english

الصفحة التالية            الصفحة السابقة

جمع القرآن – 4

جون جلكرايست

 

الفصل الرابع: الفقرات التي فقدت من القرآن

1.    التدوين غير الكامل للمصحف

لقد رأينا من قبل أنه بعد مقتل عدد كبير من القراء في معركة اليمامة ذهب جزء من القرآن كان لا يعلمه إلا هؤلاء. هناك أيضًا عدد من الروايات الصحيحة توضح أن آيات منفردة، وأحيانًا مقاطع كاملة، فقدت من القرآن. لقد أجمع المؤرخون المسلمون القدامى على أن القرآن في حالته الراهنة غير مكتمل:

قال أبو عبيد‏:‏ حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال‏:‏ لا يقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله وما يدريه ما كله. قد ذهب قرآن كثير. ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر‏.‏ (السيوطي، الإتقان في علوم القرآن)

كثيرة هي الأمثلة التي يمكن سردها، لكن سنكتفي في استدلالنا على الأمثلة المشهورة فقط. سنبدأ بمثال متميز يتعلق بآية كانت تُقرأ كالتالي:

وإن ذات الدين عند الله الحنيفية غير اليهودية ولا النصرانية ومن يعمل خيرًا فلن يكفره. (السيوطي، الإتقان في علوم القرآن)

ورد في كتاب التفسير للترمذي (هذا الكتاب جزء من الجامع الصحيح الذي يُعتبر واحدًا من كتب الحديث الستة الصحيحة كصحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي وبن ماجة) أن هذه الآية كانت في وقت ما تشكِّل جزءًا من سورة البينة (السورة 98) (Noeldecke, 1.242). هذا الأمر جد محتمل لأن الآية تنصهر جيدًا في سياق هذه السورة القصيرة التي تحوي بعض الكلمات الموجودة من النص المفقود كـ "دين" (الآية 5)، و"عمل" (الآية 7)، و"حنفاء" (الآية 4)، وتبرز معارضة دين الله لمعتقدات اليهود والنصارى.

من المهم أن نشير هنا إلى أن الآية، في شكلها الحالي، تُقرأ كالتالي: "إن الدين عند الله الإسلام" في حين كان بن مسعود يستعمل كلمة "الحنيفية" مكان كلمة "الإسلام"[1] (Jeffery, Materials, p. 32) وهذا يوافق ما ذكره الترمذي بخصوص السورة 98. وقت بدأ محمد دعوته كان هناك أناس ينكرون عبادة الأصنام ويسمون أنفسهم "حنفاء" أي الذين يتبعون الطريق المستقيم ويحتقرون المعتقدات السائدة آنذاك.

من المحتمل أن يكون محمد قد سمى دينه "الحنيفية" في بداية الأمر، ولما صارت لهذا الدين هوية خاصة غير إسمه ليصبح الإسلام وصار يسمي أتباعه "المسلمين"، أي أولئك الذين لم يكونوا فقط يتبعون الطريق المستقيم بل كانوا في نفس الوقت يسلمون أنفسهم لله الذي أوحى هذا الطريق المستقيم وأمر باتباعه. هذا ما يفسر سقوط كلمة (الحنيفية) من القرآن وفقدان الآية التي تحدثنا عنها سابقًا.

يذكر البيهقي في السنن الكبرى[2] مقطعًا كاملاً قيل إنه فُقد من القرآن، حيث روى أن أبي بن كعب تذكر أنه في وقت من الأوقات كانت سورة الأحزاب بنفس طول سورة البقرة، يعني أنها كانت تحوي على الأقل 200 آية لا توجد في النص الحالي (البيهقي، السنن الكبرى، الجزء 8، ص 211)[3]. من المهم أيضًا أن نذكر أن هذا المقطع المفقود كان يحوي آية الرجم كما سنرى قريبًا. هناك أدلة إضافية على فقدان سور بأكملها من المصحف الحالي. يروى أن أبا موسى الأشعري[4] كان يقول لقراء البصرة:

حدثني سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر عن داود عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبيه قال: ثم بعث أبو موسى الأشعري إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن، فقال أنتم خيار أهل البصرة وقرآؤهم فأتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة، أني قد حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثًا ولا يملأ جوف بن آدم إلا التراب. (صحيح مسلم، جزء 2، ص 726، رقم 1050).

الآية التي ذكرها مسلم هي بالفعل إحدى النصوص المعروفة التي فُقدت من القرآن، والتي سنتطرق لها لاحقًا. يضيف أبو موسى:

كنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات ما ننساها غير أني حفظت منها‏:‏ يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون‏، فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة. (السيوطي، الإتقان في علوم القرآن).

الرواية المذكورة هنا مستقاة من حديث صحيح مسلم الذي عرضناه سابقًا. المسبحات هي السور التي تبدأ بـ "يُسبح" أو "سبح" "لله ما في السموات والأرض". الكلمات التي تحويها الآية الأولى التي ذكرها أبو موسى هي نفسها الموجودة في الآية 2 من سورة الصف[5] في حين يشبه النص الثاني الآية 13 من سورة الإسراء[6]، وهذا ما يفسر لماذا تذكر أبو موسى هاتين الآيتين بالذات.

اعتمادًا على هذه الأدلة وجب على العلماء المسلمين، الذين يزعمون أن نص القرآن الحالي هو نفس النص الذي صدر عن محمد دون زيادة أو نقصان، أن يعترفوا أن الشيء الكثير قد فُقد منه. بعض هؤلاء العلماء يلجأ إلى طريقة سهلة وملائمة، ويعلن بكل ببساطة أن هذه الروايات ضعيفة[7]، والبعض الآخر لا ينكر صحتها[8] لكن يقدم جوابًا مغايرًا باعتبار أن الله نفسه قد نسخ هذه الآيات حين كان محمد لا زال يتلقى الوحي منه وكان القرآن في طور النشوء. سنتطرق الآن للرد على هذا الزعم المغلوط.

2.    الناسخ والمنسوخ ونظرية النسخ

هذه النظرية يرفضها، دون تمحيص، بعض علماء المسلمين لما لها من انعكاسات سلبية على ما يزعمونه من كمال القرآن. في المقابل نجد أن التيارات الإسلامية الأكثر تشددًا تتبناها، ومن جملتهم بعض المولانات من أمثال ديزاي. النظرية هذه ترتكز، إلى حد ما، إلى تعاليم القرآن نفسها كما يتبين من الآية التالية: "ما ننسخ من آيةٍ أَو ننسها نأتِ بخيرٍ مِّنها أو مثلها ألم تعلم أنَّ الله على كُلِّ شيءٍ قدير". (سورة البقرة، الآية 106).

في الفترة الأولى من تاريخ الإسلام كانت هذه الآية تدل على إمكانية "نسخ" (أي حذف وإلغاء) بعض المقاطع القرآنية في حين تنزل مقاطع أخرى تعتبر "ناسخة" أي مُعوِّضة لها. المفسران الكبيران البيضاوي والزمخشري كلاهما أقر بأن الأجزاء المنسوخة يجب أن لا تقرأ، وبأن الأحكام والشرائع المبنية على أساسها يجب أن تعتبر لاغية. كان المعتقد السائد في ذلك الوقت أن جبريل (الملاك الذي يأتي بالوحي) هو الذي كان يزيلها من القرآن. رغم هذا نجد أنه في حالات عدة كانت الأجزاء المنسوخة تبقى في المصحف إلى جانب الأجزاء الناسخة.

الآية التي قدَّمنا تُقر بالفعل بأن الله ينسخ بعضًا من آياته، وكلمة آية تعني هنا، وفي حالات أخرى، النص القرآني نفسه كما هو مذكور في الآية 7 من سورة آل عمران[9] حيث يقال إن بعض آيات الكتاب محكمة، أي أن معناها واضح، في حين تعتبر آيات أخرى مجازية، وهذا ما يسمى بالمتشابه (كذلك سورة هود، الآية 1)[10].

ليس هناك مجال للشك في كون القرآن نفسه يشهد على إمكانية نسخ بعض من آياته. وبما أن القرآن يرمز لنصوصه بكلمة "آيات" فإن التأويل القائل إن النسخ يتعلق بالنص القرآني نفسه لا يمكن أن يكون عليه أي اعتراض. كلمة "آية" وردت كثيرًا في القرآن وقد تعني "علامة" أو "إشارة" من الله (يعني معجزاته الخارقة)، لكن من المؤكد أنه ليست هذه هي الآيات التي نُسِخت. الآية المذكورة لا تتحدث إلا عن النص المكتوب إذ لا يمكن أن يكون إشارة إلى المعجزات التي كان الله يظهرها من أجل إنذار عباده لأنها أحداث تاريخية محضة وقعت ولا يمكن التراجع عنها بنسخها. العلماء المسلمون واعون كل الوعي بهذه الأمور لهذا يبقى السؤال مطروحًا: عن أيَّة نصوص نتحدث كلما تعلق الأمر بالنسخ؟

بعض علماء المسلمين، الذين ينكرون إمكانية نسخ القرآن، يدَّعون أن النسخ الذي ذُكر فيه يتعلق بالرسالات السماوية التي أُنزلت لليهود والنصارى من قبل. هذا التأويل لا يقوم على أساس صحيح لأننا لا نجد في القرآن ما يدل على أن كلمة "آيات" هي وصف للتوراة والإنجيل، وليس هناك ما يوحي بأن الآيات السماوية السابقة قد نُسِخت. بالعكس تمامًا نجد أن القرآن يصف نفسه بعبارة "مُصدِّقًا لما بين يديه" (سورة آل عمران، الآية 3). فالقرآن إذًا، بشهادته نفسه، لا يُعَد ناسخًا لما سبقه من الرسالات السماوية، بل بالعكس يدَّعي أنه جاء لإثباتها. هناك آيات تقول إن اليهود يجب عليهم أن يحتكموا للتوراة عوض اللجوء إلى محمد ليحكم بينهم (سورة المائدة، الآية 43)[11]، ونفس الشيء طُلِب من النصارى (سورة المائدة، الآية 47)[12]. في الآية 68 من سورة المائدة[13] أمر القرآن كلا من اليهود والنصارى أن يلتزموا بمبادىء التوراة والإنجيل وبما جاءهم به أنبياءهم.

النسخ الذي يتحدث عنه القرآن لا يمكن أن ينسب إلى الكتب السماوية السابقة بل يتعلق كليًا بنصوص القرآن نفسه. هكذا فُهِمت آية النسخ في العهد الأول للإسلام. الورطة بالنسبة للعلماء المسلمين المعاصرين تكمن في كون القرآن يَدَّعي أنه صادر عن "لوح محفوظ"[14]، والسؤال الذي لا مفر منه هو: إذا كانت هناك أجزاء من القرآن قد نُسِخت وحُذِفت فهل كانت هذه الأجزاء ضمن "اللوح المحفوظ"؟ إذا أجبنا بنعم فالنتيجة الحتمية هي أن المصحف الحالي ليس نسخة طبق الأصل لما يوجد في "اللوح المحفوظ" لأن هذا الأخير لا يمكن تغيير أي جزء منه لأنه كلام الله الأبدي. إذا أجبنا بلا فكيف أمكن أن توحى هذه الأجزاء المنسوخة لمحمد وتُعتبر من القرآن خلال فترة معينة قبل نسخها وهي ليست من "اللوح المحفوظ"؟ ها نحن إذا عُدنا إلى الفكرة العامية القائلة بأن نص القرآن قد حفظه الله من أوله إلى آخره ولم يطرأ عليه أي تغيير مهما كانت درجة أهميته ولم يقع فيه كذلك أي "نسخ". العلماء المسلمون، في محاولاتهم التأكيد على هذه الفرضية، يلجأون إلى تأويل خاطىء للآية 106 من سورة البقرة، تأويل لا يمكن اشتقاقه من ظاهر النص عكس ما فعل أسلافهم من المسلمين الأوائل الذين اعتبروا أن أجزاءً من القرآن قد تم فعلاً نسخها وحذفها من المصحف.

هذه النظرية لا يتقبلها بعض العلماء المسلمين الآخرين لكن ليس لنفس الأسباب. فهي مثلاً تُصوِّر الله كأنه إله يتراجع عن ما صدر عنه من قرارات سابقة كما لو كان معرَّضًا لتغيير رأيه كالبشر أو لأنه يكتشف أفكارًا أحسن! بالرغم من هذا يجب أخذ النص القائل بالنسخ بمعناه الذي فُهِم على أساسه في بداية العهد الإسلامي بالإجماع وليس كما يريده العلماء المعاصرون خدمةً لأهوائهم الذاتية.

هناك مقاطع قرآنية أخرى تدعم هذا التأويل، من بينها: "وإذا بدَّلنا آيةً مكان آيةٍ والله أعلم بما يُنزِّلُ قالوا إنَّما أنت مفترٍ بل أكثرهم لا يعلمون" (الآية 6، سورة النحل). هذه الآية تدل بوضوح على استبدال بعض النصوص بنصوص أخرى من القرآن نفسه، فهي لا تقول إن الله استبدل كتابًا معينًا (التوراة والإنجيل) بكتاب آخر، بل استبدل آية بأخرى، حيث تعني كلمة "آية" النصوص المكونة للقرآن وليس الكتب السماوية السابقة. هذا بالذات السبب، أي ادعاء أن الله قد استبدل بعضًا من آياته القرآنية السابقة، الذي دفع خصوم محمد لاتهامه بالتزوير لأنهم اعتقدوا أن مسألة النسخ هذه لم تكن سوى ذريعة لتبرير نسيان محمد لنصوص سابقة أو لتغييرها عمدًا.

الآن بعد أن بينَّا أن القرآن نفسه يعترف أن بعضًا منه قد تغير، يمكن للمرء أن يعتقد أن التسليم بهذه المسألة كاف للبرهنة على أن القرآن الحالي غير مكتمل. هذا بالفعل ما يعيه العلماء المسلمون الحديثون لذلك ينكرون نظرية النسخ لأنها تؤدي بهم إلى ما لا تحمد عقباه. من المحقق أن القرآن لا يمكن اعتباره صورة طبق الأصل لما جاء به محمد دون زيادة أو نقصان. بالرغم من هذا نجد أن ديزاي يستعمل نظرية النسخ هذه للبرهنة على كمال القرآن! يقول مولانا:

كون الله تعالى قد نسخ بعضًا من الآيات في زمن رسول الله (ص) حين كان الوحي لا زال يأتيه أمر معروف عند الجميع... كلما أعلن رسول الله (ص) أن آية قد نسخت فلا يمكن حينئد إدخالها في المصحف. (ديزاي، ص 48.49).

استدلال كهذا يزعم أن المقاطع المفقودة من القرآن، التي تتحدث عنها الأحاديث، يجب أن لا تعتبر كبراهين على عدم كمال القرآن أو على تحريفه. تفترض هذه النظرية أن كل جزء من القرآن لم يتم ضَمُّه للمصحف وقت جمعه، أو ألغي لسبب آخر، وجب أن يكون الله قد نسخه. لهذا فلا شيء من القرآن قد فُقِد لأن ما وصلنا هو كل ما أراده الله أن يصلنا من القرآن. عمر نفسه حار في الأمر حين علم أن نصوصًا لم يكن يدريها كان يقرأها الصحابي أبي بن كعب ذو المعرفة الواسعة بالقرآن، وهذا ما جعله يستنتج أنها قد نُسِخت:

حدَّثنا صدقةُ بن الفضلِ أخبرنا يحيى عن سُفيان عن حبيب بن أبي ثابِتٍ عن سعيد بن جُبيرٍ عن ابن عبَّاس قال: قال عمرُ أُبيٌّ أقرؤُنا وإِنَّا لندعُ من لحن أُبيٍّ وأُبيٌّ يقولُ أخذته من في رسول الله صلى اللهم عليه وسلَّم فلا أتركه لشيءٍ قال الله تعالى (ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأتِ بخيرٍ منها أو مثلها). (صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، الحديث 4621)[15]

من البديهي أن أُبي كان مقتنعًا أنه لا يجب ترك ما تعلَّمه من محمد مباشرة، والملجأ الوحيد لتفسير وجود تلك الآيات التي استمر في قراءتها هو اعتبارها منسوخة.

ورد في الحديث ذكر حالة صريحة لآية لا توجد في المصحف الحالي، وتعتبر في عداد ما نُسِخ. لما كان محمد في المدينة جاءه بعض الأعراب الذين كانوا موالين له طالبين منه أن يناصرهم على أعداءهم. وبالفعل أرسل محمد سبعين من الأنصار لمآزرتهم فقاموا بقتلهم في مكان يدعى "بئر معونة". رُوِي في صحيح البخاري:

حدَّثني عبد الأعلى بن حمادٍ حدَّثنا يزِيدُ بن زريعٍ حدَّثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالكٍ رضِي اللهم عنهم أنَّ رعلاً وذكوان وعُصيَّة وبني لحيان استمدُّوا رسُول الله صلَّى اللهم عليهِ وسلَّم على عدُوٍّ فأمدَّهُم بسبعِين من الأنصار كُنَّا نُسمِّيهمُ القُرَّاء في زمانهِم. كانُوا يحتطبُون بالنهار ويُصلُّون بالليل. حتى كانُوا ببئر معُونة قتلُوهُم وغدرُوا بهم فبلغ النبي صلَّى اللهم عليهِ وسلَّم فقنت شهرًا يدعُو في الصُّبح على أحياءٍ من أحياء العرب على رعلٍ وذكوان وعُصيَّة وبني لحيان. قال أنسٌ فقرأنا فيهم قُرآنًا ثمَّ إِنَّ ذلك رُفع بلِّغُوا عنَّا قومنا أنَّا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا. وعن قتادة عن أنس بن مالكٍ حدَّثهُ أنَّ نبي الله صلى اللهم عليه وسلَّم قنت شهرًا في صلاة الصُّبح يدعُو على أحياءٍ من أحياء العرب على رعلٍ وذكوان وعُصيَّة وبني لحيان زاد خليفةُ. حدَّثنا يزيدُ بنُ زُريعٍ حدَّثنا سعيدٌ عن قتادة حدَّثنا أنسٌ أنَّ أُولئك السبعين من الأنصار قُتِلُوا ببئر معُونة قُرآنًا كتابًا نحوهُ. (صحيح البخاري، كتاب المغازي، الحديث 3781).[16]

يفيدنا هذا الحديث أن آية ما كانت بالتأكيد جزءًا من القرآن وتم نسخها لاحقًا[17]. هذا الحديث يعتبر مشهورًا فقد ورد عند كل من بن سعد والطبري والواقدي ومسلم[18] (Noeldecke, Geschichte, 1.246). بخصوص هذه الحادثة يقول السيوطي، استنادًا إلى الصحيحين: "ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رُفِع" (الإتقان، الجزء الثاني، ص 55). وهذا دليل إضافي على أن النص المذكور كان في الأصل جزءًا من القرآن. المشكلة هنا، وكذلك فيما يخص الآيات الأخرى التي يعتبرها الحديث منسوخة، هو أن المرء لا يجد سببًا واضحًا للنسخ ولا يدري ما هي الآية، التي هي "أحسن منها أو مثلها"، التي جاءت لتعوضها. لأن القرآن يعلن صراحةً في آيتين (106.2 و101.16) أن الله يبدل الآيات الأصلية بما هو "خيرٌ مِّنها أو مِثلُها". فهكذا نجد أنه ذكر لنا في الآية 219.2 أن للخمر محاسن ومساوئ، وفي الآية 43.4 أمر المسلمين أن لا يقربوا الصلاة وهم سكارى. وفي النهاية تقرر في الآيتين 5.93-94 (هناك خطأ برقم الآيتين فهما 90-91 من سورة 5 – المترجم) أن الخمر محرم قطعيًا. الآيتان الأخيرتان تعتبران ناسختين للآيتين السابقتين رغم بقاءهما في القرآن. هذا مثال منطقي لما يجب أن نصادفه في القرآن باعتبار أنه ما من آية نُسِخت إلا ووُجِدت آية تحل محلها.

الحديث، الذي ذكرنا حول قتلى بئر معونة، لم يذكر لنا الآية التي نزلت مكان الآية المنسوخة[19]. نفس الشيء نلاحظه بالنسبة للآيات الأُخر التي ذكرنا. ما الذي عوَّضها؟ أين الناسخ الذي وجب أن يأتي مكان المنسوخ؟

من المعقول أن نعتبر أن أغلب الآيات، التي قيل إنها رُفِعت من المصحف، قد تكون إما أُُهملت أو لم تكن معروفة لدى الصحابة، أو ببساطة نُسيت – مثال ذلك المقطع الذي قال أبو موسى إنه كان يحوي الآية المتعلقة بطمع بني آدم (صحيح مسلم، كتاب الزكاة، رقم 1740)[20] –. محاولة ديزاي لتفسير سقوط آيات من القرآن بنظرية النسخ ما هي إلا محاولة يائسة للتغطية على ما شاب عملية جمع القرآن من سلبيات جعلت المصحف المتداول حاليًا لا يتسم بالكمال. لنُتِم هذا الفصل بعرض نصين مشهورين كانا ضمن القرآن حسب المراجع الإسلامية الموثوقة وتم حذفهما خلال عملية جمع المصحف.

3.    الآية المفقودة المتعلقة بطمع بني آدم

لقد سبق لنا أن استشهدنا بحديث صحيح مسلم عن الآية المتعلقة بطمع بني آدم، والتي مفادها أن الإنسان مهما أعطي من الثروة فهو لا يقنع بل يطمع في الأكثر. شهرة الحديث القائل بأن الآية المذكورة كانت في وقت ما جزءًا من القرآن تبرهن على أن أساسه صحيح. لقد أورد السيوطي في إتقانه عددًا لا يستهان به من الأحاديث التي تذكر هذه الآية، ومنها:

عن أبي واقد الليثي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوحى إليه أتيناه فعلمنا مما أوحى إليه.‏ قال: فجئت ذات يوم فقال‏:‏ إن الله يقول: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولو أن لابن آدم لأحب أن يكون إليه الثاني ولو كان إليه الثاني لأحب أن يكون إليهما الثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب‏. (السيوطي، الإتقان، الجزء الثاني، ص 53)

هذا الحديث يتبعه حديث مشابه يقول إن أبي بن كعب كان هو من نقل هذه الآية وبنفس العبارات جزئيًا[21]، وقال أبي إن محمدًا كان يعتبرها من القرآن الذي أمره الرسول أن يقرأه على المسلمين. من بعد هذا يأتي حديث أبي موسى الأشعري[22] الذي يشبه ذلك الذي ورد في صحيح مسلم. الحديث هذا يخبرنا أن الآية كانت جزءًا من سورة يوازي طولها طول سورة براءة دون أن يدَّعي أن أبا موسى قد نسي هذه السورة بل يوضح أنها رفعت كلها باستثناء الآية المتعلقة بطمع بني آدم.

يذكر كذلك بعض الثقات أن هذه الآية كانت تأتي في مصحف أبي بعد الآية 25.10 (Jeffery, Materials, p.135). مصادر إضافية تذكر أن نفس الرواية جاءت عن طريق أنس بن مالك وبن العباس وبن الزبير وغيرهم من الصحابة (Noeldeke, Geschichte, 1.234)، لكن لا أحد من هؤلاء كان متيقنًا يقين أبي من أن الآية كانت من القرآن أو لا (صحيح مسلم). الرواية إذًا متواترة ولا يمكن أن تعتبر إلا صحيحة لأن رواتها من كبار الصحابة الذين لا يمكن وضعهم موضع الشك.

حديثا أبي واقد وأبي بن كعب شهدا أن الآية كانت مما أوحي لمحمد من القرآن. زيادة على هذا شهدت رواية أبي موسى الأشعري التي أوردها السيوطي في الإتقان أنها كانت جزءًا من سورة كاملة تم نسخها. بعض المفسرين كأبي عبيد في فضائل القرآن وبن حزم في كتاب الناسخ والمنسوخ ذهبا كذلك إلى اعتبار أن السورة كانت جزءًا من القرآن قبل نسخها. هذه سورة من بين عدة سور روي أنه رغم نسخها بقيت في صدور الصحابة واعتبرها الثرات الإسلامي من بين ما فُقِد من القرآن.

4.    عمر وآيات رجم الزناة

إحدى أشهر النصوص المفقودة في القرآن والتي ترويها الأحاديث تتعلق بـ(آيات الرجم) حيث قيل إن محمدًا قد أمر برجم الزناة المحصَّنين (المتزوجين رجالاً كانوا أو نساءً) حتى الموت. تقول الروايات إن الخليفة الثاني للمسلمين عمر، وفي إحدى خطبه على المنبر في مسجد المدينة، هو من لفت انتباه المسلمين إلى تلك الآيات المفقودة. وتروى على لسانه على الشكل التالي:

أن الله أرسل محمد (ص) بالحق وأوحى له بالكتاب المجيد، ومن ضمن ما أوحى له كانت أية الرجم للمحصنين إناثًا كانوا أو ذكورًا عند ممارستهم للزنا، وكنا نتلوا هذه الآية ونفهمها ونحفظها عن ظهر قلب. لقد أقام رسول الله عقوبة الرجم وكذلك فعلناها نحن من بعده. أخشى أنه سيقول أحدهم بعد أن يمر زمن طويل (يا الله، نحن لا نجد آية الرجم في كتاب الله) عندها سيضلون بتركهم الالتزام بما أوحى به الله. (صحيح البخاري، مجلد 8، ص 539).

أما في القرآن اليوم فنجد أن عقوبة مرتكب الزنا هي، فقط، مئة جلدة كما ورد في (سورة 24، آية 2)، ولم يرد أي تمييز بين حالة المحصَّن وغير المحصَّن (المتزوج وغير المتزوج) من كلا الطرفين المشاركين في الفعل. ومع ذلك فإن عمر بيَّن الأمر بوضوح، وكيف أن الله أوحى بعبارة تنص على الرجم بالحجر حتى الموت بحق الزناة. من الحديث الأصلي في رواية صحيح البخاري السالف الذكر نرى بوضوح أن عمر كان مقتنعًا بأن هذا المقطع كان في الأصل جزءًا من النص القرآني. والكلمات الأساسية هي: "وأنزلنا له الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم"، ما يعني حرفيًا: "وأنزل عليه الكتاب (القرآن)، وجزءًا مما أنزل الله (فيه تلك المسألة) كان آية الرجم".

وفي حديث آخر عن هذه القضية نجد أن عمر قد أضاف:

لا ريب أن الرجم في كتاب الله هو عقوبة تقع على المحصنين من الرجال والنساء الذين يقترفون الزنا إذا ثبت ذلك بالأدلة أو إذا كان الحمل بيِّنًا أو جاء بالإعتراف. (ابن اسحاق، سيرة رسول الله، ص 684).

يضيف كلا الكتابين، صحيح البخاري وسيرة ابن اسحاق، على لسان عمر، آية أخرى مفقودة وكانت فيما سبق جزءًا من كتاب الله (القرآن) وكان صحابة محمد الأولين قد اعتادوا على تلاوتها، تقول: " يا أيها الناس ! لا تنسبوا أنفسكم أبناءا لغير آبائكم كما لا تنكروا من قبلكم حقكم بأن تكونوا ذرية لمن هو أبوكم حقا". (صحيح البخاري، مجلد 8، ص 540).

وفي كلا الروايتين نجد تمهيدًا لتحذير لعمر من أية محاولة لإنكار ما قال، وتحذيرًا لأولئك الذين قد لا يوافقونه على ما روى، أو يروون عنه الأكاذيب (بالقول إنه لم يبين ذلك). ومن الواضح أنه كان جديًا للغاية حول ما فعل، وأنه كان يستبق رد فعل مناوئ من أولئك المسلمين من الجيل اللاحق الذين لم يطَّلعوا على الآيات المفقودة التي تناقض بوضوح ما ورد في السورة 24-2، أو أن محمدًا قد رجم، في الحقيقة، زناةً حتى الموت. وما فعله واضح في الحديث التالي:

روى ابن اسحاق أن رجلاً على زمن رسول الله (ص) اعترف بارتكابه الزنا وأقرَّ بذلك أربع مرات. عندئذ أمر رسول الله (ص) برجمه. (موطأ الإمام مالك، ص350).

كما أن هناك أحاديث عديدة أخرى، في أمور مشابهة لهذه، تبيِّن أن محمدًا قد قام برجم الزناة حتى الموت. فماذا كانت في الحقيقة "آية الرجم"؟ لقد أشير إليها كما يلي:

روى ابن حبيش: قال لي أبي ابن كعب: ما طول سورة الأحزاب؟ قلت: سبعين أو ثلاث وسبعين آية. قال: ومع ذلك تبدو كأنها مساوية لسورة البقرة ونتلو فيها آية الرجم. قلت: وما هي آية الرجم؟ أجاب: الزناة بين الرجال المتزوجين (الشيوخ) والنساء المتزوجات (الشيخات). أرجموهم عقوبة لهم من الله ليكونوا عبرة، والله جبار حكيم. (السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ص 524).

في حين أن القرآن، في سورة 24-2، لم يميِّز بين المتزوج وغير المتزوج فيما يتعلق بأولئك المذنبين الذين يرتكبون الزنا (بل سماهم ببساطة الزانية والزاني – الزناة أناثًا وذكورًا). فإن النص في الأحاديث السالفة الذكر يتحدث فقط عن المتزوجين، رجالاً كانوا أو نساءً، ممن ضبطوا في حالة زنا وبات يتوجب رجمهم (المعنى الحالي لكلمة "شيخ" أو "بالغ"، من الرجال والنساء، يقتضي ضمناً الأشخاص المتزوجين).

وهذا ما قاد إلى نقاش مستفيض في كتابات المسلمين حول معنى الآية. كان الفهم العام بين العلماء المسلمين من الأجيال الأولى هو إن أي جزء من القرآن يُلغى بشكل كامل من قبل الله يُنسى تماماً ( إستنادا إلى السورة 2 -106: "ماننسخ من آية أو نُنسها نأتي بخير منها أو مثلها" نلغيها .. أو ننسها" والحالتين يؤخذ بهما). لذلك حين توجد آية محفوظة في الذاكرة لدى صحابي مميز كعمر, يتم الأخذ بها رغم إن النص قد يكون في الحقيقة قد أسقط من القرآن, ومع ذلك فإن التعاليم والأوامر نجدها متضمنة في سنة نبي الإسلام. كانت المعضلة تُحل بشكل عام بالتجرأ على الأمر القرآني وذلك بفرض مئة جلدة على الزناة وتطبق فقط على الأشخاص غير المتزوجين, في حين إن الأشخاص المتزوجين ممن قاموا بفعل الزنا يطبق بحقهم الرجم وفقا للسنة. حلول عديدة أخرى اقتُرحت للمسألة وتمّ معالجة الموضوع بشكل كامل في أعمال متنوعة للأدب الإسلامي التاريخي.

ونحن، لا نهتم هنا بالمضامين اللاهوتية والشرعية لمبدأ النسخ (الإلغاء)، وإنما فقط بالجمع الفعلي للنص القرآني بحد ذاته. والسؤال المطروح هنا هو: هل كانت هذه الآية جزءًا من نص القرآن أم لم تكن؟ وإن كانت جزءًا منه فلماذا حذفت من صفحاته؟ من بعض الأحاديث، كما وردت، نرى بوضوح أن عمر كان يعتبرها جزءًا من نص القرآن الأصلي. في حين نقرأ في حديث آخر أن عمر كان مترددًا حول الموضوع:

كان زيد بن ثابت وسعيد ابن العاص يكتبون المصحف (مخطوطة للقرآن)، وعندما وصلا إلى هذه الآية قال زيد: سمعت رسول الله (ص) يقول: "البالغ من الرجال والنساء الذين يرتكبون الزنا. ارجموهم عقوبة لهم"، قال عمر: "عندما أوحي بهذه الآية ذهبت إلى النبي (ص) وقلت: هل أكتبها؟ لكن بدا أنه كاره جدًا لذلك". (السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ص 528).

يحمل هذا الحديث، وبصرف النظر عن الإسناد (سلسلة ناقلي الأحاديث)، تناقضات واضحة في محتواه (متنه)؛ فهو قد وضع عمر مع زيد وسعيد ابن العاص في نفس الفترة الزمنية، بينما المعروف أن القرآن نُسخ من قبل الرجلين، وبأمر من عثمان، بعد فترة طويلة من موت عمر، ما يجعل إمكانية محادثة عمر لهما صعبة القبول. على أي حال فإن معظم الأحاديث الأخرى تفسر بوضوح أن عمر لم يكن لديه أدنى شك بأن آية الرجم كانت أصلاً جزءًا من نص القرآن، ولهذا السبب كان يحفظها بكل جدية.

أحيانًا كان يُنسب أصل الجدل الدائر حول الحديث عن آية الرجم إلى رجل واحد فقط هو عمر، مما يجعله يُعتمد كـ "خبر وحيد"، أي الذي يرويه شاهد واحد فقط، ولذلك لا يؤخذ به. لكن تميُّز ذلك الشاهد الوحيد، مع ذلك، يجعل من الصعب تجاهله ببساطة. فعمر ابن الخطاب كان على الأقل شخصية هامة، واحدًا من أوائل صحابة محمد المعروفين، وهو يدَّعي وجود هذه الآية التي تلقاها مباشرة عن محمد نفسه، ورواها عندما كان يحكم كخليفة للمجتمع الإسلامي كله، ما يجعل من غير الممكن التغاضي عنها أو الاستخفاف بها.

مع ذلك هناك كتاب مسلمون معاصرون مصممون الآن على إسقاط حتى أصغر احتمال بأن أي شيء مما جاء به الوحي كجزء من نص القرآني قد حذف لأي سبب من الأسباب، وذلك إلى حدِّ رفض ما يقال بأن آية الرجم كانت ذات يوم متضمنة في القرآن. فصديِّق، على سبيل المثل، ولأن ليس بوسعه إزاحة الأحاديث جانبًا، مهما كان السبب، وفي محاولة رفض كون آية الرجم أبدًا جزءًا من القرآن, يدَّعي أن عمر قد ارتكب خطأ!

ففي سياق تعليقه على آية الرجم يقول: "بالنسبة لعمر (رض) نحن نعرف أنه كان مجتهدًا عظيمًا، لكنه أيضًا ارتكب أخطاء بتوثيق الحديث" (مجلة البلاغ، ص 2). فعلى أية أرضية يستند كاتب مسلم من القرن العشرين حين يتَّهم خليفة الإسلام العظيم عمر بن الخطاب بارتكاب خطأ حول شيء تعلمه مباشرة أثناء حياة محمد نفسه؟ لا أرضية لذلك غير كون ما يكشفه عمر يقوض الوجدان الشعبي المسلم الذي يعتقد أن القرآن محفوظ بشكل تام لم يعدَّل ولم يسقط منه شيء.

لا بل يدَّعي، مثله مثل الكثير من العلماء الآخرين، أن عمر لم يكن يتحدث عن القرآن عندما تكلم عن أمر رجم الزناة باعتباره جزءًا من كتاب الله، بل بالأحرى عن التوراة كما جاء على لسان محمد في بعض الأحاديث التي تروي رجم اليهود الذين مارسوا الزنا وفقًا لما تقتضيه شرائع كتابهم المقدس. لكن الحديث يروي مع ذلك، بمنتهى الوضوح، أن عمر يدعي بأن الآية أوحيت إلى محمد، وأنه هو نفسه كان يعتبرها مكتوبة في الكتاب المقدس وليس كما كان يدعي البعض بأنها كانت قد أضيفت له. رواها كما قيلت:

لا تنسى آية الرجم، وقل: نحن لم نجدها في كتاب الله. أمر رسول الله (ص) بالرجم ونحن أيضًا علينا القيام به، من بعده. والذي نفسي بيده لو لم يتهمني الناس بأني أضيف لكتاب الله، لكنت أدخلت مسألة: الشيخ والشيخة آتيا الزنا فارجموهم. علينا قراءة هذه الآية. (موطأ الإمام مالك، ص 352)

فكما أنه من الواضح هنا القول بأن الآية قد أوحيت لمحمد، كما هو مؤكد في أحاديث أخرى، فإنه من الصعب أن نقبل بأن عمرًا ينسب كتابتها إلى التوراة! كما أن جهل الخليفة التام باللغة العبرية يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار!

أما ديزاي فيناقض صديِّق بتسليمه ببساطة أن آية الرجم كانت في الحقيقة جزءًا من النص الأصلي للقرآن، لكنه، وكما فعل مع كل النصوص التي يقال بأنها أُسقطت من القرآن، يدَّعي بأنها كانت قد أبطلت فيما بعد (القرآن لا يرقى إليه الشك، ص 48)، لأنها حفظت، ولكن لمَّا كانت هناك أحاديث أخرى ذات علاقة بعقوبة محمد بالموت على الزناة كانت قد أسقطت من نصوص الحديث، فإنه يدعي أنها كانت واحدة من "منسوخات تلاوة"، أي من تلك النصوص التي أُلغيت تلاوتها في حين بقيت أحكامها، مثل آيات أشار إليها بأنها مختلفة عن نصوص قرآنية أخرى وبقيت تلاوتها لكن الأحكام التي كانت تتضمنها تمَّ إلغائها وإسقاطها.

لا شك أن كتَّابًا مثل صدِّيق يشعرون فورًا بضعف هكذا حجج وما ينجم عنها من حساسية ذات علاقة بما يقال من اتهام بأن القرآن كان يتعرض لبعض التحولات الغريبة فيما يتعلق بتطور نصه وتعاليمه خلال زمن نزوله. وفقط بعض الكتاب المحافظين السذج من أمثال ديزاي ليس بوسعهم أن يروا أن عقيدة النسخ (الإلغاء)، بصيغها المختلفة، تعكس أثرًا يضعف من الموثوقية الكاملة للنص القرآني، كما هو اليوم. بكل الأحوال ليس هناك شيء فيما صرَّح به عمر، من فوق المنبر ذات يوم، يوحي بأن آية الرجم قد نسخت أبدًا. وعبارته الجريئة التي تقول إنه كان سيكتبها في القرآن بنفسه لم تكن سابقةً أمر بها للتلاعب بالنص بل شاهدٌ على أنه كان يعتبرها نصًّا ساري المفعول وأن من أبعدها من القرآن سيندم على ذلك. حتى وإن لم يكن لديه أمل بإقناع المجتمع المسلم بإعادتها إلى النص (خاصة أنها كانت تشكل جزءًا من مقطع كامل فُقد) فقد كان مصممًا على نشر وتثبيت وجودها كجزء من القرآن الأصلي كما سُلِّم إلى محمد.

إن عقيدة النسخ تعرض لنا بما لا يقبل الشك التفسير الضعيف لاختفاء نصوص مهمة من القرآن. مثال جيد يمكننا أن نجده في أكثر من حديث مشهور وهو إن القرآن أصلاً أحتوى على حكم يحرّم فيه الزواج بين شخصين كانا قد رضعا من نفس المرأة. يقرأ السند كالتالي:

روت عائشة (رضي الله عنها) بأنه أوحي في القرآن بأن عشر رضاعات تجعل الزواج محرمًا. ثمَّ نسخت بخمسة رضاعات وتوفي رسول الله (ص) وقبل ذلك كانت موجودة في القرآن. (صحيح مسلم، مجلد 2، ص 740)

من الواضح أن القرآن، في الأصل، كان يحتوي على آية تأمر بتحريم الزواج بين شخصين كانا قد رضعا من امرأة بعينها على الأقل عشر مرات. لكن هذه الآية نسخت واستبدلت بغيرها، وحصرت العدد بخمسة. لكن أين توجد هذه الآية في القرآن؟ هل فقدت، نسخت، هي الأخرى أيضًا؟ إذا كان الأمر كذلك، ما الذي حلَّ محلها؟ الأسانيد التي نراها، وتتعلق بعقيدة النسخ، تبدو ضعيفة للغاية حين نحللها عن قرب.

هناك آية واحدة، ناسخة، يقال إنها حلَّت محلَّ الآية المنسوخة. ومع ذلك في هذه المسألة يبدو أنه حتى الناسخة يمكن أن تصبح منسوخة! لذلك على المرء أن يبحث بثبات عن تفسير معقول. ويبدو أن محمدًا نفسه، خلال حياته، قد أعلن فعلاً أن مقاطع معينة قد نسخت بأخرى. لكن، من الأمثلة التي درسناها، يبدو أن هناك في بعض الأحيان آيات أصلية تمَّ بكل بساطة إسقاطها من تلاوة القرآن لأسباب مختلفة – حيث أغفلت، أو نسيت، أو بُدِّلت... الخ. ثم بعد وفاة محمد أصبح من الملائم تفسير حذف هذه الآيات كنتيجة للنسخ الإلهي. مع ذلك، وفي الكثير من الحالات، وبالأخص تلك التي درسناها، هناك براهين على أنها أُسقطت لأسباب أخرى ولم يشار إلى نسخها المفترض ظهوره في نص الحديث ذو الصلة.

لقد وضَّح هذا الفصل، بشكل وافٍ، أن القرآن، كما هو موجود اليوم، غير مكتمل إلى حد ما؛ فالعديد من الآيات القائمة بذاتها، وأحيانًا مقاطع كاملة، قيل إنها كانت تشكل فيما مضى جزءًا من النص الأصلي، ومحاولة تجنب ما ينجم عن ذلك عن طريق الإيحاء بأن مثل هذه المقاطع يجب أن تكون قد نسخت بكل بساطة، لا يمكن أن تحل المعضلة الرئيسية التي تواجه أولئك المسلمين الذين يدَّعون بأن القرآن كان محفوظًا بالمطلق، سليمًا حتى آخر نقطة وحرف، ولم يضف إليه شيء، ولم يحُذف منه شيء، ولم يجر عليه أي تعديل، في إشارة إلى الرعاية الإلهية في نقله. فالنص، كما هو قائم اليوم، لا يمكن أن يكون، بصدق، ما يعتقد المسلمون أنه نسخة طبق الأصل عن "اللوح المحفوظ" في السماء، والذي قال الجميع عنه إنه نُقل إلى محمد. ففي حين أننا لا يمكن أن نبين أن شيئًا قد أضيف إلى النص أو دسَّ فيه إلا أنه من الواضح جداً أن الكثير مما كان هناك في البداية قد فُقد منه الآن، مقارنة بما يفترض أنه كان ذا أصل سماوي، ما يعني أنه لا يمكن اعتباره تامًا وكاملاً.

يستخدم ديزاي مبدأ النسخ ليفسِّر حذف نصوص رئيسية مؤكدة من القرآن. وبتلك الوسيلة يحاول أن يثبت فرضية أن القرآن اليوم هو بالضبط كما أراده الله أن يكون. لكن كيف بوسعه أن يلتفَّ على تلك المجموعة الثرية من القراءات المتنوعة للنسخ الأولى من القرآن قبل أن يأمر عثمان بتدميرها جميعًا ما عدا واحدة؟ دعونا نحلِّل في الفصل القادم حججه ونبحث في عقيدة القراءات السبع المختلفة للقرآن.

ترجمة: مترجم مجهول
القسم الأخير ترجمة:
حربي محسن عبدالله

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] الحنيفية تعني الصراط المستقيم.

[2] مجموعة أحاديث لا تحسب على الصحاح لكن لا تخلو من أهمية، وهي شائعة الاستعمال عند المسلمين السنة.

[3] "قال لي أبي بن كعب رضي الله عنه كأين تعد أو كأين تقرأ سورة الأحزاب؟ قلت ثلاث وسبعين آية. قال أقط لقد رأيتها وإنها لتعدل سورة البقرة". وقد ورد هذا الحديث كذلك في المستدرك على الصحيحين للحاكم، دار الكتب العلمية بيروت، 1990، الجزء 4، ص 400: قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" - يعني البخاري ومسلم.

[4] أحد صحابة محمد، وكان ذا معرفة كبيرة بالقرآن.

[5] يا أَيُّها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون.

[6] وكلُّ إنسانٍ ألزمناهُ طآئرهُ في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاهُ منشورًا.

[7] رغم أنها تطابق معايير الصحة كما تعرفها كتب الحديث والجرح والتعديل وعلم الرجال.

[8] لكي لا يتحمل النتائج المنطقية التي تنتج حتمًا عن ذلك النكران.

[9] هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ مُّحكماتٌ هنَّ أمُّ الكتاب وأخرُ متشابهاتٌ فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتَّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويلهُ إلا الله والرَّاسخون في العلم يقولون آمنَّا به كلٌّ من عند ربِّنا وما يذكر إلا أولوا الألباب.

[10] الر كتابٌ أحكمت آياته ثمَّ فُصِّلت من لدن حكيمٍ خبيرٍ.

[11] وكيف يُحكِّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثمَّ يتولون من بعد ذلك وما أولـئك بالمُؤمنين.

[12] وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكُم بما أنزل الله فأولـئك هم الفاسقون.

[13] قُل يا أهل الكتاب لستم على شيءٍ حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدنَّ كثيرًا منهم ما أُنزل إليك من ربك طُغيانًا وكُفرًا فلا تأس على القوم الكافرين.

[14] في لوحٍ مَّحفوظٍ ( سورة البروج، الآية 22).

[15] ورد نفس الحديث في كتاب تفسيرالقرآن من صحيح البخاري (4121)، ومرتين في مسند الأنصار للإمام أحمد بن حنبل (20172-20173).

[16] في موضع آخر: "حدَّثنا يحيى بن بكيرٍ حدَّثنا مالكٌ عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن أنس بن مالكٍ قال: دعا النبيُّ صلى اللهم عليه وسلَّم على الذين قتلوا يعني أصحابه ببئر معونة ثلاثين صباحًا حين يدعو على رعلٍ ولحيان وعُصيَّة عصت الله ورسوله صلى اللهم عليه وسلَّم قال أنسٌ: فأنزل الله تعالى لنبيه صلى اللهم عليه وسلَّم في الذين قُتلُوا أصحاب بئر معُونة قرآنًا قرأناه حتى نسخ بعد بلِّغُوا قومنا فقد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنهُ". (صحيح البخاري، كتاب المغازي، الحديث 3786)

[17] بلِّغُوا قومنا فقد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه.

[18] نص حديث مسلم هو كالتالي: "وحدَّثنا يحيى بن يحيى قال: قرأتُ على مالكٍ عن إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالكٍ قال: دعا رسول الله صلى اللهم عليه وسلَّم على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين صباحًا يدعُو على رعلٍ وذكوان ولحيان وعُصيَّة عصت الله ورسوله قال أنسٌ: أنزل الله عزَّ وجلَّ في الذين قتلوا ببئر معُونة قُرآنًا قرأناهُ حتى نُسخ بعدُ أن بلِّغُوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنهُ". (صحيح مسلم، كتاب المساجد، الحديث 1085).

[19] يحق للمرء أن يتسائل ما الذي يمكن أن ينسخ آية تتناول حادثة وقعت كحادثة بئر معونة. لقد رضي الله عن أصحاب بئر معونة بعد موتهم فهل يجوزأن يغير رأيه ويغضب عليهم دون ذنب ارتكبوه؟ إن كان هناك سبب فكيف أمكنهم أن يفعلوا ما يغضب الله وهم موتى؟

[20] حدَّثني سويد بن سعيدٍ حدَّثنا عليُّ بن مسهرٍ عن داوُد عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبيه قال: بعث أبو موسى الأشعريُّ إلى قُرَّاء أهل البصرة فدخل عليه ثلاث مائة رجلٍ قد قرءُوا القرآن فقال: أنتُم خيار أهل البصرة وقُرَّاؤهم فاتلوهُ ولا يطولنَّ عليكمُ الأمدُ فتقسُو قلوبكم كما قست قلوبُ من كان قبلكم وإنَّا كُنَّا نقرأ سورةً كنَّا نشبِّهها في الطُّول والشِّدَّة ببراءة فأنسيتها غير أني قد حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مالٍ لابتغى واديًا ثالثًا ولا يملأُ جوف ابن آدم إلا التُّراب. وكنَّا نقرأ سورةً كنَّا نشبِّهُها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظتُ منها: يا أيُّها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتبُ شهادةً في أعناقكم فتُسألُون عنها يوم القيامة.

[21] وأخرج الحاكم في المستدرك عن أبيٍّ بن كعب قال‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقرأ: "‏لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين".‏ ومن بقيتها‏:‏ لو أن ابن آدم سأل واديًا من مال فأعطيه سأل ثانيًا وإن سأل ثانيًا فأعطيه سأل ثالثًا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب وإن ذات الدين عند الله الحنيفية غير اليهودية ولا النصرنية ومن يعمل خيرًا فلن يكفره.

[22] وقال أبو عبيد‏:‏ حدثنا حجاج عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ نزلت سورة نحو براءة ثم رفعت وحفظ منها‏:‏ إن الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديًا ثالثًا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود