احتفاءً بـ أوغار و- قدَّاس سرياني

 

أمين ياسين غانم

 

أطلَّ أوغار من بلاد شبيهة بذاكرة تموج بأثقالنا وآلامنا، حاملًا حكمته وأسلوبه النيتشوي، أطلَّ من بلاد الأسئلة الضاغطة سألناه قال:

البلاد التي يشتهي الجميع طعنها، الأعداء والعشَّاق!*

-2-

خميرة الكلام تنضج بالمتلقي بلا اكتمال، مبلولة بذاتية الشاعر ونفسه.

آثر أوغار على تحريك خميرة سابقة في ذاكرة المتلقي، أنضجها كما يريد، فاختار طقوسه ونصوصه من ذاكرتنا، بدءً من أوغاريت حتى قانا وأرض كنعان، واختار أبطالًا دائمي التجوال في دمائنا من جلجامش حتى صلاح الدين، مرورًا بطائر الفينيق.

وأوغار المثقل بعشقه يبدأ حكايته بالماء، وبعلٌ في الذاكرة عائم في عالم مائي لا يهدأ، يتفتق على مطر بللنا طويلًا، الماء في نصوص أوغار يموج حينًا، يصارع الموت، يخرج الحنطة ويهدأ حينًا في رحم الذاكرة والعروق الجنينية الأولى، وفي الحالتين ماؤه لا يقبل موعظةً أو قيود، سمعناه يصرخ:

أيها الشاعر يا أخي أضواء المدينة ماء والقمر إله الماء، له البحر يسجد... الأرض كرة والكون فسيح والقيود سخافة.

وينتقل أوغار إلى صلواته وترانيمه كي تنهض الزهور ويلعبَ العشب حول الماء

ويغني في الأحشاء جنين.

ومن دفاتره يطلُّ أناسٌ عديدون علَّهم متربصون في صباحاته ومساءاته وعلى عتبة كل لحظة، فالأعمى يشير إلى العماء قاصدًا منابع الحزن الأولى والمعرفة الأولى، ينقلنا إلى عالم النفَّري الرحب والمتشابك، والنبي الشيخ يبحر خارج اللذَّة يغرف من عتمه دمًا يذروه بياضًا وعشقًا وشقاء فيقول:

العارف والمعرفة واحد، أما الذي يبصر فهو أعمى وأما الذي امتنع عنه الضياء فهو العارف لأنه في البصر تغيب الرؤيا وفي السواد تكون.

-3-

وأوغار العاشق بين ثلاثة وجوهٍ عبرت وشكَّلت خلفية شقيَّةً لوجهٍ رابع: وجه يطارده من بلادٍ منفية، وآخر ليس له امتلاك حبَّة رملٍ منه أو قبله، ووجه أخير رماه كنفاية، لكنه يبحث عن وجهه الرابع وكأنه يرغب أو يريد إحلال التوازن والكمال.

والإنسان، والشاعر على الخصوص يغامر بعشقه وينتظر ويقتحم باحثًا عن وجه قد يكون وجه أمه، وجه الأم هو الوجه الرابع لأوغار، وجه فينيقي لامرأة يناديها بأم العالم ويقول:

صارت النبع وأصل الرسالة لأنها تاريخ التاريخ. لأنك الهواء صرت خصيمة الأرض والسماء.

وبقصيدة المرأة الفينيقية التهبت لغة أوغار بالرغبة واللون والعالم وبدأ يحتفي بخفقان المكان حوله كمن يهتدي رضيعًا إلى أمه وثديها.

-4-

في قداس الموت - وهو عنوان الفصل الرابع من الكتاب - صورة متآكلة من الزمن، لكنها تنبض بالحياة والحب، توحي بموت يعادل الحياة، إنها الصورة التي نراها في ألواحه الطينية المعتَّقة وعبرها نلمح مدرحية الكون في جدلية سمَّاها بالغياب والحضور، نرى دماءً أُبيحت وقامت وعتمًا تراقص عبر الضوء حاملًا هموم أرضه وأمته على قدر نهوضها وارتكاسها، ولم تدهشني منه قسمة الكون عند فلسطين حين صرخ:

فلسطين الصراط، شفيعة القيامة، قسَّامة الخلق مؤمن وكافر.

رحل إلى قانا وبعد أيام جاء وفي يديه صور المجزرة وعلى وجهه رأيت حزنًا أوسع من الكون، أضيق من جسدٍ متناثر في قانا يقول:

قانا عين العالم، صهيل الصراخ نبع الدماء الرضيعة... لأنني من قانا فدمي أكثر نقاوة...

-5-

في فصله الأخير يميل أوغار إلى التقريرية فيما قد يوحي باختمار تجربته الداخلية، فجاءت قصائده تمتمات بأسلوب أدونيسي، لكنه عرضها بشفافية راقية وثوب ناعم جميل ينضح بالحركة، فامتدت هذه التمتمات من إعلاء الكلمة عبر إعلاء اللون إلى الصوت/النغمة وطرح أسئلة تفضي إلى أجوبة هي أسئلة كما يقول، ولعلَّ أجمل ما قاله في هذا الفصل هو:

أعطني سؤالًا حقيقيًا واحدًا وخذ أجوبة العالم.

قدَّاس سرياني كتاب يستحق القراءة ثم القراءة ثم التأمل.

*** *** ***

الحوار المتمدن


 

horizontal rule

* كل كلام أوغار (فراس سعد) المقتبس مأخوذ من كتابه قدَّاس سرياني الصادر عن دار البلد بدمشق 2003.

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني