french Arabic

                            الرقص...

طريق نحو الحكمة والصَّحوة

 

حوار مع مانوشهايا كاتيا لِجْريه

 

مانوشهايا كاتيا لِجْريه دكتورة في علوم الفنِّ (باريس، السوربون) وباحثة وأستاذة جامعية بجامعة باريس الثامنة. وقد أصدرتْ عددًا من المؤلَّفات حول المنقول الهندي، نذكر منها الوجيز النقلي للبهاراتا ناتيام وجمالية الرقص المقدس.

 

بدأت كاتيا لِجْريه حياتها المهنية العالمية في رقص البهاراتا ناتيام (الرقص المقدس لجنوب الهند) في أكبر معابد الهند، في صحبة ك. سوارناموكهي، الراقصة الهندية الشهيرة من ولاية تاميل نادو. ولقد التقينا بها، في ربيع العام 2002، مشارِكةً في "لقاءات فاس"، في إطار "مهرجان الموسيقات المقدسة" للمدينة الملكية الأولى بالمغرب، فكان لنا معها هذا الحوار.

باتريك فان إيرسل

***

 

باتريك فان إيرسل: حوالى العام 1968 وفيما بعده، حين كنَّا واقفين عند ما كنَّا نظنه مواقع مرابطين، كانت كلمة "تقويم" تُرعِبنا؛ إذ إنها كانت تُفهَم على الفور بوصفها "تقويمًا أخلاقيًّا"، يُترجَم إلى: موقف رجعي، سلطوي، جامد. لم نكن نذهب إلى حدِّ القول بأننا كنَّا مؤيدين للتفكك، لكن لم نذهب بعيدًا...

مانوشهايا كاتيا لجريه: كنَّا أمْيَل إلى تأييد إطلاق العنان...

ب.ف.إ.: يتبيَّن لنا اليوم إلى أيِّ حدٍّ كان الأمر أحيانًا تراخيًا أيضًا – في آداب السلوك ذات الحدود الفضفاضة، التي كانت تقبلها في الغالب الأعم حلقاتٌ كبيرة نوعًا ما: أتذكَّر أنه في مجلات هواة الثقافة المضادة كنَّا نجد مسليةً الأُسَرَ التي كان فيها الجميع يضاجع الجميع! وكنَّا نمرِّر رسائل في الموضوع في بريد القراء...

واليوم، شيئًا فشيئًا، يشعر قومٌ كثيرون بالحاجة العاجلة إلى شكل من أشكال التقويم. فكيف تُضاء هذه الحاجة – هذا الإلحاح – إضاءة منوَّرة؟ ثم هل ينبغي الكلام على "تقويم" redressement أو على "ترويض" dressement وحسب؟

م.ك.ل.: مفهوم التقويم مفهوم مثير للاهتمام. في الهند هناك فكرة "الولادة مرتين"، ومفادها أن المرء، حين يولد، لا يمتلك ناصيةَ مصيره على الفور. ومع ذلك، فإن الهندوسية تتكلَّم على ولادات متتالية [التقمص]. لكن هذا لا يكفي؛ إذ لا بدَّ من مُسارَرة initiation من أجل "الولادة من جديد"، ليس بمعنى الانطلاق من شيء مكتسَب لوضعه في بُعْد آخر (بُعْد الشاقولية)، لكن من أجل وضْع وعي في قلب ما يُعطَى في الأصل على نحو غير واعٍ – وشتان ما بين المفهومين. ولا شكَّ أن هذه الفكرة فكرة قوية جدًّا لأنها تفترض المُسارَرة حتمًا. وهذه المُسارَرة هي بالطبع عبارة عن طقس في البداية، ولكنها أيضًا، على الخصوص، عملية توعِّي [استيعاء] prise de conscience، إذا أجلينا كلَّ لون من ألوان الزينة، التي هي في طريقها إلى التلاشي. غير أن هذا جزء من التطور الإيجابي للروحانية.

ب.ف.إ.: بما يشبه سلخ الأفعى لجلدها...

م.ك.ل.: هو ذاك تمامًا. إن ما يتجلَّى في هذه المُسارَرة – مثلما هو الشأن في ممارسة الرقص أو الفنون القتالية، حيث يكون هذا الأمر هو الأظْهَر، بما أنه ينبغي الوقوفُ فيها وقوفًا شاقوليًّا حقًّا – إنه معنى "الشاقولية" [أي الوضع العمودي] المؤسِّسة للثقافة الهندية كلِّها. فجبل مِرُو Meru، محور براهما سوترا، وفكرة غرس العصا في مركز العالم لكي يصير كلُّ شيء قابلاً للوجود، مثالان شاهدان على ذلك. وحتى إن انطلقنا من أسطورة "مَخْض النجوم" – وهو ما ندعوه بالـكورمافاتارا، تجسُّد السلحفاة العملاقة التي يستطيع الآلهة أن يغرسوا في درعها العصا التي تتيح خلق النجوم والعالم والكون، – فمن المتفق عليه أن كلَّ واحد يستطيع أن يعيش هذه الأسطورة عيشًا ملموسًا، على شكل شعيرة معينة. ومن هنا فكرة التقويم: أي أن يجد كلُّ واحد وضعه الشاقولي المنتصب أو يغرسه. والأهم في البُعْد القدسي، حالما يتم الخروج من سطوة الدين، يعود إلى الخاصية الشخصية للمَسار. وهو ليس فعل لحظة شعائرية، بل هو الكدح في مادة كلِّ طريقة من طُرُق المقدَّس. فهذا الانتصاب ينطلق من وعي ما بالمادة، مثلما هو الشأن – في الرقص – في طَرْق الأرض بالأرجل، هذا الجانب الاهتزازي الشديد الذي يصل أحيانًا إلى حدِّ الإيلام... لقد عملت مع راقصة المعبد سوارناموكهي: فهي، لكي تقوِّم جسمها، أي تجعله منتصبًا، طَوَتْه في الاتجاهات كلِّها، لَوَتْه، خلَّعتْه، دافعةً بمفاصله وحدوده المورفولوجية كلِّها في سعيٍ خارق إلى تجاوُز النفس، حتى تتلاقى أجزاءُ الجسم كلُّها في الأعلى. ووجهة النظر هذه الشديدة التنسك غير متاحة إلا لثلة من الناس – وهي واحدة من قلائل قاموا بها! أجل، إننا نجد في هذا كلِّه فكرةَ الكدح في المادة، في التعرُّق، فكرة طَرْق المعدن أو النحت، شأن الفنان الذي يأخذ الحجر لكي يعطيه شكلاً.

لكن ما تبقى، أي ما لا يفيد صُنْعَ الشكل تحديدًا، مهمٌّ أيضا. إنه عبارة عن السماد الطبيعي. لكلِّ شيء في الحياة وظيفتُه الكبرى، ولا شيء قابل للإقصاء فيها. إذن التقويم لا يعني التخلِّي فجأة عمَّا هو متاح من أجل النظر نحو السماء ونسيان المنطلَق. ففي كثير من الأوقات نرى الهندوسية وكأنها خرجت من دائرة التاريخ! لكن هل هناك مخرج ممكن من التاريخ؟

لكن، في المقابل، ثمة شكل من الخروج عن تصور معيَّن للزمن، ليس تصور السببية. وهاهنا أيضًا، ربما كان هذا الأمر قديمًا في الهند قِدَمَ العالم، لكنه، في الوقت نفسه، ريادي: لا توجد في هذا التقويم فكرة تطور، فكرة ضرورة التقدم، أو المضيِّ نحو هدف، في نوع من القصة الغائية، وصولاً إلى الانعتاق الداخلي، إلى نوع من الوعي النوراني المطلق. لدينا بالأحرى، على العكس، فكرة أن الأشياء تتم عن طريق "طفرة": قفزة لاسببية ولامنطقية. قد تكون هذه الطفرة هي "القفزة الكوانتية"، أو قفزة دون خوان عند كاستانيدا Castaneda.[1] هذه الفكرة، في نظري، فكرة قوية جدًّا، لأن ثمة قطيعة في علاقة السببية، في الاتجاه التي تتوتر فيه قوى الماضي والمستقبل. فحين يضع الراقص نفسه "ما بين" [هذه القوى المتوترة]، عندئذٍ يمكن للبُعْد الشاقولي أن يتجلَّى. فلا بدَّ من أن نقبل بأن نكون في قلب هذا التوتر... إنها صلة بالمكان وبالزمان. يدخل المرء في النهاية في حالة من التزامُن synchronicité يشعر فيها بعلاقة الأجزاء بالكلِّ وبالترابُط الدائم مع الأبعاد كلِّها...

لنأخذ هاهنا مثال تعليم الرقص في الهند. هذا الرقص لا يلقَّن في فضاء محميٍّ، مجرَّد من العالم وضوضائه، صامت. لم تتوفر لي هذه الشروطُ قط وأنا أتعلَّم الرقص حقًّا مثل الهنديات، وأنا أتبع الهنود في كلِّ مكان، وأعيش مثلهم – وقد كان الأمر امتحانًا شاقًّا ومضنيًا بالفعل، لأن التعلم يتم والناس يتنقَّلون، ويأتون بالشاي، وضجيج نفير السيارات يدوِّي في الشارع، وأستاذ الرقص مشغول بأمر آخر في الوقت نفسه، كقراءة جريدته جزئيًّا... ثم، على حين غرة، يحدث شيء ويتعلَّم المرء في دقيقة ما يُفترَض أن نتعلَّمه في عشر ساعات... إذ ذاك، تنكسر سببيةُ الزمن: يتم التعلم، ويتمكن المرء من استعادة شاقولية ما بقبوله الإصغاء – لأن في فكرة "التقويم" نجد فكرة "تشنيف الأذن". إنها علاقة إصغاء. ثم إنها القدرة على سماع مستويات عدة من الإصغاء في وقت واحد، وليس فقط الاستماع إلى تناغم سمفونية جميلة أو إلى متكلِّم بارع. فالأمر يتعلق بسماع النشاز في الضجة الآتية من الشارع، في أثناء سماع الـتالا، مع عصا الأستاذ التي تضرب الإيقاع في انتظام. لا بدَّ من استدماج هذا كله، في وعي ترابُط الأشياء كلِّها.

التزامن عبارة تحديدًا عن إمكان إضفاء معنى على ما لا معنى له. وهذا الشغل، هذا العمل، يقود إلى الإبداع، على الرغم من قَوْنَنة الرقص الهندي التي لا تصدَّق. فالإدماج التدريجي للمعاني المتعددة المضفاة على حركة يد، أو أسطورة ما، أو دورة إيقاعية، إلخ، يتيح لكلِّ فنان أن يصبح مبدعًا هو الآخر، فلا يبقى مجرد مفسِّر لمنظومة عريقة. التقويم، إذن، يتجه نحو الحرية.

ب.ف.إ.: كنت تتحدثين في البداية عن "الولادة مرتين" وعن الجهود التي لا يستهان بها التي يجب أن تُبذَل من أجل التقويم، كالتي بذلتْها أستاذتُك سوارناموكهي...

م.ك.ل.: إنها ممارسة اتَّبعتها بعض الوقت. لكنْ بما أني لست شرقية، كان مكمن الخطر في استعمال هذه الفكرة مع إرادة إخضاع الجسم. لم أبدأ الرقص في سنِّ الخامسة مثلما بدأتْ أستاذتي، التي تشكَّلتْ في قالبٍ صَنَعَه لها والدُها. فلكي أرقى، من جانبي، إلى مثل هذا المستوى من الممارسة، كان عليَّ أن أريد ذلك حقًّا وأن أبذل جهدًا إراديًّا، مجاهدة – وهو ما تخليت عنه فيما بعد ليقيني بأني لن أستطيع فيما بعد نَقْلَ هذا الشكل من التقويم لشخص آخر. فما من أحد سوف يتبعني، مثلما أنه ما من أحد، في الهند، يواصل اندفاع أستاذتي. فهذه الدرب دربٌ شخصية خارقة، لكنها تمثل حالة فريدة من نوعها. غير أننا اليوم أحوج ما نكون لنقل أشياء جوهرية حتى يتسنى لنا الاستمرار في التنفس على هذا الكوكب، ونقوم بأكثر من مجرد مجاهدة نوعية، هندية حصرًا، مرتبطة بالدين كلَّ هذا الارتباط.

 

مانوشهايا، معبد طنجور (جنوب الهند)

ب.ف.إ.: كنت تقولين بأن ثمة توترًا هائلاً، هو الشرط الأساسي لكي تحدث قفزة غير متوقعة، لاسببية، ولكي تتجسد الشاقولية من جديد، في شكل متجدِّد كلَّ مرة...

م.ك.ل.: أجل! ثمة عامل أساسي في هذا الفنِّ، من السهل جدًّا فهمُه: هناك كيفيتان للحركة، تُدعيان لوكادهرمي وناتيادهرمي. فالحركة الأولى هي كيفية التحرك الاعتيادية، الآلية: الجسم يتبع. حين تأخذ كأسًا فإنك تفكر فيها، وليس في طريق اليد للوصول إليها. لوكادهرمي حركة خاضعة للعالم ولقواعده الميكانيكية، أي لبِلى الزمن: يزداد المرء تعبًا بمرور الزمن؛ وكلما تقدَّم في العمر وجد مشقة أكبر في تسلق جبل أو في الأداء البدني للرقص. إنها عبارة عن الحركة الخاضعة للزمن التاريخي الممتد من الولادة إلى الموت. ثم هناك ناتيادهرمي، درب الرقص الذي ينطلق من حركة يومية، مثل حَضْن طفل بين الذراعين، وهو ما يتطلب من المرء الكثير من الانتباه حين يريد أن يقوم بهذه الحركة على الطريقة الهندية، دون أن يكون هو نفسه هنديًّا. فالهدف من هذه الحركة ليس أن يحاكي هذه المرأة الهندية، بل أن يفهم حركة وجدان الأمِّ تجاه طفلها. فلهذه الحركة جوهر عميق يجب أن نفهمه: أن نفهم كيف تحدث طبيعة الأشياء، وليس مجرد الحركة البدائية الفعلية غير الواعية.

هناك، إذن، طريق كامل للوعي. لكن الأمر أبعد من ذلك بكثير: فلكي نقوم بهذه الحركة المتمثلة في حَضْن طفل بين الذراعين نقوم، مثلاً، بردِّ الذراعين إلى الصدر، وكأننا نحضن حقًّا هذا الطفل في هذا الحيِّز الدائري للذراعين، ثم نضغط على هذا الطفل بردِّه، بضمِّه إلى قلبنا. لكنِّي، إذا أنا قمت بهذه الحركة كما لو كان الأمر مجرد محاكاة لحركة يومية عادية، لتحوَّل الأمرُ إلى مجرَّد قضم في الخواء. أما في ناتيادهرمي، فإني أخلق فضاءين، توترين متناقضين، بمعنى أنني أحس بأن ثمة فضاءً أو مقاومة يجب أن أضمَّها، وكأن هناك جسمًا ماديًّا حقيقيًّا ما بين ذراعيَّ، حتى تكون هذه الحركة حركة حقيقية فعلاً. هذا اللقاء ما بين العضوي والخيالي، ما بين حركة الجسم المادي وما بين هذا الفضاء، هو الذي يخلق توترًا ماديًّا حقيقيًّا. والشخص الذي يشاهد هذه الحركة يشعر حقًّا وكأن ثمة طفلاً موجودًا بالفعل في هذا الفضاء. وهذه العلاقة مع جوهر الحركة هي التي تجعل من ناتيادهرمي شيئًا عالميًّا. فإنْ أنا رقصتُ أمام متفرجين من فاس أو من نيويورك فإن الجميع سوف يفهمون معنى حركتي.

لكن هذا كلَّه ليس محاكاة! إذن ما هو الفرق؟ في المحاكاة نقول: "إنها هندية تمسك بطفل هندي ما بين ذراعيها!"، ونقف عند هذا الحدِّ من التفسير الثقافي، ليس إلا! بينما حركة ناثيادهرمي تتيح لنا تجاوُز الحدود الثقافية. وفي هذا حصرًا أفهم معنى التقويم. فمن مثل هذا اللقاء ما بين قوتين – واحدة فيزيائية وأخرى خيالية – ينبثق الوعي فجأة... إنها "الآه!" التي تتبلور فجأة من خطوة الرقص الأولى، من الحركة الأولى. وهذا ما يَرِدُ في نصِّ ناتياشاسترا – وهو النص الأساسي للفنِّ الدرامي الذي يمثل الرقص والموسيقى والشعر أجزاء منه. هذا النص العظيم الذي يعود لألفي عام مضت ينص، كخطوة أولى على المسرح، على ما يُسمَّى أدبهوتا دريشتي، أي النظرة المذهولة. ويا له من شيء خارق! هذه النظرة المذهولة، التي توفِّر على المرء الارتباكَ على الطريقة الغربية، أي أن يحسب أنه شخص مهم حين يطأ المسرح. فمع "آهِ" الحضور يزول، فجأة، التمييز بين الخارج والداخل. فالذهول اندماج. ولكن، في الوقت نفسه، حين يطأ المرء الخشبة، لا يرى شيئًا، بما أنه يمشي في السَّواد، في الفراغ؛ وهو شيء من المهم التنقيب عنه، لأنه ليس ثمة هاهنا، كما في الفكر البوذي، أهمية مضفاة على الفراغ... فهذا اللقاء مع الفراغ في الرقص الهندي لقاء دقيق وحاذق، وليس من السهل وصفُه أو الحديث عنه. إنه فراغ ممتلئ. الأمر أشبه ما يكون بمركز الحركة: كلما ازدادت سرعة الدوران ازداد حضور المركز الفارغ في الوسط.

ب.ف.إ.: ألا نقع على هذه الفكرة لدى البوذيين؟

م.ك.ل.: بلى، فالمشكلة التي تجعل التعليل صعبًا هي مشكلة مفردات بالدرجة الأولى. إنها حقًّا مسألة إثبات وجود: لا يتم حينئذٍ إسقاط أية فكرة، أو صورة، أو حركة مفتعَلة سلفًا.

هناك مثال يبيِّن ذلك جيدًا: لدى الدخول إلى الخشبة، تكون الحركة الأولى التي أقوم بها هي حركة إظهار زهرة، فأمط أصابعي على شكل مروحة، ألابدما، "اللوتس نصف المتفتح". لكن في الواقع يجب ألا أُظهِر الزهرة. ذلك هو الجهد الهائل الذي يجب أن يبذله كلُّ غربي يشتغل على هذا الفن. فبحسب مبادئ ناتيادهرمي، ينبغي عدم التشبث بالكلمة، ولا بعلاقة الصورة بالكلمة أو بعلاقة الحركة بالكلمة، ولا بالسرد. يتم سرد قصص، لكنها مجرد قصة، هي القاعدة المادية للكلام على شيء آخر. وهذا المستوى مهم جدًّا. قطعًا لا بدَّ من تعلُّم هذا الكود، لا بدَّ من مطِّ الأصابع؛ إنه عمل جسماني متكامل، رمزي... لكن حين تؤدي الراقصة ذلك على المسرح، فإنها لا ترى زهرة، ولا الجمهور الذي لا يفقه شيئًا من مفردات الـمودرا[2]. يمكن للمرء حينئذٍ أن يتساءل عن فائدة ذلك!

تفكَّرت طويلاً في ذلك مع أستاذي في الرقص بأنْ طرحت عليه مشكلتي: ماذا أحكي؟ – أنا التي لن تكون أبدًا هندية تمامًا، ولا تتكلَّم اللغة، وتخاطب جمهورًا أجنبيًّا. ألن أبتعد تمامًا عن المنبع؟ غير أن عنصر التفسير الذي أجده خارقًا هو هذه الفكرة، كما في مثال الأم وطفلها، في أن المرء لا يُظهِر الزهرة، بل تفتُّحَها. إذ سوف يفتح براعم الزهر، ليس باليدين وحسب، بل بحركة الجسم ككل. والناظر سوف يشعر بما يعنيه التفتح، في نوع من عدوى الحركة. كذلك فإن لكلِّ مودرا، وبالتالي لكلِّ وضع من أوضاع اليد، عشرات، بل مئات من المعاني الممكنة – وأنا أعلم، بعد عشرين عامًا من المراس، أنني على وضع من أوضاع اليد يمكن لي أن أرقص ساعتين كاملتين، من فرط ما ينطوي عليه من غنى ويحمل من القصص الممكنة: من أين تأتي الزهرة؟ أتأتي من براهما؟ من فشنو؟ من إحدى الإلهات؟ يمكن للمرء أن يمط الأمر إلى ما لا نهاية... لكنه لحظة يقوم بذلك – وهاهنا نعود إلى فكرة التقويم، – حين تنتصب الزهرة في الفضاء فإن الوعي هو الذي يجيز لها أن تفعل ذلك، بأن يعطيها كلَّ مداها الرمزي الممكن. إذا أديتُ هذه الحركة آنيًّا لن أرى زهرة، بل مئات، حديقة كاملة. هل سأختار زهرة من زهرات هذه الحديقة؟ لا أستطيع. ذلك خارق. إذا اتفق لزهرة معينة أن تنتصب، لأنها تقابل لحظيًّا المغزى من التاريخ، أو العلاقة مع الجمهور، أقول نعم، لكني يجب أن أستمر في رؤية جميع الزهرات التي يمكن لها أن تنتصب. وهذا المعنى المتمثل في فتح عالم رمزي أوسع فأوسع يتيح للمشاهِد أن يختار الزهرة التي ستكون زهرة الحديقة التي سوف تنتصب.

إذا كنت أؤدي ألابدما للمرة الأولى لن أقدر على تمرير هذا البُعْد الرمزي بأكمله. إنه اشتغال على لغة الجسم، على المادة. وهاهنا الترويض والانضباط شديدان، والسؤال الكبير يتعلق بمعرفة كيفية نقلهما إلى الشباب. في الهند، يمكن تشغيل طفل مئة مرة كلَّ يوم، بدءًا من الساعة الرابعة صباحًا، على مطِّ أصابعه، لكن هذا متعذر في أوروبا! لذا لا بدَّ من إيجاد جسر. وهذا جوهري – وإلا فإن العالم الرمزي، عالم الوعي، لا يمكن أن يتبلور. وفي الوقت نفسه، لعلنا لم نعد نحيا في عالم من التكرارية، كما في البلاد التي يتواصل فيها منقولٌ عظيم. هل نحن في زمن يتسارع فيه الوعي، بما يجعل حدوث الكشوف أسرع ولحظات النعمة أوفر عددًا؟ تلك مسألة كبيرة!

ب.ف.إ.: إذا وضعنا أنفسنا في إطار النشأة الأولى للإنسان، نلاحظ أنه قد حدث عند فجر الإنسانية تقويمٌ أصلي عندما انتصب البشر – في تاريخٍ بدأنا لتوِّنا في الإحاطة به، ضمن شروط مازلنا على قدر كبير من الجهل بها (بوجود المعركة الكبرى بين الداروِنيين الآلتيين، الذين يبدون متعقِّلين ومتروِّين في اعتقادهم بأن كلَّ شيء تمَّ تدريجيًّا وبمحض المصادفة، وبين الذين يعتقدون بأن الحركة تمَّت عبر طفرات، الأمر الذي يبدو من قبيل الجنون، لكنه مع ذلك أقرب إلى الواقع، على ما يتبيَّن).

على كلِّ حال، فإن هذا الانتصاب الأصلي ينبغي على كلِّ بشريٍّ أن يعيد تجسيده، بعد ولادته حين يتعلَّم الانتصاب شيئًا فشيئًا، ثم لدى نهوضه كلَّ صباح، وفي صورة أعم كلما شعر بضرورة الحفاظ على استقامته. لقد شاءت الحياة بأن ينهض كلُّ واحد منَّا، كلَّ صباح، من جديد؛ لكن هذا لا يكفي للقيام بطفرة. والحال فإننا في الظاهر لم نُخلَق لكي نجدِّد هذا الانتصاب كلَّ صباح، بل لكي نعيه حقَّ الوعي... فكما كنت تقولين: ألا نكون الزهرة، بل الربيع! وهو ما يفترِض أن نقيم في الانتصاب إقامةً واعيةً وشاعرية أيضًا – وفي تهلُّل أيضًا...

م.ك.ل.: أحب هذه الفكرة الهندوسية الجميلة جدًّا، الموجودة كذلك في الرقص، وهي أن الانذهال يبدأ بتفكيك ما نعتقد أنه صورتنا الجسمانية، سواء عند دخول الراقصة إلى المسرح، أو حتى في تدربها اليومي على بوشبنجلي: قربان الزهور... تصل الراقصة وفي يدها بتلات ورد، تقرِّبها إلى الإله وهي ساجدة على الأرض – وقد صارت هذه العملية الآن مجردة، لأن الراقصات بتن لا يحملن بتلات حقيقية في أيديهن. غير أني أعتقد أنه من الأهمية بمكان أن تحمل الراقصة هذه البتلات، لأنه ينبغي المرور عبر المادة لكي تتم العملية الخيميائية فيها حقًّا. وهذا يعني أننا، بهذه الكيفية، نقدِّم أبداننا قربانًا، مثلما هو الشأن لدى ميلاد العالم في الهندوسية: فالإنسان الكوني يقطِّع أوصاله حتى يتسنَّى للكون أن يتجلَّى في أشكاله وصوره كلِّها. وبالمثل، يجب على الفنان أن يبدأ بتقديم جسمِه قربانًا – وردتِه بتلاتٍ – يعود إلى الأرض لكي يغيِّر شكله. إنها الفكرة الشيفاوية[3] عن التحول الدائم للأشكال. فكل شيء حركة، وينبغي عدم التشبث بالأشكال البدنية. وعلى هذا المستوى، يصبح الغنى هائلاً: فتارة تصبح الراقصة سمكة، وتارة أخرى طائرًا... في اندماجٍ كامل مع عناصر الطبيعة أو مع أفكار.

وعلى هذا النحو، يشكِّل النهوضُ [الانتصاب] كلَّ صباح – مثل الطفل الذي ينطلق في البحث عن تماهيه مع عنصر من العناصر – بؤرةَ إبداعنا الحقيقي. فلا شيء أكثر كآبة ورتابة من أن ننهض في الصباح ونجلس للفطور، فنحس أننا نكرِّر ما كنَّاه بالأمس! إن الإبداع المطلوب منَّا هو أن نحسَّ بذواتنا من جديد، من خلال حركة أو من خلال تنفس... لأن الجسم، في رأيي، يتيح لنا أن نحسَّ بماهية أن نكون مختلفين كلَّ مرة. الشعور بالذات شيء آخر على مستوى القلب. إنها خيمياء، ومركز... إنها الشاقولية التي تكلَّمنا عليها لتوِّنا. فكلما تحكَّمتُ أكثر في جسمي المادي أحسست أنني على اتصال بالآخر المختلف تمامًا.

ب.ف.إ.: هذا تصوف عميق...

م.ك.ل.: أجل، لكن كلَّ شيء يمر عبر الحركة، في اللحظة التي أتنفس فيها أو أمشي. إنها إحساس باللانهائي، بما هو "آخر". في حين أنني، إذا عدت عشرين سنة إلى الوراء، عندما شرعت في الرقص، كنت مستغرقة أكثر في الفكرة، في المثال، في البحث عن شيء لم أكُنْه بعدُ، ولم أكن أستطيع أن أكونه. بعد عشرين عامًا، يمكن لي القول إن ممارسة الحركة تعطي الإحساس بالآخر، الذي هو، في الوقت نفسه، حضور. ليس ثمة انفصال... في هذه الحالة نكون في حالة بحث عن شيء آخر... إنها خبرة يصعب شرحها. في تلك اللحظة نكون متناغمين مع أنفسنا حقًّا. وهذه بالفعل خبرة صوفية حقيقية تنم عن سرٍّ عظيم!

لكن هناك طريقين في الـبهكتي[4] – بما أن الرقص هو حقًّا شكل من أشكال الـبهكتي، أي فطنة القلب (وليس "العبادة"، وهو مفهوم يبالَغ في إساءة تفسيره عندنا): طريق الثنوية وطريق اللاثنوية. يفترض الطريق اللاثنوي طلبًا للانعتاق. فأنت تطلب الاتحاد: عدم الانفصال، لأنه لا يطاق. وهذا يتطلب منك كدحًا، مجاهدة، إرادةً ليست إرادة الأنية ego. بينما في طريق الثنوية، يقبل المرء أن يبقى الآخرُ آخرًا وأن تكون ثمة لحظات نعمة، اتحاد، من أجل اختبار الـرازا، أي الشعور الجمالي – عارفًا بأنه سيضطر إلى العودة، في تواضع، إلى إيقاع يومي، إلى شيء ليس مكتسَبًا كلَّ الاكتساب. وهذا البُعْد هام جدًّا فيما يمكن للمرء أن يمرِّره في الغرب عن هذا الطلب – إذ إننا لم نعد نحيا في عصر المجاهدة: لا يمكن لنا أن نطالب أحدهم بأن يتخلَّى عن كلِّ شيء في سبيل هذا النذر الإلهي – وإلا فلا بدَّ للمرء من أن يصرف حياته كلَّها في الهند – إنما يمكن للمرء أن يقوم بالأمر مع بقائه في الحياة اليومية التي يمارسها.

ب.ف.إ.: هو شكل من أشكال كرما يوغا[5]، يوغا بحركات الحياة السوية، اليومية، التي تُمارَس ممارسة واعية...

م.ك.ل.: بالضبط. وهذا يسمح بإيجاد الشاقولية في الإصغاء – وهو ما ذكَّرني به الموسيقار التركي الكبير قدسي إرغونير في حفلته في مهرجان الموسيقات المقدسة بفاس. وأنا من جانبي أعزف أيضًا على الناي الكرناتكي، وبالتالي فإني أفهم هذا الأمر جيدًا. الناي يصرخ، ينوح، لأنه اقتُطِعَ من القصب. أنت تعرف هذا البيت الرائع الذي يفتتح مثنوي جلال الدين الرومي. لن يكف الناي عن النواح انفصالاً عن الحبيب! وإن قول ذلك، في حدِّ ذاته، يهب لحظة من النعمة يزول فيها الانفصال. لكن على المرء أن يقبل ذلك أولاً! إنها مفارقة يحرص عليها الرقص الهندي، الذي تحكي فيه القصصُ عن الانفصال عن الحبيب: لقد غاب عنِّي، وأنا وحدي، حزين، والجسم منطوٍ على نفسه نحو الأرض، نحو الذات... وفجأة، يجعل قولُ ذلك أو رقصُه الكيانَ ينتصب، لأنه في هذا الوعي لا يعود ثمة انفصال!

ب.ف.إ.: يمكن لنا تشبيه ذلك بظاهرة الفيزياء التي تصطف فيها ذريراتُ الحديد الداخلة في حقل جذب مغناطيسي، وتتبع خطوط الحقل، ممغنَطةً في الاتجاه نفسه. والمغناطيس، بحضوره، يحوِّل "وعي" كلٍّ من "أنيات" البرادة!

م.ك.ل.: غير أن التقويم يتطلب مغناطيسًا، أو بالأحرى مغنَطةً، لا تفترض وجود كيان خارجي ينحو نحوه المرء. إنه بالأحرى مبدأ مغنطة. والشاقولية تُصنَع عبر المغنطة التدريجية للأجزاء، من خلال تواقُت العناصر كافة... لا يمضي المرءُ على درب، من نقطة انطلاق إلى نقطة وصول تكون هي المغناطيس أو الحبيب الذي يجذب، لكنه يكون على الدرب وحسب. يزول التمييز بين القبل والبَعد. إن مبدأ المغنطة هو الذي يفرض قبول كافة الشروط التي يوجد فيها المرء في كلِّ لحظة ويضفي عليها المعنى.

ب.ف.إ.: من وجهة النظر هذه، فإن عمل التمرس الهائل على هذا الرقص يجب أن يجعلنا، على نحو ما، نغوص في كلِّ جزيئة من جزيئاتنا، في كلِّ خلية من خلايانا، حتى تتخذ الاتجاه نفسه...

م.ك.ل.: أجل، إنها حقًّا صلة بالخلايا! وهذه السيرورة تصاعُدية. ثمة جانب الإحساس المفرط الذي يجعل الراقص، في الوقت نفسه، يشعر بهشاشة أكبر فأكبر. فكلما عمل الراقص أكثر تحكَّم أقل في جسمه المادي. إذ إنه لدى القبول بمحدودية الجسم – مع العلم بأنه من الصعب جدًّا على الراقص أن يقبل بأن يشيخ، بأن يغادر المسرح في اللحظة المناسبة... والحال أن الهند وهذا الجانب المقدس من الرقص هما اللذان يمنحان هذه الحكمة: كلما صرنا بلورًا صافيًا صرنا أكثر قابلية للكسر، إنما، في الوقت ذاته، صارت أبدانُنا أكثر شفافية للنور. لكن هذه الحكمة ليست ملكًا لنا؛ إذ إن الوعي الكبير بالحالات القصوى هو الذي يوجِد هذه الشفافية. إننا نصبح منتبهين لعدد كبير من الأشياء في الوقت ذاته – تمامًا مثلما ينبغي على الراقصة أن تعرف كيفية التوقيع على الأرض بجزء من أخمص قدميها، وفي نفس الوقت، أن ترقص بعينيها... هناك هذا التفكك المذهل لأجزاء الجسم، ومن ثَمَّ تفتُّت في الأشكال والاتجاهات – وهو بالضبط ما يجعلنا نتساءل: "ولكن أين هو المغناطيس؟ وأين تقيم الشاقولية؟" هذا يتم بالفعل عن طريق الوعي: إنه الشيء المقيم هنا [تشير إلى قلبها]، الذي يشارك في كلِّ شيء في نفس الوقت – ليس بمعنى رؤيته لما يحدث، لأننا حينذاك نقع في مشكلة الممثل/المُشاهِد – بل الشيء الذي يشارك في كلِّ شيء في الوقت نفسه.

ب.ف.إ.: ولكن فلنأخذ مثال رياضيٍّ كبير، يتوصل إلى درجة خارقة من السيطرة على حركاته والتنسيق فيما بينها – لنقل، في القفز بالزانة، وهي رياضة عجيبة بمقدار ما يكون المرءُ الذي يتمكن من خلالها من قذف نفسه في الهواء (شاقوليًّا!) رياضيًّا كله عضلات. غير أن في الوسع أن نتخيله يستطيع أن ينجز مآثره من دون أية قطرة واحدة من الوعي الذي تتكلَّمين عليه...

م.ك.ل.: الأمر هنا عبارة عن سيطرة تقنية، تتطلب قطعًا وعيًا بمعنى التركيز، الانتباه الحاد إلى موقف، انضباط شاق... لكن الفارق بينها وبين ممارسة الحركة المقدسة تكمن في أن هذا الرياضي يستطيع في المآل أن يفعل على مستوى روحي، لكن شريطة أن يقرِّر شخصيًّا إضفاء بُعْدٍ رمزي على ما يفعل. وإذ ذاك فإنه، حتى حين يكف عن ممارسة رياضته ممارسةً بدنية، ستتواصل الحركةُ فيه – وإلا فإنه سيشعر بالمرارة، وبأنه كان واهمًا...

ب.ف.إ.: قلتِ إن ثمة نوعين من الحركة: الحركة المطبوعة بالسيرورة العامة للعالم، المأخوذة في الزمن والذاهبة بالتالي حتمًا نحو التفسخ (يصطلح الفيزيائي على تسميتها بالـ"إنتروبيا")؛ وحركة تتملَّص من نهر الزمن وتبني مستوًى آخر من الوجود ينجو من البِلى (وعندئذٍ يجوز الكلام على "إنتروبيا سالبة"[6])...

م.ك.ل.: يمكن للقافز بالزانة أن يحيا فعلاً خبرة روحية في ممارسته لرياضته إبان سنوات، بالغًا قدرةً على التحكُّم وجمالاً كبيرين. لكن ما يميِّز بينه وبين ممارس فنٍّ مقدس هو أنه لن يبلغ الروحانية من غير أن يواصل رياضته في بقية حياته، في نشاط للوعي. فكونه عاش هذه الخبرة الجسمانية سوف يتجاوب في حياته. هذا ممكن. إذ إن الشاقولية سوف تتواصل خارج الملعب، في حالة من التجاوب تتجاوز البدن، متخلِّلة خلاياه كافة، بحيث يتلاقى اللامتناهي في الكِبَر واللامتناهي في الصغر. إذن قد يحصل له فعلاً، وهو يقفز بالزانة، أن يتفتت في اللانهاية...

ب.ف.إ.: بعض الأبطال الرياضيين يقولون حتى إن النعمة سكنتْهم فجأة في لحظة إحدى المآثر، متكلِّمين حتى على خبرة صوفية، ذاهبين حتى القول بأنهم "رأوا" أنفسهم من خارجهم وهم ينجزون عملهم! لكن ما أبعد السياق الرياضي عن هذه الأبعاد، حتى إنه يعاكسها؛ إذ إن شيئًا آخر هو الذي سيلاحَظ، ويشدَّد عليه، ويصفَّق له، ويُنبهَر به، ويهلَّل له، بما يجعل هذا المظهر الروحي يفوتهم، ويتطلب أن يتحلَّى المعنيون أنفسهم بنفوس مسقية كالفولاذ لكي يستطيعوا أن يحيوا ذلك حياةً واعية.

م.ك.ل.: هذه العلاقة بالشاقولية، ولاسيما في فكرة القفز، هي الشيء الذي لا يُرى. لا بل كلما كان الأمر أقل رؤية من الخارج كان أقوى. أجل، إن هذا يبقى مرتبطًا بالجسم – حين ترى شخصًا يمشي منتصب القامة ، تراودك رغبةٌ في تقليده؛ إنها العدوى. إذا كنت تراه حقَّ رؤيته فإنك تنتصب أنت أيضًا رغمًا عنك؛ فالعدوى، إذن، أساسية. لكن دونكَ شخص واقف منتصب القامة للغاية، ولا ينم في ذلك إلا عن جمود رهيب! يجب، إذن، توخِّي الحذر وعدم تقليد أيٍّ كان...

ب.ف.إ.: حوالى العام 1968، كنَّا كثيرًا ما نخلط خلطًا اعتباطيًّا بين الاستقامة وبين الجمود – في حين أن الأمر عبارة عن تعليم كلِّ أحد بأن يحيا في وعي أرفع!

م.ك.ل.: أجل، لكني عندما التقيت بمعلِّمي الشيخ في الرقص، من ميسور، للمرة الأولى، كنت أجيد مجموعة كاملة من الرقصات الجاهزة، وكنت فخورة بأن أقدِّمها له، آملةً في أن يتخذني مريدة... لكنه اكتفى بأن طلب مني أن أجتاز الغرفة أمامه وأنا أمشي مشية طبيعية! الأمر، في نظري، كان مُذِلاًّ! لكنه ما لبث أن سألني إنْ كانت كلُّ نساء بلادي يمشين على هذا النحو. فقلت له إنني، على أية حال، قد أختلف عنهن بعض الشيء بعد كلِّ العمل الذي قمت به. عندئذٍ راح يحدثني عن "الشاقولية المسترجلة" المنبعثة منِّي، وأفهمني أنها لا تمت بصلة إلى شاقولية سماء–أرض، بل إلى شاقولية إرادة أفقية: ففي الغرب يعرف المرء ما يريد وينتصب سائرًا نحو هدفه.

عندئذٍ، تحت أنظاره، اجتزت الغرفة بهدف إقناعه، تحدوني إرادةٌ صلبة. وفيما بعد، جاء إلى أوروبا وصعقه كونُنا هنا جميعًا هكذا، رجالاً ونساء. قال لي: "في خلال شهر من السفر رأيت امرأة واحدة أو امرأتين وحسب!" فسألته عما ينقصنا، فردَّ قائلاً: "ينقصكم مبدأ التكامل." ففي رأيه أنه نقصٌ يعاني منه كلا الجنسين: فالنساء يمشين مثل الرجال؛ لكن الرجال أنفسهم لا يعرفون كيف يمشون! فما ينبغي أن نفهمه، إذن، هو التكامل. وعندئذٍ يمكن لنا أن نمشي في الشاقولية، في هذا المركز الذي كنت قد بدأت أرسِّخه فيَّ آنذاك، لكنْ ليس بما يكفي... وقد قال لي الأستاذ: "لست أرى العارِشة التي تتسلق من حول الشجرة."

ب.ف.إ.: ماذا يعني هذا عيانيًّا؟

م.ك.ل.: جسمانيًّا، حالما يُحسِنُ المرءُ نصب ظهره، عليه أن يتعلَّم العمل على مستوى الحجاب الحاجز، والضفيرة، وكل ما هو من طبيعة موجية؛ فالأمر بلا توقف عبارة عن لعبة قوى متضادة. ثم، رويدًا رويدًا، يجب التقليل من ذلك بقدر الإمكان بحيث لا يعود مرئيًّا. هناك أساليب تشدِّد على هزِّ الوركين عند الإناث أو على فتح الكتفين عند الذكور – وهذه صورة هزلية. لكن أستاذي، في البداية، جعلني أبالغ في هذه الحركات؛ ثم، بمرور السنين، طلب منِّي شيئًا فشيئًا أن أواريها.

ب.ف.إ.: لقد تلقيتُ دروسًا كاوية في فنِّ مواراة الحركات داخل الذات في أفريقية، عند فيلا حصرًا. كان رقصي فظًّا، يُظهِر إظهارًا لا حياء فيه "العجلات" التي تجعل جسمي يدور، في حين أن الأفارقة يكادون لا يتحركون البتة، مكتفين بترك هذه الحركات "تدور" فيهم دورانًا أصمًّا.

م.ك.ل.: نجد هذه الفكرة في الموسيقى الهندية لدى العمل على الفاصل. وأظن أن هذا أيضًا هو ما يسمح بتصور القفزة: لا يذهب المرء من نقطة إلى أخرى، بل يولي اهتمامه لما يوجد بينهما – وهذا في الموسيقى هو النغمة الصغرى، التي تتاخم الصمت، لأنها تكاد أن تكون غير مسموعة؛ وفي الرقص هو الحركة الصغرى، التي تمر عبر الأحاسيس والحساسيات التي تقترب من الخلية... إنه عمل عبارة عن إعادة تركيب الوردة اعتبارًا من بتلاتها. يجب الابتداء من حركة صغيرة للغاية. الأمر مذهل نوعًا ما.

كلما توغَّلتَ في هذا الاستكشاف أدركتَ أن حياة بكاملها لن تكفي لاستكشاف حركة واحدة استكشافًا كاملاً. وهذا يسمح لك بالانفصال جَوانيًّا عن عالم الفرجة، عن استظهار الطاقات، لتحويلها إلى حكمة. وهذا قابل للتوصيل. فالطلبة يحسون به؛ ولذلك نراهم لاحقًا يفتشون بأنفسهم عن هذا الإحساس باللامتناهي الذي نَقَلَه لهم الأستاذ.

*** *** ***

ترجمة: مدني قصري

مترجم جزائري مقيم في الأردن

Magues2004@hotmail.com


 

horizontal rule

[1] كارلوس كاستانيدا أنثروبولوجي أمريكي تتلمذ على ساحر عشيرة الياقي دون خوان، ودوَّن خبراته معه ومع سواه من المعلِّمين في سلسلة من الكتب الرائعة لاقت رواجًا كبيرًا وأثَّرت في جيل كامل من الباحثين عن "بُعْد آخر" في الوجود. (المحرِّر)

[2] الحركات والإيماءات الرمزية التي تفعِّل طاقات معينة في الجسم. (المحرِّر)

[3] نسبة إلى شيفا، المظهر المميت للإله. (المحرِّر)

[4] كلمة سنسكريتية تشير إلى طريقة يوغية أساسها الخشوع الدائم للقلب، أداتُها تطوير العاطفة وتكريسها لمحبة الإله وخدمته كأساس للتحقق الروحي. (المحرِّر)

[5] كرما مشتقة من الجذر السنسكريتي كْرِ، وتعني "الفعل". وكرما، على مستوى الإنسان، يعني العمل المرتبط بكياننا كلِّه. فهذا اليوغا هو طريق الاتحاد بالمطلق من خلال العمل. (المحرِّر)

[6] إنتروبيا entropie جملة ترمودينامية تزداد كلما حصل فيها اضطراب ينجم عنه ازدياد الفوضى. فالإنتروبيا مقياس لحالة فوضى على السلَّم المادي؛ وعكسها الإنتروبيا السالبة التي تعبِّر عن درجة النظام والاتساق. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود