english arabic

 الحياة الإلهية

 

لقاء مع سوامي تشيدانندا

أجراه بِلْ إيلرز وسوزان إيلرز*

 

وُلِدَ سوامي تشيدانندا في جنوب الهند في العام 1916، ابنًا بكرًا لأسرة براهمِنية سُنِّية، واستلهم، وهو بعدُ فتى صغير، الأناشيدَ والقصصَ الواردة في الكتب المقدسة الهندوسية. إبان سني الجامعة أيقظتْ فيه حياةُ القديسين المعاصرين، أمثال شري راماكرشنا وسوامي فيفيكانندا ورامانا مهارشي وسوامي رامداس، وتعاليمُهم توقًا حارقًا إلى الحياة الروحية. في العام 1943 انضمَّ إلى أشرم سوامي شيفانندا، القديس والحكيم الذائع الصيت عالميًّا، مؤسِّس"جمعية الحياة الإلهية"، الذي كانت كتاباته الروحية الملتهبة قد جذبتْه منذ أمد طويل. كان أشرم شيفانندا، الذي كان آنذاك عبارة عن بضعة أبنية وحسب، يقع على ضفاف نهر الغانج على سفوح الهملايا، على مقربة من ريشِكيش في الهند. إبان هذه الفترة من حياته، قام سوامي تشيدانندا، في جملة نشاطات الأخرى، بإلقاء المحاضرات، والعناية بضيوف الأشرم، وخدمة المرضى، معبِّرًا عما تحوَّل إلى اهتمام بأحوال المجذومين نَذَرَ له حياتَه. في أواخر العام 1959 أرسله سوامي شيفانندا في جولة تعليمية عالمية دامت سنتين، وانتهى به الأمر إلى رئاسة "جمعية الحياة الإلهية" خلفًا لسوامي شيفانندا بعد وفاته في العام 1963. ومذ ذاك وحياة سوامي تشيدانندا عبارة عن سفر يكاد أن يكون دائمًا، في الهند وفي خارجها، من أجل قضية الغاية المركزية لـ"جمعية الحياة الإلهية": نشر المعرفة الروحية.

 

عندما هتف إلينا أندرو كوهين[1] من أوستراليا وسألنا إذا كان بمقدورنا أن نرتِّب لمقابلة مع سوامي تشيدانندا حول دور البتولية في الحياة الروحية كانت ردة فعلنا الأولى: "كيف سيجد سواميجي[2] الوقت لذلك أصلاً؟" غير أن ردة فعلنا الثانية كانت: إذا كان ثمة إنسان في العالم لديه فهمٌ عملي للبتولية فهو سواميجي؛ ولذلك لا بدَّ أن نسأله ذلك.

لذا عندما عاد سواميجي إلى الأشرم بعد ذلك بأيام قليلة ليقيم شعائر نافاراتري التي تدوم خمسة أيام، تسلَّم طلبَنا المكتوب. وفي تلك الليلة، بعد الـساتْسَنْغ [اجتماع مع معلِّم روحي]، توجَّه إليَّ وقال إنه، وإن يكن من المتعذر إيجاد وقت إبان الأيام القليلة التالية، فإن بوسعنا، إذا لم نكن نمانع تكبُّد شيء من المشقة، أن ننضمَّ إليه بعد أسبوعين بالقرب من دلهي. كان المكان نزلاً ريفيًّا جديدًا، طُلِبَ منه أن يقوم رسميًّا بافتتاحه ومباركته، ويمكننا أن نقضي فيه بعدئذٍ بضعة أيام من الراحة. وافقنا على الفور، وهكذا، حوالى نهاية تشرين الأول [العام 2000]، على مدى أربعة أيام كاملة، لم نحظَ بأوقات عفوية معه وحسب، بل تمكنَّا أيضًا من تسجيل خمس ساعات من الحوار حول موضوع دور الجنس والبتولية في الحياة الروحية.

كان يُفترَض في لقائنا أن يبدأ أواخر صبيحة اليوم الأول، لكن سواميجي كان مرهقًا؛ لذلك لم نحظَ برؤيته يومذاك إلا حين انضم إلينا في نزهة سيرًا عند الغسق. وبينما كنَّا نسير الهوينى على طول الطريق الريفي، صادفنا حارسًا يحرس بوابة. توقف سواميجي وانشغل معه في حديث بالهندية دام خمس عشرة دقيقة، لم نفهم معظمه، لكننا استنتجنا أنه كان يسأل عن أسرة الرجل وعن مسكنه. وعندما واصلنا السير وجدنا أن حياة أخرى تأثرت بذاك الذي مازال في قلبه راهبًا بسيطًا، غايتُه في الحياة أن يصنع أكبر قدر ممكن من الخير لأكبر عدد ممكن الناس.

عندما عدنا من نزهتنا وكنَّا نصعد الدرجات، استدار سواميجي نحونا وقال: "موضوع براهماتشاريا، أو التبتُّل، أو ضبط النفس، ليست له بالضرورة، في المجتمع الهندي، أية صلة مطلقًا بالحياة الروحية، أو الـسادهانا [المجاهدة الروحية]، أو بتحقيق الذات. إنه لا يُناقَش عادة، أو يوصى به، بغرض تعزيز الحياة الروحية وحسب." وبعد أن توقَّلنا الدرجات وانضممنا إليه في غرفته، استمر سواميجي في الكلام، واصفًا الحياة الاجتماعية الهندوسية النقلية وكيفية ارتباطها بموضوع براهماتشاريا والحياة الجنسية، بحيث نستطيع أن نفهم السياق الأوسع الذي يُنظَر فيه إلى براهماتشاريا في المنقول الهندوسي.

في الهند القديمة، كما شرح لنا، يُقدَّر عمر المرء بمائة عام، تُقسَم إلى أربعة أشواط: الشوط الأول كان شوط الطالب، أو شوط براهماتشاريا، حيث يُتوقَّع من الشباب أن يتوفروا على الدرس، ويعتنوا بصحة أجسامهم وسلامة بنائها، ويحضِّروا أنفسهم، بكافة السُّبل، لسنوات رشادهم المقبلة. وإبان هذا الشوط كان يُتوقَّع منهم أن يلتزموا التبتُّل الصارم.

الشوط الثاني كان شوط ربِّ الأسرة؛ وممارسة المَلَكَة الجنسية فيه كانت من قبيل التحصيل الحاصل، ويُعتَرَف بها كجزء مشروع من الحياة البشرية، إذ يُعتبَر الإنجاب بمثابة مسؤولية أساسية من مسؤوليات الأسرة لتكوين الجيل التالي. وتابع سواميجي: "بالطبع لم يكن المفروض في ممارستها أن تكون بغير قيود – وإلا فإنها تصير مَفْسَدة. لكنها كانت تتمتع بموافقة المجتمع كاملة."

وتابع سواميجي يشرح: "الشوط الثالث من أشواط الحياة كان شوط التقاعُد، حيث كان الزوجان يلقيان بأعباء كسب المعيشة على كاهل الأبناء ويسدِّدان عقلهما شطر الأمور الأسمى." وهاهنا يبدآن من جديد بممارسة برهماتشاريا كجزء من الـسادهانا.

"ثم، إبان الشوط الرابع، كان على المرء أن يكرِّس حياته بأسرها لله. كان المرء يصبح سنِّياسِن، أو راهبًا – وحينئذٍ، بالطبع، كان التزام التبتُّل يتم من تلقاء ذاته. مفهوم براهماتشاريا، إذن، كان جزءًا من المنقول الاجتماعي الهندي–الهندوسي وشطرًا منه، كما تريان. كان مفهوم براهماتشاريا، بالمعنى الأضيق، يعني التبتُّل التام؛ لكنه، بمعناه الأوسع، بما أنه يمكن أن ينطبق على حياة ربِّ الأسرة، كان يعني ضبط النفس، أي عدم الشطط في الوظيفة الجنسية وإخلاص المرء التام لشريكه."

ثم تناول حديثُنا دور الرياضات الروحية وكيفية مساعدتها على الارتقاء بالوعي بتنمية الميول العليا فينا. فقال سواميجي: "الغالبية الساحقة من البشر عبارة عن مجرَّد حيوانات بشرية. إنهم متجذِّرون تمامًا في الوعي الجسماني. لا يخطر ببالهم أنهم شيء آخر، شيء مختلف. وحتى وظيفتهم الذهنية غريزية. إنها برمَّتها ردة فعل على كلِّ ما يحدث لهم، وليست ممارسة قصدية مستقلة لملَكتهم الذهنية. ليس لديهم وقت يخصِّصونه لها. فمن اللحظة التي يستيقظون فيها تستغرقهم نشاطاتُهم اليومية."

 

وتابع: "والحياة الروحية برمَّتها إنما هي إزالة، أو اجتثاث، متدرِّج للحيوان في الداخل، وتصفية أو تطهير الطبيعة البشرية برمَّتها وتربيتها، بحيث تفقد حركتها في سائر الاتجاهات الأخرى، وتبدأ باتخاذ اتجاه شاقولي صاعد. وحالما تقوم الطبيعة البشرية بالتوجُّه نحو الأعلى، يبدأ المرء، في الوقت نفسه، بإيقاظ الإله الهاجع فيه، مستعينًا بكافة رياضاته الروحية. فإذا كان المرء يعلم أن السيرورة الروحية، أو الحياة الروحية، هي إزالة الحيوان، وتهذيب الإنسان وتوجيهه نحو الأعلى، وإيقاظ الإلهي وتفتيحه، إذ ذاك فإن الرياضات الروحية كافة، بما فيها الدور الذي يلعبه براهماتشاريا، تتخذ موضعها الصحيح."

بدا على سواميجي أنه استمتع بحديثنا الأول. فقد ابتسم وقال: "إذن يجب أن نشكر أندرو كوهين على هذا؛ إذ إنه، في النهاية، هو الذي يقف وراءه، هو الذي حرَّضه. غدًا سوف نبدأ في مناقشة الأسئلة واحدًا واحدًا."

كشفت حواراتُنا على مدى الأيام القليلة التالية جانبًا من جوانب سواميجي قلما يكون مرئيًّا. فعادة ما يرى فيه المرءُ ما يتوقع أن يجده في قديس – القداسة، اللطف، الفرح، الرعاية الدائمة للآخرين، جمال الحركة، وحضورًا يستحث الشعور اللطيف به في قلوب مَن يُتَّفَق لهم أن يصادفهم في طريقه. واللقاء التالي يُظهِر المادة التي يتكون منها فعلاً قوامُ القديس؛ وهو يساعد على استكمال الصورة.

***

 

سؤال: كانت للبتولية أو براهماتشاريا دومًا مكانة بارزة في الحياة الروحية؛ ونحن نعلم أن سوامي شيفانندا وأنت، كليكما، وافقتما على أهميتها. لماذا التبتُّل مهم، وما دوره في الحياة الروحية؟

سوامي تشيدانندا: إن واحدًا من أسباب أهميته هو أننا تسلَّمنا من موروثنا الروحي النظرةَ إلى البتولية بوصفها مطلوبًا أساسيًّا، شرطًا مسبقًا، للحياة الروحية. وهذا النظرة ما فتئت تلقى الاعتراف على مدى قرون عديدة جدًّا، تغيَّر إبانها المجتمع الهندي، وتمَّ استبعادُ العديد من المفاهيم القديمة الأخرى.

الهندوسي السوي كان دومًا تقدميًّا. فلم يتردد قط في التغيير إذا شعر بأن من شأن التغيير أن يعزِّز معرفته وأن يقوده في اتِّجاه أفضل. وبالتَّماس مع نظرات ومعرفة من مجتمعات أخرى، فقد جرت إعادةُ نظر في مفاهيمنا ونظراتنا القديمة. وعلى الرغم من ذلك، فإننا نجد أن مفهوم براهماتشاريا وقيامه بدور هام في الحياة الروحية قد استمر. لقد قاوم امتحان الزمن، وصار عريقًا. فلو لم يكن شيئًا ذا قيمة دائمة لتغيَّر هو الآخر؛ لكنه لم يتغيَّر. فكما كان يُنظَر إليه منذ آلاف سنين خَلَتْ، كذلك مازال يُنظَر إليه حتى اليوم بين المعلِّمين الروحيين والـغورو والـيوغانيين نظرتهم عينها إلى شيء ضروري وهام.

السبب الآخر الذي حدا بي دومًا إلى أن أكون مؤيِّدًا للتبتُّل هو أن الشخصيات الروحية الشامخة التي كان لها أثرٌ في قولبة حياتي منذ أن بدأت أعي نفسي – شخصيات من نحو راماكرشنا بارامَهَنْسا، سوامي فيفيكانندا، شري أوروبندو غهوش، كما وسوامي غوروديف شيفانندا نفسه – كانوا جميعهم أناسًا يحلفون بالبتولية. كانوا أناسًا قالوا إنها على غاية من الأهمية، ولا غنى عنها. وهكذا، بالطبع، بما أن الذين كانوا مصدر إلهامي في الحياة الروحية كانوا بهذه الصراحة والوضوح المطلق – لم يبدُ عليهم أنه قد ساورتْهم أية شكوك بهذا الخصوص – قلت لنفسي، طيب، هذا هو الصواب! وهكذا حَسِمَ الأمرُ عنِّي في مقاربتي للحياة الروحية.

براهماتشاريا، أو البتولية، سيرورةٌ عقلانية لصون طاقة ثمينة والحفاظ عليها، بحيث يمكن لها أن تُستعمَل في وظائف جوهرية للغاية لا غنى عنها. وإذا تمَّ صونُها على هذا النحو، فبالإمكان تحويلُها، مثلما أن الماء الملموس، الكثيف، يُحوَّل إلى بخار لطيف. عندئذٍ يمكن لها أن تجترح الأعاجيب. قد لا تكون في النهر قدرةٌ كبيرة في حدِّ ذاته. قد يكون في وسعك أن تجذِّف أو تسبح عبره في سهولة. لكنه إذا احتُجِزَ ماؤه ببناء سدٍّ يعترض مجراه، عندئذٍ يتصف بالقدرة – إذا جرى تقنينُها على النحو السليم – على تدوير توربينات ضخمة. كذلك فإن الشمس الساخنة، حتى في الصيف، لا تتسبب عادة في حدوث حريق، لكنك إذا ركَّزتَ أشعتها عِبْرَ عدسة، فإن تلك الأشعة سوف تحرق على الفور أيَّ شيء تُركَّز عليه. هذه ماهية البتولية في الواقع.

الآن، السؤال المهم هو التالي: ما هو أصل هذه الطاقة، منبعها؟ بعد أعوام وأعوام من النظرية والاكتشاف، توصَّل علماء الفيزياء الحديثون إلى نتيجة مفادها أن ما هو موجود في الطبيعة ليس مادة ملموسة أو صلبة بما هي ذلك؛ إنه طاقة، طاقة تملأ الكوسموس بأسره، الفضاء كلَّه.

فكما قال قدماؤنا، هذه الطاقة الكونية هي التي تمسك الأجرام السماوية في مساراتها؛ إنها جميعًا تظل على حركتها بفضل هذه الطاقة الغامضة، غير القابلة للتفسير وللوصف وللتخيُّل. وقد كانوا يعتبرون تلك الطاقة شيئًا إلهيًّا، شيئًا لا بداية له ولا نهاية. إنها أبدية وتتخلَّل كلَّ مكان. ليس ثمة مكان إلا وتوجد فيه. وهذه الطاقة هي الحاضرة في الكائنات الحية بوصفها القوة الجنسية. لذا فقد نظر الهندوس إلى هذه الطاقة بوصفها مقدسة، شيئًا يستحق أن يُعبَد، لا أن يُبدَّد. قالوا إن هذه الطاقة ليست غير تجلِّي الأم الإلهية، الطاقة الكونية؛ لذلك يجب أن يُنظَر إليها بخشوع.

هذه القوة الكونية تتجلَّى في بِنيتنا بوصفها برانا [الطاقة الحيوية، قوة الحياة]. وبرانا هي الاحتياطي الثمين للمريد. فكل نشاط حواسي أو خبرة حواسية تستهلك الكثير من الـبرانا. والنشاط الذي يستهلك أكبر مقدار من الـبرانا هو الجماع. وإن أسمى غايات الحياة الإنسانية قاطبة، التحقيق الروحي، تتطلَّب أكبر قدر من الطاقة البْرانية على المستويات كلِّها: الذهني، العقلي، والعاطفي. برانا مطلوب من أجل التفكُّر والتمييز الروحيين. فالتفكير يجب أن يكون حادًّا والعقل ثاقبًا. إذ إن فهم المنطويات الباطنة لتعليمات الـغورو يتطلب نمطًا خاصًّا من الفطنة. قد يكون المرء شخصًا قويَّ العاقلة، وقد يلتقط على الفور المعنى اللغوي لشيء يقوله له الـغورو؛ لكنْ إذا كان الـغورو يتكلَّم على مسألة عويصة، لا تقع ضمن المدى السوي لخبرته البشرية العادية، فإنه يحتاج إلى نمط خاص من الفهم. وذلك الفهم ينمو عِبْرَ براهماتشاريا. إذن، كما قلت، كافة هذه الرياضات تتطلَّب استعمال برانا؛ والتبتُّل يؤمِّن توفُّر فيض من الاحتياطي البْراني للمريد. إذن فهذه السيرورة، منظورًا إليها من هذه الزاوية، سيرورة عقلانية وإيجابية للغاية.

هناك سند عقلي وراء البتولية: إذا حافظتَ على هذه الطاقة الحيوية وحوَّلتَها إلى السيرورة الروحية للنظر العقلي والدراسة والتفكُّر الفلسفيين والتأمُّل فإنها تُفلِحُ، لأنك، إذ كثَّفتَ قوَّتك، بتَّ قادرًا على توجيه القوة المكثَّفة بتركيزها على رياضاتك الروحية. فإذا صينَتْ، ورُكِّزَتْ، وحُوِّلَتْ إلى قناة معينة فإنها تجترح الأعاجيب.

هناك سبب آخر يجعل براهماتشاريا مهمًّا. وأنا لا أتكلَّم هاهنا على الأشخاص الاستثنائيين الذي ينهال عليهم إشراقٌ مفاجئ، وعندئذٍ يرتقون نهائيًّا عن المرتبة الجسمانية الغليظة لوعي الجسم إلى مرتبة أخرى، لا يعودون منها إلى الأبد. ففي لحظة إشراق واحدة، أصبح رامانا مهارشي راسخًا في مقام "أنا لست الذهن ولا الجسم. الذات التي لا تموت أنا. لا زمان لديَّ ولا مكان، لم أولد قط". في برهة واحدة – في لحظة – كان مجرَّد طالب عادي؛ ثم فجأة عرف أنه ما تَصِفُه الـبهغفدغيتا بكونه

النار لا يمكن لها أن تحرقك؛ الماء لا يمكن له أن يبلِّلك؛ الأسلحة لا يمكن لها أن تجرحك؛ الريح لا يمكن لها أن تجفِّفك. أنت غير مولود، سرمدي، أبدي، أبعد من الزمان. الموت لاشيء بنظرك.

صار راسخًا نهائيًّا في تلك الخبرة، ولم يتزحزح عن ذلك المقام. وطوال حياته، مهما كان ما يحدث من حوله، لم يمسَسْه، لم يؤثِّر فيه. لكني لا أتكلَّم على أمثال هؤلاء الناس.

منذ أمد طويل سَبَرَ الفيدنتا مسألة الوضع البشري هذه، ورأى الحكماء بوضوح أن 9999 من كلِّ 10000 عالقون تمامًا في حالة "أنا هذا الجسم". إنهم لا يعرفون من هويتهم إلا أنهم كيان جسماني، كائن ذو يدين ورجلين وأذنين وعينين، يأكل ويشرب وينام وينطق ويفعل أشياء. إذن فهم مشدودون إلى الجسم تمامًا. وعيهم عالق على مستوى الجسم المادي. ذلكم هو الوضع. لكن غاية المريد الروحي هي الوعي الكوني، الذي هو حقيقتهم الباطنة، أبعد من الزمان، المكان، الاسم، والصورة. لذا فإنك حين تُوازِن بين حالة وعيهم الحالية وبين الخبرة التي يتمنون أن يبلغوها، فَلَكَ أن تتخيَّل وحسب إلى أيِّ حدٍّ يتعذر هذا إذا استمروا في هذه التماهي التام مع الجسم المادي وسائر سيروراته.

وهذه السيرورات الجسمانية جميعًا أمسى معظمُها آليًّا. أغلب الناس غير واعين بشدة للأكل والشرب والنوم والتغوُّط. صارت هذه العمليات جميعًا أوتوماتيكية. لكن السيرورة الواحدة التي تُقدِمُ عليها غالبيتُهم قصديًّا، تحدوهم رغبة عظيمة فيها – يريدونها، يفكِّرون فيها، يخطِّطون لها، ويسعون إليها – هي المتعة الجنسية؛ مما يعني أن هذه سيرورة تكثِّف وعيَهم برمَّته، ذهنَهم كلَّه، انتباهَهم كاملاً، على الجسماني، على هويتهم الجسمانية. فمن إحدى الزوايا، الجماع هو ذروة الجسمانية أو الحيوانية. إنه سيرورة توجِّه، بحكم الضرورة، انتباهَك برمَّته نحو الجسماني، وحتى أكثر من ذلك، التركيزَ التام لرغبتك ونيَّتك على ذلك الجزء من طبيعتك الجسمانية الذي تشترك فيه مع مملكة الحيوان قاطبة. فهل هذا سيكون، بأية طريقة، عونًا على بلوغ الوعي الكوني؟

فإذن، هو ذا كائن إنساني – تاجُ خلق الله ومجدُه، الذي يسمو عاليًا فوق باقي الأنواع الحية – ينحط إلى المستوى الغليظ، الجسماني، المادي الحيواني، ويستسلم له كليًّا: يطلبه، يريده، يسعى إليه، ويفعل كلَّ ما بوسعه للحصول عليه، يمعن فيه، ويريد أن يكون في متناوله دومًا. وهذا يعني أن المرء يشدُّ نفسه إراديًّا إلى الأسفل، إلى مستوى وعي جسماني.

إذا كنت مريدًا روحيًّا، ألن ترى أنك تعمل ضدَّ نفسك؟ عليك أن تحرِّر وعيك من المستويات الدنيا وتواصل الارتقاء به إلى مراتب أعلى فأعلى تدرُّجًا من الحالات الأرق والأصفى. إذ إنه، إذا كانت سيرورة الإشراق والاستنارة الروحية، في مجملها، إنما هي سيرورة الارتقاء إلى حالة وعي أعلى، فإنها تنطوي بداهةً على تحرير نفسك من مرتبة وعي أدنى. إذا كنت تودُّ أن تتحرك شمالاً فهذا يعني النأي عن الجنوب. وأحد الأشياء التي تساعدك على تحرير نفسك من ربقة هذا المستوى الجسماني هي التبتُّل. الوعي الكوني، الوعي المطلق، هو صرخة بعيدة إذا كنت لا تعترف بضرورة تحرير نفسك من تماهيك التام مع الجسم.

سؤال: هل ثمة أشواط محددة في الحياة الروحية يصير فيها التبتُّل هامًّا بصفة خاصة أو حتى جوهريًّا؟

سوامي تشيدانندا: نعم ولا. من وجهة نظر معينة، تشكِّل البتولية الأساس بعينه؛ إنها الشوط الأول بعينه، شوط الألفباء. إذن، يمكن لنا أن نقول إنها لا تصير هامة، ولا غنى عنها، عند بلوغ شوط ما، بل إنها جوهرية منذ البداية بعينها.

إذا كنتَ تتشوق إلى أن تكون أصيلاً وصادقًا، وإذا كان لتوقك أن يتخذ شكلَ التزام مستوفًى بالخبرة الروحية وجهد مستوفًى للتحرك في ذلك الاتجاه، إذ ذاك فإنك يجب أن تواصِل التحرك في ذلك الاتجاه وحسب. إنك لا تستطيع أن تسعى وراء شيئين اثنين معًا، لأنك، حينئذٍ، سوف تقوم بخطوة واحدة إلى الأمام وبخطوة واحدة إلى الوراء، ولن تتقدَّم حقًّا أبدًا.

الحياة الروحية تبدأ بإقرارك بأنك مادمت تواصِل المضيَّ قُدُمًا، سعيًا وراء حسِّ الإشباع واللذة، فأنت لن تتحرك خطوة واحدة. لذا فإن كلَّ شيء سيبقى أكاديميًّا ونظريًّا. توقنا، طلبنا للحياة الروحية، سيكون نظريًّا وحسب – نزوة وإحساس. وبذلك لن تبدأ. شوط بداية الحياة الروحية نفسه، إذن، هو تحوُّل عن خبرة الحسِّ والإمعان في الحسِّ، والبدء بالتحرك في الاتجاه المعاكس.

كان من عادة سوامي شيفانندا أن يقول: "براهماتشاريا هو أساس الخلود." وفي أماكن عديدة في الأوبنشاد جاء:

خبرة الحكمة لا يمكن أن يحظى بها مَن لم يمسك بعنان حواسه ومَن لم يسيطر على شطحات ذهنه الشارد.

لذا أعتقد أنه يجب التقيد به لدى بلوغ شوط ما؛ بل إنه الحياة الروحية برمَّتها. ذلك أن الحياة الروحية إنما هي تجاوز لطبيعتك البشرية، لوعيك البشري. وإذا كانت تجاوزًا، عليك أن تخلِّف وراءك كلَّ ما يكوِّن طبيعتك البشرية، جسمانيَّتك. سيتعيَّن عليك أن تباشره وتداوم عليه، بحيث ترى التبتُّل رؤية إيجابية، وليس كشيء مضادٍّ للطبيعة. عندئذٍ لن تشعر مطلقًا بأنك تعنِّف نفسك بأيِّ شكل من الأشكال.

وأخيرًا، من وجهة نظر محض علمية وفنية، فإن واحدًا من اليوغا التي لا بدَّ فيه من التبتُّل ولا غنى عنه هو كونداليني يوغا [ممارسة إيقاظ الطاقة الحيوية]. لا مساومة في هذا الأمر؛ إذ هو جوهري ولا غنى عنه منذ البداية – وإلا فإنه يصير خطيرًا. وذلكم هو جانب "اللا" من الجواب.

أما جانب "النَعَم" فهو القول بأنه، في سياق الحياة الروحية في الهند بكلِّيته، ثمة أشواط وحالات قد يكون المرء فيها مُرتقي الروحانية، ومع ذلك يحيا، في الوقت نفسه، حياة جنسية سوية. وهذا يصح، بصفة خاصة، على أهل درب الـبهكتي – الناس الذين يتَّبعون درب محبة الله، المناسك، الصلاة، والعبادة، ذاكرين الاسم الإلهي، منشدين أمجاده. وهذا الدرب لا يقيم أيَّ تمييز بين براهماتشاري نَذَرَ العفة، وربِّ أسرة متزوج، وزوجين متقاعدين، يعيشان حياة ذات توجُّه روحي بعد أن أنهيا واجباتهما الزوجية والأسرية. درب العبادة يبدو وكأنه بُعدٌ من أبعاد الحياة الروحية في الهند، حيث لا إصرار على التبتُّل التام بمعنى العفة المطلقة؛ لا استكراه في النظر إليه، لكنْ بدون الإصرار عليه. ولكن بما أن الجماع يستهلك مقدارًا كبيرًا من الطاقة البْرانية فإن ضبط النفس مهم بصورة طبيعية. فالجنس المتهتِّك لم يكن مستحسَنًا قط؛ لم يُنظَر إليه باستحسان قط. وهكذا فإن نوعًا من الانضباط على شكل ضبطٍ للنفس وإخلاصٍ في علاقتك الجنسية مع شريكك الشرعي المعترَف به يمكن أن يُعتبَر براهماتشاريا أيضًا.

وتلكم كانت حال العديد من المتعبِّدين، من عشاق الله؛ والهند الروحية لا تفتقر إلى الأمثلة عليهم. ففي عموم الهند شاهدنا ظاهرةَ جالياتٍ كبيرة من المتعبِّدين لله الواجدين، كان العديد منهم أو أغلبهم أناسًا متزوجين، يعيشون حياة جنسية سوية، لكنها، مع ذلك، مستغرقة في عشق الله الإلهي. هذا، إذن، هو جانب "النعم". ففي هذا الشوط، لا يبدو الجنس، في أيِّ حال، ممنوعًا أو غير متوافق مع الحياة الروحية.

سؤال: أفترض أن الاستقصاء الفيدنتي – مقاربة الحياة الروحية الأكثر عقلية – ليس، هو الآخر، غير متوافق مع الحياة الزوجية السوية.

سوامي تشيدانندا: نعم، نعم. ولكن في النمط الفيدنتي من الحياة، تدريجيًّا، من حيث لا يعي المرء، وحتى بدون أن ينوي ذلك عن قصد، على مرِّ الزمن، يرتقي إلى ذلك المستوى من الوعي الذي يبدأ الجنس فيه يصير نافلاً، وذلك لأنه يتناقض مع أطروحة الفيدنتا نفسها:

أنا لست هذا الجسم. أنا لست العناصر الخمسة. أنا لست الإضافات المحدِّدة. أنا شيء متميِّز ومختلف بالكلِّية.

ومن منظور ذلك الشيء المختلف، المتميِّز، ليس للجنس من معنى؛ إذ إنه لا يقع ضمن مجال الوعي الجسماني والأداء الجسماني.

سؤال: مرارًا ما يُنظَر إلى البتولية في الغرب الحديث كممارسة بَلِيَتْ وعفا عنها الزمن. مرارًا ما يُعتبَر قمعيًّا، منكِرًا للحياة – وحتى مُناقِضًا لماهية الرياضة الروحية في النهاية. والكثير من المرجعيات الروحية في الغرب تعلِّم الآن أننا، لكي، نحقق كموننا التام ككائنات إنسانية، يجب علينا، لا أن نتجنب حياتنا الجنسية أو نقمعها بأيِّ شكل، بل أن نعتنقها. هذه النظرات على طرف نقيض ممَّا علَّمتْه المنقولات الكبرى دائمًا. ما قولك في هذا كلِّه؟

سوامي تشيدانندا: لا أوافق على الموقف الإجمالي الذي عبَّرتَ عنه لتوِّك. فقد أخفق هؤلاء في إدراك موقع براهماتشاريا في الحياة الروحية. إنه لم يَبْلَ، ولم يعفُ عنه الزمن مطلقًا، وهو ليس قمعيًّا أو منكِرًا للحياة. إنه، على العكس، يُستعمَل كأساس للحياة الأبدية، للحياة التي لا تنتهي. نظرتهم إلى الحياة تبدو نظرة ضيقة جدًّا ومحدودة جدًّا. فهذه ليست الحياة الوحيدة الممكنة. فأنت عندما يقيَّض لك أن تحظى بلمحة خاطفة لما هي عليه الحياة الحق فلا بدَّ أن تقف مشدوهًا. هذه الحياة الحالية عديمة المعنى، عبث خسيس، لا شيء، إذا لم تُفهَم بوصفها مدرج إقلاع يقذف المرء إلى حياة أسمى. هذه الحياة وسيلة إلى تلك الغاية العظمى، المجيدة، الفارهة، من الوجود الإنساني، التي هي الدخول في حياة هي حياة الله، حياة هي واحدة مع حياة الله، ملكوت السماء. ذلكم هو القصد من الوجود الإنساني برمَّته. لقد أُعطِيَتْ لنا الحياةُ الإنسانية كمعبَر إلى الألوهة، كمعبَر إلى الحياة الأبدية.

براهماتشاريا، إذن، ليس عبارة عن قمع الحياة الجنسية ولا عن تجنبها. إنه مجرَّد الحياد عنها – الاستفادة من الكمون الجنسي من أجل شيء أعظم بعشر مرات، بمائة مرة. لذا فإن مسألة القمع أو الكبت هي اسم على غير مسمَّى. إنها ناجمة عن قصور في الفهم الصحيح لما هو الطريق الروحي الحقيقي. فإذا فُهِمَ حقَّ فهمه، لن يُستعمَل هذان المصطلحان. فنحن لسنا مجرَّد كائنات بشرية: نحن أكثر من كائنات بشرية. منزلتنا البشرية إنما هي انعكاس باهت لما نحن إياه على الحقيقة. والسبب الأوحد الذي يجعل منزلتنا الإنسانية تكتسب شيئًا من المعنى والمغزى هو كونها، إذا أحسنَّا استعمالها، يمكن لها أن ترتقي بنا إلى ما هو خاصَّتنا، أن تسمو بنا إلى الملكوت – الذي يحق لنا بحكم الولادة.

 

غير أن فكرة الغرب بأن براهماتشاريا هو الكبت، من أحد الوجوه، ليست خاطئة كلَّ الخطأ. إذ إن قمعَ المرء ملَكةً طبيعية ما أو كَبْتَها من شأنه أن يجلب عليه تغيرات غير مستحبة في الشخصية. فإذا فُرِضَ برهماتشاريا على أحد الأفراد ضدَّ ميله وإرادته، فقد تنجم عن ذلك شروطٌ غير سوية، لأن الشخص يُرغَم على فعل شيء لا يريده في قرارة نفسه أو نفسها – يرغمه آخرون، القيود الاجتماعية، أو اتخاذ نذور ما، كان عليه أو عليها أن يتخذها أو تتخذها، قبل التروِّي مليًّا فيما تنطوي عليه بالدقة.

لكن إذا قال شخص عاقل، بعد تروٍّ عميق في أساس حياته برمَّته: "عندما أريد أن أحقق شيئًا عظيمًا، شيئًا قديرًا، لا يجدر بي أن أطيق تبديد الطاقات التي في حوزتي. كلما احتفظت منها بمقدار أكبر، استطعت أن أحوِّل مقدارًا أكبر منها في ذلك التحقيق، وكان حظِّي في النجاح أعظم." إذ ذاك فإنه، إذ يفكِّر في السند العقلي للأمر ويفهمه، ويقدِّر الإنجاز الذي يقود إليه حقَّ قدره، وإذ يتجشم البتولية إراديًّا، عن طيب خاطر، وبحماسة عظيمة، فأين تأتي مسألة الكبت؟ على العكس، ما يبدو أنه نوع من الإنكار هو، في الواقع، إتاحة التعبير الذاتي لبُعدٍ أسمى من أبعاد كيانك وضعتَ نفسك فيه. وهكذا فإنه أبعد ما يكون عن إنكار التعبير الذاتي، من حيث هو إتاحة التعبير الكامل عن ذاتك، لأنك لم تعد متماهيًا مع المظهر الأدنى من مظاهر شخصيتك التامة. أنت عندئذٍ متماهٍ مع المظهر الأعلى. إنه نوع من التحرر والتطور نحو مستوى أعلى. إنه شيء إيجابي، خلاق، وليس شيئًا سلبيًّا؛ إنه ليس إنكارًا لذاتك، بل تعبير فعلي عنها.

عندما يكون الأمر عبارة عن سيرورة كهذه فإن فرويد والآخرين يخطئون الهدف؛ إذ لم يتذهَّنوا مثل هذا الوضع، مثل هذه الإمكانية. لكنها ليس إمكانية وحسب، بل هي منقول موروث عن مئات، بل ألوف من السنين – يكون أحدهم وفقًا له مستعدًّا لفعل أيِّ شيء، لإعطاء أيِّ شيء، دفْع أيِّ ثمن، من أجل بلوغ الأسمى.

سؤال: لماذا تعتقد أنه حتى مجرَّد فكرة البتولية مرارًا ما تجعل الناس في الغرب يستجيبون بالغضب أو الامتعاض؟

سوامي تشيدانندا: لعل أندرو كوهين، على ما أظن، أقدر وأكفأ على الإجابة عن هذا السؤال منِّي – باعتبار هذه المسألة عندي مسألة أكاديمية ونظرية، في حين أنها تمثِّل عنده وضعًا اختباريًّا. لعل هذا المفهوم غير مقبول في نظرهم لأنه يحرمهم من السعي إلى اللذة، من تلك المقاربة الهيدونية[3] التي يعتمدونها في حياتهم. إنه شيء لا يريد الشخص العادي في الغرب أن يسمعه؛ إذ ينغِّص عليهم أسلوبَهم في الحياة. إذا حَمَلَهم شيء على الشعور بأنهم يرتكبون حماقة فإنهم سيشعرون بالذنب؛ عندئذٍ يصيرون مرتبكين جدًّا، وبالطبع، يستشيطون غضبًا. وأنا واثق أن هناك آخرين أيضًا يشعرون بأن البتولية تتعارض مع الوصية التوراتية بالذهاب والتكاثر؛ لذا فإنك، عندما تتكلَّم على براهماتشاريا بمعناه الأقصى، يبدو وكأنك تعظ بما يتناقض مع وصية الله.

سؤال: أمسى الـتنترا، أو ممارسة "الجنس المقدس"، شعبيًّا جدًّا في الغرب اليوم. هل تعتقد أن هذه التعاليم تقدِّم دربًا روحيًّا أصيلاً؟

سوامي تشيدانندا: لا، لا أعتقد أن هذه التعاليم تقدِّم دربًا روحيًّا أصيلاً. لماذا؟ بسبب الهشاشة البشرية، الضعف البشري. الذهن البشري مصنوع بحيث إنه يتخذ دومًا سبيل المقاومة الأقل؛ يريد دومًا الطريق الأيسر.

الـتنترا مقاربة إلى الله عِبْرَ سائر أنماط المتع الحسية. كلُّ شيء يقرَّب إلى الله، وبذلك يتقدَّس كلُّ شيء: لا شيء دنيوي. يتمتع المرء بالإشباع الحسِّي ويرى فيه أيضًا جزءًا من غبطة الله. ثمة هاهنا رأي، لا يخلو من الصحة، مفاده أنه، في حين تبقى الثنوية في كافة الخبرات الإنسانية – هنالك شعور بـ"إني أتمتع بهذا الموضوع" – ففي الخبرة الجنسية النهائية بين ذَكَرٍ محبٍّ حقًّا، عاشق مولَّه للأنثى، وتبادِلُه الأنثى تمامًا هذا العشق، يغيب وعيُ المرء بفرديَّته. هناك اندماج تام لوعي الفرق في كلٍّ منهما، ولا يوجد إلا إدراك الخبرة؛ لا يوجد مختبِر. يقولون إن هذا ممكن عندما يتمُّ على ما ينبغي من الكمال. كلاهما يفنى ولا تبقى إلا خبرة واحدة لاثنوية، خبرة مطلقة، وعي برهمي. فهم يقولون إن الجسم الإنساني أداة، إذا أُحسِنَ استعمالُها، يمكنها أن تستجلب تساميًا فوق وعي الجسم. وفي حالة واحد من أصل مليون قد ينجح الأمر.

غير أن السعي إلى اللذة جزء من النظرة الغربية إلى الحياة – وليس إنكار اللذة. ومعلِّم واحد من بين عشرة قد يكون معلِّمًا أصيلاً، يقدِّم حقًّا شيئًا مناسبًا للمزاج الغربي. لكن تسعة منهم أناس ماكرون. إنهم يعلمون بأن ثمة سوقًا رائجة لهذا، ويستغلون الأمر. مقاربتهم هي التالية: تستطيع أن تحصل على الحلوى وتأكلها أيضًا!

لعلمكما، كان هذا دربًا أصيلاً وُجِدَ في الهند ذات زمن، وبخاصة في الجزء الشرقي. وهو موجود حتى الآن؛ إنما داخَلَه شذوذٌ فظ. ونشب القوم فيه؛ قالوا بأنهم يمارسون الـتنترا، لكن الأمر لم يكن أكثر من معاقرة الخمرة وتعاطي الطعام واللذة الجنسية. لم يقُدْهم الأمرُ إلى أيِّ مكان، لكني أحسب أنه قادهم إلى حيث كانوا يريدون أن يذهبوا. لهذا فقد رماهم المستنيرون من القوم في ذلك الزمان باتباع "الدرب الشاذ". وهكذا فقد برز إلى الوجود دربان: الدرب الأصيل، الذي سُمِّي "درب أهل اليد اليمنى"، والدرب الشاذ، الذي كان يطلب المتعة وحسب؛ وقد سُمِّي "درب أهل اليد اليسرى".

ثمة قصة تُروى من سيرة الحكيم العظيم شري راماكرشنا، غورو سوامي فيفيكانندا. لقد مارس كافة الطرق اليوغية، فضلاً عن المسيحية والإسلام وغيرهما، واكتشف أنها جميعًا تقود إلى خبرة الله النهائية عينها. وإبان فترة معينة من حياته الروحية مارس الـتنترا أيضًا. دنتْ منه امرأة تنترية وقالت: "لقد بعثني الله هنا لكي أسارِركَ بالطريقة التنترية إلى بلوغ الله." وهكذا، يومًا بعد يوم، شرحتْ له الطريقة التنترية. لكنْ لدى بلوغ الشوط النهائي، أجاب شري راماكرشنا، الذي كان متقيِّدًا بـبرهماتشاريا، بأن هذا لم يكن ممكنًا من خلال هذا الجسم. عندئذٍ قالت له: "أنا مضطرة إذن إلى تمثيل الأمر برمَّته أمامك." وهكذا جاءت بذَكَر تنتري وأنثى تنترية لتمثيل الاستتمام النهائي للممارسة أمامه. وبينما كان يراقبه شوطًا شوطًا طفقتْ هي تصف له الأمر: "لاحِظْ بدقة. الآن ترى كيف دخلا في حالة الوجْد؛ إنهما متواجدان. إنهما يفقدان وعيهما الشخصي." وعند ذلك الشوط، فقد راماكرشنا فجأة وعيَه كلَّه، واستغرق في سمادهي [حالة وعي لاثنوية مغبوطة] عميق. وبذلك برهن لنفسه، بالنيابة، أن تلك الخبرة الجنسية النهائية يمكن أن ترتقي بالمرء إلى تلك الحالة التي تتخطَّى كلَّ ثنوية.

وهكذا فإن العلم بما هو كذلك موجود، لكن الـغورو الأُصَلاء ثلة قليلة جدًّا؛ ويجب أن يشرف عليه بصرامة غورو حقيقي إشرافًا شخصيًّا. قد يتهمني بعضهم بإطلاق الأحكام الجائرة، لكني أعتقد أن غالبية المروِّجين للجنس المقدس المعاصر مهتمون بجني المكاسب منه لحسابهم الشخصي.

كما أخبرتكما، القوة الجنسية قوة مقدسة؛ الجنس مقدس. إنه واحد من أقدس الأشياء طرَّا. لكن الجنس المقدس اسم على غير مسمَّى. فحالما تنشب في الجنس، تقول باي باي للقداسة. وذلك عائد لضعف الإنسان وهشاشته. لذا لن أكون في عداد المدافعين عنه.

سؤال: بالنظر إلى عدد الهفوات والأغلاط التي يقع فيها أولئك الذين ينذرون العفة طوال حياتهم، في كلا الغرب والشرق، ألا ترى أن تجشم الممارسة ربما ينبغي أن يقتصر على الأفراد الذين بلغوا أولاً درجة معينة من النضج الروحي.

سوامي تشيدانندا: لا أوافق تمامًا على هذا الرأي – أولاً وقبل كلِّ شيء، لأن الناس الذين بلغوا درجة معينة من النضج الروحي لا بدَّ أنهم بلغوها، على الأقل جزئيًّا، عِبْرَ برهماتشاريا. إذ إن كونهم بلغوا درجة معينة من النضج الروحي يدل على أن براهماتشاريا، بالمعنى الأوسع للكلمة على الأقل، يجب أن تكون جزءًا من تكوينهم أو جزءًا من الطريق الذي ارتقوا من خلاله إلى تلك الدرجة من النضج. وإني لا أتردد في القول إن الهفوات والأغلاط التي تشير إليها لا يمكن أن تقلِّل من صلاحية مفهوم براهماتشاريا ومنقوله بأيِّ حال من الأحوال. إنها عائدة إلى نقص في الأشخاص، ليس إلا.

من ناحية أخرى، قبل أن ينذر المرء العفة طوال حياته، عليه أن يتأكد من صدق دعوته؛ ينبغي أن يكون ثمة نداء حقيقي إلى حياة البتولية واعتناقها. لا يصح أن يكون القرار مبنيًّا على العاطفة أو الحماسة الانفعالية؛ إنها بالأحرى محاكمة عِبْرَ تقدير عقلاني، منطقي، للحياة. وإني أصرُّ أيضًا أن على المرء ألا يؤدي نذر الترهُّب حتى يكون له من العمر ما يؤهِّله لفهم تكوين جسمه ومن رصيد الخبرة بما في دخيلة نفسه، بما ينبغي عليه أن يتعامَل معه. على المرء أن يواجه هذا الأمر بحق. وإني أقترح كذلك ألا يُسمَح له بنذر العفة طوال حياته قبل أن يخضع للمراقبة والإرشاد بعض الوقت. فعلى سبيل المثال، تضع إرسالية راماكرشنا الشخص في فترة ما قبل الاختبار مدة عالم كامل. ثم يخضع لفترة مراقبة مدة لا تقل عن ثماني سنوات. وعندئذٍ فقط يحق له أن يتقدَّم بطلب الانتساب إلى الرهبنة كراهب سوامي تام. وهكذا فإن هذا النمط من أنماط القبول والغربلة والمراقبة ربما يسمح بتفادي العديد من هذه الهفوات والأغلاط. إذ لا يجوز السماح لأحدهم بتأدية ذلك النذر قبل فترة معينة من الحياة الروحية. غير أنه حتى عندما تتحقق كافة الشروط التي جئتُ على ذكرها، لا بدَّ من إعمال الحيطة القصوى حتى يتم بلوغ شوط يصير فيه برهماتشاريا هو الوضع السوي والطبيعي للمرء.

برهمن، المطلق، هو الـبراهماتشاري الأسمى لأنه الواحد الذي لا ثاني له؛ وإذا كنتَ وطيدًا في برهمن فأنت على ذلك المقام – حيث لا يوجد ثانٍ، حيث لا يجود سوى. هناك شوط يصبح فيه المرء عديم الرغبة الجنسية، متحررًا منها. لا يعود ثمة جنس أو رجل أو امرأة أو هذا أو ذاك لأن نظرة المرء قد تغيرت. فبمعزل تمامًا عن كلِّ ما يحيط بالمرء – العالم الذي يعيش فيه – يكون قد تغيَّر كلِّية. وعي المرء لا يعود باقيًا على ذلك المستوى الذي يكون لتلك الأشياء فيه أيُّ معنى أو متات. عندما يكون الوعي في مكان آخر، تُرى الأشياء كلُّها وتُدرَك، لكنها لا يبالى بها. تنظر إلى هذا، تنظر إلى ذاك؛ ترى كلَّ شيء، لكن هذا لا يستجلب أيَّ تغيير في حالة وعيك، الذي يبقى هو هو دائمًا. ذلكم هو التعالي النهائي الذي هو إمكانية، وهو مثال، ينبغي الجهادُ في سبيله وينبغي بلوغُه. ذلك هو ما يريده الـغورو للتلميذ؛ ذلك ما يريده القديسون للمرء العادي. ولكن قبل هذا، ما يزال هناك خطر السقوط. لذا يقول قديسونا بأن على المرء، حتى النحب الأخير، أن يلزم جانب الحذر.

سؤال: ما هو مفتاح النجاح في بهماتشاريا؟

سوامي تشيدانندا: هو كيفية نظرك إليه!

هو، قبل كلِّ شيء، كيفية فهمك له. براهماتشاريا هو تحويلُ كمون الطاقة الكونية الأساسية، الجوهرية، الساكنة في الكيان الفرد، إلى قصد أسمى واستعمالُها. إنه المظهر المتفرِّد أو الميكروكوسمي للقدرة البدئية، اللانهائية، غير القابلة للحدِّ، التي هي المظهر الماكروكوسمي أو الدينامي للحق الواحد، اللاثنوي. فكما تعلمان، فإن المظهر السكوني هو برهمن، الذي هو الحق المتعالي، اللاثنوي؛ والمظهر الحركي، أو الدينامي، هو ذلك الشيء نفسه في التجلِّي أو التعبير، في الحركة.

والمظهر المتفرِّد لهذه القدرة البدئية، الساكن في الكائنات قاطبة، هو مكمن استمرارية الوجود غير المنقطعة ذاك. وهذا الكمون موجود في كلِّ مكان عمليًّا. ومجرَّد كونك مؤهَّلاً لوصفه والتعريف به أو شرحه بلغة الفيزياء أو الكيمياء الحديثة لا يبدِّل من الواقع الميتافيزيائي أو الفلسفي لطبيعته الحق بأيِّ حال. قد تشرحه، فيزيائيًّا، بلغة الضغط، إلخ؛ لكن هذا مجرَّد شرح لشيء هو أصلاً سيرورة متحوِّلة، متواصلة، من الكينونة والصيرورة، الكينونة والصيرورة. وهذا الكمون الخلاق، القدرة الخلاقة، حاضرة عِبْرَ المملكتين النباتية والحيوانية قاطبة. وهو وحده المتجلِّي بوصفة سائر القوى المختلفة في الكائن الإنساني – قدرة الفعل، قدرة التفكير، المقدرة على النظر، والسمع، والشمِّ، والذوق، والهضم، والتنفس – كل شيء. وهذا هو ما هو حاضر، على حدٍّ سواء، في كلا الجنسين بوصفه الطاقة الجنسية. لذا فإن هذه، بما هي مفتاح الحياة، يمكن للمرء أن يتخيل مبلغ أهميتها؛ ويمكن للمرء أيضًا أن يتخيل خاصيَّتها النفيسة.

إذا كان المرء يستطيع أن يفهمها على هذا النحو – فيدرك طبيعتها الحق، المقدسة، الكونية، بوصفها مظهر الـشكتي الماكروكوسمية أو القدرة الكونية – فلا بدَّ له من أن يتخذ موقف التخشُّع منها. فهي شيء لا يجوز أن يُبصَقَ وحسب بعيدًا كما يُبصَق اللعاب. قد ينفق المرء القطع النقدية العادية، لكنه، إذا كانت بحوزته قطعٌ ذهبية، فلن يتخلَّى عنها بالسهولة نفسها. بذلك فإن الخشوع هو ثمرة هذا الفهم. وعلاوة على ذلك فإن المريد يتعرَّف ويرى بوضوح: "هناك شيء هامٌّ للغاية عليَّ أن أقوم به. عليَّ أن أحقق غاية عظيمة، وأحتاج إلى كلِّ الطاقة التي بحوزتي لاستثمارها في مسعاي الروحي. ولا أطيق أن أحوِّلها إلى قنوات أخرى من أجل أن أحصل على إنجاز أقل." فكما كان من عادة سوامي كرشنانندا أن يقول: "خيرٌ للمرء أن يسدِّد على أسد ويخطئه من أن يسدِّد على ابن آوى ويصيبه."

مفتاح النجاح الأول في براهماتشاريا هو اعتراف المرء بالطبيعة المقدسة والنفيسة لكمون الطاقة الذي بحوزته وفهمه. وعندما يتمتع المرء بهذا الإدراك الواضح بأن القصد منه أن يُصان ويُحفَظ ويوجَّه نحو أسمى المقامات، إذ ذاك تتملك المرءَ رغبةٌ في النجاح. وطريقة النظر إلى كلا برهماتشاريا والوظيفة الجنسية هي أكثر أساسية حتى، وهي واحد من عاملين استعملتُهما أنا شخصيًّا إلى حدٍّ كبير: إنهما الإدراك الواضح، أولاً وقبل كلِّ شيء، بأن ما يسمونه العضو الجنسي الذكري ليس عضوًا جنسيًّا على الإطلاق؛ إنه مجرَّد قناة بولية. ذلك ما هو، وتلك هي وظيفته الأساسية من اللحظة التي يخرج فيها الطفل من رحم أمِّه حتى يلفظ آخر أنحابه.

وبالفعل، إذا نظرتَ إلى الأمر تجد أن الجنس ليس في ذلك الجزء من جسمك أصلاً. الجنس ليس في عضو التبول؛ الجنس يتم في ذهن الشخص. لذا فإنها مسألة تتعلق بموقفك الذهني. إذا كنت مقتنعًا وقمت بترويض ذهنك على التفكير في الأمر على نحو سليم وعقلاني – إنه شيء متعلق بالإطراح؛ القصد الرئيسي منه ليس هو القصد الذي يسود على العالم ويودي بعقله – إذ ذاك فأنت قد تحررت منه. لا يعود مستحوذًا عليك لأنك لا تفكر فيه على النحو الذي تُدفَع إلى التفكير فيه غالبيةُ الأشقياء من أفراد المجتمع البشري.

عندما تمعن النظر في الأمر فإن الغاية الرئيسية للجماع هي التي تبدو لك الأهم: عملية الإنجاب التي لا غنى عنها. بالمعنى الميتافيزيائي الأعلى، الزوجان يتعاونان مع الخالق لإدامة النوع، بحيث يستمر الخلق. تلكم هي الوظيفة الرئيسية، وليست اختبار المتعة المرافقة له؛ فهذه فرع ثانوي منه. إذن لماذا جُعِلَتْ هذه الوظيفة بهذا الإمتاع؟ كان لا بدَّ أن تكون كذلك. الوظيفة الإنجابية، إدامة النوع، تتم عِبْرَ الجماع؛ ولو لم تترافق بخبرة فائقة للَّذة والمتعة لما انهمك أحدٌ فيها، ولانْعَدَمَ القصدُ منها.

*** *** ***


* الكنديان مولدًا بِلْ إيلرز (سوامي أتماسفاروبانندا) وسوزان إيلرز (سوامي أمريتاروبانندا) كلاهما من الرهبان المقيمين منذ أمد طويل في أشرم (دير هندوسي) شيفانندا، وكلاهما نذر حياته للرهبانية. من نشاطاتهما العديدة إعدادُ تعاليم سوامي تشيدانندا للنشر. جدير بالذكر أن السوامي قام بزيارة للبنان منذ بضع سنوات، حيث ألقى عددًا من المحاضرات، ولقَّن عددًا من المريدين اللبنانيين طريقة اليوغا التي يعلِّمها. (المحرِّر)

[1] مرشد روحي أمريكي. (م)

[2] "جي" لاحقة تُضاف في الهند إلى أسماء وألقاب الأشخاص تجلةً واحترامًا. (م)

[3] "الهيدونية" مذهب فلسفي قائم على مبدأ اللذة كغاية قصوى للوجود الإنساني. (م)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود