روجر بنروز والذكاء الاصطناعي

معين رومية

 

هل يمكن لآلة أن تفكر؟ وهل عقولنا ليست سوى "حواسيب مصنوعة من اللحم"؟ يحاول أنصار الذكاء الاصطناعي "القوي" إقناعنا بأن المسألة لن تعدو قرنًا أو قرنين، وربما أقل، حتى تقوم الحواسيب بأعمال العقل كافة. ومن الأمور المسلم بها عندهم أن الشعور بمقوماته كافة سيظهر تلقائيًا حين يصبح الإنسان الآلي الإلكتروني معقدًا إلى الدرجة الكافية في سلوكه الخوارزمي.

ردًا على ذلك يقدم روجر بنروز - أستاذ الرياضيات بلقب روز بول في جامعة اكسفورد - كتابه ليشكِّل أقوى هجوم حتى الآن بحق الذكاء الاصطناعي القوي وهو ينضم بذلك إلى تيار فلاسفة العلم الذين يرفضون الدعاوى السابقة ويرون أنه إذا كان استخدام الكهرباء في نقل الإشارات ضمن الحاسوب الإلكتروني قد جعله أسرع وأكثر قدرة على معالجة مسائل فائقة التعقيد، فإن هذا لا يعني أنه أصبح" أوعى" بما يفعله من المعداد الآلي.

صحيح أن الحواسيب تلاعب أبطال الشطرنج وتهزمهم ولكن هل تفهم وتعي ماهية اللعب نفسه؟

ينطلق بنروز من مفهوم الخوارزمية - وهي تعني سلسلة منتهية من العمليات المحددة بدقة لحل مسألة ما، وقد أتت الكلمة نسبة إلى العالم محمد بن موسى الخوارزمي لكن الصياغة الدقيقة لها ترجع إلى هذا القرن وإلى عمل الرياضي الإنكليزي ومفكك الشيفرات آلان تورنينغ الذي وضع أساس علم الحاسوب عندما صمم آلة رياضية خيالية عرفت باسم آلة تورنينغ وذلك ليعالج مسألة واسعة الشمول تنص على ما يلي: هل يوجد نهج خوارزمي عام أو نهج آلي عام لحل المسائل الرياضية؟

بعد ذلك بفترة ليست طويلة بُني أول حاسوب والذي يمكن اعتباره آلة تورنينغ عامة، أي جهاز يمكنه تنفيذ أي عملية مهما كانت بشرط أن تكون واضحة وآلية - أي أن تكون موضوعة في شكل خوارزمية. وعلى هذا الأساس يتم التمييز بين عتاد الحاسوب (الدارات والترانزستورات والأسلاك وأقراص التخزين...) والبرامج المختلفة التي تعمل عليه (وهي خوارزميات مشفرة بطريقة مناسبة بحيث يستطيع العتاد تنفيذها). وباستخدام مبدأ التكافؤ بين الآلات الحاسوبية الفيزيائية الذي اكتشفه تورنينغ أيضًا يقيم أنصار الذكاء الاصطناعي القوي فلسفتهم على التماثل بين عتاد الحاسوب/الدماغ كما بين البرمجيات/العقل.

لكن بنروز يثير الكثير من الاعتراضات على ذلك. فمن الناحية الفيزيائية إن وحدة مكونات العتاد والدماغ الحي على المستوى الذري - أي أنها في النهاية مكونة من الجسميات الذرية وما دون الذرية نفسها (إلكترونات، بروتونات،...) – لا تعني وحدة المركَّبات لأن ما يميز الكائن هو النمط الذي نظمت فيه مكوناته وليس فردية تلك المكونات.

ومن ناحية أخرى، صحيح أن ثمة شبه بين المشابك العصبية في الدماغ والبوابات المنطقية في الحاسوب مما يضفي على طريقة عمل الجملة العصبية مظهر آلة حاسبة رقمية لكن علينا ألا ننسى أن ثمة فروقًا جوهرية بينهما. فعملية قَدْح (تنشيط) العصبون لها جانب احتمالي إذ لا يؤدي المحرِّض نفسه إلى النتيجة ذاتها دائمًا، كما أن أداء الدماغ ليس له التوقيت المضبوط تمامًا الذي يميز تيارات الحاسب الإلكتروني. لكن الفرق الأهم يتعلق بظاهرة تعرف باسم مرونة الدماغ. فالبيولوجيا الحديثة ترفض النظر إلى الارتباطات العصبية عبر العقد المشبكية على أنها ثابتة بل هي تتغير طيلة الوقت على خلاف الارتباطات الثابتة في الدارات الإلكترونية.

أما التعويل على الرأي القائل إن تطور الحوسبة والحواسيب المتوازية التي تمتلك أكثر من معالج وتنفذ عدَّة أعمال مستقلة في آن واحد ينطوي على مفتاح الحل لمسألة بناء آلة لها قدرات دماغ الإنسان فهو مردود لسببين: أولًا، لأنه لا يوجد من حيث المبدأ فرق بين الحاسوب المتوازي والحاسوب التسلسلي فكلاهما في الحقيقة آلات تورنينغ.

وثانيًا، لأن إحدى الخواص المميزة للتفكير الواعي هي أحاديته فنحن نعرف من خلال تجربتنا أنه ثمة على الدوام شعور واحد قد يكون واعيًا على نحو مبهم بعدة أشياء لكنه يتركز في أية لحظة على شيء واحد بعينه.

يعترض بنروز أيضًا على المماثلة بين النشاط العقلي والخوارزميات فيرى أولًا أن التنفيذ الناجح لخوارزمية لا يعني بذاته أي فهم لمضمونها، بمعنى أنه ليس ثمة فهم أصيل عند الحاسوب للعمليات التي ينجزها. وثانيًا، ثمة جانب أساسي غير خوارزمي في سيرورة النشاط العقلي يتعلق بتكوين الأحكام، فالعلامة المميزة للشعور، برأي المؤلف، هي إصدار أحكام لا خوارزمية وهذا شيء ليس لدى المشتغلين بالذكاء الاصطناعي تصور عن كيفية برمجته على الحاسوب. إن التأمل الشعوري يمكن أن يجعلنا قادرين أحيانًا على توكيد صحة قضية من القضايا بطريقة لا وجود لخوارزمية تستطيع القيام بها. فالخوارزميات بحد ذاتها لا تؤكد أية حقيقة أبدًا، إذ من السهل أن نجعلها لا تنتج سوى الكذب مثلما هو من السهل أن نجعلها تنتج حقائق.

الكتاب عبر صفحاته التي تجاوزت الخمسمائة يضم الكثير من المعلومات من فروع علمية مختلفة تطرق إليها المؤلف بعمق ليثبت وجهة نظره التي ترى أن العقل أبعد من أن يكون مجرد مجموعة من الأسلاك والدارات الصغيرة. وضد سيادة التهليل والحماس المفرطين يبدو المؤلف مثل ذلك الطفل الشهير يتجرأ على التصريح بأن أباطرة تيار الذكاء الاصطناعي "القوي" لا يرتدون ثيابًا!

عنوان الكتاب: العقل والحاسوب وقوانين الفيزياء
ترجمة: محمد وائل أتاسي، د. بسام المعصراني
الناشر: دار طلاس، دمشق 1998.

*** *** ***

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني