عن ثورة "بطيئة" و"ثوَّارها" المتعجِّلين

 

ثائر ديب

 

ثمَّة روايتان سائدتان عن انطلاقة الثورة السورية ومرحلتها الأولى، لكلٍّ منهما فريقها، وكلتاهما مبسَّطتان ومتهافتان إذا ما نُظِرَ إلى الوقائع بتدقيقٍ في ضوء الخبرات التي كرَّستها تجارب الشعوب.

تقول الرواية الأولى، باختصار، إنَّ "الشعب السوري" (بأل التعريف) نزل إلى الشوارع أعزل مسالمًا، بمطالب بسيطة محقَّة تتعلَّق بالكرامة والحرية فجُوبه بالرصاص من نظام معروفٍ أصلاً أنَّه لا يعنو للسلمية، ما اضطر هذا "الشعب" إلى التسلُّح وطلب العون وحتى إلى الطائفية، وإنَّ من لم يشاركوا ذلك "الشعب" ثورته وطريقته في خوضها - سواء كانوا مدنًا بأكملها أو مذاهب وأديان برمَّتها أو غالبية ساحقة من الجيش - ليسوا سوى أقلية باتت بحكم العدوّ.

أمَّا موجز الرواية الثانية، فهو أنَّ سوريا في الذروة من مخطط تآمري يبتغي تدمير سوريا المقاوِمة التي تتطابق مع نظامها كلَّ التطابق، ليبقى كلُّ ما عدا ذلك ممن يُخالف النظام أدنى مخالفة مجرد عملاء متورطين وبضع مواضع للغدر والخيانة.

تختفي في الرواية الشعبوية الأولى، بالرغم من عدلها الظاهري، تباينات الشعب السوري وآثارها، كما تختفي أدوار النُّخب والبُنى السياسية الفاعلة في الانتفاضة وأخطاؤها. يختفي، مثلاً، ما كان من أثرٍ لجماعة كالتي أدارت صفحة "الثورة السورية ضدَّ بشار الأسد"، ويختفي دور "الجزيرة" و"العربية"، وعواقب الحيلولة دون وحدة المعارضة السورية في لحظةٍ معيَّنة كالتي سحب فيها برهان غليون توقيعه على اتفاق القاهرة، وسذاجة وانتفاخ المطالبة بتغيير النظام عبر إسقاطه في تلك اللحظة من توازن القوى، وسوء المطابقة بين ما حدث في تونس ومصر وما يجب أن يحدث في سوريا، وصولاً إلى اندفاع كثير من الشباب وراء الرغبة في محاكاة أمثلة كمثالي وائل غنيم وتوكّل كرمان، بقَدْر قليل من الخبرة والمعرفة، وقدر زائد وغير موضوعي من الثقة بالنفس، ومن دون توقُّفٍ نقديٍّ أمام هذين المثالين يتعدَّى الانبهار الذي يصنعه الإعلام.

في الرواية السلطوية الثانية، يبدأ التاريخ كلُّه من لحظة "المؤامرة"، أو يتحوَّل برمَّته إلى "مؤامرة" قديمة تكشَّفت الآن. فلا استبداد ولا فساد، ولا امتناع عن كلِّ اصلاح عدا ما تقتضيه النيوليبرالية المُفَصَّلة على قَدِّ نظامٍ متصلِّب يطلب الأبدية من دون أن يجرؤ على أي تطوير جدِّي. وكذلك، لا قمع مخالفًا لكلِّ شرعات السماء والأرض، ولا انتهاك لكرامات الناس وحقوقهم بأنانية لا يكاد يكون لها مثيل، ولا صداقات حميمة حتى البارحة مع رؤوس المؤامرة الإقليميين والدوليين.

هكذا، تقوم الروايتان على نوع من التبسيط الشديد، المألوف في الصراعات الحادَّة، حيث تجري شيطنة الخصم باستخدام منطق الثنائيات الذي يضع كلَّ الخير والطهارة والبراءة في طرف، فلا يبقى في الطرف الآخر سوى الشرِّ والنجاسة والإجرام. غير أنَّ الأسوأ والأخطر هو تغييب الروايتين كلَّ إمكانيةٍ لفهمٍ عقلاني وعملي لجوهر ما جرى - وهو حدث مهول بحجم ثورة - أو فهم ظروفه وتسلسل مجرياته وبنيته وسياساته وعثراته. وإذا ما كان مفهومًا تمسُّك الأنظمة بمثل هذا المنطق الذي يساعدها في الحفاظ على بقائها، شأنه شأن كلِّ منطق يحجب الواقع، فإن الغريب هو أن يتمسَّك به الطرف "الثوري"، مع أنه يحول بتعميته دون تبيُّن ما ينبغي فعله لتطوير الثورة وإزالة عثراتها، ويُلحق بها أفدح الضرر.

لا يكاد يشكُّ أحدٌ في أنَّ انطلاقة الثورة السورية كانت من ترداد الزلزال الذي بدأ في تونس وراح ينتشر. لكنَّ جوهر الأمر يبقى ما ساعد عليه هذا الترداد من تكشُّف أنَّ سوريا لم يَعُد ممكنًا أن تُحكم كما كانت تُحكَم. فثمَّة من يعبِّر عن ذلك بأفعال على الأرض تطالب بالتغيير، وثمَّة عجز عن إبقاء الوضع كما كان عليه بالوسائل المعهودة، مع أنها لم تكن قطٍّ بالوسائل الناعمة. وهذا ما تدعوه أدبيات الثورات بالوضع الثوري الذي تتبدل فيه علاقة الحاكم والمحكوم، تلك العلاقة التي يُعَدُّ حساب توازن القوى بين طرفيها وتطوره حسابًا لحياة الثورة وموتها، وهذا ما يجعله روايتها الفعلية بعيدًا عن أيِّ رواية زائفة أو ناقصة.

هكذا تغدو مسألةَ حياة أو موت معرفةُ أعداد المشاركين في الثورة وفئاتهم وانتماءاتهم وسياساتهم ودرجات تنظيمهم ومقدار توسُّعهم. ويغدو مسألة حياة أو موت تجاهل الظرف الذي اندفعوا فيه فجأةً: بعد ما يقارب نصف قرن من القمع والصمت (لم يكد يقطعه سوى مثال رديء هو صراع "الإخوان" مع السلطة في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات)؛ وبعد نصف قرن من غياب أيِّ مظهر من مظاهر المجتمع المدني (أحزاب، نقابات مستقلة، نوادي...)؛ وبعد نصف قرن من تحطيم متواصل لكلِّ معارضة بإلقائها في السجون، لا تخرج منها إلا منحلَّة المفاصل مكسورة الظهر متقدِّمةً في السنِّ؛ وبعد نصف قرن من التحامٍ متنامٍ للنظام والجيش في قمته العليا وعدد غير قليل من وحداته الأشدِّ تجهيزًا وتدريبًا؛ وفي بلد محدَّد اسمه سوريا، له موقعه الجغرافي السياسي بالغ الحساسية، بدءًا بجيرانه المميِّزين وصولاً إلى القوى الإقليمية والدولية الأبعد التي لا يمكن أن تغضَّ الطرف عن شكل ما يجري ومضمونه.

كلُّ ذلك وسواه الكثير، خصوصًا ما تعلَّق ببنية البلد وسِمات النظام، كان يُفْتَرَض به أن يحدَّ من مطامح الحركة الشعبية في تلك الجولة الأولى، ويوقف مطالبها عند مستوى لعلَّه لا يتجاوز ما كانت عليه مصر في 2004 عندما بدأت حركة «كفاية» نشاطها، استعدادًا لجولات أخرى. بل إن بعض التظاهرات عبَّرت عن ذلك صراحةً باكتفائها بإسقاط المحافظ مثلاً، لكن قمع النظام الرهيب و"تعجُّل" من نصَّبوا أنفسهم قادةً للحراك ومنظِّرين له وأجندات "الحلفاء"، سرعان ما دفعت باتجاه المطالبة بإسقاط النظام، وباتجاه العنف والسلاح.

على هذا النحو، أُخرِسَ المنطق الذي يرى أنَّ للثورة السياسية الرامية إلى تغيير النظام في سوريا من الدكتاتورية إلى الديموقراطية ميزاتها الخاصة المتأتية من البنية التي سبقت الإشارة إليها، وأنها ليست ضربة لازب واحدةً، بل سيرورة تتحقق بوضعِ الشارعِ ومقاومتِه المدنية قَدَمَ النظام على سكَّة التغيير ودفعه فيها، متصاعدةً شيئًا فشيئًا وسط احتمالات الفشل الذي قد تنتهي إليه بل وتختاره مرَّات.

وعلى هذا النحو بات أمرًا يسيرًا كشربة ماء تخوين المنطق الذي يدعو إلى مزيد من العمل الجدِّي المتنامي البعيد عن العنف، والحفاظ على الحراك الشعبي المدني وتطويره. وهو تخوينٌ كثيرًا ما صدر عن هوَّاة وقنَّاصي فرص ومعارضين تجاوز يأسهم المتعجِّل حدَّ حرق مراحل الانتفاضة إلى دعوة ضواري العالم إلى التدخُّل وحسم الأمور لمصلحة ما بات لهم من "جيوش حرَّة" وحلفاء من "المجاهدين"، ليسوا سوى أشد القوى تكفيرًا وإرهابًا وظلامية، بعدما غدوا على أيديهم جزءًا جوهريًا من الثورة، ما أطاح، إلى جانب قمع النظام، بالثورة الحقَّة وحراكها، إنْ لم يكن بالبلد برمَّته.

والحال، أننا لا نجد إلى اليوم تقويمًا علميًا، ولو بسيطًا، لحصيلة المرحلة القصيرة المدنية السلمية، أو التي غلبت عليها السلمية مقتصرةً على التظاهر من بين أشكال النضال المدني الأساسية. وعلى العكس، فإنَّ ما نجده هو تجريمها بوصفها عقيمة، وإعلاء شأن السلاح الذي لا يزال ثمَّة من يؤمن بنجاعته في إسقاط النظام.

عادةً ما يُقَيَّم تقدُّمُ حراكٍ شعبي رامٍ إلى تغيير نظام بدرجة تعميقه أزمة ذلك النظام السياسية، الأمر الذي يُقاس من خلال مؤشرات عدَّة، أهمها: تركُّز أزمات المجتمع كلَّها في المستوى السياسي، مستوى السلطة، بحيث يبدو النظام مسؤولاً مباشرةً عن كلِّ ما هو سيئ اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا ونفسيًا وحتى عاطفيًا وعائليًا؛ وتنامي اعتراف النظام بأنَّ ما يجري سياسي، من خلال الدعوة إلى الحوار أو التفاوض وتغييره قوانين وحكومات ودساتير وبرلمانات، وتحوِّل مثل هذه التغييرات شيئًا فشيئًا، على وقع انتفاضة الشارع، من مجرَّد تغييرات شكليَّة زائفة بقصد الانحناء أمام العاصفة إلى لحظة تحوُّلٍ حاسمة.

ما أعتقده هو أنَّ البدايات الأولى البسيطة لمثل هذه السيرورة كانت قد بدأت في سوريا في العام 2011، وعلى وقع التظاهر السلمي وحده (أي بلا إضرابات ولا عصيان مدني ولا انتفاضة مدنية أو عسكرية) قبل أن يطيح بها السلاح والمتعجِّلون. ويكفي لإدراك ذلك أن نقارن بين الخطاب الرئاسي الأول والخطابين اللذين تلياه وأُعلن فيهما إلغاء قانون الطوارئ والمادة 8 من الدستور، ثم التغييرات الوزارية المتكررة وتغيير الدستور... إلخ. ولا تُلغي شكلية هذه التغييرات، ولا استمرار ترافقها مع الكلام على مؤامرة وعصابات، صحَّة ما أقول. كان الأمر بحاجة إلى استمرار الحراك المدني السلمي بأشكال متجدِّدة تُراعي واقع القتل الوحشي، وإلى إقدام المعارضة على إجراءات، من بينها مفاوضات مع النظام وحلفائه تحمي ذلك الحراك. كان الأمر بحاجة إلى منطق يتقبَّل الإخفاق في جولة أو جولات. غير أنَّ ذلك كلَّه توقَّف، وتبدَّد الحراك الشعبي المباغت الفتيُّ بين قمع النظام الرهيب و"أشاوس" تنطَّعوا لقيادته وهدايته في غير اتجاه و"حلفاء" للثورة هم أعدى أعداء كلِّ ثورة في هذه الدنيا، ليتبيَّن من جديد، وأمام الخراب وسيل الدم السوري النازف منذ أربع سنوات، وفي غمرة الزعيق "الثورجي" المُصِمِّ، أن الثورة في سوريا، بالتعريف، هي عملية تغيير وطني ديموقراطي أداتها النضال المدني السلمي المُبدع المتصاعد من ذلك النوع الذي خطَّ بدايته كثيرٌ من الشباب في الأشهر الأولى من العام 2011، ولم يُترَك لهم أن يُتمُّوه، وبات عليهم أن يستأنفوه في شروط أسوأ بمئات المرات.

*** *** ***

السفير

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني