثيرٌ من البُـلَهاء حتى الملل بشأن مسؤولية الكُتَّاب عن هزيمتنا هو للأسف صحيح بالتأكيد.

فإذا نشرَ كاتبٌ ما، بفضل الحرية الكاملة الممنوحة للعقل المحض، كتاباتٍ تتعارضُ والمبادئَ الأخلاقيةَ التي يعترفُ بها القانونُ وإذا أصبحَ فيما بعد مركزَ تأثيرٍ ذائعَ الصيت فمن السهل الطلبُ منه إنْ كان على استعداد للقول علنًا بأنَّ هذه الكتاباتِ لا تُعبِّـر عن موقفه. وفي حالة العكس، فمن السهل معاقبته. إذا كان يكذب فمن السهل فضْحُه. علاوةً على ذلك، لا بد من التسليم بأنَّه ابتداءً من اللحظة التي يشغل فيها الكاتبُ مكانًا داخل مجالات النفوذ التي توجِّـهُ الرأيَ العام لا يمكنه ادِّعاءُ حرِّية غير محدودة. وهنا أيضًا، من المستحيل وضع تعريف قانوني، ولكنْ في واقع الأمر ليس من الصعب إدراك الحقائق. ليس هناك من سبب يدعو لِحَـدِّ سيادة القانون بمجال الأمور التي يُعبَّـر عنها بصيغ قانونية، لأنَّ هذه السيادةَ تمارَس أيضًا من خلال الأحكام العادلة.

علاوة على ذلك، فإنَّ حاجة الحرية نفسَها، لشدة ما هي ضرورية للعقل، تتطلَّب حمايةً من الإيحاءات والأضاليل وتأثير الوسواس القهري. فهذه هي أشكالٌ من الإكراه، إكراهٍ فريد من نوعه، لا يرافقه الخوفُ أو الألمُ الجسدي، ولكنه ليس أقلَّ من عنف. فالتكنولوجيا الحديثة تُوفِّر له أدواتٍ فعالةً إلى أقصى حد. هذا الإكراهُ هو بطبيعته إكراه جماعي تقع النفوسُ البشريةُ ضحيةً له.

تصبح الدولةُ بالطبع جانيةً إذا ما هي لجأَتْ إليه، إلاَّ في حالة وجود ضرورة ماسَّة من أجل خلاص عام. ولكن يجب عليها أيضًا أنْ تمنعَ استخدامَه. فينبغي، على سبيل المثال، أنْ يقيِّـدَ القانونُ الإعلانَ تقييدًا صارمًا؛ وينبغي أنْ يقتصرَ الناسُ على أقلِّ قدر ممكن منه؛ ويجب أنْ يُمنَع الإعلانُ منعًا باتًا من التطرُّق أبدًا إلى مواضيعَ تتعلَّق بمجال الفكر.

بالمثل، قد يكون هناك قمعٌ للصحافة والبرامج الإذاعية وأي شيء آخر مشابه، ليس فقط لأنها تطال مبادئَ الأخلاق المعترَف بها علنًا، ولكنْ لرداءة المبنى والمعنى، وللذوق السيء والابتذال، ولمناخ أخلاقي مفسِد بطريقة لا تخلو من المكر. يمكن ممارسة مثل هذا القمع دون المساس بحرِّية الرأي مهما كان هذا المساس قليلاً. على سبيل المثال، يمكن إلغاء صحيفة من دون أنْ يفقدَ أعضاءُ هيئة التحرير الحقَّ في النشر أينما يحلو لهم أو حتى في البقاء معًا لمواصلة الصحيفة نفسِها تحت اسم آخر. يكون فقط قد تمَّ التشهيرُ بالصحيفة، مع خطر استمرار التشهير. تُعزَى حرِّيةُ الرأي فقط ومع التحفُّظ إلى الصحفي لا إلى الصحيفة؛ لأنَّ الصحفي وحده يمتلك قدرةَ تكوين الرأي.

بصورة عامة، تتوضَّح جميع المشاكل المتعلقة بحرِّية التعبير إذا افترضنا أنَّ هذه الحرِّيةَ هي حاجة العقل وأنَّ للعقل مقرًّا واحدًا هو الكائن الإنساني بالنظر إليه وحدَه. ليس هناك من ممارسة جماعية للعقل. وبالتالي لا يمكن لأية جماعة أنْ تدَّعيَ شرعًا حرِّيةَ التعبير، لأنه لا تحتاج أيةُ جماعة إليها على الإطلاق.

على العكس من ذلك تمامًا، تتطلَّبُ حمايةُ حرِّية الفكر أنْ يكون ممنوعًا بموجب القانون على الجماعة أنْ تعبِّر عن رأي. لأنه عندما تبدأ الجماعةُ بامتلاك آراء، تميلُ لا محالةَ إلى فرضها على أعضائها. فيجد الأفرادُ أنفسَهم عاجلاً أم آجلاً في وضعٍ يُمنَعون فيه، بدرجةِ تشدُّدٍ كبيرةٍ إلى حد ما، وفيما يتعلَّق بمشاكلَ ضخمةٍ نوعًا ما، من التعبير عن آراءٍ تُعارِضُ آراءَ الجماعة ومن الخروج منها على الأقل. غيرَ أنَّ القطيعةَ مع الجماعة التي ينتمي إليها الفردُ تنطوي دائمًا على حالات معاناة أقلُّها معاناة عاطفية. إنَّ المخاطرةَ وإمكانيةَ المعاناة هما عنصران مفيدان وضروريان للعمل بمقدار ما هما شيئان ضارَّان في إعمال العقل. فالخوفُ، وإنْ كان خفيفًا، يسبِّبُ دائمًا إمَّـا ارتخاءً وإمَّـا تصلُّبًا، بحسب درجة الشجاعة، فلا حاجة إلى مزيد منه لتشويه مقياس الدقة الحساس جدًا والهش جدًا الذي يقيمه العقلُ. حتى الصداقةُ من هذا القبيل تشكِّل خطرًا كبيرًا. فالعقلُ يُهزَم بمجرَّد أنْ تتصدَّرَ الكلمةُ الصغيرةُ "نحن" التعبيرَ عن الأفكار صراحةً أو ضمنًا. وعندما يخبو نورُ العقل بعد وقت قصير يضِلُّ حبُّ الخير طريقَه.

الحل العملي المباشر هو إلغاء الأحزاب السياسية. فصراع الأحزاب، على غرار ما كان موجودًا في الجمهورية الفرنسية الثالثة[12] la Troisième République، أمرٌ لا يطاق؛ إذْ إنَّ الحزبَ الواحد الذي هو النتيجة الحتمية لهذا الصراع هو درجة قصوى من الشر؛ ولا يبقى من إمكانية أخرى سوى حياة سياسية بلا أحزاب. اليوم، مِثلُ هذه الفكرة لها وقْعٌ جديد وجريء. وهكذا أفضل لأنه لا بد من وجود شيء جديد. ولكنْ في واقع الأمر هذا هو مجرَّد تقليد لعام 1789. ففي رأي جماهير 1789، لم يكنْ هناك حتى إمكانية أخرى؛ فحياةٌ عامة شبيهة بحياتنا خلال نصف القرن الأخير كانت ستبدو لهم كابوسًا بشعًا؛ وما كانوا سيعتقدون أبدًا بإمكانية أنْ يكون بمقدور ممثل عن الشعب أنْ يتخلى عن كرامته في أنْ يصبح عضوًا نظاميًا في حزب.

ثُـمَّ إنَّ روسو[13] Rousseau قد بيَّنَ بوضوح أنَّ صراع الأحزاب يقتل تلقائيًا الجمهوريةَ la République. وتنبَّـأ بنتائجه. ربما يكون من المستحسَن أنْ نشجعَ الآن على قراءة العقد الاجتماعي Du contrat social. ففي واقع الأمر، تموت الديمقراطية في وقتنا الحاضر أينما كانت هناك أحزاب سياسية. كلٌّ منا يعرف أنَّ الأحزاب الإنكليزية تمتلك تقاليدَ وروحًا ووظيفةً بما لا يقارَن بأي شيء آخر. وكلٌّ منا يعرف أيضًا أنَّ الفِرَقَ المتنافسة في الولايات المتحدة ليست أحزابًا سياسية. إنَّ الديمقراطيةَ التي يشكِّل فيها صراعُ الأحزاب السياسية الحياةَ العامةَ عاجزةٌ عن منع تشكيل حزب يكون هدفُه المعلَنُ القضاءَ عليها. فإذا وضعَتْ قوانينَ الطوارئ فإنها ستخنق نفسَها. وإذا لم تضع قوانينَ الطوارئ فإنها ستكون في أمانٍ أشبهِ بأمانِ عصفور أمام ثعبان.

ربما لا بد من التمييز بين نوعين من الجماعات: جماعات المصالح التي يُسمَح لها الهيكليةُ والنظامُ ضمن حدود، وجماعات الأفكار التي يُمنَع عليها الهيكليةُ والنظامُ منعًا باتًا. في الظروف الحالية، من الجيِّد إتاحةُ الفرصة للناس للتجمُّع من أجل الدفاع عن مصالحهم، أيْ المصالح المادية وما شابه. ومن الجيِّد جعْـلُ هذه التجمُّعات تعملُ ضمن حدود ضيِّقة جدًا وتحت الرقابة الدائمة للسلطات العامة. ولكنْ ينبغي عدمُ السماح لها بالتطرُّق إلى الأفكار. يجب أنْ تكونَ التجمُّعاتُ التي تُثارُ فيها الأفكارُ أوساطًا مرنةً إلى حد ما أكثرَ منها تجمُّعات. وعندما يأخذ عملٌ ما بالظهور فيها فليس هناك من سببٍ يدعو لأنْ يقومَ به أشخاصٌ غيرُ أولئك الذين يوافقون عليه.

في الحركة العمالية مثلاً، من شأن هذا التمييز أنْ يضعَ حدًا للغموض المستفحل. ففي الفترة التي سبقَت الحربَ، كان هناك ثلاثة توجُّهات تستنهضُ جميعَ العمال وتتجاذبُهم على الدوام في كل اتِّجاه. أوَّلُها الكفاح من أجل المصلحة المادية؛ ثم بقايا روح الماضي النقابية القديمة المثالية والفوضوية إلى حد ما، تلك البقايا التي تضعف تدريجيًا، ولكنْ مازال فيها نبضُ حياة؛ وأخيرًا الأحزاب السياسية. غالبًا ما يحصل أثناء الإضراب أنَّ العمال الذين يعانون ويكافحون قد يكونون عاجزين تمامًا عن إدراك الدافع هل هو الأجورُ أم فَورةٌ من الروح النقابية القديمة أم عمليةٌ سياسيةٌ يقودها حزب؛ ولا أحدَ أيضًا من الخارج يمكنه أنْ يدركَ ذلك.

مِثلُ هذا الوضع مستحيل. فعندما اندلعَت الحربُ كانت النقاباتُ في فرنسا ميِّتةً أو شِبهَ ميِّتة، على الرغم من ملايين المنتسبين إليها أو بسببهم. فاستعادت نسمةَ حياة embryon de vie بعد سبات طويل، بمناسبة مقاومة الغازي. إنَّ ذلك لا يُثبِت أنها قادرة على البقاء. فمن الواضح جليًا أنها قُتِلَتْ أو كادت أنْ تُقتَـلَ بنوعين من السُّـمِّ كلٌّ منهما ناقعٌ[14] بمفرده.

لا يمكن للنقابات أنْ تعيشَ إذا كان العمالُ فيها مهووسين بالفلوس بالدرجة نفسِها التي يكونون عليها في المعمل خلال الشغل بالقطعة[15]. أولاً لأنه يَنتُج عن ذلك نوعٌ من الموت الأخلاقي الذي يسبِّبه دائمًا هوسُ المال. ثانيًا لأنه في الشروط الاجتماعية الحالية ينتهي الأمرُ حتمًا بالنقابة التي كانت إذْ ذاك عنصرًا فاعلاً على الدوام في الحياة الاقتصادية للبلد إلى أنْ تتحوَّلَ إلى تنظيم مهني وحيد وإلزامي ومُسَـيَّـر mise au pas في الحياة [المهنية] العامة. فتتحوَّل [النقابةُ] عندئذٍ إلى جثة هامدة.

من جهة أخرى، من الواضح جليًا أنَّ النقابةَ لا يمكنها أنْ تعيشَ إلى جانب الأحزاب السياسية. وهنا تكمن استحالةٌ تحمل طابَعَ القوانين الميكانيكية. ثم إنه لسبب مماثل لا يمكن للحزب الاشتراكي أنْ يعيش إلى جانب الحزب الشيوعي، لأنَّ الثاني يمتلك صفة الحزب، إذا جاز لنا القولُ، بدرجة أعلى بكثير.

ومن جهة أخرى، يعزِّز هوسُ الأجور التأثيرَ الشيوعيَّ، لأنَّ مسائلَ المال، شديدةَ القوة إلى درجة أنها تُلامسُ جميعَ البشر تقريبًا، تبعث في الوقت نفسِه عند جميع البشر ضجرًا قاتلاً إلى درجة أنَّ الفكرة الكارثية [الأخروية] apocalyptique للثورة، بحسب الصيغة الشيوعية، لا غنى عنه للتعويض. وإذا لم يكنْ عند البرجوازيين الحاجةُ الرؤيوية نفسُها فذلك لأنَّ الأرقامَ المرتفعة تمتلك شاعريةً وهيبةً prestige تخفِّفان قليلاً من السأَم المرتبط بالمال، بدلاً من أنْ يكونَ السأَمُ في حالته الصِّرفة عندما يُحصَى المالُ بالفلوس. فضلاً عن ذلك، يُظهِر ميلُ البرجوازيين الكبار والصغار إلى الفاشية رغم كل شيء أنهم هم الآخرون يضجرون.

لقد أقامت حكومةُ ﭭـيشي Gouvernement de Vichy في فرنسا للعمال تنظيماتٍ مهنيةً واحدةً وإلزاميةً. من المؤسف أنْ تعطيَها، بحسب الطريقة الحديثة، اسمَ شركة [اتحاد مهني أو حِرَفي] corporation، ذلك الاسم الذي يشير في الواقع إلى شيء مختلف تمامًا وجميل جدًا. ولكنْ من حسن الحظ أنَّ هذه التنظيماتِ الميتةَ وُجِدَتْ لتتحمَّلَ الجزءَ الميتَ من النشاط النقابي. فربما يكون من الخطير إلغاؤها. ومن الأفضل تحميلها بالعمل اليومي فيما يخص المصالح المادية والمطالب التي تسمَّى مباشرة. أمَّـا الأحزاب السياسية فينبغي أنْ نأملَ بأنَّ وجودها السرِّي سيكون على الأقل صعبًا فيما لو كانت ممنوعةً منعًا باتًا في مناخ عام من الحرِّية.

في هذه الحالة، يمكن للنقابات العمالية، فيما إذا بقي فيها شعلةُ حياة حقيقية، أنْ تصبحَ شيئًا فشيئًا التعبيرَ عن الفكر العمالي وأداةَ كرامة [وشرف] للعمال. فبحسب تقليد الحركة العمالية الفرنسية التي رأت نفسَها دائمًا المسؤولةَ عن كل العالَم، من شأن النقابات أنْ تهتمَّ بكل ما يتعلق بالعدالة – بما في ذلك، عند الاقتضاء، قضايا المصلحة المادية، ولكنْ من بعيدٍ لِبعيد ومن أجل إنقاذ كائنات بشرية من البؤس.

بطبيعة الحال، ينبغي على النقابات ربما أنْ تتمكَّنَ من ممارسة تأثير على التنظيمات المهنية وفقًا لأشكال يحدِّدها القانونُ.

ربما كان هناك فوائد فقط في منع التنظيمات المهنية من القيام بإضراب وفي السماح به للنقابات مع بعض التحفظات، وذلك بربط مخاطرَ بهذه المسؤولية وبمنع أي إكراه وبحماية استمرارية الحياة الاقتصادية.

أما إغلاق الأبواب في وجه العمال lock-out فليس هناك من سبب يدعو لعدم منعه كليًا.

يمكن أنْ يخضعَ السماحُ لتجمعات الأفكار إلى شرطين. الأولُ ألاَّ يكونَ للطرد مكانٌ فيها. فمن المفروض أنْ يتمَّ التنسيبُ إليها بصورة حرة عن طريق الأُلْفة والتقارب affinité، ولكنْ بدون أنْ يكونَ هناك خيارٌ لدعوة أحد للانتساب من خلال مجموعة إثباتات تتجسَّد في صيغ مكتوبة؛ ولكنْ لا يمكن فصلُ العضو بعد قبوله إلاَّ بارتكاب خطأ يمسُّ الشرفَ أو جُرْم إدخال عناصرَ تخريبيةٍ، وهو جُرْم قد ينطوي بأي حال على تنظيم غير قانوني، وبالتالي من شأنه أنْ يتعرَّض لعقوبة أشد.

حقًا سيكون ذلك إجراءً من أجل خلاص عام، ذلك أنَّ الخبرةَ تكشِفُ أنَّ الدولَ الشمولية [التوتاليتارية] تؤسِّسُها أحزابٌ شموليةٌ وأنَّ الأحزابَ الشموليةَ تتشكَّلُ [كالحديد المُحمَّى] من ضربات الطرد بجُرْمِ الرأي.

الشرطُ الثاني يمكن أنْ يكونَ وجود تداوُلٍ حقيقي للأفكار ووجود دليل ملموس على هذا التداول، على شكل كُتيِّبات ومجلاَّت ونشرات مطبوعة تُبحَثُ فيها قضايا ذات طابع عام. إنَّ وجودَ توحيدٍ كبيرٍ جدًا في الآراء من شأنه أنْ يجعلَ الجماعةَ مشكوكًا في أمرها.

مع ذلك، من شأن جماعات الأفكار أنْ يُسمَح لها بالعمل كما يحلو لها بشرطِ ألاَّ تنتهكَ القانونَ وألاَّ تُكرِهَ أعضاءها بأي نظام انضباطي.

أمَّـا جماعات المصالح فربما ينبغي على الرقابة عليها أنْ تتطلَّبَ قبل كلِّ شيء تمييزًا، ذلك أنَّ كلمةَ مصلحة تُعبِّرُ تارةً عن الحاجة وتارةً أخرى عن شيء آخر. فإذا كان الكلام عن عاملٍ فقير فإنَّ المصلحة تعني المأكلَ والمسكنَ والدفء. وفي نظر رب العمل تعني شيئًا آخر. عندما تؤخَذ الكلمةُ بالمعنى الأول فينبغي على عمل السلطات العامة أنْ يقومَ بصورة رئيسية على تنشيط الدفاع عن المصالح ودعْمِه وحمايته. وفي حال العكس، يجب على السلطات العامة أنْ تراقبَ نشاطَ جماعات المصالح مراقبةً مستمرةً وتَـحُـدَّ منه وتكبحَه كلما دعت الحاجةُ. فمن البديهي أنَّ القيودَ الأشدَّ والعقوباتِ الأقسى تليقُ بالأمور التي بطبيعتها أقوى.

إنَّ ما سمَّيناه حرِّيةَ المشاركة كان في واقع الأمر حتى الآن حريةَ الجمعيات. ليس على الجمعيات أنْ تكونَ حرَّةً؛ فهي أدواتٌ ويجب تسخيرُها. فالحرِّيةُ لا تليقُ إلاَّ بالكائن الإنساني.

أمَّـا حرِّية الفكر [أو التفكير] فما نقوله صحيح إلى حد كبير عندما نقول بأنه بدونها ليس هناك مِن فكْرٍ. ولكنَّ الأصحَّ أيضًا أنْ نقولَ بأنه عندما لا يكون الفكرُ موجودًا لا يكونُ كذلك حرًّا. لقد كان هناك كثير من حرِّية الفكر خلال السنوات الأخيرة، ولكنْ لم يكنْ هنالك فِكْر. وتلك هي تقريبًا حالةُ الطفل الذي يطلب مِلْحًا ليُمَلِّحَ اللحمَ وهو ليس لديه لحم.

حاجات النفس

10- الأمن

الأمن حاجةٌ أساسية للنفس. ويعني الأمنُ عدمَ وقوع النفس تحت وطأة الخوف أو الرعب، إلاَّ إثْرَ اتِّفاق ظروف عرَضية ولفترات نادرةٍ وقصيرة. فالخوفُ أو الرعبُ، كحالاتٍ نفسيةٍ تدوم طويلاً، هما نوعان من السم قاتلان أو يكادان يقتلان، سببُهما احتمالُ البطالة أو القمعُ البوليسي أو وجود محتَـلٍّ أجنبيّ أو توقُّعُ اجتياح محتَمل أو أيُّ بلاء آخر يبدو أنه يتجاوزُ الطاقةَ البشرية.

كان الأسيادُ الرومانُ يَعرِضون سوطًا في البهو على مرأى العبيد، مع العِلْم أنَّ هذا المشهدَ يضع النفوسَ في حالةٍ بين الحياة والموت الضروريةِ للرِّق. من جهة أخرى، ينبغي على البارِّ، عند المصريين [القدماء]، أنْ يتمكَّنَ من القول بعد الموت: "لم أسبِّبِ الخوفَ لأحد."

حتى وإنْ لم يكن الخوفُ سوى حالةٍ كامنة، بحيث لا يشعرُ به المرءُ عذابًا إلاَّ نادرًا، فإنه دائمًا مرَض. إنه نصفُ شللٍ للنفْس.

حاجات النفس

11- المجازَفة

المجازَفةُ حاجةٌ أساسية للنفس. فغيابُ المجازفة يخلقُ نوعًا من الضجر الذي يسبِّبُ شللاً بطريقة مختلفة عن الخوف ولكنْ بالمقدار نفسِه تقريبًا. ثُـمَّ إنَّ هناك حالاتٍ، باشتمالها على قلق واسع الانتشار بدون مخاطرَ واضحة، تنقلُ مرَضَينِ في وقت واحد.

المجازَفةُ le risque هي خطَرٌ danger يثير ردَّ فعلٍ مدروس؛ هذا يعني أنه لا يتجاوز حِيَـلَ النفسِ إلى درجةِ سحْـقِها تحت وطأة الخوف. في بعض الحالات، تشتمل [المجازَفةُ] على جانبٍ من اللعب؛ وفي حالات أخرى، عندما يدفع واجبٌ محدَّد الإنسانَ إلى التصدِّي له فإنها تشكِّلُ حافزًا بأعلى درجة ممكنة.

إنَّ حمايةَ الناس من الخوف والرعب لا تستلزم القضاءَ على المجازَفة؛ على العكس من ذلك، تتطلَّبُ وجودًا دائمًا لقدَرٍ معيَّن من المجازَفة في جميع مظاهر الحياة الاجتماعية؛ لأنَّ غيابَ المجازَفة يُضعِفُ الشجاعةَ إلى درجةِ ترْكِ النفْسِ، عند الضرورة، بدونِ أدنى حمايةٍ داخليةٍ من الخوف. يجب فقط أنْ تَظهَرَ المجازَفةُ في شروط لا تتحوَّلُ فيها إلى شعور بأنها قضاءٌ وقدَر.

حاجات النفس

12- المُلْكيَّة الخاصة

المُـلْكيَّةُ الخاصةُ حاجةٌ حيويةٌ للنفس. فالنفسُ تصبح معزولةً ضائعةً إنْ لم  تكنْ محاطةً بأشياءَ تكون لها كأنها امتداد لأعضاء الجسد. فكلُّ إنسانٍ ميَّـالٌ بصورةٍ لا تقاوَم إلى أنْ يمتلكَ بالفكر كلَّ ما استخدَمه لفترة طويلة وباستمرار في العمل أو المتعة أو ضروريات الحياة. كذلك، يشعر البستانيُّ بعد فترة من الزمن أنَّ البستان له. ولكنْ عندما لا يتَّفقُ الشعورُ بالامتلاك مع المُلْكية القانونية، فسيُهدَّد الإنسانُ باستمرارٍ بحالاتِ انتزاعِ المُلْكيةِ منه انتزاعًا مؤلمًا جدًا.

فإذا كانت المُـلْكيةُ الخاصةُ معترَفًا بها كحاجة فهذا يعني إمكانيةَ جميع الناس في امتلاك شيء آخر غير أشياء الاستهلاك اليومي. تختلف أشكالُ هذه الحاجة كثيرًا باختلاف الظروف؛ ولكنْ من المُحبَّـذ أنْ يمتلكَ معظمُ الناس مساكنَهم محاطةً بقطعةٍ من الأرض وأنْ يمتلكوا أدواتِ عملهم إذا لم يكنْ ذلك مستحيلاً تقنيًا. فالأرضُ والماشيةُ هي من بين أدوات عمل الفلاحين.

يُنتهَـكُ مبدأُ المُلْكية الخاصة في حالة أرضٍ يعمل فيها عمالٌ زراعيون وخدَمُ المزرعة تحت أوامر رئيس يدير شؤونَهم، ويمتلكها سكانُ مدينةٍ يحصلون على غَلَّتها. لأنه ليس هناك أحد من بين جميع الذين لهم علاقةٌ بهذه الأرض غريبًا عنها بطريقة أو بأخرى. هذه الأرضُ تُهدَر ليس من حيث القمح، بل من حيث التلبيةُ التي يمكن أنْ تؤَمِّـنَها لحاجةِ المْلْكية.

بين هذه الحالة القصوى [للمالك] وبين الحالة الدنيا الأخرى لفلاَّح يزرع مع أًسْرته الأرض التي يمتلكها، هناك الكثير من البشر الذين لا يُؤْبَه إلى حد ما بحاجتهم إلى التملُّك.

حاجات النفس

13- المُلْكيَّة الجماعية

إنَّ المشاركةَ في الممتلكات الجماعية، مشاركةً لا تقوم على تمتُّع مادي، بل على شعور بالمُلْكية، هي حاجة لا تقلُّ أهميةً. إنها حالة ذهنية بدلاً من أنْ تكونَ حُكمًا قانونيًا. فحيثما تكون هناك حياةٌ مواطَنيةٌ حقيقيةٌ، يشعر كلُّ فرد بأنه يملك شخصيًا الصروحَ العامةَ والحدائقَ والأُبَّهةَ التي تَظهَر في الاحتفالات، وبذلك فإنَّ الترفَ الذي يرغب فيه كلُّ البشر تقريبًا يُمنَح لأفقرهم. ولكنْ ليس على الدولة وحدَها أنْ تؤَمِّنَ تلبيةَ هذه الحاجة، بل على كل نوع من الجماعة.

إنَّ المصْنعَ الكبيرَ الحديثَ هدرٌ فيما يخصُّ حاجةَ المُلْكية. فلا العمالُ ولا المديرُ الذي يعمل لصالح مجلس الإدارة [مقابل أجر] ولا أعضاءُ المجلس الذين لا يرون المصْنعَ أبدًا ولا المساهمون الذين يجهلون وجودَه يمكنهم أنْ يجدوا فيه أدنى تلبيةٍ لهذه الحاجة.

عندما تؤدِّي أشكالُ التبادلِ والاقتناءِ إلى هدر الأغذية المادية والمعنوية فلا بدَّ من تغييرها.

ليس هناك أيُّ رابط طبيعي بين المُلْكية والمال. والترابط الموجود اليوم هو فقط لأنَّ هناك نظامًا ركَّزَ قوةَ جميع الدوافع الممكنة في المال. ولأنَّ هذا النظامَ غيرُ صحِّي فينبغي القيام بفك الترابط في الاتجاه المعاكس.

إنَّ المعيارَ الحقيقيَّ للمُلْكية هو أنها شرعيةٌ بمقدار ما تكونُ حقيقيةً. أو بتعبيرٍ أكثرِ دقةً، تكونُ القوانينُ المتعلِّقةُ بالمُلْكية أفضلَ بمقدار ما تستفيد استفادةً أفضلَ من الإمكانيات التي تنطوي عليها ممتلكاتُ هذا العالَم من أجل تلبية حاجة المُلْكية التي يشترك فيها جميعُ البشر.

وبالتالي، ينبغي على الأشكال الحالية الخاصة بالاقتناء والمُلْكية أنْ تعالَجَ وِفْقًا لمبدأ التملُّك. وكلُّ نوع من المُلْكية لا يلبِّي عند أحد حاجةَ المُلْكية الخاصة أو العامة يمكن النظرُ إليه بحقٍّ على أنه لا يَصْـلُح.

هذا لا يعني أنه يجِبُ نقلُها إلى الدولة، بل بالأَولى محاولةُ جعلِها مُلْكيةً حقيقيةً.

حاجات النفس

14- الحقيقة

الحاجةُ إلى الحقيقة هي حاجةٌ أَقْدَسُ من أية حاجة. مع ذلك، لم تُذْكَرْ قط. إننا نخاف من القراءة عندما ندرك مرةً واحدةً كميةَ الأخطاء الملموسة وفداحتها، تلك الأخطاء المعروضة بلا حياء حتى في كتب أشهر المؤلِّفين. فنقرأ عندئذٍ كمن يشرب من ماء بئر مشكوك فيه.

هناك أُناسٌ يعملون ثمانيَ ساعات يوميًا ويبذلون جهدًا كبيرًا في القراءة عند المساء من أجل تثقيف أنفُسِهم. فلا يستطيعون أنْ ينصرفوا إلى التحقُّق في كبرى المكتبات. فيصدِّقون بما جاء في الكِتاب كما هو دون تأكُّد. ليس لنا الحقُّ في إطعامهم ما هو خاطئ. وما معنى أنْ نزعمَ أنَّ الكُتَّـابَ قد أخطأوا عن حسن نية؟ فهم لا يعملون فعليًا ثمانيَ ساعات في اليوم. والمجتمع يقدِّم لهم طعامًا لكي يكونَ لديهم متَّسَعٌ من الوقت فيعملون جاهدين لتجنُّب الخطأ. فمراقب السِّكَّة الحديدية [الملوِّح أو عامل الإشارة] aiguilleur الذي يتسبَّبُ في خروجِ قطارٍ عن سِكَّته لن يُقْبَلَ منه أنْ يدَّعيَ أنه أخطأ عن حسن نية.

فمِن بابٍ أَولى، من المخجل السماح بوجود صحف يعلم الجميع أنَّ أيَّ مساهم فيها لا يمكنه أنْ يبقى فيها إذا لم يوافق في بعض الأحيان على تغيير الحقيقة عمدًا.

لا يثق الجمهورُ بالصحف، ولكنَّ عدم ثقته لا تحميه. مع العِلْم أنَّ الصحيفة تحتوي إجمالاً على حقائقَ وعلى أكاذيب، فهي توزِّع الأخبارَ المعلَنة بين هذين البابَين الرئيسيين، ولكنْ على نحوٍ عشوائي، وفقًا لتفضيلاتها. فتقع بذلك في الخطأ.

الجميع يعرفون أنَّ الصحافة عندما تختلط بصناعة الكذب تصبح جريمةً. ولكننا نعتقد أنها جريمة لا يعاقِب عليها القانونُ. ما الذي يمنع من المعاقبة على نشاط بعد أنْ يتمَّ الاعترافُ به على أنه فعلٌ جنائي؟ ومن أين يمكن أنْ يأتيَ هذا المفهومُ الغريب للجرائم التي لا يعاقِب عليها القانون؟ إنَّ ذلك هو أحد أبشع التشويهات في روح القانون.

ألمْ يحِن الوقتُ لنُعلنَ أنَّ كلَّ جريمة يمكن ملاحظتُها يعاقِب عليها القانون وأننا عازمون إذا أُتيحَت لنا الفرصةُ على المعاقبة على جميع الجرائم؟

من شأن بعض التدابير السهلة للسلامة العامة أنْ تحميَ السكَّانَ من أي مساس بالحقيقة.

التدبيرُ الأول من أجل هذه الحماية هو إنشاءُ محاكمَ خاصةٍ يشاد بها إشادةً كبيرةً وتتألَّف من قضاة يتمُّ اختيارُهم وتأهيلُهم تأهيلاً خاصًا. وقد يُضطرُّون إلى المعاقبة بالاستنكار العام على كلِّ خطأ يمكن تجنُّبه ويمكنهم أنْ يفرضوا السجنَ وسجنَ الأشغال الشاقة في حال تكرار العودة إلى الجريمة التي يزيد من خطورتها سوءُ النية المعلَن.

على سبيل المثال، إذا قرأ أحدُ عشَّاق اليونان القديمة في كتابِ ماريتان[16] Maritain الأخيرِ أنَّ: "أكبر مفكِّري العصور القديمة لم يفكِّروا في إدانة الرِّقِّ" فسوف يُحِيْلُ ماريتانَ إلى إحدى المحاكم. وسيقدِّمُ إلى المحكمة النصَّ المهمَّ الوحيدَ الذي وصلَنا عن الرِّق، ألا وهو نص أرسطو. وسيُقْرِئُ القُضاةَ من النص الجملةَ التاليةَ: "يؤكِّد بعضُهم أنَّ الرِّقَّ مخالفٌ تمامًا للطبيعة والعقل". وسيُلْفِتُ نظرَهم إلى أنه لا شيءَ يُجيزُ افتراضَ أنَّ هؤلاء البعض لم يكونوا من أكبر مفكِّري العصور القديمة. وستوجِّهُ المحكمةُ اللومَ إلى ماريتانَ لأنه طبعَ إفادةً كاذبةً تشكِّل، وإنْ كان عن غير قصد، افتراءً فظيعًا على حضارة بِرُمَّـتِها، في حين أنه كان من السهل عليه جدًا تلافي الخطأ. وستُضطَرُّ جميعُ الصحف اليومية والأسبوعية وغيرها وجميعُ المجلاَّت والإذاعة إلى نقل توبيخ المحكمة مع ردِّ ماريتان عند الاقتضاء إلى الجمهور. وفي هذه الحالة بالتحديد، سيكون من الصعب نشر ردٍّ واحد له فيها.

في اليوم الذي نشرَتْ فيه مجلةُ غرينغوارُ[17] Gringoire النصَّ الكاملَ لخطاب يُنسَبُ إلى لاسُلْطَوِي [أناركي][18] anarchiste إسباني كان قد أُعلِنَ عنه خطيبًا في اجتماع عُقِدَ في باريس، ولكنه في واقع الأمر لم يتمكَّنْ في اللحظة الأخيرة من مغادرة إسبانيا، فإنَّ مِثْل هذه المحكمة ستكون ضروريةً. ونظرًا لأنَّ سوء النية سيكون في مثل هذه الحالة أكثرَ وضوحًا من اثنين واثنين يساوي أربعة فإنَّ السجن أو الأشغال الشاقة لن يكونا ربما عقوبةً شديدةً أكثر من اللازم.

في هذا النظام، سيكون مسموحًا لأي شخص بعد أنْ يتحقَّقَ من وجود خطأ يمكن تلافيه في نص مطبوع أو في برنامج إذاعي، أنْ يوجِّهَ تهمةً أمام هذه المحاكم.

من شأن التدبير الثاني أنْ يمنعَ أيةَ دعاية من أي نوع كان منعًا باتًا في الإذاعة أو في الصحافة اليومية. ولن يُسمَح لهاتين الأداتين أنْ تُستخدَما إلاَّ في الإعلام غير المنحاز.

ومن شأن المحاكم التي سبقَ ذِكْرُها أنْ تحرِصَ على ألاَّ يكونَ الإعلامُ منحازًا.

يمكن للأجهزة الإعلامية أنْ يكونَ عليها ألاَّ تنظرَ في البيانات الخاطئة فحسب، بل أيضًا في الهفوات المتعمَّدة والمنحازة.

من شأن الأوساط التي تُتناقَلُ من خلالها الأفكارُ والتي تريد أنْ تُطْلِعَ الناسَ عليها أنْ يكونَ من حقها فقط وسائلُ إعلاميةٌ أسبوعيةٌ أو نصفُ شهريةٍ أو شهريةٌ. وليس هناك من حاجة أبدًا إلى تكرار كثير إذا أردنا الحثَّ على التفكير لا إرهاقَ الفكر وإفسادَه.

يمكن لرقابة المحاكم نفسِها أنْ تقومَ بتصحيح وسائل الإقناع، فتلغي هذه المحاكمُ وسيلةَ إعلام في حال قيامها بتشويه متكرر جدًا للحقيقة. ولكنَّ محرِّريها يمكنهم إعادة نشرها تحت اسم آخر.

وفي كلِّ هذا لن يكونَ هناك أيُّ مساس بالحرِّيات العامة. سيكون هناك تلبيةٌ للحاجة الأقدس للنفس البشرية، ألا وهي حاجة الحماية من النصائح والوصايا suggestion ومن الخطأ.

ولكنْ من الذي يضمن نزاهةَ القضاة؟ وسيعتَرِض الناسُ. إنَّ الضمانَ الوحيد، بمعزل عن استقلالية القضاة التامة، هو أنْ يكونوا من أوساط اجتماعية مختلفة جدًا وأنْ يتمتَّعوا بالطبيعة بعقل واسع وصافٍ ودقيق وأنْ يكونوا قد تأهَّلوا في مَدْرسة تلقَّوا فيها تربيةً ليست حقوقيةً، بل تربيةً روحيةً قبل كل شيء وفكريةً بالدرجة الثانية. وينبغي أنْ يكونوا قد تعوَّدوا فيها على حب الحقيقة.

ليس هناك من إمكانية لتلبية حاجة الحقيقة عند شَعبٍ لا يوجد فيها أناسٌ يحبُّون الحقيقةَ.

الترجمة عن الفرنسية: محمد علي عبد الجليل

*** *** ***


 

horizontal rule

̽ الجزء الأول من كتاب التجذُّر، يصدر قريبًا عن دار نشر معابر، ترجمة محمد علي عبد الجليل.

[1] وردَ في المنقول الإسلامي حديثٌ قدسي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي قال: "يقول الله: عبدي! مرضتُ فلم تعدْني. فيقول: كيف أعودكَ وأنتَ ربُّ العالمين؟ فيقول: أما علمْتَ أنه مرضَ عبدي فلانٌ فلو عدْتَه لوجدْتَـني عنده؟ عبدي! جعتُ فلم تطعمْني. فيقول: ربي كيف أطعمُكَ وأنتَ ربُّ العالمين؟ فيقول: أما علِمْتَ أنَّ عبدي فلانًا جاع فلو أطعمْـتَه لوجدْتَ ذلك عندي." (المترجِـم)

[2]  يبدو أنَّ خليفة المسلمين الثاني عمر بن الخطاب كان يعي أنَّ الكائن الإنساني أعلى من الجماعة حينما قال في إقامة الحد على مجموعة رجال قتلوا رجُـلاً غِيلةً [بالخديعة] (مع التحفظ على مسألة الإعدام): "واللهِ لو تمالأَ [تساعدَ وتشاوَرَ] عليه أهلُ صنعاء لقتلْـتُهم جميعًا." رواه مالكُ في "مُـوَطَّـئه" والشافعيُّ في "مُسنَده" وذكرَه البخاريُّ في "صحيحه" في "كتاب الديات". وقد جاء في القرآن: "مِن أجْـل ذلكَ كَتَـبْـنا على بني إِسرائيلَ أنه مَن قَتلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسادٍ في الأرضِ فكأنما قَتَلَ الناسَ جميعًا ومَن أحياها فكأنما أحيا الناسَ جميعًا." سورة المائدة، الآية 32. (المترجِـم)

[3] تحضُّ المنقولاتُ الروحيةُ، وخاصةً البوذية والإسلام، على الاعتدال والوسطية وعدم التطرف. فالبوذيةُ تقوم على أربعِ حقائقَ نبيلةٍ أو ساميةٍ وهي: [1] طبيعة المعاناة و[2] مصْدَر المعاناة و[3] إيقاف المعاناة و[4] الطريق المؤدي إلى إيقاف المعاناة؛ فرابع هذه الحقائق هو الطريق الوسط أو الدرب الوسط majjhimā paipadā، أو ما يسمَّى بالفرنسية: le juste milieu أو Sentier du Milieu أو la voie moyenne (chemin du milieu) أو ما يدْعَى بالإنكليزية: Middle Path أو middle way أو happy medium. هذا الطريق الوسط يُدْعَى في البوذية الطريق المثمَّن، لأنه يقوم على ثمانِ شُعَبُ هي: الفهم السوي، التفكير السوي، القول السوي، الفعل السوي، الرزق السوي، الجهد السوي، الانتباه السوي، التركيز السوي. (عن كتاب L'enseignement du Bouddha, d'après les textes les plus anciens [تعاليم البوذا حسب النصوص القديمة]، المؤلِّف: والـﭙولا راهولا Walpola Rahula، منشورات سُوْي Seuil، سلسلة ساجيس Sagesses، ص 35 وص 68). كما أنَّ الإسلامَ يوصَف بأنه دين الوسط، حيث لا إفراطَ [تجاوُز الحدِّ إيجابًا أو تجاوُز الحد من جانب الكمال، بحسب المعجم المدرسي] ولا تفريطَ [تجاوُز الحد سلبًا أو تجاوُز الحد من جانب النقصان والتقصير]، وحيث "لاوَكْـسَ [بخْس ونقص] ولا شططَ [جَور]". (حديث رواه مسلم والنسائي) والوسطيَّةُ التي تُمثِّـلُ الاعتدالَ والاستقامةَ على صِراطِ strata اللهِ هي من خصائص الأُمَّة الإسلامية: "وكذلكَ جَعَـلْناكم أُمَّـةً وَسَطًا لتكُونوا شُهَداءَ على النَّاسِ ويكُونَ الرَّسولُ عليكم شهيدًا." (سورة البقرة، الآية 143). "ولا تجعلْ يدَكَ مَغْلولَةً إلى عُنُقِكَ ولا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَـتَـقْعُـدَ مَـلُومًا مَحْسُورًا." (الإسراء، 29) "والَّذينَ إذا أَنْـفَـقوا لم يُسْرِفُوا ولم يَـقْـتُـروا وكان بيْنَ ذلكَ قَوَامًا." (الفرقان، 67) فـ"خيرُ الأمورِ الوسطُ وحُبُّ التناهي شطط". والطريق الوسط في الإسلام هو في الحقيقة الصراط المستقيم (كلمة "صِراط" من اللاتينية strata أيْ الطريق المشقوقة المستقيمة). وفي المسيحية، يرمز الصليبُ، من بين رموز أخرى، إلى تقاطع الروح والمادة، أي إلى التوازن بين الروحي والمادي. وبالتالي، ينبغي لحامل الصليب ألاَّ يكون متطرِّفًا باتجاه الروحانية ولا متطرِّفًا باتجاه المادية، بل هو وسط بينهما؛ وبذلك يكون ممن اتَّـبعَ صراطَ من أنعمَ اللهُ عليهم، غيرِ المغضوبِ عليهم (الماديين فقط) ولا الضالين (الروحانيين فقط). (المترجِـم)

[4] "ﭭـِرسينْجيتوريكس" Vercingétorix: قائد وابن زعيم غالي، ولد حوالي سنة 80 ق. م. في آرﭭيرني Arverne وتوفي في روما سنة 46 ق. م. قاد تحالفًا من الشعوب الغال ضد يوليوس قيصر عام 52 ق. م. وبعد أنْ هزَم الرومانَ في جيرغويا Gergovie، حوصر في أليزيا Alésia واستسلَم وأُعدِمَ في روما. (المترجِـم)

[5] وُلِدَتْ جان دارك Jeanne d'Arc عام 1412 م في مدينة دومريمي Domrémy-la-Pucelle شمال شرق فرنسا، وتوفيت عام 1431م في التاسعة عشرة من عمرها في مدينة "روان" Rouen في إقليم نورماندي شمال البلاد بإعدامها حرقًا من قبل قوات الاحتلال التي اتَّهمَتْها بالهرطقة. تُعتبَر أبرزَ وجوه مقاومة الاحتلال الإنكليزي أثناء حرب المائة عام بين بريطانيا وفرنسا (1337-1453). وترجع شهرتها إلى نجاحها في رفع حصار قوات الاحتلال الإنكليزية عن مدينة "أورليان" Orléans الفرنسية عام 1429؛ حيث استطاعت لقاءَ الملك الفرنسي "شارل السابع" بمدينة "شينون" Chinon وأقنعته بالمهمة العسكرية التي نذرتْ نفسها لها وهي تخليص أورليان[ـز] من براثن الإنكليز. وتقدمت التي كانت تبلغ حينها 13 عامًا على رأس جيش صغير وتمكنت من الانتصار في معركة في مدينة "ﭙـاتاي" Patay وطرد جيش الاحتلال من أورليان. وعُرِفَتْ جان دارك منذ ذلك الحين باسم "لاﭙوسيل دورليانز" La Pucelle d’Orléans أيْ عذراء أورليان. قاومَتْ المستعمرَ الإنكليزي، لكنها أخفقت في "كومـﭙـيين" Compiègne قبل أن تصل إلى باريس، وسقطت في 23 مايو 1430 في أيدي "البورغينيين" Bourguignons (نسبة إلى جنود دوق بورغوني المعارض لحزب الأرمانياك Les Armagnacs)، وتم بيعها إلى الإنكليز بعد أن ألصقوا بها تهمةَ السِّحر، فقُـدِّمَـتْ إلى محكمة كنَسية ترأَّسها الأسقفُ "ﭙـيير كوشون" Pierre Cauchon، أسقف مدينة بوﭭـيه Beauvais، واعتُبرت بموجب قرار المحكمة ملحدةً ومرتدةً، مما أدَّى إلى حرقها حيةً في 30 مايو 1431. أقيمت محكمةٌ خاصة لتكريم جان دارك عام 1450م أيْ بعد 19 عام من إحراقها حيةً، ثم في عام 1909 طُوِّبَـتْ كمسيحية، أيْ بعد 450 عام من موتها. وفي عام 1920 أُطلِقَ عليها لقب القديسة جان دارك، أيْ بعد 461 عام من موتها. تم تناول سيرتَها أكثرُ من فيلم منها فيلم بعنوان: "آلام جان دارك" الذي يُـعَـدُّ من أشهر 100 فيلم في السينما العالمية. (المترجِـم، عن موسوعة ويكيبيديا)

[6] أنَّـام Annam أو Annan: اسم أُطلِق على ﭭييتنام خلال الاستعمار الفرنسي؛ وتعني الكلمة: الجنوب الهادي أو السِّلْمي، وهي مشتقة من An وتعني: السلام وNam أو Nan وتعني: الجنوب. وكانت التسمية تُطْـلَق بالأساس على الجزء الأوسط من ﭭييتنام. (المترجِـم)

[7] جورج غوينمر Georges Guynemer (1894 – 1917): بطل الطيران الحربي الفرنسي. حقق 54 انتصارًا. (المترجِـم)

[8] جان مرموز Jean Mermoz (1901 – 1936): طيار فرنسي. قام بأول نقل بريدي جوي مباشر بين أفريقيا وأمريكيا الجنوبية في عام 1930. (المترجِـم)

[9] تَـذْكُر سيمون ﭭـايل الفكرةَ نفسَها في مقالة: "حُب الله والبلاء"، حيث تقول: "عندما يُجرَح متعلِّـمٌ مبتدئٌ في مهنة أو يشكو من التعب، يقول العمال والفلاحون هذا القولَ الجميل: "إنها المهنة تدخل الجسدَ." عندما نعاني من ألم يمكننا أن نقول لأنفسنا حقًا أن الكون ونظام العالم وجَمال العالم وطاعة الخَلْق لله هي التي تدخل في جسدنا. عندئذٍ، كيف لنا ألاَّ نبارك المحبةَ التي أرسلَتْ لنا هذه الهبةَ مقدِّمين لها أسمى آيات العرفان؟" (سيمون ﭭـايل، مختارات، الخبرة مع الله : حب الله والبلاء، ص 190، ترجمة محمد علي عبد الجليل، منشورات دار معابر للنشر، الطبعة الأولى، 2009). (المترجِـم)

[10]  الملَكة faculté هي استعداد ذهني أو وجداني لتناول أعمال معيَّنة بحذق ومهارة، كالملَكة الفنية والملَكة اللغوية (المعجم المدرسي، وزارة التربية السورية). والملَكة هي صفة راسخة في النفس (المنجد في اللغة والأعلام، دار المشرق، بيروت). فالملَكة هي إذًا قوة أو قدرة أو إمكانية نفسية وخاصية من خواص النفس وموهبة ووظيفة نفسية. (المترجِـم)

[11] أندريه جِيْد André Gide (1869 – 1951): كاتب وروائي فرنسي وُلِدَ في باريس لعائلة بورجوازية بروتستانتية وتلقَّى تربيةً متزمِّتة. لم تكن دراسته المدرسية منتظمةً، فعاش طفولة مشوشة. ما إن بلغ المراهقة حتى استهوته اللقاءاتُ الأدبية فأخذ يرتاد الصالوناتِ الأدبيةَ والأنديةَ الشعريةَ. وفي العام 1891 م نشر دفاتر أندريه ﭭـالتر Les Cahiers d'André Walter التي يحكي فيها في الوقت نفسه شعوره بالكآبة وطموحاته المستقبلية. لم يكن جيد يحتاج إلى البحث عن عمل أو ممارسة مهنة فقد كان يملك ثروةً سمحَتْ له بأنْ يعيشَ حياةً مرفَّهة. فانكبَّ على القراءة والمطالعة دون الاهتمام بشؤون حياته المادية. سافر إلى الجزائر سنة 1893 م وهناك اكتشف هويتَه المِثْـلية الجنسية عن طريق علاقات جنسية مع مراهقين جزائريين. وأثناء رحلة ثانية إلى الجزائر تعرَّف إلى الكاتب الإيرلندي أوسكار وايلد Oscar Wilde واقتنع نهائيًا بأنه ينبغي أن يعيش "حسب طبيعته". إلاَّ أنه ظلَّ يفرّق بين اللذة والحبّ إذْ تزوج قربيةً له في عام 1895 م. أغرته الشيوعيةَ مدّةً من الزمن، إلاَّ أنَّ رحلته إلى الاتحاد السوفيتي سنة 1936 م أقنعته بلاإنسانية النظام الستاليني. فالتزم بعد ذلك ضد الاستعمار. حصل على جائزة نوبل للأدب سنة 1947 م. من أعماله: Les Nourritures terrestres [أطعمة الأرض (أو ثمار الأرض أو قوت الأرض)] (وهي قصيدة نثرية طويلة يُعبِّر فيها عن شهوانية حسية مشوبة باندفاع وتواصل مع الطبيعة)، رواية Les Caves du Vatican [أقبية الفاتيكان]، La Symphonie pastorale [السمفونية الرعوية]، L'École des femmes [مَدْرسة النساء]، Œdipe [أوديب]، Corydon [كوريدون] (عن المثلية الجنسية)، Les Faux-monnayeurs [مُزَوِّرو العملة] (عن الكتابة والمثلية)،Si le Grain ne meurt  [إذا كانت الحبة لا تموت] (سيرته الذاتية L'Immoraliste [اللاَّأخلاقي]، La Porte étroite [الباب الضيِّق]. (المترجِـم)

[12] الجمهورية الفرنسية الثالثة La Troisième République هي نظام الحكم في فرنسا بين عامَي 1870 و1940. حيث أُعلِنَتْ الجمهوريةُ الفرنسية الثالثة في أعقاب الهزيمة الساحقة التي مُنِيَ بها الإمبراطور نابليون الثالث على يد الجيوش الألمانية التي استولت على إقليم الإلزاس واللورين. استمرت الجمهورية الفرنسية الثالثة من عام 1870 حتى عام 1940 عندما سقطَتْ باريسُ في قبضة الاحتلال الألماني النازي ونُصِّبَ الماريشال [المشير] فيليب ﭙـيتان Philippe Pétain رئيسًا للحكومة الفرنسية الجديدة الموالية لألمانيا والتي عُرِفت باسم حكومة ﭭـيشي Gouvernement de Vichy. اتسمت سنوات الجمهورية الفرنسية الثالثة بالاضطرابات السياسية المستمرة وتعاقب الحكومات. (المترجِـم)

[13] جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau (1712 - 1778): كاتب وفيلسوف وموسيقي سويسري، كان أهم كاتب في عصر الأنوار. ساعدت فلسفته في تشكيل الأحداث السياسية التي أدت إلى قيام الثورة الفرنسية. حيث أثَّرَت أعمالُه في التعليم والأدب والسياسة. قام روسو بانتقاد المجتمع في رسائل عديدة. ففي رسالته تحت عنوان: بحث في منشأ وأسس عدم المساواة (1755 م)، هاجم المجتمع والملكية الخاصة باعتبارهما من أسباب الظلم وعدم المساواة. وفي كتابه العقد الاجتماعي Du contrat social ou Principes du droit politique  (1762 م)، وهو علامة بارزة في تاريخ العلوم السياسية، قام روسو بطرح آرائه فيما يتعلق بالحكم وحقوق المواطنين. إذْ يرى أن السلطة الشرعية الوحيدة هي التي تُعبِّر عن الإرادة العامة للشعب. (المترجِـم)

[14] السُّـمُّ الناقع هو السم شديد القتل. يقال: نقعَ السمُّ في أنياب الحية نُقُوعًا، أيْ: اجتمعَ. فهو ناقِع، أيْ: شديدٌ قاتِل. أمَّـا السُّـم الزُّعاف [الذُّعاف] فهو سريع القتل. (المترجِـم)

[15] الشغل بالقِطْعة هو العمل المأجور بحسب عدد القِطَع التي يُنتِجها العامل. (المترجِـم)

[16] جاك ماريتان Jacques Maritain (1882 – 1973 م): فيلسوف فرنسي وأحد رموز التُّوْمانية [التُّومَوية] الجديدة néo-thomisme المتمثلة في إحياء النظام الفلسفي الذي طوَّره في القرون الوسطى عالِمُ اللاهوت القديس توما الأكويني داعيًا إلى الربط بين الإيمان والأسباب. تتناولُ الكثيرُ من أعمال ماريتان نظريةَ المعرفـة [الإبيستيمولوجيا]. وُلِدَ ماريتانُ في باريس وتحول من البروتستانتية إلى الكاثوليكية الرومانية في عام 1906 م. تلقَّى تعليمَه في المعهد الكاثوليكي في الفترة من عام 1914 م إلى 1939 م. وكان سفيرًا لفرنسا في الفاتيكان في الفترة من عام 1945 م إلى عام 1948 م. من مؤلَّفات ماريتان الرئيسية: الفن والشعر (1935 م)، المذهب البشري المتكامل (1936 م)، مدى الأسباب (1948 م)، الرجل والدولة (1951 م) (عن موسوعة معلومات ثقافية (http://culture.bdr130.net) (المترجِـم)

[17] غرينغوار Gringoire: مجلَّة أسبوعية فرنسية سياسية وأدبية أسَّسَها عام 1928 الصحفيُّ والسياسيُّ والكاتبُ هوراس دو كاربوتشيا Horace de Carbuccia بالتعاون مع كلٍّ من الكاتب والصحفي جورج سواريز Georges Suarez والصحفي والروائي جوزيف كيسيل Joseph Kessel. (المترجِـم)

[18] اللاَّسُلْطَوِية [الأناركية] anarchism (مشتقة من اليونانية وتعني: بدون حاكم أو ملِك أو رئيس): هي اتِّجاه سياسي يقوم على مبادئ اللاسلطوية التي تهدف إلى إزالة سلطة الدولة المركزية، لتعتمد في تنظيم أمورها على خدمات المتطوعين من كافة أعضاء المجتمعات. كما يمكن أن تشير هذه الكلمة إلى مفهوم اجتماعي، فهي تشير إلى حركة اجتماعية تحاول إلغاءَ أي مؤسسة سلطوية authoritarian institutions وبخاصةٍ الدولة، أيْ: الحكومة. يرفض اللاسلطويون ما يصفه بهم بعضُ المنظرين من أنَّ اللاسلطويةَ مرادفةٌ للفوضى أو الشواش Chaos، للعدمية أو اللانظامية anomie. (المترجِـم)

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود